محاضرات
08/04/2018

فكر وحركة الشَّهيد الصَّدر

فكر وحركة الشَّهيد الصَّدر

 

في هذه الأيام، نلتقي بذكرى شخصية إسلامية مرجعية أعطت الإسلام كلّ عقلها وكلّ قلبها وكلّ طاقاتها، بل وأعطت كلّ دمها للإسلام، وهي شخصيّة السيّد محمد باقر الصدر(رض).

هذا الإنسان الذي إذا أردنا أن نتحدّث عنه بكلمة واحدة، فإنّ أفضل الكلمات هي أنه كان الحركيّ الرساليّ، فلم يعش علمه كطاقة تجريدية تعيش ذاتيّة الموقع، ولم يعش مرجعيّته، وهي في بدايتها، كطموح يرضي العنفوان، بل كان منذ أن انطلق في الحياة إنساناً يريد أن يعيش الحركة عريضة عريضة، حتى لو لم تكن طويلة طويلة، لأنّ الأشخاص الكبار الذين يحملون الرسالة، لا يفكّرون في طول الحياة، بل في عرضها الذي يجعل حياتهم، وهي تتحرّك، تختصر السّاحة كلّها، لتكون متنوّعة في أبعادها، بحيث تملأ السّاحة في كلّ مرحلة من مراحل العمر، وهكذا كان.

رافقته منذ بداية الشّباب ونهاية الصبا، وقد كانت عبقريته في صباه تبشّر بأنّ هذا الإنسان يحمل في طاقته مستقبلاً كبيراً، حيث نشأ في بيت علميّ في امتداد الآباء والأمهات، فقد كان من عائلة الصدر العلمية المعروفة، وكان أبوه السيّد "حيدر الصدر"، ممّن ملأ ذهنيّة المجتمع الحوزويّ في النجف بعلمه وهو لا يزال شابّاً، وكان جدّه السيّد "إسماعيل الصّدر" من الأشخاص الذين يعيشون في مستوى المرجعية، وكان نسبه من جهة الأمّ يتّصل بعائلة "آل ياسين"، فكان خاله الذي تربّى في أحضانه الشيخ "محمد رضا آل ياسين" المرجع والفقيه المعروف.

فلقد نشأ في هذا الجوّ: في حضانة أخيه السيّد "إسماعيل الصّدر"، الذي كان من العلماء المعروفين في النجف، وبدأت عبقريته الجنينيّة تظهر عندما كان يحضر المجالس الحوزويّة، وكان يناقش ويذاكر، وقد ساعده هذا الجوّ المرجعيّ الذي كان لخاله في أن تنفتح له المواقع.

وفي بواكير عمره، وهو يدرس الأصول، فكّر أن يدرس الفلسفة، ولم يكن يملك المال الذي يشتري به كتاب الفلسفة، فأعطى كتاب "الحدائق" الفقهي لبعض الناس ليأخذ منه في المقابل كتاب "الأسفار" الفلسفيّ، وانتقده بعض الناس، لأنّهم كانوا ينظرون إلى الفلسفة نظرة سلبيّة، فلا يهضمون استبدال كتابٍ فلسفيّ بكتابٍ فقهيّ.

وكانت نظرته إلى دراسته الفلسفيّة تنطلق من تطلّعاته المستقبليّة إلى أن الواقع الذي يتحدّى الإسلام، هو واقع الفكر المعاصر الذي يرتكز على عمق فلسفيّ وامتداد فكريّ يفرض على طالب العلم أن تكون له المشاركات التي يستطيع بها أن يتعمّق حتى يملك عمق الفكرة، ليواجه تحدّياته في العمق والامتداد.

ثمّ انطلق، وقد تابع فضلاء الحوزة انطلاقاته وحركة الإبداع في ذهنه وعمق نظرته إلى الأشياء، وأصبح من فضلاء الحوزة في وقت مبكر، حتى إنّ بعض علماء الحوزة الكبار، وهو الشيخ "عباس الرميثي" (رحمه الله)، كان يريد له أن يجلس إليه عندما كان يكتب حاشيته على بعض الرسائل العملية. وراحت التحدّيات تهزّ العراق والحوزة معاً بصدمة لم تعهدها في تاريخها، لأنّها لم تكن صدمة سياسية مجرّدة، بمقدار ما كانت صدمة ثقافيّة تتحرّك فيها الخطوط الثقافية الإلحادية التي كادت أن تسيطر على الساحة كلّها، وأن تنذر الحوزة بواقع قد يسقط الكثير من مواقعها.

