بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة المرجع السيِّد محمَّد حسين فضل الله(رض)، نستحضر ما جاء في خطبته الدِّينيَّة الّتي ألقاها من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع)، بتاريخ 26 جمادى الثّانية العام 1430ه/ الموافق 19/6/2009، حيث تحدَّث عن النِّفاق وأثره السَّلبيّ في المجتمع، وما عاناه المجتمع الإسلاميّ الأوَّل من ويلات المنافقين ومؤامراتهم، بغية تخريب الدِّين والحياة، وزعزعة الاستقرار، وإحداث الفوضى والفتن والنِّزاع بين المسلمين، عارضاً لجملة من الشَّواهد القرآنيّة، ومن سيرة النبيّ الأكرم(ص) الدالّة على ذلك:
"بعد أن استقرّ الرسول(ص) في المدينة، كانت المشكلة الأساس التي واجهته آنذاك هي حركة النفاق في صفوف المسلمين، هؤلاء الذين كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وقد دخلوا في المجتمع الإسلامي وتغلغلوا فيه على أساس أنهم مسلمون، ما جعل لهم الفرصة في أن يربكوا الحياة الإسلاميّة، ويثيروا الفتنة بين المسلمين، بفعل العقد النفسيَّة التي كانت تتحكّم في نفوسهم، ومن خلال تحالفهم الخفيّ مع اليهود، بهدف زعزعة الاستقرار في المجتمع الإسلامي.
وينقل مؤرّخو السّيرة النبويّة الشَّريفة، أنَّ شخصاً يهوديّاً دخل على فئة من المسلمين، وهم مختلفون في انتسابهم القبليّ، بعضهم من قبيلة "الأوس"، وبعضهم من قبيلة "الخزرج"، وقد كانت المدينة مسرحاً للحروب بين هاتين القبيلتين مدَّة عشرات السّنين، حتى جاء الإسلام ووحّدهم وآخى بينهم، فرجعوا إخواناً كما صرَّح القرآن بذلك: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}(آل عمران: 103). وبدأ هذا اليهوديّ ـ وكان معه أيضاً جماعة من المنافقين ـ يذكِّر هؤلاء النّاس بحروبهم السّابقة، وبانتصار هذه القبيلة في حرب على القبيلة الأخرى، ويعيد تلاوة الأشعار الّتي كان ينشدها المنتصرون ضدَّ المهزومين، فأثار الحساسيات، وأصبح كلّ فريق من هذه القبيلة أو تلك يعيد حديث القوّة ضدّ القبيلة الأخرى، واشتدَّ الخلاف فيما بينهم، حتى قالوا: "السِّلاح السِّلاح". وجاء رسول إلى النبيّ(ص)، وقال له: أدرك المسلمين الذين أُثيرت الفتنة بينهم، وأسرع النبيّ(ص) إلى أولئك وقال لهم: "أكفرٌ بعد إيمان؟"، فقد آخى الله بينكم من خلال إيمانكم، وتجاوزتم بفضل هذا الإيمان كلَّ أنواع الحقد والعداوة والضّغينة والعصبيّات القبليّة، فهل تعودون إلى ما كنتم عليه؟! وعندما سمعوا كلام رسول الله(ص)، خجلوا وخشعوا ورجعوا إلى وحدتهم الإسلاميّة.
ويحدِّثنا الله تعالى في سورة التَّوبة عن أولئك الذين تخلّفوا عن السّير مع النبيّ(ص) في حروبه الدّفاعية ضدّ الكافرين المعتدين على الإسلام والعاملين على إسقاطه، ففضحه الله تعالى، وبيّن خلفيّاتهم، وحذّر النبيّ(ص) والمسلمين منهم. يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ـ لو خرجوا معكم في الجيش الذي خرج ليدافع عن الإسلام ـ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ـ إلا فساداً واضطراباً في الرأي، وارتباكاً في الموقف، بما يدسّونه في الوسط الإسلاميّ وفي المجتمع الإسلامي من كلِّ ما يثير الفتنة ـ وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُم ْـ الإيضاع هو الإسراع في الشرّ، أي لأسرعوا في إثارة الشرّ من خلال مجتمعكم، وذلك بما يثيرونه من عوامل الفتنة بين المسلمين، وما يستغلُّونه من الحساسيات المثيرة للمشاعر، وتعقيد العلاقات، ليمزّقوا وحدة الصّفّ، ويحطّموا قوّة الموقف ـ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َـ يحاولون أن يخطّطوا للفتنة في داخل المجتمع الإسلامي، حتى يُسقطوا الوحدة الإسلاميّة التي تعتصم بحبل الله جميعاً وتبتعد عن الفرقة ـ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ـ هناك جماعة ساذجون طيّبون، إذا سمعوا كلمات الفتنة، فإنهم لا يفكّرون في خلفياتها، ولا في الأشخاص الّذين يثيرونها، ولا يدرسون المسـألة من خلال السلبيّة التي تحدث من جرّاء ذلك، بل يتأثّرون بأساليبهم وأقوالهم وحركاتهم ـ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْل ـ من خلال ما قاموا به من خطط التّفرقة وإثارة الحساسيّات بين المسلمين ـ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُور ُـ بدعوة الناس إلى الخلاف وإثارتهم ضدّ دعوات الجهاد، وتحالفهم مع اليهود والمشركين ضدّ الإسلام والمسلمين، وتخطيطهم للمؤامرات التي تمثِّل الكيد لله ولرسوله، وامتدَّ بهم الأمر، وخُيِّل إليهم أنهم أمسكوا بزمام الأمور، وسيطروا على مقدّرات المسلمين ـ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ ـ بظهور أمر الإسلام ـوَهُمْ كَارِهُونَ}(التوبة:47-48)".
