يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 183].
تحقيقُ الغايةِ من العبادات
لقد جعل الله سبحانه وتعالى لكلّ عبادة من العبادات هدفاً يتَّصل بالجانب التربويّ للإنسان، فنقرأ مثلاً في الصَّلاة: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}[العنكبوت: 45]. فالصَّلاة هي وسيلة من الوسائل التي يتربى فيها الإنسان، عندما ينفتح على سرّ موقفه أمام ربّه، وعلى ما يتحدَّث به في أذكاره وقراءته وركوعه وسجوده، بحيث تتحوَّل الصَّلاة وموقعه فيها إلى مدرسة يتعلَّم فيها كيف يطهّر نفسه من كلّ ما يسخط الله، ويطهّر أقواله وأفعاله من كلّ ما نهاه الله عنه، وهذا ما تمثّله كلمتا (الفحشاء والمنكر)، فمن ترك الفحشاء والمنكر من خلال وعيه لصلاته، فقد حصل على نتائج الصَّلاة، ولم تكن الصَّلاة مجرَّد جهد يتعب فيه الإنسان جسده بدون هدف، وقد ورد: "مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا"، فبدلاً من أن تقرّبه الصَّلاة إلى الله، فإنَّها تبعده عنه، لأنَّ هذه العبادة عندها ستكون مجرَّد حركات يمارسها الإنسان لا روح فيها، وقد ورد أيضاً: "رُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَر".
وفي ضوء هذا، لا بدَّ للإنسان عندما يدخل في أجواء الصَّلاة، أن يعيش مع الله، وأن ينبّه ذاته إلى أنَّ الموقف أمام الله، يفرض عليه أن يربي نفسه على ما يرضي الله وأن يجنّبها ما يسخطه.
أمَّا الصَّوم، فقد ربطه الله سبحانه بالتَّقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
معنى التَّقوى
والتَّقوى هي أن تراقب الله سبحانه وتعالى في كلّ أقوالك وأفعالك وعلاقاتك ومواقفك، بحيث لا تقدّم رجلاً ولا تؤخّر أخرى، حتَّى تعلم أنَّ في ذلك لله رضا، أن لا يكون همّك في الحياة كيف ترضي إنساناً وكيف تغضب إنساناً، بل كيف ترضي الله سبحانه وتعالى، بحيث تكون واعياً قبل أن تقوم بالعمل، وتسأل نفسك قبل أن تتكلَّم بالكلمة، وقبل أن تتَّخذ الموقف، أو تنشئ العلاقة، وقبل أن تفعل أيّ شيء، هل يرضى الله لهذا أو لا يرضى، سواء كنت في نفسك، عندما تدفعك نفسك إلى ملذَّاتها وشهواتها ورغباتها، أو عندما تكون في بيتك مع عيالك، أو عندما تكون مع النَّاس في تعاملك معهم، سواء في الأمور المادّيَّة أو المعنويَّة. وقد ورد في تفسير التَّقوى، "أَنْ لَا يَرَاكَ اللهُ حَيْثُ نَهَاكَ - يعني أن لا يراك الله في الموقع الَّذي نهاك على أن تكون فيه - وَأَنْ لَا يَفْقدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ - بحيث عندما يراقبك الله، فلا يفقدك في المواقع الَّتي أمرك بأن تكون فيها، يعني في مواقع الواجبات، فعليك أن تكون في كلّ موقع ألزمك الله بأن تكون فيه.
والتَّقوى تمثّل الإسلام كلّه، لأنّ الإسلام هو عبارة عن أن تعقد قلبك على توحيد الله، ورسالة رسول الله، والإيمان باليوم الآخر، وأن تحرّك حياتك فيما أمر الله به لتفعله، وفيما نهاك الله عنه لتتركه، وهذا ما أكَّده الله في قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب: 36]، فإذا أصدر الله إليك أيَّ أمر، وألزمك بأيّ شيء فعلاً أو تركاً، فلا حريَّة لك أن تقول أنا حرّ أن أفعل أو أترك، أنت حرّ أمام العالم، ولكن أمام الله أنت عبد، الله يريدك أن يظلَّ رأسك مرفوعاً أمام أيّ إنسان، ولا يريدك أن تحني رأسك لأيّ انسان، ولا تستعبد نفسك لأيّ إنسان، الإمام عليّ (ع) يقول: "لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً". إنَّ حرّيّتك لم تأت بمرسوم جمهوريّ أو ملكيّ، بل إنّها جاءت من حيث وجودك ومن حيث خلقك، ولذا أنت لست حرّاً في أن تستعبد نفسك لأيّ أحد. وما يقوله البعض لبعض الأشخاص: أنا عبدك، هذا غير مقبول، لأنّك عبد الله فقط. حتَّى إنَّ ما درج عليه النَّاس من الأسماء، ولو أنّه ينطلق من باب التَّواضع، كما في اسم عبد علي، عبد الحسين، عبد الحسن، عبد الكاظم، هذا غير مقبول، فكلّنا عبيد الله، سمِّ محمَّداً، سمِّ عبدالله. إنَّ من المؤكَّد أنّ مَنْ يسمّي هذه الأسماء لا يقصد المعنى الحرفيّ لها، كأن يكون عبداً للأئمّة أو عبداً للنبيّ، لأنَّ العبوديَّة لله وحده، لكن نحن علينا أن نوحّد الله حتى بالكلمة، "خَيْرُ الأَسْمَاءِ مَا حـُمِّدَ - سمِّ أحمد ومحمّداً - وَعُبِّدَ"، يعني ما تكون العبادة فيه لله سبحانه وتعالى.
إخلاصُ العبادةِ لله
فالمفروض في الإنسان أن يخلص العبادة لله سبحانه وتعالى، فلا يصحُّ أن تستعبد نفسك لأحد، لأنَّك حرّ، فإذا قيل لك افعل كذا، قل له أفكّر فيه إذا كان ينسجم مع مبادئي وأخلاقي ومع مصالحي، فتفعله أو تتركه، ولكن أمام الله أنت تركع له ولا تركع لغيره، فعندما تقول: سبحان الله العظيم، تتمثَّل عظمة الله في ركوعك، وعندما تسجد، فإنّك لن تسجد لأحد غير الله، لأنَّ السّجود لا يكون إلَّا له تعالى، حتَّى سجود الملائكة لآدم كان سجود الشّكر لله وليس سجوداً لآدم، أن يسجدوا لله تعظيماً لخلق الله سبحانه وليس سجوداً لآدم. وربما كان السّجود في ذاك الوقت تحيَّة، كما في سجود أبوي يوسف {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}[يوسف: 100]، يعني تحيّة. أمّا السّجود الَّذي ينسحق فيه الإنسان، بحيث ينسحق بجسده وروحه، فلا يكون إلّا لله. ولذا في السّجود، اختار لنا التَّشريع الإسلامي كلمة (الأعلى)، سبحان ربي الأعلى، يعني هو الأعلى وكلّ من هو غيره هو الأسفل.
فنحن أمام الله نحني رؤوسنا، وأمام الله لا نقول أنا حرّ. في الحجّ، عندما تريد الإحرام، تنزع كلّ ثيابك المخيطة، وتقول: "لبَّيْكَ اللَّهمَّ لبَّيْكَ"، ما معنى (لبَّيك)؟ يعني أنا لا أجيبك مرَّة واحدة، بل إجابة بعد إجابة، "لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ - فلا أقول لبّيك إلّا لك - إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ"، فالحمد لك، والنّعمة منك، والملك لك. أنت تلبّي الله وحده فقط، لأنَّ الله وحده هو الَّذي يجب عليك أن تطيعه وأن تعبده.
