بالعودة إلى الذَّاكرة، نستحضر المواقف والمواعظ المهمَّة التي أطلقها سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) في خطبة الجمعة الدِّينيّة في مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ 2/1/2009م/ محرَّم 1430ه، حيث تحدَّث عن ثورة الحسين(ع) الّتي رأى فيها امتداداً طبيعيّاً لهجرة الرَّسول(ص) من مكَّة، مستعرضاً لجملةٍ من الأحداث التاريخيّة التي مرّ بها المسلمون. قال سماحته:
"منذ بداية الهجرة، ركّز المسلمون على أن يكون التّاريخ الهجريّ بداية التاريخ الإسلامي، ويقال إنَّهم استشاروا عليّاً(ع) في ذلك فوافق عليه. وفي سنة ستّين من الهجرة، كانت هجرة الحسين(ع) من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة إلى كربلاء. وبين هذين التّاريخين؛ تاريخ بداية السّنة الهجريّة، وتاريخ بداية الهجرة الحسينيَّة، مرّت على المسلمين أحداثٌ وأحداث، كانت بداياتها مع رسول الله(ص)، عندما انطلق في المدينة ليؤسِّس الدولة الإسلامية، ولينظّم للناس حياتهم على أساس الإسلام، وأصبح للمسلمين في المدينة ـ ومعهم اليهود الذين دخلوا في عهد رسول الله في وثيقة المدينة مع الأنصار والمهاجرين ـ دولة تنظّم أمور الناس على أساس الشريعة الإسلامية، وتؤسِّس للقوة الضاربة المجاهدة المتحدّية التي تواجه الشّرك كلّه، وتصنع وضعاً جديداً في المنطقة، ليشعر النّاس بأنّه ليست هناك قوّة وحيدة يخافون منها، وهي قوَّة قريش، ومعهم حلفاؤهم من المشركين واليهود آنذاك، بل إنَّ هناك قوّةً جديدةً تنطلق من قاعدة ثابتة، ترتكز على أساس العقل والعلم والوحي الإلهي والشّريعة الإسلاميّة، قوّة تملك قانوناً ينظّم للنّاس حياتهم، بدلاً من القوَّة التي كانت تملكها قريش، والّتي لا لم تكن تمثّل نظاماً حضاريّاً للناس.
وبعد وفاة النبيّ(ص)، جرت أحداثٌ كبيرة، حيث أُبعد الخليفة الشّرعي الإمام عليّ(ع) عن موقعه، وارتبك الواقع الإسلامي نتيجة الخلافات الفقهيّة والفكريّة وغيرها، وكانت هناك فرصة لامتداد الإسلام من خلال الحرب التي انطلق فيها المسلمون مع الروم والفرس، ولكن كانت الفتنة التي قُتل فيها الخليفة الثالث عثمان، ثم بدأت الفتنة الثانية باستغلال معاوية قميص عثمان. وعندما تسلّم الإمام عليّ(ع) الخلافة، وضعوا الأشواك في طريقه، فأعلنوا الحرب عليه في كلِّ الأقطار؛ في البصرة في حرب الجمل، وفي الشام في حرب صفين، وفي العراق في حرب الخوارج.
وهكذا، سيطر الأمويون بعد الصلح الذي فرض على الإمام الحسن(ع)، بسبب ضعف جيشه الذي لم يكن موحَّداً، وانطلقت الأمور من خلال سيطرة بني أميّة على الواقع الإسلامي كلّه، حيث فرض معاوية البيعة لولده يزيد على المسلمين، وقيل آنذاك إنَّ الذي كلّفه معاوية أن يأخذ البيعة، أمسك بيدٍ صرّةً من المال وباليد الأخرى سيفاً، وقال: "من بايع فله هذا ـ وأشار إلى المال ـ ومن لم يبايع فله هذا ـ وأشار إلى السّيف". وهكذا فُرضَ يزيد، شارب الخمر، والفاسق، والقاتل، والّذي لم يأخذ بأيِّ التزام إسلاميّ في حياته، بل كانت جذور الشّرك تعيش في داخل شخصيّته، خليفةً على المسلمين.
والتزم الإمام الحسين(ع) مع أخيه الحسن(ع) المعاهدة التي كانت بينه وبين معاوية، وهي أن لا يثور عليه ما دام حيّاً. واغتيل الإمام الحسن(ع) بالسّمّ، ومات معاوية، وأُريد للحسين أن يبايع يزيد، فأعلن(ع) لوالي المدينة: "يزيد فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالبيعة والخلافة".
وبدأ الإمام الحسين(ع) بالثَّورة على يزيد، لأنّه(ع) هو الإمام المفترض الطَّاعة بنصّ النبيّ فيما روي عنه(ص): "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا". وكان(ع) يخطِّط لإبلاغ الأمّة رسالته، ومكث في مكَّة بعد خروجه إليها عدة شهور، يستقبل الناس، ويحدّثهم عن الواقع الإسلاميّ وعن الخطِّ المستقيم، وعن مسؤوليّتهم في أن يكونوا معه، وأن يكونوا القوَّة التي يستند إليها في إسقاط هذا الحكم الظّالم المنحرف عن خطِّ الإسلام."
ويشير سماحته إلى المرحلة التبليغيّة في مكَّة، والّتي قام بها الحسين(ع)، حيث شكّلت هجرته إلى مكّة من المدينة حدثاً مماثلاً لهجرة الرسول(ص) إلى المدينة المنوّرة، في سبيل إحياء الرّسالة، وضمان استمراريّتها، ووضع الجميع أمام مسؤوليّاتهم الأخلاقيّة والشرعيّة:
"وانتهى الإمام الحسين(ع) من خطًّته في مكّة في توجيه الناس، ولا سيّما أنّ الموسم كان موسم حجّ، حيث يجتمع الناس في مكّة، وكان خروجه من مكة كخروج رسول الله منها، عندما خطَّط المشركون لقتل رسول الله(ص) اغتيالاً بالهجوم على بيته بأسياف عشرة من قبائل قريش، ولكنَّ الله تعالى أمره بأن لا يبيت تلك الليلة التي حدَّدوها في بيته، وأن يهاجر ويُبقي عليّاً(ع) على فراشه. وهاجر النبي(ص) إلى المدينة، أمَّا الحسين(ع)، فقد نقل إليه أن يزيد قد بعث جماعةً من الأشقياء، وأمرهم بأن يقتلوه ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة، فخرج(ع) إلى العراق، بعد أن جاءته المئات من الكتب أن أقدم علينا فليس لنا إمام غيرك. وتطوَّرت الأمور بعد أن أرسل الحسين(ع) ابن عمّه مسلم بن عقيل الذي استشهد، واتجه الحسين(ع) إلى كربلاء.
وهكذا كانت الهجرتان؛ هجرة الرّسول(ص)، وهجرة الإمام الحسين(ع)في سبيل الدعوة إلى الإسلام.
ونقرأ في أوّل خطاب للإمام الحسين(ع) للناس، والذي كان يبلّغهم فيه الخطَّ الرسالي الذي يستند إلى سنّة النبي(ص)، ويعرّفهم أنّه لا يبحث عن السلطة من أجل ذاته، إنّما يريد من خلال تحركه تغيير الواقع الفاسد الذي يتحرّك بكلِّ قوّة نحو الكفر الذي يختزنه يزيد ومن معه من أجل تدمير الإسلام الحقّ. يقول(ع) في خطابه: "أيُّها النّاس، إنَّ رسول الله(ص) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغِر عليه ـ وفي رواية: "فلم يغيّر ما عليه" ـ بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يُدخله مدخله".
لقد أراد الحسين(ع) أن يحمِّل المسلمين جميعاً مسؤوليّة التحرك من أجل إسقاط الحكم الظّالم المنحرف الذي لا يتصل بالإسلام بشيء، فكلّ الصّفات السلبية الّتي ذكرها رسول الله(ص) في حديثه، تنطبق على يزيد ومن حوله من أتباعه وأعوانه. وهذه العناوين تمثِّل شرعيّة الثّورة على الحاكم الظّالم، لأنّ بعض الفقهاء من المسلمين يرون أنَّ علينا أن ننصح الحكام لا أن نثور عليهم، فالحسين(ع) أراد أن يؤكّد القاعدة الإسلاميّة التي تفرض على المسلمين في كلّ زمان ومكان أن يثوروا على الحاكم الظّالم، وأن يبيّن أنّ الّذي يقف موقفاً محايداً من الحاكم الظّالم، يدخله الله مدخل هذا الحاكم، لأنَّ "السّاكت عن الحقّ شيطان أخرس".
ثم أراد الحسين(ع) أن يبيّن لهم موقفه الشّرعيّ، فقال: "ألا وإنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشّيطان، وتركوا طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء ـ وهو مال الأمّة ـ وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ مَن غَيّر".
ويؤكّد سماحته أنّ حركة الحسين(ع) هي حركة تغيير الواقع الفاسد كلّه، على قاعدة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، مشيراً إلى بعض محطّات هذه الحركة الإصلاحيّة التي تلتزم الحقّ في مواجهة الباطل:
"ولذلك، فإنَّ حركة الإمام الحسين(ع) كانت من أجل تغيير الانحرافات الفكريّة التي أصابت المجتمع، وتغيير الواقع الفاسد الّذي سيطر عليه الأمويون.
أمّا ما يثور من جدلٍ بين بعض المشايخ الّذين يستنكرون مسألة أن يكون الحسين(ع) طالباً للحكم، فإننا نقول إنَّ مسؤولية الحسين(ع) أن يطلب الحكم، ولكنّ هناك فرقاً بين من يطلب الحكم لأطماعه ولذاته، وبين من يطلبه من أجل إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل وتأكيد الشّريعة الإسلاميّة الحقّة في المجتمع، وهذا يمثل نهج الأئمة(ع) الذي أكَّده نصّ عليّ(ع) وهو يخصف نعله، عندما قال لابن عباس: "ما قيمة هذه النّعل؟"، قال: لا قيمة لها، فقال(ع): "والله، لهيّ أحبّ إليَّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً". فصحيح أنَّ الأئمَّة(ع) طلّقوا الدّنيا، ولكن ليس معنى ذلك أنّهم ابتعدوا عن حقِّهم في الحكم، لأنَّ الحكم بعد رسول الله(ص) كان لهم، وخطاب الحسين(ع) يؤكِّد ذلك: "وأنا أحقّ من غيّر".
وقد أرسل الحسين(ع) كتبه إلى البقاع الكثيرة، ومنها إلى أهل البصرة، وجاء فيها: "أمَّا بعد، فإنَّ الله اصطفى محمداً على خلقه، وأكرمه بنبوَّته، واختاره لرسالته، ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أُرسل به، وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته، وأحقّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا، فأغضينا كراهيةً للفرقة ومحبّةً للعافية ـ لأننا نريد وحدة المسلمين، ولا سيّما في تلك المرحلة التي كان الإسلام يواجه فيها الخطر من القوى الكافرة ـ ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممن تولاه ـ فالخلافة لنا والإمامة لنا ـ وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنَّ السنّة قد أُميتت، وإنَّ البدعة قد أُحييت، فإن تجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري، أهدِكم سبيل الرّشاد".
لقد كان الإمام الحسين(ع) يؤكِّد أنّه خرج من أجل إقامة الحقّ وإزهاق الباطل والإصلاح في أمّة جدّه، خرج من أجل تركيز القاعدة الإسلاميّة التي ركَّزها جدّه رسول الله(ص)، ولذلك، فإنّنا لا نقبل بكلّ ما يقوله البعض من أنَّ الحسين(ع) انطلق بحركة انتحاريّة أو استشهاديّة، بالرواية التي تنسب إلى الإمام الحسين(ع) القول: "خير لي مصرع أنا ملاقيه". اسمعوا هذه الرواية التي تتحدّث عن الحسين(ع) وهو في ساحة المعركة والتحدّي: "فوالله، ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه، أربط جأشاً، ولا أمضى جناناً، ولا أجرأ مقدماً منه، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله، وإن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه، فتنكشف عن يمينه وعن شماله انكشاف المعزى إذا شدَّ فيها الذئب، ولقد كانوا يحملون عليه وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً، فينهزمون بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله".
لقد كان الناس يرون في قتال الإمام الحسين(ع) قتال علي بن أبي طالب(ع)، كما كانوا يرون في قتال عليّ الأكبر قتال جدّه(ص)، وعندما رأى ابن سعد القتلى يتساقطون، نادى في أصحابه: "أتدرون من تقاتلون؟! هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب". نحن نلاحظ في كثير من مجالس التعزية، أنهم يصوّرون الإمام الحسين(ع) كأنّه إنسان ضعيف، وخصوصاً عندما ينسبون إليه القول: "وحقّ جدّي أنا عطشان"، فهذا كلّه غير صحيح، لأنَّ الإمام الحسين(ع) كان يمثّل القوَّة، وقد أوصى أخته زينب بأن تصبر وتنطلق بكلِّ صلابة وقوَّة، وهو ما فعلته السيّدة زينب القائدة التي وقفت أمام ابن زياد ويزيد بكلِّ قوة وصلابة، وما ينقله البعض من أنّها ضربت جبينها بمقدّم المحمل هو كذب".
وختم سماحته بأن ذكرى عاشوراء هي الملهمة لكلّ معاني القوّة والحرّيّة والعزّة والكرامة والإباء:
"ما نريده من خلال إحياء عاشوراء، هو أن يكون لنا قوّة كقوة الحسين(ع) وزينب، لأنّ التحدّيات تحيط بنا كما أحاطت به، وقد استعدَّ الحسين(ع) للقتال عندما أمروه أن ينـزل على حكم ابن عمّه أو يُقتل، عندها قال(ع): "لا أعطيكم بيدي إعطاء الذَّليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"، "ألا وإنَّ الدَّعيّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وجدود طهُرت، ونفوس أبيّة، وأنوف حميّة، من أن نؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام".
هذا هو الحسين(ع) الذي وقف وحيداً، ولكنّه كان أمّةً في رجل، لذلك علينا عندما نواجه التحدّيات الاستكبارية الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية، أن نكون حسينيّين في الرسالة والقوة والعزّة والكرامة، أمّا قضية الحزن والبكاء، فهي تمثّل العاطفة الإنسانيّة، والحسين(ع) يستحق منّا هذه العاطفة، لأنَّ المأساة في كربلاء تفجّر هذه العاطفة، ولكن علينا أن لا نستضعف موقف الحسين وأهل بيته(ع) وأصحابه.
وهذا هو دور عاشوراء؛ أن تمنحنا القوّة والصلابة والتحدّي والصّبر على الأذى، لكي نردِّد مع عليّ الأكبر قوله في حديثه لأبيه: "ما دمنا على الحقّ، فوالله لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا".