"عباد الله.. اتقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، {وَاعْتَصِمُواْ
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. إنّ المرحلة
التي يواجهها الإسلام والمسلمون من أقسى المراحل، فلا بدّ لنا من أن نأخذ بأسباب
الوحدة الإسلاميّة ووحدة الموقف، وأن نعيش على أساس الاهتمام بأمور المسلمين...
كونوا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، كونوا كالجسد الواحد إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. إننا نواجه الآن موقفاً من
أصعب المواقف في كلّ أوضاعنا الإسلامية، وعلينا أن نعرف ماذا هناك.
إنها الحرب الأمريكية التي لايزال الرئيس الأمريكي وأعضاء إدارته مصرّين عليها،
وكأنهم لم يرتووا بعد من دماء أطفال لبنان ونسائه وشيوخه، ولم يشبعوا من لحومهم،
كما لو كان اللبنانيون بنظر هذا الرئيس وإدارته، من الهنود الحمر الذين كان الجنود
الأمريكيون يصطادونهم كما يصطادون الأرانب.
إنها حرب أمريكا على لبنان بصفتها جزءاً من حرب أشمل، أو على الأقلّ بكونها خطوة
مهمة نحو إحياء مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الموسّع الذي تعثّر في العراق، أو
تعويض خسائرها النسبيّة في بلاد ما بين النهرين، عبر ربح دول أخرى تعمل الإدارة
الأمريكية لكي يكون لبنان أوّل حبة في عنقودها.. وربما كان من بين أهدافها استعادة
هيبة الردع الأمريكي التي تآكلت بسبب الضّربات التي تتلقاها قواتها في العراق، ومن
ثم وقف تدهور المشروع الأمريكي الشرق أوسطي الذي وضعه المحافظون الجدد كجزء رئيس من
الاستراتيجية الأمريكية لتأييد السيطرة على موقعها في العالم.
ولذلك، فإنّ التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي في الحرب على لبنان، أُريد له أن يخضع
للتدمير المنظّم لكلّ بنيته التحتية، ولتشريد شعبه، ولا سيّما أبناء الجنوب، في
عملية إبادة متحركة بكلّ الوسائل العسكرية التي منحتها أمريكا للعدوّ الصهيوني
سابقاً ولاحقاً، لتلاحق المدنيّين بكلّ وحشيّة بربرية، بما في ذلك تهديم البيوت على
رؤوس أهلها، على طريقة مجزرة قانا الثانية التي حصدت عشرات الأطفال، إضافةً الى
أمهاتهم وآبائهم..
ولاتزال أمريكا تزوّد العدو بأكثر القنابل تقدّماً للفتك باللبنانيين المدنيين، من
دون أيّ حساب، لتقتل أكبر عدد منهم، الأمر الذي يؤكّد للعالم سقوط كل الشعارات التي
يطلقها الرئيس الأمريكي في الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الإنسانية، وليعرف
الناس المستضعفون في العالم، ولا سيما في المنطقة العربية والإسلامية، أنّ الإدارة
الأمريكية الحالية تمثّل الخطر السرطاني على الإنسان كله، وعلى جميع المستويات.
لقد أرادت أمريكا أن تكون إسرائيل هي القوّة الأكبر في المنطقة، لتكون يدها الضاربة
التي تضرب فيها كلّ الأنظمة العربية، بما في ذلك الأنظمة المتعاملة معها، حتى إنها
فرضت على بعضها الصلح مع العدوّ من موقع الهزيمة السياسية والنفسية والعسكرية، كما
فرضت على بعضها الآخر أن تتفق معها في ممثليات تجارية على صعيد العلاقات التطبيعية
التي تفتح لإسرائيل في العالم العربي كل الفرص الاقتصادية لتصدير منتجاتها على حساب
إسقاط المشروع العربي في المقاطعة الاقتصادية.. وهكذا بدأ الخوف العربي من العدوّ
يجتاح كلّ عقول حكّام العرب وغير العرب، حتى أصبح الطريق إلى العلاقات مع أمريكا
يمرّ بالعلاقة مع إسرائيل..
وقد تحركت الإدارة الأمريكية لمواجهة كلّ قوى التحرّر والرفض والممانعة للاحتلال
بالحصار والعنف الأمني والسياسي، سواء في فلسطين أو في لبنان، وأطلقت تهمة الإرهاب
لكلّ فريق يطلب الحرية لشعبه، ويرفض الاحتلال لأرضه، والسيطرة الأمريكية
الاستكبارية على مقدّراته السياسية والاقتصادية، وخضعت الأنظمة التي وظّفتها
المخابرات المركزية الأمريكية لحساب خطتها في السيطرة على المنطقة ومقدّراتها.
ومن الطريف أن أمريكا تتحدث عن الجيش اللّبناني كقوّة لبسط الدولة سيطرتها من خلاله
على لبنان، في الوقت الذي تقصف إسرائيل ثكنات هذا الجيش، وتقتل ضبّاطه وجنوده، من
دون أيّ احتجاج أمريكي أو أوروبي أو حتى عربي على ذلك، ما يوحي بأن المسألة هي
إضعاف كلّ قوّة لبنان في هذه الحرب المجنونة التي تريد لها أمريكا الاستمرار بحجّة
الحلّ الشامل الذي يكفل الاستقرار للبنان.
إن القضية، كلّ القضيّة، لدى أمريكا وحلفائها، هي حماية الأمن الإسرائيلي من كلّ
القوى التي ترفض الاحتلال والهيمنة الصهيونيّة، ولكنّ حساب "الحقل الصهيوني" لم
يتناسب مع حساب "البيدر اللّبناني"، فقد انطلقت المقاومة في حركة المجاهدين ضدّ
العدوّ الصهيوني، لتواجه العنفوان الإسرائيلي الذي كان يتحدّث عن الجيش الذي يخيف
ولا يخاف، بخطّة عسكرية شجاعة حكيمة، لتبادله قصفاً بقصف، وقتالاً بقتال، بالطريقة
التي لم يستطع فيها العدوّ أن يتماسك في المعركة، بحيث إنه لم يتمكّن من الحصول على
أيّ نصر، ما جعله يلجأ إلى قصف المدنيّين بأكثر الأساليب والأسلحة وحشيّة.
وهذا هو الواقع الجديد الذي جعل حلفاء أمريكا وأصدقاء إسرائيل من بعض الأنظمة
العربيّة يشعرون بهذه القوّة الجديدة التي واجهت العدوّ بمنطق النصر على جنوده، مما
بدأوا يحسبون له ألف حساب، حتى إنهم ـ بالرغم من إنكارهم الشكلي ـ أصبحوا يشجّعون
العدوّ على الاستمرار في حرب لبنان، أملاً في إنزال الهزيمة بالمقاومة.. ولكن
الشعوب العربيّة والإسلاميّة انطلقت لتقف مع المقاومة بالتأييد المطلق، لأنها أعادت
لها العنفوان العربي والإسلامي بالطريقة التي بدأت تهزّ الكثير من المواقع الرسمية.
إنّ هناك عصراً جديداً للانتصار في موقع الأمّة الواسع الذي سوف ينطلق به جيل خلف
جيل، وعلى العرب والمسلمين أن يدرسوا هذه التجربة الرائدة في حركة المجاهدين،
ويتابعوها في ساحة الصراع، ليعرفوا أن القضية ليست قضية نوع السلاح، ولكنها قضية
نوعية المقاتل المقاوم الذي يتحرّك بالإيمان بالله، والثقة به، واستمداد القوّة منه،
إضافةً إلى خبرته العميقة في حركة القتال.
إنها حرب المقاومة ضدّ حرب أمريكا وإسرائيل(1)، وسوف تمتدّ إلى كل العالم العربي
والإسلامي، وسوف ينتصر المجاهدون مهما طال الزمن، ومهما تعقَّدت الأوضاع، {وَلَيَنصُرَنَّ
اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}".
(1) حرب تموز 2006
خطبة الجمعة له بتاريخ 10 رجب 1427هـ/ الموافق: 4-8-2006م