هناك بعض النَّاس تقول له صلّ يقول لك لا أريد أن أصلّي أنا حرّ، لا تشرب الخمر يقول أنا حرّ، لا تفعل كذا يقول أنا حرّ... لا أنت لست حراً، لأنَّك عبد الله، وعليك أن تنحني لله فيما أمرك به، فأمام الله لا يوجد أيّ كلمة، ولذا في آية أخرى يقول تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النّساء: 65].
هذا هو الإسلام، في زمن نوح كان هكذا، وفي زمن إبراهيم وعيسى ومحمَّد: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة: 131]، أنا أسلمت لله، فما يقضيه الله ألتزم به {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام: 162- 163].
الجنّةُ مربوطةٌ بالتَّقوى
هذه هي التَّقوى، فالتَّقوى هي الإسلام في عقائده وشرائعه. ولذلك ربط الله سبحانه وتعالى الجنَّة بالتَّقوى، فالَّذين يدخلون الجنَّة ويستحقَّونها هم المتَّقون {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 133] وليست لكلّ النّاس، {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ - الّذين يستجيبون لله في العطاء، فيما أمرهم الله من الإنفاق، في حالتي السّعة والضّيق - وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ – الَّذين يملكون صدراً واسعاً، وإذا غاظهم الآخرون يحبسون غيظهم - وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ – الَّذين يعفون عمَّن أساء إليهم - وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134].
وهم أيضاً {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً – دهاهم الشَّيطان، وقاموا بما تجاوزوا فيه الحدّ - أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ – بالمعصية، لأنَّ الإنسان الَّذي يعصي ربَّه يظلم نفسه - ذَكَرُوا اللَّهَ - فقد تأتي الإنسانَ غفلة وغشاوة على قلبه، فينسى الله ويعصيه، ويظلم نفسه بالمعصية، لكن بمجرَّد أن يعصي، لا تتجذَّر المعصية في داخل كيانه، ولا يظلم نفسَه دائماً - فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ - لا أحد يغفر كلَّ ذنوبك ويقبل توبتك إلَّا الله {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}[الشّورى: 25] - وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا – لم يصرّوا على المعصية - وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: 135]. هؤلاء هم المتَّقون، وهم الَّذين يدخلون الجنّة.
هناك البعض ممن يدمن على الخمر والمخدّرات ويدمن على التَّدخين، ويصرّ على حالته، ويقول أنا لست قادراً على أن أترك هذه الأمور، ولكنَّ الواقع أنّك قادر على أن تترك إلّا أنّك لا تريد، لأنَّ شهوتك للتَّدخين والخمر والمخدّرات هي الَّتي تمنعك من أن تترك، فالإنسان عنده إرادة، ومن يملك إرادة، يستطيع بالإرادة أن يترك كلّ شيء، وأن يفعل كلَّ شيء، قيمة الإنسان أنَّ الله جعله حرَّ الإرادة {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان: 3]، لقد فتح الله لك الطَّريق، وقال لك أنت اختر وتحمَّل مسؤوليَّة اختيارك.
علامةُ التَّقوى
وفي آية أخرى، يبيّن الله أنَّ علامة التَّقيّ أنَّه بمجرَّد أن يطغيه الشَّيطان يتراجع {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ - عندما يأتي الشَّيطان ويقترب منهم ويطوف بهم - تَذَكَّرُوا - كيف فعلنا ذلك، كيف عصينا الله، كيف ظلمنا أنفسنا، يعني بعد أن كانوا في حالة عمى، تذكّروا - فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف: 201]، لأنَّ الله يقول: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحجّ: 46].
نخرج من كلّ هذا العرض، بأنّه أن تصوم، يعني أن تستفيد من صيامك، بأن تكون تقيّاً، تتّقي الله في كلّ حياتك.
والحمد لله ربّ العالمين.
*موعظة لسماحته، بتاريخ: 5 - 10 - 2005م.
