بالعودة إلى أرشيف سماحة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(رض)، نستحضر خطبة الجمعة الدّينية الّتي ألقاها من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، وذلك بتاريخ 28 ربيع الثاني العام 1422ه/ الموافق 20/7/ 2001، حيث تحدَّث عن علاقة الضّعفاء بالأقوياء، مع شواهد على ذلك، وما قدَّمه القرآن الكريم في هذا المجال:
"من بين القضايا الحيَّة التي تتَّصل بمصير الإنسان في الدّنيا والآخرة، هي علاقة الضّعفاء بالأقوياء، أو علاقة التّابعين بالمتبوعين، فمن الطبيعيّ أنّ المجتمع لا يمثِّل وحدة في المواقع، فهناك الأقوياء الّذين يتنوّعون في مراكز القوّة، وهناك الأقوياء في مواقع المال أو السّلطة أو الخبرة أو في مواقع العمل، وهناك الأقوياء في الخطوط السياسيّة، وفي المقابل، هناك التّابعون لهم في كلّ هذه المواقع.
إذاً، كيف يتعامل الإنسان مع مراكز القوَّة هذه، حيث تحاول مراكز القوَّة في المجتمع أن تستغلّ موقعها، لتفرض على النّاس فكراً معيّناً أو سلوكاً معيّناً أو حركة معيّنة أو مشروعاً معيّناً، باعتبار أنَّ القويَّ يحاول أن يفرض كلّ فكره وعصبيّاته وحساسيّاته على الضّعيف، ليستغلّ الضّعيف لتنفيذ مصالحه، أو للوصول إلى أهدافه، لأنّ القويّ ليس قويّاً بنفسه، بل يصبح قوياً بانضمام الناس إليه، واجتماعهم حوله ومقاتلتهم من أجله، ودخولهم معه كلّ ساحات الصراع.. وهناك قاعدة يقول بها بعض المفكّرين، أنّ بعض الضعفاء يجتذب الأقوياء إليه، لأنه لا يعيش عناصر القوة في نفسه، وهذه موجودة على مستوى الأفراد والجماعات والشّعوب، وإلا كيف نفسّر مسألة خدمة المحتلّ أو المستعمر.
وقد تعرّض القرآن الكريم لهذه المسألة، وركّزها على قاعدة أنّ هؤلاء الناس الذين تتبعهم وتنحني إرادتك لإرادتهم، ومواقفك لمواقفهم، على قسمين: هناك أناس معصومون لا يخطئون، كالنبي(ص) وأهل البيت(ع)، فإذا كان هؤلاء في مواقع القيادة، فعليك أن تسلّم لهم، لأنهم لا يخطئون ولا يعصون الله، وقد ركَّز الله تعالى هذه المسألة في قوله تعالى: {فلا وربِّك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً}، لأنّ "من أطاع الرسول فقد أطاع الله".
أمَّا الأشخاص غير المعصومين، فعلى قسمين: هناك أشخاص هم حجَّة بينك وبين الله، مثل المجتهدين العدول الّذين يرجع إليهم النّاس في الفتاوى، هؤلاء لك أن تتبعهم في فتاواهم، وإذا كانوا في موقع الحكم، فلك أن تتبعهم في مواقع الحكم. وهناك أشخاص لم يعطهم الله تعالى الشرعيّة، فهم ليسوا مجتهدين ولا عدولاً، كرؤساء العشائر والأحزاب والمواقع السياسيّة والاقتصادية والعسكرية، فهؤلاء لا يملكون شرعيّة بالمعنى الشرعي من الله تعالى، ولا يمثّلون الشرعية بالمعنى الذي يؤهِّلهم لكي تسير خلفهم مسلّماً لهم، وفي كلا القسمين ـ من غير المعصومين ـ لا مانع من أن تراقب عملهم وتدقّق في أفعالهم، من حقّك أن تحاول أن تدرس كلماتهم لتتفهّمها أولاً، حتى إذا وجدت فيها بعض الخطأ مما لم يتعمّدوه، فإنك تنبّه إليه، لأنهم غير معصومين، وقد يخطئون من حيث عدم عصمتهم".
ويضيف سماحته مشيراً إلى صفات المعصومين، وما في ذلك من عبرة لنا، إضافةً إلى النتائج التي يحصل عليها من يتبع المستكبرين، وذلك في أمثلة قرآنيّة حيّة:
"وقد يستغرب المسألة كثيرٌ من الناس، لكن عندما نأتي إلى النبي(ص) ـ وهو رسول الله وسيد ولد آدم ـ نراه عندما كان في آخر حياته، يقف خطيباً أمام المسلمين ويقدّم لهم الحساب، وهو ليس مسؤولاً أمامهم، بل هو مسؤول أمام الله تعالى، ومع ذلك، قال لهم: "إنكم لا تعلّقون ـ وفي رواية "تمسكون" ـ عليّ بشيء، إني ما حرّمت إلا ما حرّم القرآن، وما حلّلت إلا ما أحلّ القرآن". والإمام عليّ(ع) عندما كان خليفة ـ وعليّ هو سيّد المعصومين بعد رسول الله، وقد بلغ من العصمة الدّرجة العالية، وإن كان بعض الناس ممّن لا يتقون الله، ينسبون إليّ أنني أقول بعدم عصمته ـ قال لهم: "لا تكلّموني بما تكلِّمون به الجبابرة، ولا تتحفظوا عندي بما يُتحفَّظُ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً لحقّ قيل لي، أو لعدل يُعرض عليّ، فإنَّ من استثقل الحقّ أن يقال له، والعدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفّوا عن مشورة بحقّ أو مقالة بعدل، فإني في نفسي لست بفوق أن أخطئ، إلا أن يكفي الله مني ذلك"، وقد كفى الله تعالى منه ذلك.
أما بالنسبة إلى الناس الذين لا يملكون الشرعية، فعليك أن لا تطيعهم في معصية الله، ولا تساعدهم في ظلم، ولا تتعصّب لهم في أيّ خطّ من خطوط الانحراف عن الإسلام، لأنّك سوف تتحمّل مسؤولية من تؤيّده وتدعمه وتصوّت له وتسير وراءه وتقاتل باسمه في الدنيا والآخرة. والله تعالى حدّثنا عن نماذج من هؤلاء النّاس، وهذا الكلام كما هو حجّة عليّ من الله، فهو حجّة عليكم منه تعالى، لأنّه سيقول لكم: {ألَمْ يأتِكم نذير}، فلننتقل من الدّنيا إلى ساحة القيامة ـ في فيلم ديني ـ فماذا هناك؟
{إذ تبرّأ الّذين اتُّبِعوا ـ من الرّؤساء والزّعماء والكبار ـ من الّذين اتَبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب ـ كلّ العلاقات الحزبية والسياسية والعشائرية التي كانت بينهم قد تقطّعت ـوقال الذين اتَبعوا لو أن لنا كرّة ـ لو أنّ الله يرجعنا إلى الدنيا ويأتي وقت المعارك والانتخابات ـ فنتبرّأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}.
وفي المشهد الثاني: {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للّذين أشركوا ـ الذين كانوا يخضعون لهم ـ مكانكم أنتم وشركاؤكم، فزيّلنا بينهم ـ فرّقنا بينهم ـ وقال شركاؤهم ما كنتم إيّانا تعبدون * فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين* هنالك تبلو كلّ نفس ما أسلفت وردّوا إلى الله مولاهم الحقّ وضلّ عنهم ما كانوا يفترون}.
وفي المشهد الثالث: {وبرزوا لله جميعاً ـ وقف الضّعفاء والمستكبرون للسّؤال ـ فقال الضّعفاء للذين استكبروا إنّا كنا لكم تبعاً ـ كنّا أزلامكم فنقاتل من أجلكم ـ فهل أنتم مغنون عنّا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}.
وفي المشهد الرّابع، يقف المجرمون أمام "إبليس" ليحمِّلوه المسؤولية: {وقال الشّيطان لما قضي الأمر إنَّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم ـ والله تعالى قد حذّر من خداع إبليس ـ وما كان لي عليكم من سلطانٍ إلّا أن دعوتكم ـ قرعت الطّبل ـ فاستجبتم لي ـ وأنا أسألكم سؤالاً: لو أنَّ أحداً دقّ الطبل في الشّارع، فكم يجتمع حوله؟ ـ فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيَّ إنّي كفرت بما أشركتموني من قبل إنَّ الظّالمين لهم عذاب أليم}.
ونصل إلى المشهد الذي يجتمعون فيه في النّار: {هذا فوجٌ مقتحم معكم لا مرحباً بهم إنّهم صالو النار* قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدَّمتموه لنا فبئس القرار* قالوا ربّنا من قدَّم لنا هذا فزدْه عذاباً ضعفاً في النّار* وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدّهم من الأشرار ـ هناك أناس كانوا معنا في الدّنيا لم يدخلوا اللّعبة السياسيّة، ولم يظلموا، ولم يُرتشوا، وكنا نستهزئ بهم ـ اتخذناهم سخريّاً أم زاغت عنهم الأبصار* إنّ ذلك لحقّ تخاصم أهل النّار}. وفي مشهد آخر: {إذ يتحاجّون في النّار فيقول الضّعفاء للذين استكبروا إنَّا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النّار* قال الذين استكبروا إنّا كلّ فيها إنّ الله قد حكم بين العباد}.
ويحدّثنا الله تعالى عن صديق السوء، ومن الطبيعي أنّ الصديق يؤثّر في الصديق ـ سلباً أو إيجاباً ـ فيتخاصم الصديقان المنحرفان يوم القيامة: {قال قرينه ـ صديقه ـ ربَّنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد* قال لا تختصموا لديَّ وقد قدَّمت إليكم بالوعيد* ما يبدِّل القول لديَّ وما أنا بظلاّمٍ للعبيد* يوم نقول لجهنَّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد}".
ويختم سماحته بالدَّعوة إلى ضرورة التزام الحلال وفعله، وترك الحرام وهجرانه:
"والله تعالى يحدّثنا عن أولئك الذين يشجعون بعض الناس على شهادة الزور أو القتل، ويعدونهم بأن يتحمّلوا المسؤوليّة عنهم، فيقول: {وقال الّذين كفروا للذين آمنوا اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون* وليحملنّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألنّ يوم القيامة عمّا كانوا يفترون}. وهناك آية كريمة علينا أن نتذكَّرها في كلّ معركة وفي كلّ "حوربة": {يومَ تأتي كلُّ نفسٍ تجادلُ عن نفسِها}، عليك أن تعرف ما هو الحلال وما هو الحرام، فتترك الحرام وتفعل الحلال حتى تنجو غداً، {يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون* إلّا من أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ}".