ويضيف سماحته متحدّثاً عن أهمية الوحدة والتّضامن بين المسلمين، لأنّه بالوحدة نقضي على الفتنة ونبدّدها، مشيراً إلى تجدّد منطق الفتنة في عصرنا هذا، مستشهداً بالعديد من الأحاديث والرّوايات التي تحذّر من اتّباع الباطل والسّير بالفتنة:
"ونلاحظ من هذه الآيات، ومن الواقع السّلبي الذي أحاط بالمجتمع الإسلاميّ، من خلال ما حدّثنا القرآن عن المنافقين في المدينة، نلاحظ أنَّ الإسلام لم يتحدَّث عن حركة النّفاق في مكَّة، لأنَّ المسلمين في مكّة كانوا يمثلون وحدةً قويةً متراصّةً، وكانوا جميعاً مشغولين بالدّفاع عن الإسلام، وبمواجهة الشّرك والمشركين، إذ كانت لديهم قضيّةٌ واحدة، ولم تكن تعنيهم أنفسهم، ولم يستطع المشركون أن ينفذوا إلى داخلهم، أمَّا في المدينة، فقد اختلف الأمر؛ لأنَّ المجتمع في المدينة أصبح متنوّعاً، إذ كان اليهود في بعضه، وكان رؤساء القبائل الجاهليّون الذين أبعدهم الإسلام عن القيادة في بعضه الآخر؛ ولذلك بدأت حركة النّفاق في المدينة، فعانى النبيّ(ص) منها، وأربكت واقع المسلمين.
هذا الواقع التاريخي في المدينة يعيشه المسلمون الآن. لقد انطلق المنافقون في داخل العالم الإسلامي بالتحالف مع الاستكبار العالمي والكفر العالمي، وجعل مواقعهم في بلاد الإسلام خاضعةً للاستكبار، وبدأت الخطة بضرب الوعي الديني وإثارة خلافات الماضي، بفعل الأطماع التي يقدّمها إليهم المستكبرون الذين يملكون المال والسّلطة والقوّة العسكريّة. وبذلك، عمل كلّ هؤلاء في داخل المجتمع الإسلامي وخارجه على إثارة الفتنة بين السنَّة والشّيعة، فأصبحت عمليّة التكفير والتضليل شائعةً فيما بينهم، حتى إنَّ الكثيرين منهم، بفعل اجتهاداتهم الحاقدة الخبيثة، يستحلّون دماء المسلم الآخر لمجرّد وجود خلاف فقهيّ أو كلاميّ معه. وهذا ما نلاحظه في الفتنة التي تعمّ الواقع الإسلامي، سواء في العراق أو أفغانستان أو باكستان أو الصّومال أو السّودان، أو غيرها من البلدان التي لم يصل فيها الأمر إلى أن يقتل المسلمُ المسلم فحسب؛ بل وصل إلى أن يكفِّر المسلم المسلم بسبب الاختلاف في المذهب، حتى أصبحت بعض الشخصيات الإسلامية التي تعتبر نفسها قياديةً، تتحدّث عن غزوٍ شيعيّ لمجتمعات السنّة، وهم لا يتحدّثون عن غزو أمريكي أو إسرائيلي بالقوّة نفسها، لمجرد أن هناك اختلافاً في وجهات النّظر بين الشّيعة والسنّة، والّذي يمكن حلّه عن طريق الحوار، وقد أمرنا الله تعالى بالحوار حتى مع أهل الكتاب، وقد بتنا نخشى من أيّ قضية تثير الخلاف، لأنها ستؤدي إلى الفتنة. وقد رأينا الكثيرين من الزعامات المذهبية والطائفية في لبنان، يحاولون إثارة العصبيّة العمياء لخلق الفتنة بين السنّة والشيعة في موسم الانتخابات، ونرى أيضاً كيف أنّ البعض في إيران يحاولون إثارة الفتنة وإضعاف إيران من خلال هذه الفوضى المنطلقة من خطط الدّاخل والخارج.
وقد تحدَّث الإمام عليّ(ع) عن هذا الواقع، فقال: "يأتي على النّاس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه ـ مسلمون، ولكنَّهم يعيشون الحقد على المسلمين الآخرين، ولا يعيشون الإسلام كما أراد الله لنا ورسوله، في أن نسلم كلّ أمرنا لله، وأن نطيع الله في كلِّ ما أمرنا به ونهانا عنه ـ ومساجدهم يومئذٍ عامرة من البناء، خراب من الهدى ـ ولذلك، نجد النّاس يصلّون في المساجد، ولكنّهم يحقدون على بعضهم بعضاً، وربما إذا خرجوا من المساجد، قَتلوا أو كفرَّوا بعضهم بعضاً، من دون أن يعيشوا أجواء الهدى ـ سكانها وعمّارها شرّ أهل الأرض. منهم تخرج الفتنة ـ من هؤلاء المصلّين في المساجد، وما أكثر المساجد الموجودة في العالم الإسلامي! والمصلّون فيها يعيشون الفتنة المذهبيّة والطائفيّة، حتى أصبح بعضهم يفجّر المصلّين في المساجد، كما في العراق أو أفغانستان أو باكستان ـ وإليهم تأوي الخطيئة؛ يردّون مَن شذَّ عنها فيها، ويسوقون مَن تأخَّر عنها إليها. يقول الله سبحانه: فبي حلفت، لأبعثنّ على أولئك فتنةً تترك الحليم فيها حيران". وهذا ما عاقبنا الله به، فنحن نجد أنَّ الفتنة تشمل العالم الإسلامي، وتدمِّر سياسة المسلمين واقتصادهم وأوضاعهم، وهو ما لاحظناه في احتلال بلاد المسلمين، وفي الأزمة الاقتصاديّة العالميّة التي خسر فيها العالم الإسلامي الآلاف من المليارات، من خلال الفتنة التي فقد المسلمون فيها وحدتهم وقوَّتهم.
وورد عن أمير المؤمنين(ع): "ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم ـ لأنَّ هؤلاء يفكّرون في مصالحهم وأطماعهم، ويخطّطون مع الاستكبار العالمي لإسقاط الواقع الإسلامي كله ـ فإنهم قواعد أساس العصبيّة، ودعائم أركان الفتنة".
ويحلّل الإمام عليّ(ع) في منشأ الفتنة، فيقول: "إنما بدءُ وقوع الفتن من أهواءٍ تُتّبع، وأحكام تبتدع، يخالَف فيها حكم الله، يتولّى فيها رجال رجالاً، ألا إنّ الحقّ لو خلص لم يكن اختلافٌ، ولو أنَّ الباطل خَلص لم يخفَ على ذي حِجى، لكنّه يؤخذ من هذا ضِغث، ومن هذا ضِغث، فيمزجان فيجلّلان معاً، فهنالك يستولي الشّيطان على أوليائه، ونجا الّذين سبقت لهم من الله الحسنى. إنّي سمعت رسول الله(ص) يقول: كيف أنتم إذا لَبِسَتْكُم فتنة يربو فيها الصّغير، ويهرم فيها الكبير".
ويتحدّث الإمام عليّ(ع) عن أنّ الفتنة قد تأتي من خلال الحاجة إلى المال، وهذا ما لاحظناه في الأموال الانتخابيّة التي جعلت الإنسان لا يتحرّك من خلال قناعاته. يقول(ع): "اللّهمَّ صنْ وجهي باليسار، ولا تبتذل جاهي بالإقتار، فأَسترزق طالبي رزقِك، وأستعطف شرار خلقك، وأُبتلى بحمد من أعطاني ـ فكلّ من يعطيني أمدحه وأعطيه تأييدي وصوتي ـ وأُفتتن بذمّ من منعني". وورد عنه(ع): "كن في الفتنة كابن اللّبون ـ وهو ابن الناقة الذي دخل في عامه الثّاني ـلا ظهر فيُركب ـ لأنه صغير ولا يحتمل ظهره الركوب ـولا ضرع فيُحلب"، لأنّه ذكر".
ويختم سماحته بأنّ مواجهة الفتنة بالوحدة هي السّبيل الأجدى للمسلمين، ولا مناص منها:
"إنّ الفتن قد جاءت إلى العالم الإسلاميّ كأنها المطر، لأنّ المستكبرين والمنافقين يثيرون الفتنة في واقعنا، حتى يضعف الإسلام ويسقط. ولذلك، فإننا مسؤولون عن الوحدة الإسلاميّة، وعن مواجهة الفتنة بكلِّ أشكالها، ولا سيّما الفتنة التي تقع بين المتديّنين الذين تنفذ إليهم حبائل الشّيطان.
هذا هو نداء الله ورسوله، وعلينا أن نستجيب لذلك، حتى نعيش بسلام مع أنفسنا ومع المستضعفين من حولنا".