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 183].
تحقيقُ الغايةِ من العبادات
لقد جعل الله سبحانه وتعالى لكلّ عبادة من العبادات هدفاً يتَّصل بالجانب التربويّ للإنسان، فنقرأ مثلاً في الصَّلاة: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}[العنكبوت: 45]. فالصَّلاة هي وسيلة من الوسائل التي يتربى فيها الإنسان، عندما ينفتح على سرّ موقفه أمام ربّه، وعلى ما يتحدَّث به في أذكاره وقراءته وركوعه وسجوده، بحيث تتحوَّل الصَّلاة وموقعه فيها إلى مدرسة يتعلَّم فيها كيف يطهّر نفسه من كلّ ما يسخط الله، ويطهّر أقواله وأفعاله من كلّ ما نهاه الله عنه، وهذا ما تمثّله كلمتا (الفحشاء والمنكر)، فمن ترك الفحشاء والمنكر من خلال وعيه لصلاته، فقد حصل على نتائج الصَّلاة، ولم تكن الصَّلاة مجرَّد جهد يتعب فيه الإنسان جسده بدون هدف، وقد ورد: "مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا"، فبدلاً من أن تقرّبه الصَّلاة إلى الله، فإنَّها تبعده عنه، لأنَّ هذه العبادة عندها ستكون مجرَّد حركات يمارسها الإنسان لا روح فيها، وقد ورد أيضاً: "رُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَر".
وفي ضوء هذا، لا بدَّ للإنسان عندما يدخل في أجواء الصَّلاة، أن يعيش مع الله، وأن ينبّه ذاته إلى أنَّ الموقف أمام الله، يفرض عليه أن يربي نفسه على ما يرضي الله وأن يجنّبها ما يسخطه.
أمَّا الصَّوم، فقد ربطه الله سبحانه بالتَّقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
معنى التَّقوى
والتَّقوى هي أن تراقب الله سبحانه وتعالى في كلّ أقوالك وأفعالك وعلاقاتك ومواقفك، بحيث لا تقدّم رجلاً ولا تؤخّر أخرى، حتَّى تعلم أنَّ في ذلك لله رضا، أن لا يكون همّك في الحياة كيف ترضي إنساناً وكيف تغضب إنساناً، بل كيف ترضي الله سبحانه وتعالى، بحيث تكون واعياً قبل أن تقوم بالعمل، وتسأل نفسك قبل أن تتكلَّم بالكلمة، وقبل أن تتَّخذ الموقف، أو تنشئ العلاقة، وقبل أن تفعل أيّ شيء، هل يرضى الله لهذا أو لا يرضى، سواء كنت في نفسك، عندما تدفعك نفسك إلى ملذَّاتها وشهواتها ورغباتها، أو عندما تكون في بيتك مع عيالك، أو عندما تكون مع النَّاس في تعاملك معهم، سواء في الأمور المادّيَّة أو المعنويَّة. وقد ورد في تفسير التَّقوى، "أَنْ لَا يَرَاكَ اللهُ حَيْثُ نَهَاكَ - يعني أن لا يراك الله في الموقع الَّذي نهاك على أن تكون فيه - وَأَنْ لَا يَفْقدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ - بحيث عندما يراقبك الله، فلا يفقدك في المواقع الَّتي أمرك بأن تكون فيها، يعني في مواقع الواجبات، فعليك أن تكون في كلّ موقع ألزمك الله بأن تكون فيه.
والتَّقوى تمثّل الإسلام كلّه، لأنّ الإسلام هو عبارة عن أن تعقد قلبك على توحيد الله، ورسالة رسول الله، والإيمان باليوم الآخر، وأن تحرّك حياتك فيما أمر الله به لتفعله، وفيما نهاك الله عنه لتتركه، وهذا ما أكَّده الله في قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب: 36]، فإذا أصدر الله إليك أيَّ أمر، وألزمك بأيّ شيء فعلاً أو تركاً، فلا حريَّة لك أن تقول أنا حرّ أن أفعل أو أترك، أنت حرّ أمام العالم، ولكن أمام الله أنت عبد، الله يريدك أن يظلَّ رأسك مرفوعاً أمام أيّ إنسان، ولا يريدك أن تحني رأسك لأيّ انسان، ولا تستعبد نفسك لأيّ إنسان، الإمام عليّ (ع) يقول: "لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً". إنَّ حرّيّتك لم تأت بمرسوم جمهوريّ أو ملكيّ، بل إنّها جاءت من حيث وجودك ومن حيث خلقك، ولذا أنت لست حرّاً في أن تستعبد نفسك لأيّ أحد. وما يقوله البعض لبعض الأشخاص: أنا عبدك، هذا غير مقبول، لأنّك عبد الله فقط. حتَّى إنَّ ما درج عليه النَّاس من الأسماء، ولو أنّه ينطلق من باب التَّواضع، كما في اسم عبد علي، عبد الحسين، عبد الحسن، عبد الكاظم، هذا غير مقبول، فكلّنا عبيد الله، سمِّ محمَّداً، سمِّ عبدالله. إنَّ من المؤكَّد أنّ مَنْ يسمّي هذه الأسماء لا يقصد المعنى الحرفيّ لها، كأن يكون عبداً للأئمّة أو عبداً للنبيّ، لأنَّ العبوديَّة لله وحده، لكن نحن علينا أن نوحّد الله حتى بالكلمة، "خَيْرُ الأَسْمَاءِ مَا حـُمِّدَ - سمِّ أحمد ومحمّداً - وَعُبِّدَ"، يعني ما تكون العبادة فيه لله سبحانه وتعالى.
إخلاصُ العبادةِ لله
فالمفروض في الإنسان أن يخلص العبادة لله سبحانه وتعالى، فلا يصحُّ أن تستعبد نفسك لأحد، لأنَّك حرّ، فإذا قيل لك افعل كذا، قل له أفكّر فيه إذا كان ينسجم مع مبادئي وأخلاقي ومع مصالحي، فتفعله أو تتركه، ولكن أمام الله أنت تركع له ولا تركع لغيره، فعندما تقول: سبحان الله العظيم، تتمثَّل عظمة الله في ركوعك، وعندما تسجد، فإنّك لن تسجد لأحد غير الله، لأنَّ السّجود لا يكون إلَّا له تعالى، حتَّى سجود الملائكة لآدم كان سجود الشّكر لله وليس سجوداً لآدم، أن يسجدوا لله تعظيماً لخلق الله سبحانه وليس سجوداً لآدم. وربما كان السّجود في ذاك الوقت تحيَّة، كما في سجود أبوي يوسف {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}[يوسف: 100]، يعني تحيّة. أمّا السّجود الَّذي ينسحق فيه الإنسان، بحيث ينسحق بجسده وروحه، فلا يكون إلّا لله. ولذا في السّجود، اختار لنا التَّشريع الإسلامي كلمة (الأعلى)، سبحان ربي الأعلى، يعني هو الأعلى وكلّ من هو غيره هو الأسفل.
فنحن أمام الله نحني رؤوسنا، وأمام الله لا نقول أنا حرّ. في الحجّ، عندما تريد الإحرام، تنزع كلّ ثيابك المخيطة، وتقول: "لبَّيْكَ اللَّهمَّ لبَّيْكَ"، ما معنى (لبَّيك)؟ يعني أنا لا أجيبك مرَّة واحدة، بل إجابة بعد إجابة، "لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ - فلا أقول لبّيك إلّا لك - إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ"، فالحمد لك، والنّعمة منك، والملك لك. أنت تلبّي الله وحده فقط، لأنَّ الله وحده هو الَّذي يجب عليك أن تطيعه وأن تعبده.
هناك بعض النَّاس تقول له صلّ يقول لك لا أريد أن أصلّي أنا حرّ، لا تشرب الخمر يقول أنا حرّ، لا تفعل كذا يقول أنا حرّ... لا أنت لست حراً، لأنَّك عبد الله، وعليك أن تنحني لله فيما أمرك به، فأمام الله لا يوجد أيّ كلمة، ولذا في آية أخرى يقول تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النّساء: 65].
هذا هو الإسلام، في زمن نوح كان هكذا، وفي زمن إبراهيم وعيسى ومحمَّد: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة: 131]، أنا أسلمت لله، فما يقضيه الله ألتزم به {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام: 162- 163].
الجنّةُ مربوطةٌ بالتَّقوى
هذه هي التَّقوى، فالتَّقوى هي الإسلام في عقائده وشرائعه. ولذلك ربط الله سبحانه وتعالى الجنَّة بالتَّقوى، فالَّذين يدخلون الجنَّة ويستحقَّونها هم المتَّقون {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 133] وليست لكلّ النّاس، {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ - الّذين يستجيبون لله في العطاء، فيما أمرهم الله من الإنفاق، في حالتي السّعة والضّيق - وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ – الَّذين يملكون صدراً واسعاً، وإذا غاظهم الآخرون يحبسون غيظهم - وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ – الَّذين يعفون عمَّن أساء إليهم - وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134].
وهم أيضاً {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً – دهاهم الشَّيطان، وقاموا بما تجاوزوا فيه الحدّ - أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ – بالمعصية، لأنَّ الإنسان الَّذي يعصي ربَّه يظلم نفسه - ذَكَرُوا اللَّهَ - فقد تأتي الإنسانَ غفلة وغشاوة على قلبه، فينسى الله ويعصيه، ويظلم نفسه بالمعصية، لكن بمجرَّد أن يعصي، لا تتجذَّر المعصية في داخل كيانه، ولا يظلم نفسَه دائماً - فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ - لا أحد يغفر كلَّ ذنوبك ويقبل توبتك إلَّا الله {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}[الشّورى: 25] - وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا – لم يصرّوا على المعصية - وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: 135]. هؤلاء هم المتَّقون، وهم الَّذين يدخلون الجنّة.
هناك البعض ممن يدمن على الخمر والمخدّرات ويدمن على التَّدخين، ويصرّ على حالته، ويقول أنا لست قادراً على أن أترك هذه الأمور، ولكنَّ الواقع أنّك قادر على أن تترك إلّا أنّك لا تريد، لأنَّ شهوتك للتَّدخين والخمر والمخدّرات هي الَّتي تمنعك من أن تترك، فالإنسان عنده إرادة، ومن يملك إرادة، يستطيع بالإرادة أن يترك كلّ شيء، وأن يفعل كلَّ شيء، قيمة الإنسان أنَّ الله جعله حرَّ الإرادة {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان: 3]، لقد فتح الله لك الطَّريق، وقال لك أنت اختر وتحمَّل مسؤوليَّة اختيارك.
علامةُ التَّقوى
وفي آية أخرى، يبيّن الله أنَّ علامة التَّقيّ أنَّه بمجرَّد أن يطغيه الشَّيطان يتراجع {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ - عندما يأتي الشَّيطان ويقترب منهم ويطوف بهم - تَذَكَّرُوا - كيف فعلنا ذلك، كيف عصينا الله، كيف ظلمنا أنفسنا، يعني بعد أن كانوا في حالة عمى، تذكّروا - فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف: 201]، لأنَّ الله يقول: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحجّ: 46].
نخرج من كلّ هذا العرض، بأنّه أن تصوم، يعني أن تستفيد من صيامك، بأن تكون تقيّاً، تتّقي الله في كلّ حياتك.
والحمد لله ربّ العالمين.
*موعظة لسماحته، بتاريخ: 5 - 10 - 2005م.