في رحاب ولادة الإمام الرّضا(ع)
بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة العلّامة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(رض)، نستحضر الخطبة الدّينيّة الّتي ألقاها سماحته من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ: 9 ذو القعدة العام 1429ه/ الموافق 7/11/2008 م، والّتي تحدَّث فيها عن الإمام الرّضا(ع) في ذكرى ولادته المباركة، متوقّفاً عند أبرز محطّات حياته، وما مثّله من القمّة في العلم والإخلاص لله وللإسلام، وما كان عليه من موقعيّة مهمّة لدى الناس جميعاً، على مختلف انتماءاتهم العقيدية والدّينية:
"يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33].
في الحادي عشر من هذا الشّهر، شهر ذي القعدة الحرام، كانت ولادة الإمام علي بن موسى الرّضا(ع)، هذا الإمام الذي نصّ عليه أبوه الإمام موسى الكاظم(ع)، والّذي قال عنه إنّه الأفقه. وقد كان(ع) يجلس في المسجد، وهو فيما يقارب العشرين عاماً من عمره، فكان العلماء يأتون إليه ليسألوه عن أحكام الإسلام ومفاهيمه وقواعده وأساليبه، لأنّهم كانوا يرون فيه المرجعيّة الإسلاميّة المعصومة التي تنفتح أخلاقها على أخلاق رسول الله(ص)، والّتي ينطلق علمها من علم رسول الله(ص).
وقد تحدَّث المتحدِّثون عمّا أسموه السّلسلة الذهبيّة، وذلك أنّه اجتمع يوماً إلى الإمام الرضا(ع)، العلماء والرواة الذين كانوا يروون الحديث عنه، فقالوا: حدّثنا يابن رسول الله، فقال(ع): «حدَّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدَّثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدّثني أبي محمد بن عليّ بن الحسين، قال: حدّثني أبي الحسين بن عليّ بن أبي طالب، قال: عن رسول الله عن جبرئيل عن الله أنّه قال: كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمِن من عذابي». فقد كان التوحيد الإلهي في العقيدة والعبادة والطّاعة والحبّ، هو ما يبلّغه الإمام الرّضا(ع) للنّاس، وهو ما بلّغه لأبنائه، لأنّهم أئمة التوحيد الذين يريدون للعالم كله أن يوحّد الله تعالى. ويروى أنّه بعد أن حدّثهم بهذا الحديث، قال لهم: «بشرطها وشروطها».
ويستعرض سماحته بعضاً من أحاديثه عن فضل القرآن، وضرروة التمسّك بتعاليمه، وعن أهميّة استخدام العقل والإفادة منه:
"وكان الإمام الرضا(ع) يوجّه الناس إلى الالتزام بالقرآن، ليكون النّور الذي يضيء عقولهم وقلوبهم وحياتهم، ويروى أنَّ بعض أصحابه سأله: ما تقول في القرآن؟ فقال(ع): «كلام الله، لا تتجاوزوه، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا»، اطلبوا الهدى في القرآن وحده، لأنَّ القرآن هو الحقّ، وما عداه هو الباطل.
وسأله بعض أصحابه عن القرآن، فتحدَّث عن أبيه موسى بن جعفر، أنَّ رجلاً سأل أبا عبد الله(ع): «ما بال القرآن لا يزداد عند النّشر والدّراسة إلا غضاضةً؟ ـ لماذا عندما نقرأه ونتدبّره نشعر بأنّه نزل الآن، مع أنّه نزل قبل مئات السّنين ـ فقال(ع): لأنَّ الله لم ينـزله لزمان دون زمان ـ فهو كتاب الحياة، وهو كالشّمس التي تتجدَّد في كلِّ يوم، كما لو كانت قد وُجدت في هذا اليوم ـ ولا لناسٍ دون ناسٍ، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة».
وذكر الإمام الرّضا(ع) يوماً القرآن، فعظّم الحجَّة فيه والآية والمعجزة في نظمه، فقال: «هو حبل الله المتين، وعروته الوثقى، وطريقته المثلى، المؤدِّي إلى الجنَّة، والمنجي من النّار. لا يخلق على الأزمنة ـ فلا يبلى ولا يتغيّر ـولا يغثّ على الألسنة، لأنَّه لم يجعل لزمانٍ دون زمان، بل جعل دليل البرهان والحجَّة على كلِّ إنسان، {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}» (فصِّلت: 42) ، فهو النّور الّذي يهدي إلى الحقّ، والصّلاح الذي لا يفسد.
وهكذا، نجد أنّ أئمَّة أهل البيت(ع) في إرشادهم للنّاس وهدايتهم، يدعونهم إلى الأخذ بالقرآن والعمل به وتدبّره والسير في خطِّ هدايته، ولذلك، فإنّهم أرادوا من الناس كافةً إذا ورد لديهم أيّ حديث عن رسول الله(ص) أو عنهم(ع)، أن يعرضوه على القرآن، «فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط». وأمّا ما يحاول البعض ـ حتى في هذه الأيام ـ أن يصرّوا عليه، بأنّ أتباع أهل البيت يرون أنّ في القرآن زيادةً أو نقيصةً، فهو كلام باطل، لأنَّ أتباع أهل البيت(ع) أجمعوا منذ القديم، على أنّ القرآن معصوم من التّحريف أو الزّيادة أو النقصان.
وكان الإمام الرّضا(ع) يوجّه النَّاس إلى تحكيم العقل بدل السّقوط في نداء الغريزة، فكان(ع) يقول: «قال رسول الله(ص): صديق كلِّ امرئ عقله، وعدوّه جهله»، لأنَّ العقل هو الّذي يميّز الحقَّ من الباطل، والخير من الشّرّ، والصّواب من الخطأ، والطّريق المستقيم من الطّريق المنحرف، ولأنَّ العقل هو الّذي يهدي الإنسان إلى النّتائج الكبرى، ولذلك جعله الله حجّةً على الإنسان يوم يقوم الناس لربِّ العالمين. أمّا الجهل، فإنّه العدوّ الذي يضلّل الإنسان عن الطّريق الصحيح وعن الصواب".
ويواصل سماحته عرض بعض من سيرة هذا الإمام المعصوم وتواضعه، وما مثّله كلامه من غاية في الاخلاقيات الإسلامية والإنسانية، بما يدلّ على منتهى الأصالة والمسؤوليّة:
"وقد كان الإمام الرّضا(ع) لا يفرّق في علاقاته بين إنسان وآخر، بل كان يتواضع لكلِّ النّاس. ويذكر كتّاب سيرته، أنّ رجلاً من أهل بلخ قال: «كنت مع الرّضا(ع) في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له، فجمع عليها مواليه من السّودان وغيرهم، فقلت : جعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدةً؟ فقال(ع): مه ـ اكفف عن ذلك ـ إنَّ الربَّ تبارك وتعالى واحد، والأمّ واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال». وفي حديث: «سمعت عليّ بن موسى الرّضا(ع) يقول: حلفت بالعتق، ولا أحلف بالعتق إلا أعتقت رقبةً وأعتقت بعدها جميع ما أملك، إن كنت أرى أنّي خيرٌ من هذا (وأومأ إلى عبد أسود من غلمانه) بقرابتي من رسول الله(ص)، إلا أن يكون لي عملٌ صالحٌ فأكون أفضل به منه»، فالنّسب وحده لا يجعل إنساناً أفضل من إنسان، فالذين ينتسبون إلى رسول الله، ليسوا أفضل ممن لا ينتسبون إليه، إلاّ إذا كان لهم عمل يميِّزهم ويرفعهم. وقد ورد عن عليّ(ع): «إنَّ وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدوّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته»، {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}(آل عمران: 68)، فأولى النّاس بالنبيّ(ص) الذين اتّبعوه، وعملوا بكتاب الله وسنّة نبيّه.
وعن الإمام الرّضا(ع) قال: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ أمر بثلاثة مقرون بها ثلاثة أخرى: أمر بالصّلاة والزكاة، فمن صلَّى ولم يزكِّ لم تقبل منه صلاته، وأمر بالشّكر له وللوالدين، فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله، وأمر باتّقاء الله وصلة الرَّحم، فمن لم يصل رحمه، لم يتّق الله عزَّ وجلَّ». وورد عن عبد السّلام بن صالح الهروي قال: "سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرّضا(ع) يقول: رحم الله عبداً أحيا أمرنا. فقلت له: وكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس، فإنَّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا». فالانفتاح على أهل البيت(ع)، إنما ينطلق من الحديث عن تراثهم وأخلاقهم وسيرتهم وفضائلهم في حياتهم العامّة مع الناس، وليس فيما استحدثه النّاس من عادات وتقاليد في إثارة المأساة، كضرب الرؤوس بالسيف، أو جلد الظّهور بالسياط وما إلى ذلك، مما يؤدي إلى هتك المذهب وحرمة أهل البيت(ع)".
ويضيف سماحته متحدثاً عن مسألة ولاية العهد للإمام الرّضا(ع):
"وكان الإمام الرِّضا(ع) يملأ الدنيا علماً وأخلاقاً وتقوى واستقامةً، وقد طلب منه المأمون، بعد انتصاره على أخيه الأمين، أن يكون وليّاً للعهد، ولكنَّ الإمام(ع) رفض ذلك، لأنّه عرف أنَّ المأمون لم ينطلق في طلبه هذا من قناعة، بل من عقدة ضدّ أهل البيت، إلاّ أنّه قبل الولاية بعد ذلك ليستخدمها في نشر علوم الإسلام وأهل البيت(ع). وقد توفّي الإمام الرّضا(ع) قبل وفاة المأمون الذي يُقال إنّه دسّ له السّم، ودفنه المأمون في طوس إلى جانب الرّشيد. وقد علّق الشّاعر الموالي دعبل الخزاعي على ذلك بقوله:
قبران في طوس خير النَّاسِ كلِّهم وقبر شرّهم هذا من العبرِ
ما ينفع الرّجسَ من قربِ الزكيِّ وما على الزّكيِّ بقربِ الرّجسِ من ضررِ
هيهاتَ كلُّ امرئٍ رهنٌ بما كسبَتْ له يداهُ فدعْ ما شئْتَ أو فَذَرِ»
وختم سماحته خطبته بالقول:
"إنّنا في ذكرى الإمام الرضا(ع)، نقف لنتأمّل عظمة هذا الإمام ووصاياه وسيرته ومواعظه ونصائحه، لأنَّ معنى ولايتنا لأهل البيت(ع)، هي أن نسير على خطاهم ونهتدي بهداهم، وننطلق في خطِّ الاستقامة الذي أرادوا للنّاس أن يسلكوه، من خلال ما جاء في كتاب الله وسنّة رسوله.
والسّلام على الإمام علي بن موسى الرّضا، يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربّه، ويوم يُبعث حيّاً".