محاضرات
27/03/2018

قبسات من سيرة الإمام محمّد الجواد(ع)

20 رجـــب 1418هـ
قبسات من سيرة الإمام محمّد الجواد(ع)
 

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

 

من أئمَّة هذا البيت، الإمام محمَّد بن عليّ الجواد(ع)، الَّذي كان مولده في العاشر من هذا الشَّهر، ولا بدَّ لنا من أن نعيش مع هذا الإمام الَّذي يمكننا أن نسمِّيه "الإمام المعجزة"، لأنَّ إمامته(ع) بدأت وهو في سنِّ الصّبا، وربما تحيّر بعض النّاس في ذلك، ولم يلتفتوا إلى قوله تعالى عن النّبي يحيى(ع): {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً}.

ولذلك، بادره الكثيرون من رجال الشّيعة الَّذين قالوا بإمامة آبائه بالسّؤال عن "عويصات" المسائل، ويروي أحد الثّقاة، وهو "عليّ بن إبراهيم"، عن أبيه في كتاب "الكافي"، قال: استأذن على أبي جعفر ـ وهي كنية الإمام الجواد(ع) ـ قوم من أهل النّواحي ـ الأطراف ـ من الشَّيعة، فأذن لهم، فدخلوا، فسألوه في مجلسٍ واحدٍ عن ثلاثين ألف مسألة، فأجاب(ع) وله عشر سنين. وقال الشّيخ المفيد: كان المأمون ـ الخليفة العباسي ـ قد شُغف بأبي جعفر(ع)، لما رأى من فضله مع صغر سنّه، وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل، ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزّمان، فزوَّجه ابنته "أمّ الفضل"... وكان متوفّراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره".

ويروي قصّة ما دار بين المأمون وبين العباسيّين الّذين أنكروا عليه هذا الإكرام للإمام الجواد(ع)، فقال: "لما أراد المأمون أن يزوِّج ابنته "أمّ الفضل" أبا جعفر محمد بن عليّ الجواد(ع)، بلغ ذلك العبّاسيّين، فغلظ عليهم واستكبروه، وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا(ع) ـ لأنّ المأمون كان قد ولّى الإمام الرّضا(ع) ولاية العهد، فخافوا أن يولّي الجواد(ع)، وخصوصاً مع هذه المصاهرة، ولاية العهد كذلك ـ فخاضوا في ذلك، واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه، فقالوا: ننشدك الله ـ وهم يخاطبون المأمون ـ يا أمير المؤمنين، أن تقيم على هذا الأمر الّذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرّضا، فإنَّا نخاف أن يُخرج به عنّا أمر قد مَلَّكَناه الله ـ وهي الخلافة ـ ويُنزع منّا عزٌّ قد ألبَسَناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم ـ العلويّين ـ قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الرّاشدون قبلك من تبعيدهم والتَّصغير بهم، وقد كنا في وهلة من عملك مع الرّضا ما عملت حتى كفانا الله المهمّ من ذلك ـ بأن قبضه إليه ـ فالله الله أن تردّنا إلى غمٍّ قد انحسر عنّا، واصرف رأيك عن ابن الرّضا، واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.

فقال لهم المأمون: أمَّا ما بينكم وبين آل أبي طالب، فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم، وأمّا ما كان يفعله مَنْ قبلي بهم، فقد كان به قاطعاً للرَّحم، وأعوذ بالله من ذلك، ووالله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرّضا، ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه عن نفسي فأبى، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. وأمّا أبو جعفر محمد بن عليّ، فقد اخترته لتبريزه على كافّة أهل الفضل في العلم والفضل، مع صغر سنّه والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للنّاس ما قد عرفته منه، فيعلموا أنّ الرأي ما رأيت فيه.

