بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة العلّامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله(رض)، نستحضر المواعظ والدّروس الّتي أطلقها في خطبة الجمعة الدّينيّة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ 15جمادى الأولى العام 1420ه/ الموافق 27/8/1999م، حيث تحدَّث عن مسألة الخيانة وآثارها، وأهميّة التزام العقود بين النّاس. يقول سماحته:
"يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يا أيُّها الَّذين آمنوا لا تخونوا الله والرَّسولَ وتخونوا أماناتِكم وأنتم تعلمون} {إنَّ لله لا يحبّ الخائنين}. مسألة الخيانة هي من المسائل التي ورد ذكرها في القرآن الكريم والسنّة النبوية، لأنها من المسائل التي تشمل حياة الإنسان كلّها في كلّ التزاماته الفكرية والدينية والتعاقدية في الحياة، فالإنسان لكي يؤكّد إنسانيته في معنى القيمة الروحية والأخلاقية، عليه أن يكون الإنسان الملتزم؛ الملتزم بالفكر أو الخط الذي ينفتح من خلاله على الله، والملتزم بالتعاقد بينه وبين الناس في كلّ عقد يعقده معهم على مستوى الأفراد والجماعات، وكلّ انحراف عن هذا الالتزام الذي يلتزمه على نفسه، أو عن هذا الخطّ الذي يلتزم السير عليه، هو خيانة للفكر والخطّ والدين وللناس.
والله تعالى لا يريد للإنسان أن يكون خائناً في أيّ موقع من مواقع الخيانة، وها نحن نقرأ في هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله}، وخيانة الله تمثّل خيانة العهد الذي عاهد الإنسان به ربّه، لأن الالتزام الديني بإعلان الشهادة بالوحدانية "أشهد أن لا إله إلا الله"، يمثل ميثاقاً بينك وبين ربّك، فكأنك تقول في شهادتك: يا ربّ، إني ألتزم أمامك بأنك وحدك الإله المعبود المطاع في كلّ شيء، ألتزم بذلك كلّه من أجل أن أجسّد عقيدتي في توحيدك بأن لا أشرك بك أحداً في الربوبيّة، وألتزم بعقيدتي في عبادتك فلا أعبد غيرك، وفي الطّاعة فلا أطيع غيرك. يا ربّ، أنا العبد الذي لا يقدر على شيء أمامك، أنا عبدك وحدك ولست عبداً لأحد، ولكني حرّ أمام الكون كله والإنسان كله، لست عبداً لأحد، ولا أخضع لأحد، ولا أطيع أحداً إلا إذا كان ذلك في خطّ طاعتك. فنحن لا نطيع الرسول من خلال ذاته، بل نطيعه من خلال رسالته: {من يطعِ الرَّسول فقد أطاع الله}، {قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله}".
وفيما يتعلّق برفض الغلوّ، وضرورة الاستقامة والتّوازن في كلّ شيء في الحياة، والالتزام بخطِّ الرّسول(ص)، يقول سماحته:
"إنَّ توحيد الله يفرض علينا أن ننـزع من عقولنا وقلوبنا وحياتنا كلّ من عدا الله، فنؤمن بالأنبياء لأنهم رسل الله، ونؤمن بالأئمّة لأنهم أولياء الله، ونتّصل بكلّ الناس لأنهم عباد الله الذين أطاعوا الله، هذا عهد بينك وبين الله، فإذا خالفت هذا الالتزام فأطعت غيره، أو أنك ساويت بينه وبين أحد من خلقه، بحيث أعطيت الخلق صفات الله، فقد خنت الأمانة والالتزام: {وأنَّ المساجدَ لله فلا تدعوا مع الله أحداً}. ومن هنا، فقد رفض الإسلام الغلوّ، وقال لأهل الكتاب: {لا تغلوا في دينِكم}، وكما أراد لأهل الكتاب أن لا يغلوا في دينهم، أراد للمسلمين أن لا يغلوا في دينهم، وأن لا يرتفعوا بأحد إلى مصاف الله، فكلّ من عدا الله مربوب له، لأنّ الإسلام يتحرك من خلال الاستقامة، {وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه}.
وقال الله تعالى لبني إسرائيل، وهو يشير إلى أنَّ التزام الناس بالعهد مع الله، يقابله وفاء منه سبحانه وتعالى لعهده مع عباده، فيثيبهم إذا أحسنوا ويدخلهم الجنّة: {وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم}، فالمعاهدة مشكَّلة من طرفين لا من طرف واحد، فإذا كنت عاهدتكم أن أنعم عليكم وأدخلكم الجنة، فقد سبق أن أخذت منكم العهد على أن تعبدوني ولا تشركوا بي شيئاً وأن تستقيموا على طاعتي.
ثم، {لا تخونوا الله والرَّسول}، وخيانة الرّسول هي خيانة لسنّته ولكلّ ما أوصى به، لأنَّ علينا أن نطيع الرسول في كلّ ما جاء به، مما أنزله الله عليه بالكتاب من شريعة، أو مما أوحى الله به أو ألهمه إيّاه، ومن هنا، فإن الالتزام برسالة الرسول عندما تقول: "أشهد أنَّ محمداً رسول الله"، تعني أنك تشهد بعقلك وقلبك ولسانك أنّ هذا الرجل العظيم هو رسول الله في كلّ ما قال، فقوله رسالة، وفي كلّ ما فعل، ففعله رسالة، وفي كلّ ما قرّر، فتقريره رسالة، كل شيء في رسول الله رسالة، إذ ليس فيه شيء للذات التي تنفصل به عن الرسالة.
لذلك، فإنَّ الالتزام برسول الله(ص) التزام بكلّ رسالته، وليس كما يفعل البعض: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}، فيأخذ ما يعجبه من الشريعة الإسلاميّة، ويترك ما لا يعجبه منها. ومن جهة ثانية، لا بدّ للمسلمين من أن يدققوا في كلّ ما جاء به رسول الله(ص)، ويصحّحوا الرّوايات عنه، فليسَ كلُّ ما نُسِبَ إلى رسولِ الله(ص) هو قائله. ولذلك، لا بدَّ من أن ندقِّق في ذلك كلّه، وإذا قال(ص) كلمة، فلا مجال لقائل أن يقول غيرها أو يبتعد عنها: {وما كانَ لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللهُ ورسولُه أمراً أن يكونَ لهم الخيرةُ من أمرِهم}، {فلا وربِّكَ لا يؤمنون حتى يحكّموكَ فيما شجرَ بينَهم ثم لا يجدوا في أنفسِهم حرجاً مما قضيْتَ ويسلّموا تسليماً}. فمن انحرف عن قول رسول الله(ص) مما قاله في معاملة أو عبادة أو حرب أو سلم أو في أيّ موقع من مواقع القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة، فإنّ ذلك يمثّل خيانةً للرّسول."
ويتحدّث سماحته عن أهمية الوفاء بالالتزامات التعاقدية وانعكاساتها الإيجابيّة على النظام الاجتماعيّ العام:
{وتخونوا أماناتكم}. والأمانة تشمل كل الالتزامات التعاقدية بين الناس، فأنت عندما تبيع شخصاً، فإنَّ بيعك يمثل نوعاً من أنواع الالتزام الذي لا بدَّ من أن تكون أميناً عليه، فليس لك أن تخون من باعك بأن لا تعطيه ثمن المبيع لأنّه يفتقد إلى السّند، أو تخون من اشتريت منه... وهكذا، كلّ التعاقدات، بما في ذلك التعاقد الزوجي، لأنَّ هناك كثيراً من الناس من يجبر زوجته من خلال الضّرب والتّعذيب لتتنازل عن مهرها، والله تعالى يقول: {وكيفَ تأخذونَه وقد أفضى بعضُكم إلى بعضٍ وأخذْنَ منكم ميثاقاً غليظاً}، فالله لم يكتف في مسألة عقد الزواج بأن يسمّيه "ميثاقاً"، بل أسماه "ميثاقاً غليظاً"، لأنّ عقد الزواج يختلف عن أيّ عقد آخر. فالزوجة تقول: "زوّجتك نفسي"، والزوج يقول: "زوّجتك نفسي"، كلّ واحد منهما يعطي نفسه للآخر بحسب مدلول العقد الزّوجي، ولذلك قال الله تعالى وهو يصوّر هذه العلاقة الزوجية، التي لا تقتصر على العلاقة الجسديّة فحسب، ولكن العلاقة الروحية والقلبيّة والحياتيّة: {هنَّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنَّ}.
إنَّ الإنسان الذي يخون زوجته في التزاماته، أو الزّوجة التي تخون زوجها في نفسها، يعتبر ممن خان الأمانة، وربما تعتبر بعض الخيانات خيانات شرعيّة، وفي أحيان أخرى عرفيّة واجتماعيّة، وإذا وجب على الإنسان أن يكون وفياً في الالتزامات الشرعيّة، فعليه، إذا احترم نفسه واحترم ثقة الآخر به، أن يفي حتى بالالتزامات العرفية والاجتماعية. ولذلك، لم يجعل الله العلاقة بين الزوجين في الطابع العام تخضع للمادّة الأولى هنا والمادّة الثّانية هناك، وإنما قال: {وجعلَ بينَكم مودّةً ورحمة}، وأنتم تعرفون أنَّ في المودّة والرحمة التزامات أخلاقية."
وأكّد سماحته أهمّيّة الوقوف عند حدود الله، كتعبيرٍ عن قوَّة الارتباط بالله، وما في ذلك من قوّة وثبات وتماسك:
"إن المجتمع القائم على الوفاء لله ولرسوله وللنّاس، هو المجتمع الذي يملك الصلابة والثبات والاستقرار، وإنما كان مجتمعنا مجتمعاً يعيش الاهتزاز والفوضى والمشاكل والتّعقيدات، لأنه مجتمع قائم على الخيانة، لا يثق بعضنا ببعض، حتى أصبحنا نبرّر الكثير من الخيانات بطريقة شرعية!! لقد انتشرت عند الناس - حتى في الأوساط الدينية - العناوين الثانوية: أنا أحطّم فلاناً وأغتاب فلاناً بالعنوان الثانوي، وأضرب فلاناً من جهة التّكليف بالولاية وما إلى ذلك، أصبحت حتى المفاهيم الشرعية والعناوين الثانوية في سوق المزاد، لا ترتكز على قواعد شرعية، لذلك علينا أن نقف عند حدود الله.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ الله لا يريد لنا أن ندافع عن الخائنين: {إنَّا أنزلْنَا إليكَ الكتابَ بالحقِّ لتحكمَ بينَ النَّاسِ بما أراكَ اللهُ ولا تكنْ للخائنينَ خصيماً}، ذلك أن بعض الناس يدافع عن إنسان قتل آخر بغير حقّ، فينصّب محامياً يدافع عنه، أو إذا كان صاحب موقع اجتماعيّ، فإنه يدافع عن فلان الّذي زنى أو سرق أو تجسّس لحساب العدّو، لأنه قريبه أو من حزبه أو حركته أو جماعته، والله تعالى ماذا يقول لنبيهّ، بالرغم من أنّ النبيّ(ص) يمتلك من الصفات الأخلاقيّة أعلاها، ولكنّ القرآن الكريم نزل على طريقة "إيّاك أعني واسمعي يا جارة"، فقد أنزل الله على نبيّه هذه الآيات في تبرئة يهوديّ أراد المسلمون أن يحمّلوه التهمة ليبرّئوا إنساناً مسلماً، وكانت أربع عشرة آية دافع الله فيها عن اليهوديّ البريء ضدّ المسلم السّارق: {ولا تجادلْ عن الّذينَ يختانونَ أنفسَهم إنَّ اللهَ لا يحبُّ من كانَ خوّاناً أثيماً - وهذه تمتدّ إلى كلّ شيء، فلا تجادل عن الكافر في كفره، وعن المجرم في جرمه، وعن الخائن في خيانته، وعن الظّالم في ظلمه، وعن المنحرف في انحرافه، لأنّ الله لا يحبه - يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً* هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}".
وختم بالإشارة إلى بعض مظاهر الخيانة، بقوله:
"ومن الخيانة العظمى، خيانة الناس في أوطانهم بالتجسّس للعدوّ، والمحاربة معه، والارتباط بالاستكبار العالمي الذي يريد أن يسيطر على الواقع الإسلاميّ، من خلال هؤلاء الذين يمثّلون مراكز الخيانة في المجتمع. ومن مظاهر الخيانة، خيانة الحاكم لشعبه، من خلال اضطهاده وحصاره، ومنعه من ممارسة الحريّات المشروعة. لذلك، إذا أردنا لمجتمعنا أن يكون عادلاً مستقراً، فعلينا أن نعمل ليكون مجتمعاً أميناً على كلّ الالتزامات الفردية والاجتماعية، حتى يكون المجتمع الذي يحبّه الله ويرضاه، والمجتمع الّذي يتحرّك من أجل الخير كلّه والعدل كلّه والإنسان كلّه."