بالعودة إلى الذّاكرة، نستحضر المواقف والمواعظ التي أطلقها سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) في خطبة الجمعة الدّينيّة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، حيث تحدَّث عن آفاق عبادة الحجّ، وما يريده الله تعالى منا من خلال هذه العبادة المباركة. قال سماحته:
"يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. إنّ الله سبحانه وتعالى يريد للمسلمين في سائر أنحاء العالم أن يجتمعوا حول بيته المحُرّم، الّذي هو البيت الإسلامي العالمي، وليس هناك بيت عالمي لله إلاّ الكعبة، وأن يلتقوا عنده ليعيشوا معنى الإسلام في معنى الأمَّة، حيث يعيشون الإحساس بأنهم أمة جمعها الله في دينه، وأراد لها أن تلتقي وتعتصم بحبل الله جميعاً، وأن تتوحَّد في انفتاحها على الله، فالكلُّ يتوجَّه إلى الله بصوتٍ واحد، ليؤكّدوا طاعاتهم واستجابتهم: «لبيّك اللّهمّ لبيّك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبّيك»".
ثم يشرح سماحته دروس الحجّ، وما يمكننا استلهامه من طقوسه وشعائره التي تؤكّد مدى تمثّلنا لروح التوحيد والإخلاص لله وحده، فيشير إلى معنى التلبية والطواف حول البيت، وما يمكن أن نستوحيه من ذلك كلّه:
"هذه الكلمات يؤكِّد فيها كلُّ مسلم، سواء كان حاجّاً أو معتمراً، أنه يجيب الله تعالى، ولبّيك معناها إجابة بعد إجابة، أي يا ربّ أنا لا أجيبك مرّةً واحدة، ولكن كلّ حياتي تمثِّل الإجابة فيما أمرتنا به لنفعله، وفيما نهيتنا عنه لنتركه، وفيما حمّلتنا من مسؤولية المواقف والمواقع والعلاقات لنؤكّدها.
إنَّ الحاجّ عندما يبدأ هذا الإحرام بكلمة التّلبية، فإنّه يعطي لله عهداً بأن تكون كلُّ حياته طاعةً له، لأنَّ أيَّ انحرافٍ عن خطِّ الطّاعة، يمثّل ابتعاداً عن هذه المعاهدة بينه وبين الله.
ثم يؤكِّد توحيد الله: «لبّيك لا شريك لك»، أي لن أتّجه، ولن أعبد وأطيع أيّ إله غيرك، لأنّك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، لن أتوجّه إلى غيرك في كلّ ما يتعارفه المشركون من الناس من إلهٍ هنا وإلهٍ هناك، ثم يؤكّد اعترافه وشكره وحمده لله: «إنَّ الحمد والنّعمة لك»، فلك الحمد وحدك ولا حمد لغيرك، ومنك النعمة وحدك ولا نعمة من غيرك: {وما بكم من نعمة فمن الله}. هذه المعاني تملأ عقل الإنسان وقلبه ووجدانه بالله، فيشعر بأنَّ الله يدخل في كلِّ كيانه، وأنّه حاضر في كلِّ حياته، وهكذا: «خفِ الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك».
ثم تنطلق وأنت تلبّي حتى تصل إلى مكّة، وفي مكّة مسؤوليّة جديدة، وهي أن تتطلَّع إلى البيت وقد استجبت لله في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، هذا البيت الذي أراد الله للمسلمين أن يتوجّهوا إليه في شرق الأرض وغربها، ليشعروا بأنّهم يتوجّهون إلى قبلة واحدة. {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ}. فالبيت هو القبلة وهو المطاف، وأنت تتّجه إلى البيت لتتلمَّس وحدة الإسلام من خلال وحدة القبلة.
وتنطلق إلى البيت لتطوف به سبعاً، والطّواف ليس عبادةً للبيت، والله لا يريد لنا أن نعبد الأحجار، سواء كانت في صورة بيت أو مقام، أو في أيّ صورة أخرى، ولكنه بيت الله نطوف به، لأنّ الله أراد لهذا البيت أن تتمثَّل فيه طاعته ورحمته، ويتمثَّل فيه رضوانه.
أن تطوف بالبيت لتستوحي في طوافك أنَّ الذي يطوف ببيت الله في الكعبة، لا بدّ من أن يكون طوافه في كلِّ حياته ببيت الله، أن لا تطوف ببيوت الظّالمين لتتقرَّب إليهم، وأن لا تطوف ببيوت الفاسقين لتعيش معهم، ولا ببيوت الكافرين لتنفتح على كفرهم، ولا ببيوت المستكبرين لتعمل في خدمتهم بعد أن ترجع من الحجّ، لأنَّ الطّواف ببيت الله إعلانٌ عن توحيده، ولذلك فإنَّ الطّواف في أيِّ بيتٍ غيره، يستغرق في معانيه المنحرفة نوعاً من الشّرك العمليّ".
ويشير سماحته إلى أنَّ الاسلام بكلّ قيمه ومفاهيمه، هو أمانة عندنا لا بدّ من حفظها ورعايتها، وأن ننقلها إلى أجيالنا بكلّ حرص ووعي:
"وهكذا، يعيشُ الإنسان معنى الطّواف وهو يدعو ربَّه: {ربَّنا آتِنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذابَ النّار}، أن تعيش هذا الجوَّ الروحي الذي تلتفت فيه إلى سماوات الله، لتعيش القرب من الله سبحانه وتعالى، ثم تصلِّي خلف مقام النّبيّ إبراهيم، {واتَّخذوا من مقام إبراهيم مصلَّى} لتتذكَّر هذا النبيّ العظيم، الّذي {قال له ربُّه أسلمْ قالَ أسلمْتُ لربِّ العالمين* ووصَّى بها إبراهيمُ بنيه ويعقوب} الّذين أراد لهم أن يكونوا المسلمين {ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين}.
وهكذا، أن تتذكَّر صاحب هذا المقام الذي بنى الكعبة مع ولده إسماعيل، وأراد أن يأتي الناس إليها، فعندما تصلِّي خلف مقام النبيّ إبراهيم وأنت تستحضر الله بالمطلق، حاول أن تفكر في أن يكون إسلامك كإسلام إبراهيم(ع)، فتكون المسلم الّذي يوصي أولاده بأن يكونوا مسلمين، {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون}.
هذا الإسلام المنفتح على الله بكلِّ ما تشتمل عليه حياتنا، هو أمانة الله عندنا، وعلينا أن ننقلها من جيل إلى جيل، فنجعل كلَّ همّنا أن يكون أولادنا مسلمين، ولا نعتبر أنَّ مسألة الإسلام على هامش ما نفكّر فيه من مستقبل أولادنا، بل علينا أن نهتمّ بأن يكون مستقبلهم مع الله قبل أن يكون مع هذا الزّعيم أو ذاك، أو مع هذا الغنيّ أو ذاك، لأنّ الجميع يذهبون {ويبقى وجه ربِّك ذو الجلال والإكرام}، الكلُّ ينفصلون عن بعضهم البعض، وتبقى العلاقة بالله. ولذلك، فإنّ الصلاة في مقام إبراهيم هي رمز، لتتذكَّر وأنت تعبد الله، أنَّ إبراهيم كان في هذا المكان يبتهل إلى الله ويشهده على إسلامه، وهذا معنى يملؤك بالإسلام."
بعدها يلفت سماحته إلى معنى السّعي في طاعة الله، وما ينبغي أن نعكسه في واقع علاقاتنا من سعي في سبيل الحقّ وحماية الحياة:
"ثمَّ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً}، فعندما تسعى بين الصّفا والمروة، تذكَّر أنّك تسعى لأنَّ الله أمرك بالسّعي، أن تسعى بينهما قربةً إلى الله، والسّعي رمزه أن يكون كلُّ تحركنا في الدنيا بأمر الله، كالسّعي في الإصلاح بين النّاس لمساعدتهم، ولحلِّ مشكلاتهم، لا أن يكون السَّعي للفتنة أو الإغراء بهم أو القتال بينهم، فكما أنك تحرِّك رجليك في الصّفا والمروة في طاعة الله، فكّر وأنت تدعى إلى أيِّ مسعى أو إلى أيِّ موقع، هل إنَّ الله يرضى بذلك؟ كما عندما تستجيب مثلاً إلى مهرجان ما يدعو إليه مستكبر أو فاسق، حيث تكون كلُّ خطوة تخطوها في غير طاعة الله سيّئةً يعاقبك الله عليها، ولكنّك عندما تسعى في سبيل الخير، فكلُّ خطوة تخطوها هي حسنة يثيبك الله عليها.
من صفات المؤمن في بعض الكلمات، أنّه ممّن يكون «في ظلِّ عرش الله يوم لا ظلّ إلا ظلّه، رجلٌ لم يقدِّم رجلاً ولم يؤخِّر أخرى حتى يعلم أنَّ في ذلك لله رضى».