فقالوا: إنَّ هذا الفتى، وإن راقك منه هديه، فإنّه صبيّ لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدَّب ويتفقَّه في الدّين، ثمّ اصنع ما تراه بعد ذلك. فقال لهم: ويحكم، إني أعرف بهذا الفتى منكم، وإنَّ هذا من أهل بيتٍ، عِلمُهم من الله وموادّه وإلهامه، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدِّين والأدب عن الرّعايا الناقصة عن حدِّ الكمال، فإن شئتم، فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفت من حاله. فقالوا له: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فخلِّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيءٍ من فقه الشّريعة، فإن أصاب الجواب عنه، لم يكن لنا اعتراض في أمره، وظهر للخاصَّة وللعامّة سديد رأي أمير المؤمنين، وإن عجز عن ذلك، فقد كُفينا الخطب في معناه. فقال لهم المأمون: شأنكم وذاك متى أردتم.

فخرجوا من عنده، واجتمع رأيهم على مسألة "يحيى بن أكثم"، وهو يومئذٍ قاضي الزّمان، على أن يسأله مسألةً لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموالٍ نفيسةٍ على ذلك، وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك، فاجتمعوا في اليوم الّذي اتّفقوا عليه، وحضر معهم "يحيى بن أكثم"، فأمر المأمون أن يُفرش لأبي جعفر الجواد(ع) دستٌ وتُجعل له فيه مسورتان، ففعل ذلك، وخرج أبو جعفر(ع) وهو يومئذٍ ابن تسع سنين وأشهر، فجلس بين المسوّرتين، وجلس "يحيى بن أكثم" بين يديه، وقام النّاس في مراتبهم، والمأمون جالس في دست متَّصل بدست أبي جعفر(ع). فقال "يحيى بن أكثم" للمأمون: يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك، فأقبل عليه "أبن أكثم" وقال: أتأذن لي، جُعلت فداك، في مسألة؟ فقال أبو جعفر(ع): "سلْ إن شئت"، قال يحيى: ما تقول، جعلني الله فداك، في مُحرِم قتل صيداً؟ فقال له أبو جعفر: "قتله في حلٍّ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان المحرم أم عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصّيد كان أم من كباره؟ مصرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في اللّيل كان قتله للصّيد أم نهاراً؟ مُحرِماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً"؟ فتحيّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجز والانقطاع، ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره.

فقال المأمون: الحمد لله على هذه النّعمة والتّوفيق لي في الرّأي. ثم نظر إلى أهل بيته وقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثم أقبل على أبي جعفر(ع) فقال له: أتخطب يا أبا جعفر ـ يعني أتخطب مني ابنتي وتلقي خطبة الزّواج؟ ـ فقال له: "نعم يا أمير المؤمنين"، فقال له المأمون: أُخطب، جُعلت فداك، لنفسك، فقد رضيتك لنفسي، وأنا مزوّجك أمّ الفضل ابنتي، وإن رغم قوم لذلك... ثم طلب المأمون من الإمام الجواد(ع) أن يسأل أبن أكثم مسألةً كما سأله، فقال له الإمام(ع): "أسألك؟"، فقال: ذاك إليك، جُعلت فداك، فإن عرفت جواب ما تسألني وإلا استفدته منك

فقال له أبو جعفر (ع): "أخبرني عن رجلٍ نظر إلى امرأةٍ في أوَّل النّهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النّهار حلّت له، فلما زالت الشَّمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلَّت له، فلما غربت الشّمس حرمت عليه، فلما دخل عليه وقت عشاء الآخرة حلَّت له، فلمّا كان انتصاف اللّيل حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلَّت له، ما حال هذه المرأة؟ وبماذا حلّت له وحرمت عليه"؟ فقال له يحيى: لا والله، ما أهتدي إلى جواب هذا السّؤال ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تفيدناه، فقال له أبو جعفر(ع): "هذه أمَةٌ لرجُلٍ من النّاس، نظر إليها أجنبيّ في أوّل النّهار، فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النّهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلمّا كان عند الظّهر أعتقها فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العشاء الآخرة كفَّر عن الظِهار فحلَّت له، فلما كان نصف اللّيل طلّقها واحدةً فحرمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلَّت له".

