هناك من يرى أنَّ المدرسة التفكيكيّة هي على النقيض من الفلسفة، وهي ذات ميلٍ
تزمتي – أخباري، ولكن هذه الفكرة ليست دقيقة، بل ينكرها أصحاب المدرسة التفكيكيّة
المعاصرة.
فهي مدرسة تقوم بدراسة العقل وحجّيته، وترى أن العقل العملي جزء لا يتجزأ من الواقع،
بمعنى أنها لا تميل إلى نظرية العقل النظريّ، بل إلى نظريّة العقل العمليّ، وربما
نجد هذا الأمر واضحًا عند الفيلسوف إيمانويل كانط، صاحب رحلة العقل النظريّ، ومن ثم
العقل العملي، التي من خلالها عاش إنكار الإله في بدايتها، ولكنه وصل إلى إثبات
الإله من خلال نظريّة المبدأ الأخلاقي في نهايتها.
فمثلاً، من المغالطات حول هذه المدرسة، أنهم يتهمونها برفض الكشف والشهود مطلقًا!
بينما هي ترى التهذيب وعدم الاستغراق في ذلك من خلال التعاطي مع النصّ الدينيّ.
تنطلق فكرة هذه المدرسة من فلسفة مختلفة عن الفلسفة التي اعتاد عليها النّاس، كون
الخطاب الديني بإمكانه أن يعتمد على العقل البديهي - بديهيات العقل -، بمعنى نحن
لسنا بحاجة إلى تأويل النصّ والعمل على المجاز، والدخول في إعطاء النصّ الدينيّ
معنىً مختلفًا عن الذي يريد أن يوصله إلى المتلقّي.
لماذا؟!
ترى المدرسة التفكيكيّة أنّ لوي عنق النصّ فلسفيّاً لا يخدم النصّ، ونعني الفلسفة
التأويليّة النظرية، كما أنّ الاستغراق في الكشف والشهود مع النصّ لا يخدم النصّ،
بل النصّ غنيّ عن هذا وذاك، فهو يمتلك مقوّمات تساعده على فهم المتلقّي بكلّ بساطة.
وأهمّ ما تدعو إليه هذه المدرسة أمران:
الأوّل: الجانب التّفكيكي بين الاتجاهات المعرفيّة البشريّة، والفصل بينها.
الثّاني: الجانب البيانيّ للنصّ القرآنيّ كمادّة معرفيّة من خلال تقديم قراءة
وتفسير لها.
بمعنى أنّ هذه المدرسة ترفع النداء عالياً، وتدفع نحو تقديم قراءة للدّين من منظور
قرآني وحياني دون فلسفة وعرفان، لأنّ الفلسفة والعرفان هما اللّذان سبّبا تغييب
النصّ الدينيّ، وساعدا على تحريفه وتشويهه.
وهنا، لا بدّ من ملاحظة أنّ هذه المدرسة تعمل الفصل وليس القطيعة بين الاتجاهات
المعرفيّة الوحيانيّة والعقليّة والكشفيّة، فغاية ما ترنو إليه المدرسة، أن يتمّ
تقديم شرح خاصّ للمعارف الأصليّة للقرآن الكريم، من دون أن نقوم بتفعيل الجانب
الفلسفي والعرفاني، بحيث نفهم الوحي فهمًا صافيًا من دون تدخّل الفهم البشريّ،
فالتفكيك هنا بين الفهم الوحياني والفهم البشري.
يرى الشّيخ محمّد رضا حكيمي أنّ الأصالة للمعارف الدينيّة وليس لغيرها، وهذه
المعارف الدينيّة قائمة على القرآن الكريم والسنّة النبوية، وضرورة الأخذ بظاهر
الآيات والروايات، ودون الدخول في التأويل.
تأتي هذه المدرسة لتقول لا للاستغراق الفلسفي اليوناني، وكذلك المتأثّر به أيضاً،
فهي تنتقد مثلاً فلسفة ملّا صدرا ولا تتقبّلها، ونحن نجد ملّا صدرا في آخر حياته
ابتعد عن الاستغراق في الفلسفة، وحاول أن يعطي وقتاً أكثر للنصّ القرآني، وقد وجّه
نصيحة إلى غيره بأن لا يخوض ما خاضه على حساب فهم النصّ القرآني، وهذا ما نجده
أيضًا عند العلّامة الطباطبائي.
محمد رضا حكيمي (رحمه الله) في كتابه "الحياة"، يرى أنّ العدالة الاجتماعيّة هي
المقصد الأساس للتشريع الإسلاميّ، وهذا يعتبر من مداميك فلسفته الفهميّة للنصّ
الديني، وأنّ البعد الزمني للتاريخ للعلوم الإسلاميّة هو أيضًا مهمّ جدًا، وهنا نحن
أمام نقطة فاصلة، وهي عبارة عن رفض السيطرة الأرسطية المنطقية، وقبول السيرورة
العقليّة التاريخانيّة، والذّهاب إلى العمق التاريخيّ.
فمن الأمور التي تستدعي التوقّف: ما يتعلّق بالجبر، فهم دفعوا نحو تصحيح ما وقع فيه
الآخوند الذي يصطدم مع الأمر بين الأمرين، فهم ينتصرون للمفهوم الحديثي الشيعي
المتوارث.
وترى هذه المدرسة أن الفلسفة قد تسبّبت بتخريب البنية المعرفية الدينية، كما يرى
آخرون أنّ الفلسفة قامت بالدور نفسه عندما دخلت في أصول الفقه.
ومن أبرز أصحاب هذه المدرسة التفكيكيّة، المرجع الديني السيّد محمد حسين فضل الله (رض)،
فهو يرى أنّ للعقل دورًا على مستوى الإطار العمليّ وليس النظريّ فحسب، وأن العرفان
في الإسلام عرفان عمليّ، وهذا ما نستفيده من النصّ الدينيّ.
ويرفض السيّد إقحام الفلسفة اليونانيّة أو المتأثّرة بها في أصول الفقه. لذلك، فهو
لم يقبل بالتوسّع في بحوث أصول الفقه، ورفض من طلبتِهِ أن يُطبَع له ولو تقريرٌ
أصوليٌّ، بالرغم من تدريسه الأصولَ فترة وجيزة من الزّمن، فهو يرى الاكتفاء بالأصول
الأصيلة، والفهم العرفيّ للنصّ الديني، فهو قد توسّط بين الأخبارية والأصولية،
متّخذًا بذلك بنية دينيّة جديدة في فهم النصّ الدينيّ.
فالنصّ الدينيّ نصّ ذو لغة واضحة غير معقَّدة، وصاحب بيان، وظاهر النصّ هو الذي
يكسب الحجيّة، وفي الوقت نفسه، فالحقائق الدينية قد بيّنت بلغة عقلائيّة، ففهم النص
الديني ليس بحاجة إلى تعلم الفلسفة، فالخطاب في صدر الإسلام كان موجّهًا إلى
العقلاء، وبفطرتهم يتلقّون الحقائق.