وعلى هذا الأساس، فإنّك عندما تنهي السّعي، تذكّر أنك سعيت في طاعة الله، ليكون كلُّ سعيك في طاعته. وبعد ذلك، ففي عمرة التمتّع الأولى، تقصِّر وتحلّ من إحرامك، والتقصير معناه أن تقصَّ بعض الشّعرات التي نمت على المعصية، وكأنك بذلك تقصُّ ذنوبك، وتنتهي المرحلة الأولى من الحجِّ وهي العمرة".
ويضيف سماحته متحدّثاً عن معنى الوقوف في عرفات، والانطلاق للقيام بوظائف العبادة المختلفة:
"ثم تبدأ مرحلة ثانية، فتحرم للحجّ من جديد، وتُلبّي من جديد، وتقف في عرفات من الزوال إلى الغروب، لتدعو الله ولتبتهل إليه ولتحاسب نفسك هناك، لأنّ عرفة موقف، وعرفة هي السّاحة التي يأمل الإنسان فيها أن يغفر الله له، وقد ورد أنّه من كان يتصوَّر أنّ الله لا يغفر له في هذا الموقف، فلن يغفر له.
ثم تنطلق من عرفات إلى المشعر الحرام، المزدلفة، حيث تذكر الله عند المشعر الحرام، {فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكراً}، وهناك لا تدعوه لما يتعلّق بالدّنيا فقط، بل استحضروا الدّنيا والآخرة، {... فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار* أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ...}، أن تقضي وقتك هناك بالدعاء، وليس بالأمور الدنيوية، لأنك مهاجرٌ إلى الله. وبعد أن تقف في المشعر الحرام من الفجر إلى طلوع الشّمس، تنطلق إلى منى لترمي جمرة العقبة، وتذبح وتحلق أو تقصِّر، وتنطلق إلى مكّة لتطوف بالبيت وتسعى، ثم تطوف طواف النّساء، وتنتهي من حجّك، بعد ذلك، ترمي الجمرات في منى وتبيت فيه".
ويؤكّد سماحته أنّ الحجّ مدرسة متكاملة لا بدّ وأن تصنع جيلاً رسالياً ملتزماً وحدوياً:
"لذلك، فإنَّ من يحجّ وفق قواعد الحجّ وأصوله وروحانيّته، فإنه جاء أنَّ الإنسان إذا خرج من حجِّه، يقال له استأنف العمل من جديد، وفي بعض الأحاديث: «يخرج الحاجّ من حجّه كيوم ولدته أمّه». هذا لمن يعيش الحجّ بأصوله وروحانيته، فلا يكذب، ولا يتكلّم بكلام غير جائز. في هذه الحال، يبدأ الإنسان عمراً جديداً في طاعة الله، فيقال له: إنَّ الله غفر لك ما تقدَّم من ذنبك، فاعرف كيف تبدأ عمرك الجديد في هذا المجال.
لذلك، فإنَّ الحجَّ مطهرٌ يتطهَّر به الإنسان، وهو مدرسةٌ يتعلَّم فيها، وهو تجربة يعيش فيها المسلمون روح الوحدة، بحيث إنَّهم لا يستحضرون خلافاتهم وسلبيّاتهم وأمورهم، بل يشعرون بأنهم أمَّةٌ واحدة، وهكذا يقول الإمام الباقر(ع)، وهو يشير إلى من يحصل على معنى الحجّ: «ما يعبأ بمن أمّ هذا البيت إذا لم يكن فيه خصال ثلاث: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الصّحبة لمن صحبه».
ويقول الإمام الصّادق(ع): «إذا أحرمت فعليك بتقوى الله، وذكر الله كثيراً، وقلة الكلام إلاّ بخير، فإنّ من تمام الحج والعمرة، أن يحفظ المرء لسانه إلاّ من خير، كما قال الله، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}».
ويختم سماحته بالدّعوة إلى تحمّل مسؤوليّة الحجّ :
"أيُّها الأحبّة، إن الحجَّ هو وفادةٌ إلى الله وانفتاحٌ عليه، فعلينا أن نحسن حجّنا عندما نحجّ، وأن نُبقي حجَّنا في أنفسنا بعدما نرجع، حتى لا نكون كما ورد في كلام الإمام الصادق(ع): «ما أكثر الضّجيج وما أقلَّ الحجيج!»، لأنّ الحاجَّ الذي لا يعيش أسرار الحجّ ومعناه، كأنه لم يحجّ. نسأل الله أن يتقبّل حجّنا وعملنا وعمرتنا وكلَّ طاعتنا له، ونسأله أن يحفظ الذين يحجّون الآن، وأن يسهِّل الحجّ لمن قصدوا الحجّ ولم يحجّوا".