وهذا ما يجعلنا نقول إنَّه "الإمام المعجزة"، لأنَّه كان في هذا العلم الواسع الَّذي اختصَّه الله به وألهمه إيّاه، كان معجزةً في ذلك، حتى صَغُر كبار علماء زمانه أمامه. وهكذا، انطلق الإمام الجواد(ع) يعيش مع أصحابه ومع النّاس من حوله مسؤوليَّته الإماميَّة في توجيه النّاس وفي تعويدهم على السَّماح والانفتاح حتى مع الّذين يختلفون معه في الرّأي، ولا سيّما إذا كانوا من الأقرباء. وقد جاءه شخصٌ وقال له: إنَّ أبي ناصب ـ من النَّواصب ـ خبيث الرّأي ـ يبغضكم ويسبّكم ويعاديكم ـ وقد لقيت منه شدَّة وجهداً، فرأيك في الدّعاء لي وما ترى، جُعلت فداك، أفترى أن أكاشفه أو أداريه؟ فكتب الإمام الجواد(ع): "قد فهمت كتابك وما ذكرته من أمر أبيك، ولست أدَع الدّعاء لك إن شاء الله، والمداراة خير لك من المكاشفة ـ يعني ما دام أنّه أبوك، فحاول باللّطف والحسنى، فلعلَّه يميل إليك وإلى ما أنت فيه بعد ذلك ـ ومع العسر يسر، فاصبر إنّ العاقبة للمتّقين. ثبَّتك الله على ولاية من تولَّيت، نحن وأنتم في وديعة الله الّذي لا تضيع ودائعه". ويقول هذا الرّجل، إنَّ أباه بعد ذلك انفتح عليه، وأصبح لا يخالفه في أيِّ شيءٍ من أموره، وذلك بفضل دعاء الإمام وتوجيهه له.

ويروي بعض أصحابه، وهو "أبو هاشم الجعفري"، يقول: "سمعت أبا جعفر يقول: إنَّ في الجنّة باباً ـ والذي يحبّ الجنّة، فليسمع جيّداً هذه الكلمة وليعمل بها ـ يُقال له "المعروف"، لا يدخله إلا أهل المعروف. فحمدت الله في نفسي ـ فالظّاهر أنّ هذا الرّجل كان وجيهاً يقضي حوائج النّاس ـ وفرحت بما أتكلَّف من حوائج الناس، فنظر إليّ وقال لي: نعم ـ وكأنّه قد عرف ما في نفسه ـ فدم على ما أنت عليه، فإنَّ أهل المعروف في دنياهم هم أهل المعروف في الآخرة".. فإذا كنت من أهل المعروف في الدّنيا، فإنّ الله يجعلك من أهل المعروف الّذين يدخلون من باب "المعروف" إلى الجنّة...

ويقول(ع) في بعض كلماته: "المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال، توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه"، فإذا أردت أن تتوازن في حياتك، وتنفتح على الخير، وتنسجم مع إيمانك، فانّك تحتاج إلى توفيق الله لك للخير، وتوفيق الله لنا لا غنى عنه، فهو الّذي يهدينا ويشجّعنا، وأن يكون لك واعظ من نفسك، هو أن تعتبر بمن كان قبلك وبمن يعيش حولك، للتعرّف كيف يمكن لك أن تتحرَّك مع كلّ حسن، وأن تبتعد عن كلِّ قبيح، وأن تقبل ممن ينصحك فلا تردَّ عليه نصيحته.

ثم يقول الإمام الجواد(ع): "من أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده ـ فعندما تستغرق في كلام متكلِّمٍ، بحيث تشدّ كلّ فكرك وقلبك إليه، فهذا نوع من العبادة ـ فإن كان النّاطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله ـ فيتحدَّث إليك عمّا قال الله ورسوله، فأنت تعبد الله بإصغائك إلى هذا النّاطق، لأنّك تنجذب إلى كلام الله ـ وإن كان النّاطق يؤدّي عن الشّيطان فقد عبد الشّيطان"، فيتحدَّث بالفتنة والجريمة والخطايا والشرّ، حتى يثير النّاس ويوجِّههم إلى ما لا يُرضي الله، فكأنَّه يستغرق في كلام إبليس. لذلك، عندما تنجذبون إلى أيِّ خطيب، فعليكم أن تعرفوا من يمثّل هذا الخطيب؛ هل يمثّل كلام الله أو أنّه يمثِّل كلام الشّيطان؟

وننطلق معه(ع) في نهاية المطاف لنسمع منه يقول: "كفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة فقد لا تكون خائناً، ولكنَّك تدافع عن الخونة وتحمي خيانتهم وتساعدهم، فأنت إذاً من الخائنين، لأن لا فرق بين من يمارس الخيانة ومن يكون مساعداً للخائن في خيانته. فإذا كنتم تريدون أن تساعدوا أحداً في سياسة أو اقتصاد أو أمن أو أيّة حالة من الحالات الّتي يتحرّك فيها النّاس في حياتهم العامَّة، فانظروا من تساعدون؛ هل هو خائنٌ لله ولرسوله وللنّاس، أو هو أمين لله ورسوله والنّاس؟ فإذا كان خائناً، وفِّروا على أنفسكم أن يحسبكم الله من الخائنين، وإذا كان وفيّاً ناصحاً، فكونوا معه..

هذا هو الإمام الجواد(ع)، في عظمة علمه وهديه، وهذا هو في وصاياه ومواعظه ونصائحه. لذلك نحن في خطِّ هذا الإمام وخطِّ آبائه وأبنائه، لأنهم أهل بيت النبوَّة، وموضع الرّسالة، ومختلف الملائكة، بهم فتح الله وبهم يختم.

خطب الجمعة  بتاريخ 20 رجـــب 1418هـ/ الموافق 21 تشرين الثّاني 1997م
 

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

 

من أئمَّة هذا البيت، الإمام محمَّد بن عليّ الجواد(ع)، الَّذي كان مولده في العاشر من هذا الشَّهر، ولا بدَّ لنا من أن نعيش مع هذا الإمام الَّذي يمكننا أن نسمِّيه "الإمام المعجزة"، لأنَّ إمامته(ع) بدأت وهو في سنِّ الصّبا، وربما تحيّر بعض النّاس في ذلك، ولم يلتفتوا إلى قوله تعالى عن النّبي يحيى(ع): {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً}.

ولذلك، بادره الكثيرون من رجال الشّيعة الَّذين قالوا بإمامة آبائه بالسّؤال عن "عويصات" المسائل، ويروي أحد الثّقاة، وهو "عليّ بن إبراهيم"، عن أبيه في كتاب "الكافي"، قال: استأذن على أبي جعفر ـ وهي كنية الإمام الجواد(ع) ـ قوم من أهل النّواحي ـ الأطراف ـ من الشَّيعة، فأذن لهم، فدخلوا، فسألوه في مجلسٍ واحدٍ عن ثلاثين ألف مسألة، فأجاب(ع) وله عشر سنين. وقال الشّيخ المفيد: كان المأمون ـ الخليفة العباسي ـ قد شُغف بأبي جعفر(ع)، لما رأى من فضله مع صغر سنّه، وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل، ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزّمان، فزوَّجه ابنته "أمّ الفضل"... وكان متوفّراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره".

ويروي قصّة ما دار بين المأمون وبين العباسيّين الّذين أنكروا عليه هذا الإكرام للإمام الجواد(ع)، فقال: "لما أراد المأمون أن يزوِّج ابنته "أمّ الفضل" أبا جعفر محمد بن عليّ الجواد(ع)، بلغ ذلك العبّاسيّين، فغلظ عليهم واستكبروه، وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا(ع) ـ لأنّ المأمون كان قد ولّى الإمام الرّضا(ع) ولاية العهد، فخافوا أن يولّي الجواد(ع)، وخصوصاً مع هذه المصاهرة، ولاية العهد كذلك ـ فخاضوا في ذلك، واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه، فقالوا: ننشدك الله ـ وهم يخاطبون المأمون ـ يا أمير المؤمنين، أن تقيم على هذا الأمر الّذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرّضا، فإنَّا نخاف أن يُخرج به عنّا أمر قد مَلَّكَناه الله ـ وهي الخلافة ـ ويُنزع منّا عزٌّ قد ألبَسَناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم ـ العلويّين ـ قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الرّاشدون قبلك من تبعيدهم والتَّصغير بهم، وقد كنا في وهلة من عملك مع الرّضا ما عملت حتى كفانا الله المهمّ من ذلك ـ بأن قبضه إليه ـ فالله الله أن تردّنا إلى غمٍّ قد انحسر عنّا، واصرف رأيك عن ابن الرّضا، واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.

فقال لهم المأمون: أمَّا ما بينكم وبين آل أبي طالب، فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم، وأمّا ما كان يفعله مَنْ قبلي بهم، فقد كان به قاطعاً للرَّحم، وأعوذ بالله من ذلك، ووالله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرّضا، ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه عن نفسي فأبى، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. وأمّا أبو جعفر محمد بن عليّ، فقد اخترته لتبريزه على كافّة أهل الفضل في العلم والفضل، مع صغر سنّه والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للنّاس ما قد عرفته منه، فيعلموا أنّ الرأي ما رأيت فيه.

فقالوا: إنَّ هذا الفتى، وإن راقك منه هديه، فإنّه صبيّ لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدَّب ويتفقَّه في الدّين، ثمّ اصنع ما تراه بعد ذلك. فقال لهم: ويحكم، إني أعرف بهذا الفتى منكم، وإنَّ هذا من أهل بيتٍ، عِلمُهم من الله وموادّه وإلهامه، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدِّين والأدب عن الرّعايا الناقصة عن حدِّ الكمال، فإن شئتم، فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفت من حاله. فقالوا له: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فخلِّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيءٍ من فقه الشّريعة، فإن أصاب الجواب عنه، لم يكن لنا اعتراض في أمره، وظهر للخاصَّة وللعامّة سديد رأي أمير المؤمنين، وإن عجز عن ذلك، فقد كُفينا الخطب في معناه. فقال لهم المأمون: شأنكم وذاك متى أردتم.

فخرجوا من عنده، واجتمع رأيهم على مسألة "يحيى بن أكثم"، وهو يومئذٍ قاضي الزّمان، على أن يسأله مسألةً لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموالٍ نفيسةٍ على ذلك، وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك، فاجتمعوا في اليوم الّذي اتّفقوا عليه، وحضر معهم "يحيى بن أكثم"، فأمر المأمون أن يُفرش لأبي جعفر الجواد(ع) دستٌ وتُجعل له فيه مسورتان، ففعل ذلك، وخرج أبو جعفر(ع) وهو يومئذٍ ابن تسع سنين وأشهر، فجلس بين المسوّرتين، وجلس "يحيى بن أكثم" بين يديه، وقام النّاس في مراتبهم، والمأمون جالس في دست متَّصل بدست أبي جعفر(ع). فقال "يحيى بن أكثم" للمأمون: يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك، فأقبل عليه "أبن أكثم" وقال: أتأذن لي، جُعلت فداك، في مسألة؟ فقال أبو جعفر(ع): "سلْ إن شئت"، قال يحيى: ما تقول، جعلني الله فداك، في مُحرِم قتل صيداً؟ فقال له أبو جعفر: "قتله في حلٍّ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان المحرم أم عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصّيد كان أم من كباره؟ مصرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في اللّيل كان قتله للصّيد أم نهاراً؟ مُحرِماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً"؟ فتحيّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجز والانقطاع، ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره.

فقال المأمون: الحمد لله على هذه النّعمة والتّوفيق لي في الرّأي. ثم نظر إلى أهل بيته وقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثم أقبل على أبي جعفر(ع) فقال له: أتخطب يا أبا جعفر ـ يعني أتخطب مني ابنتي وتلقي خطبة الزّواج؟ ـ فقال له: "نعم يا أمير المؤمنين"، فقال له المأمون: أُخطب، جُعلت فداك، لنفسك، فقد رضيتك لنفسي، وأنا مزوّجك أمّ الفضل ابنتي، وإن رغم قوم لذلك... ثم طلب المأمون من الإمام الجواد(ع) أن يسأل أبن أكثم مسألةً كما سأله، فقال له الإمام(ع): "أسألك؟"، فقال: ذاك إليك، جُعلت فداك، فإن عرفت جواب ما تسألني وإلا استفدته منك

فقال له أبو جعفر (ع): "أخبرني عن رجلٍ نظر إلى امرأةٍ في أوَّل النّهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النّهار حلّت له، فلما زالت الشَّمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلَّت له، فلما غربت الشّمس حرمت عليه، فلما دخل عليه وقت عشاء الآخرة حلَّت له، فلمّا كان انتصاف اللّيل حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلَّت له، ما حال هذه المرأة؟ وبماذا حلّت له وحرمت عليه"؟ فقال له يحيى: لا والله، ما أهتدي إلى جواب هذا السّؤال ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تفيدناه، فقال له أبو جعفر(ع): "هذه أمَةٌ لرجُلٍ من النّاس، نظر إليها أجنبيّ في أوّل النّهار، فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النّهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلمّا كان عند الظّهر أعتقها فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العشاء الآخرة كفَّر عن الظِهار فحلَّت له، فلما كان نصف اللّيل طلّقها واحدةً فحرمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلَّت له".

وهذا ما يجعلنا نقول إنَّه "الإمام المعجزة"، لأنَّه كان في هذا العلم الواسع الَّذي اختصَّه الله به وألهمه إيّاه، كان معجزةً في ذلك، حتى صَغُر كبار علماء زمانه أمامه. وهكذا، انطلق الإمام الجواد(ع) يعيش مع أصحابه ومع النّاس من حوله مسؤوليَّته الإماميَّة في توجيه النّاس وفي تعويدهم على السَّماح والانفتاح حتى مع الّذين يختلفون معه في الرّأي، ولا سيّما إذا كانوا من الأقرباء. وقد جاءه شخصٌ وقال له: إنَّ أبي ناصب ـ من النَّواصب ـ خبيث الرّأي ـ يبغضكم ويسبّكم ويعاديكم ـ وقد لقيت منه شدَّة وجهداً، فرأيك في الدّعاء لي وما ترى، جُعلت فداك، أفترى أن أكاشفه أو أداريه؟ فكتب الإمام الجواد(ع): "قد فهمت كتابك وما ذكرته من أمر أبيك، ولست أدَع الدّعاء لك إن شاء الله، والمداراة خير لك من المكاشفة ـ يعني ما دام أنّه أبوك، فحاول باللّطف والحسنى، فلعلَّه يميل إليك وإلى ما أنت فيه بعد ذلك ـ ومع العسر يسر، فاصبر إنّ العاقبة للمتّقين. ثبَّتك الله على ولاية من تولَّيت، نحن وأنتم في وديعة الله الّذي لا تضيع ودائعه". ويقول هذا الرّجل، إنَّ أباه بعد ذلك انفتح عليه، وأصبح لا يخالفه في أيِّ شيءٍ من أموره، وذلك بفضل دعاء الإمام وتوجيهه له.

ويروي بعض أصحابه، وهو "أبو هاشم الجعفري"، يقول: "سمعت أبا جعفر يقول: إنَّ في الجنّة باباً ـ والذي يحبّ الجنّة، فليسمع جيّداً هذه الكلمة وليعمل بها ـ يُقال له "المعروف"، لا يدخله إلا أهل المعروف. فحمدت الله في نفسي ـ فالظّاهر أنّ هذا الرّجل كان وجيهاً يقضي حوائج النّاس ـ وفرحت بما أتكلَّف من حوائج الناس، فنظر إليّ وقال لي: نعم ـ وكأنّه قد عرف ما في نفسه ـ فدم على ما أنت عليه، فإنَّ أهل المعروف في دنياهم هم أهل المعروف في الآخرة".. فإذا كنت من أهل المعروف في الدّنيا، فإنّ الله يجعلك من أهل المعروف الّذين يدخلون من باب "المعروف" إلى الجنّة...

ويقول(ع) في بعض كلماته: "المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال، توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه"، فإذا أردت أن تتوازن في حياتك، وتنفتح على الخير، وتنسجم مع إيمانك، فانّك تحتاج إلى توفيق الله لك للخير، وتوفيق الله لنا لا غنى عنه، فهو الّذي يهدينا ويشجّعنا، وأن يكون لك واعظ من نفسك، هو أن تعتبر بمن كان قبلك وبمن يعيش حولك، للتعرّف كيف يمكن لك أن تتحرَّك مع كلّ حسن، وأن تبتعد عن كلِّ قبيح، وأن تقبل ممن ينصحك فلا تردَّ عليه نصيحته.

ثم يقول الإمام الجواد(ع): "من أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده ـ فعندما تستغرق في كلام متكلِّمٍ، بحيث تشدّ كلّ فكرك وقلبك إليه، فهذا نوع من العبادة ـ فإن كان النّاطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله ـ فيتحدَّث إليك عمّا قال الله ورسوله، فأنت تعبد الله بإصغائك إلى هذا النّاطق، لأنّك تنجذب إلى كلام الله ـ وإن كان النّاطق يؤدّي عن الشّيطان فقد عبد الشّيطان"، فيتحدَّث بالفتنة والجريمة والخطايا والشرّ، حتى يثير النّاس ويوجِّههم إلى ما لا يُرضي الله، فكأنَّه يستغرق في كلام إبليس. لذلك، عندما تنجذبون إلى أيِّ خطيب، فعليكم أن تعرفوا من يمثّل هذا الخطيب؛ هل يمثّل كلام الله أو أنّه يمثِّل كلام الشّيطان؟

وننطلق معه(ع) في نهاية المطاف لنسمع منه يقول: "كفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة فقد لا تكون خائناً، ولكنَّك تدافع عن الخونة وتحمي خيانتهم وتساعدهم، فأنت إذاً من الخائنين، لأن لا فرق بين من يمارس الخيانة ومن يكون مساعداً للخائن في خيانته. فإذا كنتم تريدون أن تساعدوا أحداً في سياسة أو اقتصاد أو أمن أو أيّة حالة من الحالات الّتي يتحرّك فيها النّاس في حياتهم العامَّة، فانظروا من تساعدون؛ هل هو خائنٌ لله ولرسوله وللنّاس، أو هو أمين لله ورسوله والنّاس؟ فإذا كان خائناً، وفِّروا على أنفسكم أن يحسبكم الله من الخائنين، وإذا كان وفيّاً ناصحاً، فكونوا معه..

هذا هو الإمام الجواد(ع)، في عظمة علمه وهديه، وهذا هو في وصاياه ومواعظه ونصائحه. لذلك نحن في خطِّ هذا الإمام وخطِّ آبائه وأبنائه، لأنهم أهل بيت النبوَّة، وموضع الرّسالة، ومختلف الملائكة، بهم فتح الله وبهم يختم.

خطب الجمعة  بتاريخ 20 رجـــب 1418هـ/ الموافق 21 تشرين الثّاني 1997م
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية