تكثر الحاجة في أيّامنا هذه إلى البحث عن مصاديق الأنسنة في الفكر الإسلاميّ، ويكثر الحديث عنها ويتشعَّب، وبخاصَّة في عصرٍ نعاني فيه ازدياداً مطَّرداً، لا في منسوب التّكفير والرّمي بالزّندقة وما شاكلهما، فهذا موجودٌ منذ القدم، وينقل لنا التَّاريخ العديد من عناوينه وحوادثه، إذ لم يكن مختصّاً بدينٍ دون آخر أو فئةٍ دون أخرى، بل كان يتنقَّل من موقعٍ إلى آخر في مسار البشريَّة جمعاء، وتكاد لا تخلو مرحلة منه... ولكن ما نعانيه بشكلٍ أساس، عدّة أمور هي من إفرازات الواقع بكلِّ أشكاله.
أزمة الخطاب التّكفيريّ
أوَّلاً: توسّع المدى الَّذي بات يتحرَّك فيه هذا الخطاب التَّكفيريّ، إذ بات يحظى بحيِّزٍ واسع غير مسبوق، وذلك لتوفّر وسائل التّواصل الإلكترونيَّة والمنصَّات الاجتماعيَّة الَّتي أخرجت هذا الخطاب من دوائره الضيِّقة جغرافيّاً وديمغرافيّاً إلى كلّ العالم، لكي يدغدغ أحلام الشباب المضطرب، ويلعب على أزماتهم النّفسيّة وإحباطاتهم المجتمعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة وغيرها، حتى صار كالنَّار في الهشيم.
ثانياً: نعاني اقتران هذا الفكر النّظريّ بالممارسة والتَّطبيق، وهذاً أيضاً غير مسبوق، على الأقلّ على مستوى السّرعة والوتيرة والأثر والحجم، ويكفي لإدراك هذا، إحصاء العمليّات الانتحاريّة في العراق مثلاً خلال العقد المنصرم، ومشاهد القتل والدّمار الّتي لم توفّر حجراً أو بشراً أو تاريخاً أو حاضراً في منطقتنا، والَّتي على قول أحدهم، يتركَّز فيها ملك الموت ورسله أكثر من أيِّ منطقة في العالم، فلا تتوقَّف فيها عدّادات الموت والألم والفجيعة.
من هذا المنطلق، لا يصبح الحديث عن الأنسنة ترفاً فكريّاً، ولا من مفردات ما بعد الحداثة، نزيِّن بها أحاديثنا... ولكن يصبح الحديث ضرورة ملحَّة، ينطلق، للأسف، كردِّ فعلٍ على الواقع الحاليّ وعلى الصَّدمات، وليس كجهدٍ يسبق الواقع ليقيه ويؤسِّس له، مستفيداً من بروز الأصوات الّتي حاولت في مختلف المراحل رفع الصَّوت عالياً، والتأصيل للأنسنة، وإعادة الاعتبار إليها... ومن أبرز هذه الأصوات الّتي شهدنا جهادها وصدحها بهذه المفاهيم، هو صوت سماحة السيِّد(رض).
مصاديق الأنسنة
فالأنسنة عند السيّد كانت، والكلّ يشهد، سبّاقة.. مستشرفة للقادم من الأيّام والأفكار، لم تأت يومها كردِّ فعل، كما ذكرنا، بل انبثقت من فطرةٍ سليمةٍ وعت الله ورسالة رسوله ورسله كافّة، كما هي كأساسٍ لواقع إنسانيّ أفضل. هذا المبدأ على بساطته، قد يكون فيه الحلّ لكثير من مشاكلنا، فبهذا المبدأ نستدعي التراث الدّينيّ إلى واقعنا المعاش، لنصلحه ونحسن صنعه بتمثّل الأنبياء والأولياء، في مقابل الفهم المعكوس للدِّين، الّذي يريد أن يستلب الواقع باسم الدّين، وأن يردَّه إلى العصور الغابرة، بحثاً عن واقعٍ يراه مثاليّاً، فيعود بنا إلى الجاهليَّة مثلاً، مع ما تمثِّله من تخلّفٍ وقهر. وهذا المبدأ الذي حسمه السيّد ـ مبدأ أنَّ الدّين لخدمة الإنسان، لا أنّ الإنسان مسخَّر لخدمة الدّين لذاته ـ ينسحب على عدَّة جوانب من فكر السيِّد، وهي:
1 ـ الأنسنة في الفهم الدّينيّ.
2 ـ الأنسنة في التّشريع الدّينيّ.
3 ـ الأنسنة في الخطاب الدّينيّ.
وسنمرّ عليها سريعاً، ولن نستفيض.
فالأنسنة في فهم الدّين، تعني في منطوق السيِّد، أنَّ فهم الدّين عمليَّة بشريَّة تحتمل الصَّواب والخطأ، وإذا سلَّمنا بعدم معصوميَّة الإنسان المجتهد والمفكِّر، فبالتّالي نقول بعدم معصوميَّة الفهم، وهذا ينسحب إلى النّظرة إلى الآخر، ويدفعك إلى مدِّ جسور تواصلٍ إنسانيٍّ ندِّي، وهذا من شأنه أن يفكّ فتيل الفكر الإلغائيّ التّكفيريّ المتعصّب الّذي يقوم على وهم امتلاك الحقيقة دون باقي النّاس، وعلى أنَّ فهماً واحداً للدّين يختزل كلَّ الأفهام.
أمّا الأنسنة في التّشريع الدّينيّ، فكان السيِّد سبّاقاً على مستوى تجديد الفقه في سياقٍ إنسانيّ، كمثال فقه المرأة أو فقه الآخر الملّي، الّذي شاب الفقه والفقهاء لفتراتٍ طويلةٍ من الزّمن، ومن دون أدنى نقاش.. ولم يقبله السيِّد، كما لم يقبل العديد من السّائد والمشهور، في وقتٍ كانت عدم مخالفة المشهور هدفاً بحدّ ذاته، ومن يخالف هذا المشهور، يُرمَ بشتّى الاتهامات.
والأنسنة في الخطاب الدّيني عند السيّد، تمثَّلت في اعتماد خطاب الحبّ والرّفق والرّحمة، والابتعاد عن خطاب التَّهديد والوعيد والزّجر والتّأنيب، وهي لغة لطالما ارتبطت، للأسف، بالخطاب الدّينيّ، ولا زلنا نشهدها في العديد من السّاحات.
مميّزات خطاب الأنسنة
وعندما نتحدَّث عن الأنسنة في فكر السيِّد، من الضَّروريّ أن نذكر إضافةً إلى ما ذكرناه، أنّه لعلَّ ما ميَّز السيِّد في حركة الأنسنة، ليس التّأصيل والبحث فحسب ـ والّذي يشترك فيه السيِّد، بالمناسبة، مع عددٍ لا بأس به من الباحثين والمفكِّرين في شتَّى توجّهاتهم العقديَّة والفكريَّة، وممن لهم إسهامات مهمَّة جدّاً في البحث عن جذور الأنسنة ومصاديقها في التَّاريخ الإسلاميّ، ويجب الاطّلاع على أعمالهم والبناء عليها، علماً أنَّ أغلبهم من خارج المؤسَّسة الدّينيَّة الحوزويّة ـ بل الموقع الّذي انطلق منه، فالموقع هو من قلب المؤسَّسة الدّينيّة، وكان سماحته على رأسها، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدلّ على مواءمة الفكر مع التّشريع ومع مناطات الاجتهاد في الفقه، وفي البحث عن المقاصد، وفي الأطر الّتي حكمت هذا الحديث أو ذاك، أو هذه الرّواية أو تلك، في منظومةٍ تصبح فيها الأنسنة منطلقاً وإطاراً مفاهيميّاً للتّموضع، إذ لم يعد الإنسان مع السيِّد موضوعاً للفقه تجري عليه الأحكام والفتاوى، بل صار مشاركاً في العمليَّة، وتحوَّل إلى مقصدٍ من مقاصد الفقه، تُلحظ إنسانيَّته بشدَّة في الاجتهادات الفقهيَّة كافّةً.
ومما يميِّز توجّه الأنسنة عند السيِّد، إضافةً إلى خصوصيَّة الموقع، هو المدى، فدائرة الخطاب الإنسانيّ أو الأنسنة، عادةً ما تكون ضيّقةً ونخبويّةً إلى حدّ الانفصال عن الواقع، لكنّ السيّد كان يحرص من خلال موقعه وخطابه المتجدِّد، على أن يوصل هذا الفكر إلى الجميع ومن دون حواجز، وأن يجعل هذا الخطاب الإنساني ثقافةً عامّةً لأوسع مدى من شرائح المجتمع، فهو لم يُقصِ أحداً ولم يهمِّش سؤالاً، ولم يستخفّ، وأزال الحواجز، وعمل على وصل القطيعة الّتي سادت لزمنٍ بين الخطاب الدّيني السّائد وفئات المجتمع، لتتَّسع دائرة إقبال النّاس على الدّين، وإقبال الدّين على النّاس؛ هذا الدّين بنقاوته وصفائه وأصالته؛ هذا الدِّين الّذي وجدوا فيه إنسانيّتهم، وليس بعبعاً يتربَّص بهم.
نعم، لقد قلَّص خطاب السيِّد الفارق بين ما سمّي اصطلاحاً المفكّرين والمثقَّفين، وصولاً إلى دوائر شعبويَّة اجتماعيَّة، اعترافاً بإنسانيّتهم جميعاً، ليأخذ الدّين مداه.
وتبقى نقطة أخيرة ميَّزت خطاب الأنسنة عند السيّد، وهي ترجمة الخطاب عمليّاً على أرض الواقع، فهو كما عمل على إلغاء الفواصل بين طبقة العلماء أو رجال الدّين والعامّة، كما ذكرنا، سعى أيضاً إلى تقليص الفوارق بين طبقات المجتمع، تخفيفاً من معاناة الفقراء والمستضعفين والمحرومين.. لقد انتقلت الأنسنة من الفكر عند السيِّد إلى الفعل، وإلى العمل الاجتماعيّ، وإلى المؤسَّسات الّتي تُحفَظ فيها الكرامة الإنسانيَّة؛ هذه الكرامة الَّتي هدَّها العوز وألم اليتم وشبح الجهل.
لقد وضع السيِّد نصب عينيه إنسانيّة الإنسان، كهدفٍ أساسٍ تسعى المؤسَّسات والمشاريع المتنوّعة إلى نفعه وإسعاده وبعث الأمل فيه، ليرقى بإنسانيَّته أكثر فأكثر... تلك كانت البداية في رأي السيِّد، لبناء دولة الإنسان الّتي طالما نادى بها كحلٍّ لأزمة "نقص الإنسانيَّة" الّتي كان يراها تتفاقم يوماً بعد يوم.. تلك كانت بعض الإضاءات العامَّة على خطاب الأنسنة عند السيِّد..
ولن أطيل عليكم أكثر، فاسحاً المجال أمام أبحاثكم المركّزة والمعمَّقة في تفاصيل هذا الخطاب ومفرداته، والَّذي نتوسَّم فيه أن يشكِّل نقطةً مضيئةً لكلّ طالبي الإنسانيَّة والسّاعين إليها، في وقت عزَّت الإنسانيَّة، ويحول دون بلوغها الكثير الكثير من العمل.
رحم الله سماحة السيِّد، وشكر الله لكم سعيكم وجهدكم الَّذي سيمكث في الأرض ولن يذهب جفاءً.
[كلمة ألقاها في "المؤتمر الفكري الثّاني: أنسنة الدّين في فكر المرجع الرَّاحل السيِّد محمد حسين فضل الله(رض)"، بتاريخ 7-10-2015].