وانطلقت حركية السيّد الشّهيد آنذاك بانطلاق (جماعة العلماء)، التي كان خاله الشيخ "مرتضى آل ياسين" الشخص الأوَّل فيها، وبدأت جماعة العلماء في النجف الأشرف تصدر المنشورات التي تتحدَّث عن الإسلام وعن الواقع بأسلوب تفرضه طبيعة تلك المرحلة، وكان السيّد محمد باقر الصدر(رض) هو الذي يكتب هذه المنشورات بأسلوبٍ لم تعرفه الحوزة في منهجها التقليديّ، سواء في الكلمات التي تطلقها، أو في الأجواء التي تثيرها.

ثم بدأ السيّد محمد باقر الصّدر يتحرّك في واقع التحدّي الماركسيّ، مستنفراً كلّ ثقافته الفلسفيّة التي كانت منفتحة على الفلسفة القديمة، ليستعين بها على الاطّلاع على الفلسفات الحديثة، ويكتب كتاب "فلسفتنا" الّذي كانت مقدّمته برنامجاً عملياً لحركة إسلامية مقبلة، وكان هذا الكتاب يمثّل أكبر تحدّ للخطّ الماركسيّ وللخطوط المادية الأخرى، لأنّه انطلق بفلسفة عميقة حديثة، تخاطب العقل المعاصر بأسلوب معاصر يتساوى مع أفضل الأساليب. حتى إنّ هذا الكتاب أحدث هزّة في أجواء الماركسيّين هناك، بشكل شعروا فيه بأنَّ هناك علماً يخاطب الماركسيّة بدلاً من الكلمات التي كانت تواجهها بالطريقة الاستهلاكيّة، لأنَّ السيّد محمد باقر الصدر لم يكن إنساناً يستهلك الكلام، بل كان إنساناً يحمل مسؤوليّة الكلمة، وكان ينتج من عمق حركة الفكر فكراً جديداً.

مثَّل كتاب "فلسفتنا" للشَّهيد الصَّدر أكبر تحدّ للخطّ الماركسيّ وللخطوط الماديّة الأخرى

وعندما أسّست "مجلة الأضواء"، وهي مجلة (جماعة العلماء)، كان السيّد محمد باقر الصدر يكتب افتتاحيّتها تحت عنوان "رسالتنا"، وهو الذي أطلق شعار أن يكون الإسلام قاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة، وهذه هي الكلمة التي اختصرت أبعاد الإسلام في كلّ مفرداته. وكان يتحرَّك بالأضواء في كلّ الأجواء التي يراد لها أن تنطلق بها مع ثلّةٍ ممّن رافقه في فكره الإسلاميّ ومنهجه الحركيّ وتطلّعاته المستقبلية نحو التغيير.

وقد رأى أنّ الفلسفة لا يمكن أن تمثّل كلّ التحدّي لهذا الخطّ الذي يعتبر أنّ الاقتصاد هو الأساس في تطوّر الإنسان والواقع، فلقد كان "ماركس" يعتبر العامل الاقتصاديّ هو الذي يحرّك عمليّة تغيير الواقع، فكتب كتاب "اقتصادنا"، وهو أوّل كتاب إسلاميّ يكتشف المذهب بطريقة علمية، ويناقش الاقتصاد الرأسمالي والماركسي بالاقتصاد الإسلاميّ، ولم يستطع أحد ممّن سبقه أو ممّن تأخّر عنه أن يتحدَّى هذا الكتاب بكتاب أو بفكر أفضل منه.

وكان الإنسان الذي أطلق الحركة الإسلاميّة، فانبثقت من فكره كقاعدة، ومن أفكار بعض الذين عاشوا معه وتحرّكوا معه، وكان يعطيها فكره ومنهجه، كما كان يؤسِّس لها ويبني لها أُسسها، وكان يتحرّك بها حتى استطاعت أن تقف على قديمها في عصره. وإنّنا نتصوَّر أنّه أوّل إنسان أطلق الحركة الإسلاميّة في المحيط الذي ينتمي إليه في العراق وفي خارجه.

وهكذا بدأ يتحرّك في أكثر من جانب ليغني الفكر الإسلامي، فلقد كان يعيش قلق المعرفة، فلقد كانت المعرفة عنده قلقاً يبحث عن الجديد، وعن متغيّرات الواقع، وعن تحدّيات الكفر والاستكبار، وكان يعيش الهمَّ العلمي والهمّ الإسلاميّ وهمّ الواقع الإنسانيّ، مثلما عاش همّه بمسؤوليّة، لا كمن يعيشون الهمّ في حالة بكائية خائفة تتحدَّث عن اليأس وعن الفشل، وكان الأمل بالإسلام يملأ قلبه، وكانت الثّقة بالله تملأ عقله، وكانت إيجابيّات المجتمع الإسلاميّ تحرّك خطواته.

وهكذا، كان يعيش التحدّي للواقع وهو يكتب الفقه والأصول و"الأُسس المنطقية للاستقراء"، ويعيش التحدّي وهو يكتب مقالاً هنا ومقالاً هناك، ويعيش التحدّي وهو يتحدّث لطلّابه في أكثر من جانب من جوانب الواقع في خطِّ الإسلام.

وكان الحسين في عقله، فكان يستوحيه ويستهديه، وكان يشعر في قمّة التحدي أنّ مرحلته حسينيّة، ولذلك كان يفكّر في الكثير من الأساليب التي قد يعتبرها الناس استشهادية إذا عاشوا مسؤولية الكلمة، وانتحارية إذا لم يعيشوا مسؤوليتها.

كان يشعر بأنّ عليه وهو في بداية مرجعيّته أن يتحدّث بصراحة، وأن يطلق الفتوى بوضوح ومسؤوليّة، ولم يكن يجد في مرحلته أنّ التقيّة تفرض عليه أن يسكت أو ينسحب، أو يخلع على الكلام غلافاً يغطّي الحقيقة أو يخفِّف من قسوتها، بل كان يجد أنَّ المرحلة هي مرحلة صدمة الواقع لا الاسترخاء أمامه. من هنا، أُريدَ لهُ أن يخفِّف من لهجته فزادها ثقلاً، وأُريد له أن يبتعد عن الوضوح فكان أكثر وضوحاً، وأريد له أن يتراجع، فكان أكثر تقدّماً وتحدّياً.

قيل له إنّ المرجعيّة العربيّة تتمثّل فيك، وسنفتح لك كلَّ المجال، ولكن كن تقليديّاً كمن سبقك، ورفض أن يكون تقليديّاً في مرحلة كانت التقليدية أماناً، وكانت الثورية التغييرية خطراً، فتقبّل الخطر، وبدأ يفكّر في المرجعيّة الرّشيدة، بأن يضع لها منهجاً، وأن لا يجعلها ذاتيّة تعيش في إطار الشخص، ولكنّه أرادها موضوعيّة تتحرّك لتبلغ المرجعية المؤسّسية.

وكتب تجربته، وحاول أن يحرّكها في الواقع، وتجمّع ذلك كلّه، ولا سيّما بعد أن نجحت الثورة الإسلامية في إيران، وأعطاها كلّه وذاب فيها، وأراد لكلّ أصحابه وأتباعه أن يذوبوا فيها، لأنّه رأى فيها الحلم الكبير، ورأى أن ما يفكّر فيه قد تحقَّق ولو من خلال تجربة أخرى، ولا بدَّ للجميع من أن يحيطوها لتستمرّ وتقوى وتتصلّب وتبلغ أهدافها.

لا تدرسوا الشَّهيد الصَّدر كتأريخ، ولكن ادرسوه كفكر لا يزال العصر بحاجةٍ إليه

وخاف الآخرون.. خاف النّظام الطاغي ومن خلف النظام الطاغي، أن يكون العراق هو الدولة الإسلاميّة الثانية، وشعروا بالخطر من خلال حركة الجماهير، وكانت المأساة.. وكانت الشّهادة، ولكن السيّد محمد باقر الصدر (رضي الله عنه)، وهو الذي يمثّل قوّة الفكر، وقوّة الموقف، وقوّة التطلّع نحو المستقبل، وقوّة التغيير، باقٍ بفكره، وبروحه، وبكلّ المنهج الحركيّ الذي خطّه، وبكلّ هذا الجيل الذي صنعه والذي فتح له الطّريق.

فلا تدرسوه كتأريخ، ولكن ادرسوه كفكر لا يزال العصر بحاجة إليه، وكأمل لا يزال المستقبل بحاجة إليه.

والسّلام عليه يوم ولد، ويوم استُشهِد، ويوم يبعث حيّاً.

 محاضرة  في الذّكرى 17 لاستشهاد المرجع الصّدر(رض)، وذلك بتاريخ 28 ذي القعدة العام 1417هجرية / 9-4-1980م
 

 

في هذه الأيام، نلتقي بذكرى شخصية إسلامية مرجعية أعطت الإسلام كلّ عقلها وكلّ قلبها وكلّ طاقاتها، بل وأعطت كلّ دمها للإسلام، وهي شخصيّة السيّد محمد باقر الصدر(رض).

هذا الإنسان الذي إذا أردنا أن نتحدّث عنه بكلمة واحدة، فإنّ أفضل الكلمات هي أنه كان الحركيّ الرساليّ، فلم يعش علمه كطاقة تجريدية تعيش ذاتيّة الموقع، ولم يعش مرجعيّته، وهي في بدايتها، كطموح يرضي العنفوان، بل كان منذ أن انطلق في الحياة إنساناً يريد أن يعيش الحركة عريضة عريضة، حتى لو لم تكن طويلة طويلة، لأنّ الأشخاص الكبار الذين يحملون الرسالة، لا يفكّرون في طول الحياة، بل في عرضها الذي يجعل حياتهم، وهي تتحرّك، تختصر السّاحة كلّها، لتكون متنوّعة في أبعادها، بحيث تملأ السّاحة في كلّ مرحلة من مراحل العمر، وهكذا كان.

رافقته منذ بداية الشّباب ونهاية الصبا، وقد كانت عبقريته في صباه تبشّر بأنّ هذا الإنسان يحمل في طاقته مستقبلاً كبيراً، حيث نشأ في بيت علميّ في امتداد الآباء والأمهات، فقد كان من عائلة الصدر العلمية المعروفة، وكان أبوه السيّد "حيدر الصدر"، ممّن ملأ ذهنيّة المجتمع الحوزويّ في النجف بعلمه وهو لا يزال شابّاً، وكان جدّه السيّد "إسماعيل الصّدر" من الأشخاص الذين يعيشون في مستوى المرجعية، وكان نسبه من جهة الأمّ يتّصل بعائلة "آل ياسين"، فكان خاله الذي تربّى في أحضانه الشيخ "محمد رضا آل ياسين" المرجع والفقيه المعروف.

فلقد نشأ في هذا الجوّ: في حضانة أخيه السيّد "إسماعيل الصّدر"، الذي كان من العلماء المعروفين في النجف، وبدأت عبقريته الجنينيّة تظهر عندما كان يحضر المجالس الحوزويّة، وكان يناقش ويذاكر، وقد ساعده هذا الجوّ المرجعيّ الذي كان لخاله في أن تنفتح له المواقع.

وفي بواكير عمره، وهو يدرس الأصول، فكّر أن يدرس الفلسفة، ولم يكن يملك المال الذي يشتري به كتاب الفلسفة، فأعطى كتاب "الحدائق" الفقهي لبعض الناس ليأخذ منه في المقابل كتاب "الأسفار" الفلسفيّ، وانتقده بعض الناس، لأنّهم كانوا ينظرون إلى الفلسفة نظرة سلبيّة، فلا يهضمون استبدال كتابٍ فلسفيّ بكتابٍ فقهيّ.

وكانت نظرته إلى دراسته الفلسفيّة تنطلق من تطلّعاته المستقبليّة إلى أن الواقع الذي يتحدّى الإسلام، هو واقع الفكر المعاصر الذي يرتكز على عمق فلسفيّ وامتداد فكريّ يفرض على طالب العلم أن تكون له المشاركات التي يستطيع بها أن يتعمّق حتى يملك عمق الفكرة، ليواجه تحدّياته في العمق والامتداد.

ثمّ انطلق، وقد تابع فضلاء الحوزة انطلاقاته وحركة الإبداع في ذهنه وعمق نظرته إلى الأشياء، وأصبح من فضلاء الحوزة في وقت مبكر، حتى إنّ بعض علماء الحوزة الكبار، وهو الشيخ "عباس الرميثي" (رحمه الله)، كان يريد له أن يجلس إليه عندما كان يكتب حاشيته على بعض الرسائل العملية. وراحت التحدّيات تهزّ العراق والحوزة معاً بصدمة لم تعهدها في تاريخها، لأنّها لم تكن صدمة سياسية مجرّدة، بمقدار ما كانت صدمة ثقافيّة تتحرّك فيها الخطوط الثقافية الإلحادية التي كادت أن تسيطر على الساحة كلّها، وأن تنذر الحوزة بواقع قد يسقط الكثير من مواقعها.

وانطلقت حركية السيّد الشّهيد آنذاك بانطلاق (جماعة العلماء)، التي كان خاله الشيخ "مرتضى آل ياسين" الشخص الأوَّل فيها، وبدأت جماعة العلماء في النجف الأشرف تصدر المنشورات التي تتحدَّث عن الإسلام وعن الواقع بأسلوب تفرضه طبيعة تلك المرحلة، وكان السيّد محمد باقر الصدر(رض) هو الذي يكتب هذه المنشورات بأسلوبٍ لم تعرفه الحوزة في منهجها التقليديّ، سواء في الكلمات التي تطلقها، أو في الأجواء التي تثيرها.

ثم بدأ السيّد محمد باقر الصّدر يتحرّك في واقع التحدّي الماركسيّ، مستنفراً كلّ ثقافته الفلسفيّة التي كانت منفتحة على الفلسفة القديمة، ليستعين بها على الاطّلاع على الفلسفات الحديثة، ويكتب كتاب "فلسفتنا" الّذي كانت مقدّمته برنامجاً عملياً لحركة إسلامية مقبلة، وكان هذا الكتاب يمثّل أكبر تحدّ للخطّ الماركسيّ وللخطوط المادية الأخرى، لأنّه انطلق بفلسفة عميقة حديثة، تخاطب العقل المعاصر بأسلوب معاصر يتساوى مع أفضل الأساليب. حتى إنّ هذا الكتاب أحدث هزّة في أجواء الماركسيّين هناك، بشكل شعروا فيه بأنَّ هناك علماً يخاطب الماركسيّة بدلاً من الكلمات التي كانت تواجهها بالطريقة الاستهلاكيّة، لأنَّ السيّد محمد باقر الصدر لم يكن إنساناً يستهلك الكلام، بل كان إنساناً يحمل مسؤوليّة الكلمة، وكان ينتج من عمق حركة الفكر فكراً جديداً.

مثَّل كتاب "فلسفتنا" للشَّهيد الصَّدر أكبر تحدّ للخطّ الماركسيّ وللخطوط الماديّة الأخرى

وعندما أسّست "مجلة الأضواء"، وهي مجلة (جماعة العلماء)، كان السيّد محمد باقر الصدر يكتب افتتاحيّتها تحت عنوان "رسالتنا"، وهو الذي أطلق شعار أن يكون الإسلام قاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة، وهذه هي الكلمة التي اختصرت أبعاد الإسلام في كلّ مفرداته. وكان يتحرَّك بالأضواء في كلّ الأجواء التي يراد لها أن تنطلق بها مع ثلّةٍ ممّن رافقه في فكره الإسلاميّ ومنهجه الحركيّ وتطلّعاته المستقبلية نحو التغيير.

وقد رأى أنّ الفلسفة لا يمكن أن تمثّل كلّ التحدّي لهذا الخطّ الذي يعتبر أنّ الاقتصاد هو الأساس في تطوّر الإنسان والواقع، فلقد كان "ماركس" يعتبر العامل الاقتصاديّ هو الذي يحرّك عمليّة تغيير الواقع، فكتب كتاب "اقتصادنا"، وهو أوّل كتاب إسلاميّ يكتشف المذهب بطريقة علمية، ويناقش الاقتصاد الرأسمالي والماركسي بالاقتصاد الإسلاميّ، ولم يستطع أحد ممّن سبقه أو ممّن تأخّر عنه أن يتحدَّى هذا الكتاب بكتاب أو بفكر أفضل منه.

وكان الإنسان الذي أطلق الحركة الإسلاميّة، فانبثقت من فكره كقاعدة، ومن أفكار بعض الذين عاشوا معه وتحرّكوا معه، وكان يعطيها فكره ومنهجه، كما كان يؤسِّس لها ويبني لها أُسسها، وكان يتحرّك بها حتى استطاعت أن تقف على قديمها في عصره. وإنّنا نتصوَّر أنّه أوّل إنسان أطلق الحركة الإسلاميّة في المحيط الذي ينتمي إليه في العراق وفي خارجه.

وهكذا بدأ يتحرّك في أكثر من جانب ليغني الفكر الإسلامي، فلقد كان يعيش قلق المعرفة، فلقد كانت المعرفة عنده قلقاً يبحث عن الجديد، وعن متغيّرات الواقع، وعن تحدّيات الكفر والاستكبار، وكان يعيش الهمَّ العلمي والهمّ الإسلاميّ وهمّ الواقع الإنسانيّ، مثلما عاش همّه بمسؤوليّة، لا كمن يعيشون الهمّ في حالة بكائية خائفة تتحدَّث عن اليأس وعن الفشل، وكان الأمل بالإسلام يملأ قلبه، وكانت الثّقة بالله تملأ عقله، وكانت إيجابيّات المجتمع الإسلاميّ تحرّك خطواته.

وهكذا، كان يعيش التحدّي للواقع وهو يكتب الفقه والأصول و"الأُسس المنطقية للاستقراء"، ويعيش التحدّي وهو يكتب مقالاً هنا ومقالاً هناك، ويعيش التحدّي وهو يتحدّث لطلّابه في أكثر من جانب من جوانب الواقع في خطِّ الإسلام.

وكان الحسين في عقله، فكان يستوحيه ويستهديه، وكان يشعر في قمّة التحدي أنّ مرحلته حسينيّة، ولذلك كان يفكّر في الكثير من الأساليب التي قد يعتبرها الناس استشهادية إذا عاشوا مسؤولية الكلمة، وانتحارية إذا لم يعيشوا مسؤوليتها.

كان يشعر بأنّ عليه وهو في بداية مرجعيّته أن يتحدّث بصراحة، وأن يطلق الفتوى بوضوح ومسؤوليّة، ولم يكن يجد في مرحلته أنّ التقيّة تفرض عليه أن يسكت أو ينسحب، أو يخلع على الكلام غلافاً يغطّي الحقيقة أو يخفِّف من قسوتها، بل كان يجد أنَّ المرحلة هي مرحلة صدمة الواقع لا الاسترخاء أمامه. من هنا، أُريدَ لهُ أن يخفِّف من لهجته فزادها ثقلاً، وأُريد له أن يبتعد عن الوضوح فكان أكثر وضوحاً، وأريد له أن يتراجع، فكان أكثر تقدّماً وتحدّياً.

قيل له إنّ المرجعيّة العربيّة تتمثّل فيك، وسنفتح لك كلَّ المجال، ولكن كن تقليديّاً كمن سبقك، ورفض أن يكون تقليديّاً في مرحلة كانت التقليدية أماناً، وكانت الثورية التغييرية خطراً، فتقبّل الخطر، وبدأ يفكّر في المرجعيّة الرّشيدة، بأن يضع لها منهجاً، وأن لا يجعلها ذاتيّة تعيش في إطار الشخص، ولكنّه أرادها موضوعيّة تتحرّك لتبلغ المرجعية المؤسّسية.

وكتب تجربته، وحاول أن يحرّكها في الواقع، وتجمّع ذلك كلّه، ولا سيّما بعد أن نجحت الثورة الإسلامية في إيران، وأعطاها كلّه وذاب فيها، وأراد لكلّ أصحابه وأتباعه أن يذوبوا فيها، لأنّه رأى فيها الحلم الكبير، ورأى أن ما يفكّر فيه قد تحقَّق ولو من خلال تجربة أخرى، ولا بدَّ للجميع من أن يحيطوها لتستمرّ وتقوى وتتصلّب وتبلغ أهدافها.

لا تدرسوا الشَّهيد الصَّدر كتأريخ، ولكن ادرسوه كفكر لا يزال العصر بحاجةٍ إليه

وخاف الآخرون.. خاف النّظام الطاغي ومن خلف النظام الطاغي، أن يكون العراق هو الدولة الإسلاميّة الثانية، وشعروا بالخطر من خلال حركة الجماهير، وكانت المأساة.. وكانت الشّهادة، ولكن السيّد محمد باقر الصدر (رضي الله عنه)، وهو الذي يمثّل قوّة الفكر، وقوّة الموقف، وقوّة التطلّع نحو المستقبل، وقوّة التغيير، باقٍ بفكره، وبروحه، وبكلّ المنهج الحركيّ الذي خطّه، وبكلّ هذا الجيل الذي صنعه والذي فتح له الطّريق.

فلا تدرسوه كتأريخ، ولكن ادرسوه كفكر لا يزال العصر بحاجة إليه، وكأمل لا يزال المستقبل بحاجة إليه.

والسّلام عليه يوم ولد، ويوم استُشهِد، ويوم يبعث حيّاً.

 محاضرة  في الذّكرى 17 لاستشهاد المرجع الصّدر(رض)، وذلك بتاريخ 28 ذي القعدة العام 1417هجرية / 9-4-1980م
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية