بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة المرجع السيِّد محمّد حسين فضل الله(رض)، نستحضر خطبته الدّينيّة الّتي ألقاها بتاريخ 2 محرَّم العام 1428ه/ الموافق 11/1/2008م، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، والّتي تحدّث فيها عن شخصيّة الإمام الحسين(ع) التي غذَّت الإنسانيَّه في فكرها وحركتها ومسيرتها وتوجيهاتها، بما جعله قدوةً نتعلَّم منها في مسيرة الحياة كلّها، بما أكَّده من قيم الإسلام وأصالته في أقواله وأفعاله. قال سماحته:
"في هذه الأيَّام، نعيش مع الإمام الحسين(ع) في ذكرى عاشوراء، التي تمتدُّ إلى كلِّ أيام السنة، لأنَّ الحسين(ع) ليس شخصيةً منفصلةً عن عقولنا، فقد دخل(ع) في العقل من خلال شخصيته العقلانية، ودخل في الشعور والإحساس من خلال كلِّ مشاعرنا وأحاسيسنا المليئة بالحبِّ له، فنحن نحبّ الحسين(ع) بكلِّ أحاسيسنا، لأنّنا لا نستطيع إلا أن نحبَّه كما أحبّه الله سبحانه وتعالى، وكما أحبَّه رسول الله(ص)، وكما أحبَّ الأمَّة الّتي انطلق معها ليرعاها ولينمّيها وليقوّيها وليضحِّي من أجلها في سبيل الله سبحانه وتعالى.
ولكنّنا لا نعرف الحسين(ع) إلّا في الساحة الكربلائية حركةً في خطِّ الجهاد، ومأساةً في خطِّ التّضحية، أمّا الحسين(ع) الّذي كان يملأ عقول النّاس بالفكر، ويملأ حياتهم بالموعظة والنّصيحة وتأكيد الحقيقة، فهذا ما لا نعرفه، فلو أردنا أن نقوم بعمليّة إحصائيّة في كلِّ مجتمعنا الإسلامي، والشّيعي خصوصاً، حول ما يعرفه النّاس عن الحسين(ع)، فإنَّ الجواب يأتي بأنّنا نعرف الحسين(ع) في جانب المأساة...
لذلك، لا بدَّ لنا من أن نقتدي بالحسين(ع)، وأن نتعلَّم منه، لأنه الإمام المفترض الطاعة، الذي ينفتح على علم رسول الله(ص) وعلم علي(ع)، وقد أعطانا من علمه الكثير، ولكن عاشوراء المأساة غلبت على ذلك.
وفي هذا الموقف، أحاول أن ألتقط من تراث الإمام الحسين(ع) بعض ما يضعنا على خطِّ الاستقامة، ويؤكِّد لنا العدل، ويربطنا بالقيم الأخلاقيّة والروحيّة، ويرتفع بنا إلى مواقع عبادة الله سبحانه وتعالى.
لقد روى بعض الرّواة عن الحسين(ع)، تقسيمه طبيعة العبادة التي يعبد بها النَّاس ربهم، فقد ورد أنّه قال: «إنَّ قوماً عبدوا الله رغبةً ـ للحصول على الجنّة أو على نعم الله سبحانه وتعالى ـ فتلك عبادة التجَّار، وإنَّ قوماً عبدوا الله رهبةً ـ خوفاً من ناره ـ فتلك عبادة العبيد ـ فالعبد يخاف من العقاب ـ وإنَّ قوماً عبدوا الله شكراً ـ أحبّوا الله سبحانه وشكروه على النعم التي أفاضها عليهم، باعتبار أنّ العبادة تمثّل مظهراً من مظاهر الشكر، كما ورد عن رسول الله(ص)، حين قال له بعض أصحابه: لماذا ترهق نفسك بالعبادة وقد أعطاك الله الجنة؟ فأجابه(ص): «أفلا أكون عبداً شكوراً؟!» ـ فتلك عبادة الأحرار».
وهكذا، أيُّها الأحبّة، كان(ع) يؤكّد ضرورة أن يقدِّم الإنسان المعروفَ للناس، المعروف الّذي يشمل الإحسان والمواساة للناس في كلِّ أمورهم وفي كلّ قضاياهم. يروى أنَّ رجلاً قال عند الإمام الحسين(ع): «إنَّ المعروف إذا أُسدي إلى غير أهله ضاع»، أي أنّه لا بدَّ للإنسان من أن يقدِّم المعروف فقط لمن يستحقّه، لأنَّ من لا يستحقّه، يضيع المعروف عنده، فقال الحسين(ع) له: «ليس كذلك، ولكن تكون الصّنيعة مثل وابل المطر، تصيب البرّ والفاجر». فعلى الإنسان أن يعمل المعروف من دون أن يهتمّ لمن يعمله، كما عندما ينـزل الله سبحانه المطر، فإنّه يصيب النّاس كلّهم، سواء كانوا أبراراً أو فجّاراً، فكرمه سبحانه يشمل من يطيعه ومن يعصيه، لأنّه الجواد والكريم الذي لا حدَّ لجوده وكرمه.
وهكذا، كان الإمام الحسين(ع) يربي الناس على أن يقدِّموا الخير لكلِّ الناس، بحيث لا ينظرون إلى الشخص أو إلى المجتمع الذي يقدّمون له الخير، فالخير لا بدَّ من أن يكون نابعاً من عمق إيمان الإنسان وإحساسه، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ}(آل عمران/104).
أي على الإنسان أن يربي نفسه على الالتزام بالخير، بحيث يكون وجوده في الحياة خيراً للحياة كلّها وللنّاس كلّهم، ربّما يكون الإنسان الذي تقدِّم له الخير لا يستحقّه، ولكنّك قد تجذبه إلى طاعة الله سبحانه وتعالى في كثيرٍ من الحالات.
ويروى أنَّ رجلاً اغتاب في مجلسه رجلاً آخر، فقال له: «يا هذا، كفّ عن الغيبة ـ لا تعتد على أن تغتاب النّاس، ولا تعتد على أن تكون معنيّاً بعيوب النّاس في غيبتهم وبالتّشهير بهم ـ فإنها إدام كلاب النار»، فهل تريد أن تكون من كلاب أهل النّار؟!"
ويضيف سماحته مشيراً إلى جملة من وصايا الإمام الحسين(ع):
"ونقرأ في وصيَّته لابنه زين العابدين(ع): «أي بنيّ، إيَّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله». ومن الطّبيعيّ أنّ الحسين(ع) كان يقصد أن لا يظلم الإنسان أحداً، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يبغض الظّلم والظالمين، ويحبُّ العدل والعادلين... ولكن هناك ظلم أقسى من ظلم، فقد تظلم إنساناً فتنكر عليه حقّه، وهو يستطيع أن يدافع عن نفسه ويأخذ حقّه بالقوَّة، ولكن هناك من لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، أو أن يأخذ حقَّه بسبب ضعفه، فإذا ظلمت هذا الإنسان الضَّعيف، جلس بين يدي الله وقال: يا ربِّ، انصرني على فلان، فإذا استعان المظلوم بالله، فإن الله يهيّئ كلَّ الظروف لنصرته.
ومن كلمات الإمام الحسين(ع): «إيَّاك وما يُعتذر منه ـ أي لا تفعل أو تقول ما تضطرّ بعده إلى أن تعتذر منه عند النّاس ـ فإنَّ المؤمن لا يسيء ولا يعتذر ـ لأنَّ المؤمن يتحرّك في الخطِّ المستقيم، فلا يتحرّك بفعل، أو يتكلّم بكلمة، إلاّ إذا علم أنَّ لله سبحانه فيها رضا، وأنها من الأمور التي يستطيع أن يدافع عنها ـ والمنافق كلّ يوم يسيء ويعتذر»، فليست عنده قاعدة أخلاقيّة تضبط له أفعاله وأقواله.
أيضاً، مما جاء في تعاليمه(ع): «إنَّ حوائج النّاس إليكم من نعم الله عليكم»، فإذا كنت موضعاً لحوائج النّاس، سواء كانت حاجات علميةً أو ماليةً أو غير ذلك، وقصدك النّاس لقضاء حوائجهم التي تستطيع قضاءها، فلا تعتبر ذلك عبئاً ثقيلاً عليك، بل احمد الله على ذلك، لأنَّ ذلك يقرِّبك إلى الله والناس، «واعلموا أنّ المعروف مكسب حمداً ـ فعل الخير يكسبك الحمد عند الناس ـ ومُعقب أجراً ـ يترك لك الأجر عند الله سبحانه ـفلو رأيتم المعروف رجلاً ـ لو أراد الله سبحانه أن يجسِّد الخير بصورة رجل ـ رأيتموه حسناً جميلاً يسرُّ النّاظرين ـ لأنَّ طبيعة المعروف والعناصر الموجودة فيه وما ينتج منه، تتمثَّل في جمال الخير والطاعة، فلو أراد الله سبحانه أن يصوِّره، لصوَّره بصورة الشابّ الجميل ـ ولو رأيتم اللّؤم رأيتموه سمجاً مشوَّهاً تنفر منه القلوب وتُغَضُّ دونه الأبصار».
وهكذا نقرأ في كلام الحسين(ع) أيضاً: «من حاول أمراً بمعصية الله ـ هناك من النّاس من يستعينون على قضاء حوائجهم بمعصية الله، بحيث تعتبر المعصية شرطاً لقضاء الحاجة ـ كان أفوت لما يرجو ـ لا يحصل على الذي يرجوه ـ وأسرع لمجيء ما يحذر». فعلى الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجاته ويحلّ مشاكله ويصل إلى مقاصده، أن يوازن بين الهدف والوسيلة، بأن تكون وسيلته في طاعة الله سبحانه لا في معصيته.
وقد ورد في حديثه(ع): «أيُّها النَّاس، من جاد ساد ـ أي من جاد على النَّاس بما أعطاه الله من النعم، فإنّه يسود في المجتمع، لأنَّ الناس يحبّونه ـ ومن بخل رذل ـ وأمّا الإنسان الذي يبخل بعلمه أو بماله أو بجاهه أو بموقعه، فإنَّ الناس يرذلونه، أي يقولون عنه إنّه ليس فيه خير وما أشبه ذلك ـ وإنَّ أجود الناس، من أعطى من لا يرجوه ـ الذي لا ينتظر أن يسأله الآخرون ـ وإنَّ أعفى النّاس من عفا عن قدرة، وإنَّ أوصل الناس من وصل من قطعه ـ أي عندما يكون لك رحم لا يزورك ولا يتواصل معك، وأنت تصله، فأنت من أوصل النّاس ـ والأصول على مغارسها بفروعها تسمو ـ فالفروع بحسب جذورها وبحسب ما تنتج، تسمو حين تكون الجذور قويّةً ـ فمن تعجَّل لأخيه خيراً، وجده إذا قدم عليه غداً ـ{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ}(البقرة/110) ـ ومن أراد الله تبارك وتعالى بالصّنيعة إلى أخيه، كافأه بها في وقت حاجته، وصرف عنه من بلاء الدّنيا ما هو أكثر منه ـ في الدّنيا قبل الآخرة ـ ومن نفّس كربة مؤمن ـ فإذا جاءك مؤمن مكروب مهموم، لديه أحزان، وحاولت أن تنفّس كربته، وأن تفتح قلبه وتدخل السّرور عليه ـ فرَّج الله عنه كرب الدّنيا والآخرة، ومن أحسن أحسن الله إليه، والله يحبُّ المحسنين»".
وختم سماحته كلامه بدعوة العلماء والخطباء إلى أن يقدّموا الحسين(ع) كإمام وداعية للإسلام، حتى نعيش معه معنى الإمامة ومعنى الشّهادة:
" أيُّها الأحبَّة، من منكم يعرف الحسين(ع) في هذه الكلمات. لذلك أنا أؤكّد في موسم عاشوراء، وفي غيره، أن يقدِّم العلماء والخطباء الحسين(ع) كإمام يتحرَّك في الدّعوة التي دعا إليها رسول الله(ص)، في تنظيم حياة النّاس، وفي الارتفاع بمستواهم، وفي تأكيد القيم الأخلاقيّة والرُّوحيّة.
لذلك، لا بدّ من أن نأخذ الحسين(ع) بكلّه، لا أن نأخذه بجانب من جوانب حياته. إنَّ موقف الحسين(ع) في كربلاء انطلق من خلال هذا السموّ في محبَّته لله، وهذا السموّ في القيم الروحيّة والأخلاقيّة التي تميّز بها، ونحن نعرف أنَّ الحسين(ع) عاش منذ طفولته مع رسول الله(ص) الذي قال فيه: «حسين منّي وأنا من حسين»، ورضع من روحيّة فاطمة(ع) ومن أخلاقها وإخلاصها لله، وعاش مع أبيه علي(ع) في علمه وصلابته وصبره وشجاعته، وعاش مع أخيه الإمام الحسن(ع) في هيبته وكرمه وجوده وإخلاصه لله سبحانه.
أيُّها الأحبّة، تعالوا حتى ندخل الحسين(ع) في عقولنا وفي قلوبنا وفي مشاعرنا وأحاسيسنا، لنعيش إمامته كما نعيش شهادته ومأساته. والسّلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أنصار الحسين، وعلى أخت الحسين، عليك مني سلام الله أبداً ما بقيت وبقي اللّيل والنّهار، ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتك".