{وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].
هذه هي النقطة الثانية الَّتي أراد الله للمسلمين أن يعيشوها، وكانت النقطة الأولى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102].
أمَّا هذه النقطة، فإنَّها تؤكِّد الوحدة على أساس الاعتصام بحبل الله، لأنَّ الوحدة لا تُقبَل كيفما كان، بل لا بدَّ من أن تكون منطلقةً من أساسٍ يتَّصل بالإنسان في كلِّ مصيره في الدنيا وفي الآخرة، ليلتقي النَّاس على ما يلتزمونه في عقيدتهم وفي حياتهم. هذه هي الوحدة المطلوبة في الخطِّ الإسلاميّ.
التّمسّكُ بحبلِ الله
{وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}. ومعنى الاعتصام هو التمسّك بحبل الله، فعندما يعيش المجتمع الاهتزاز وحالة الضّياع، فإنَّ علينا أن نتمسَّك بحبل الله، كما يتمسَّك الإنسان بالحبل عندما يكون في خطر معيَّن كي لا يقع، وكلَّما كان الحبل متيناً أكثر، كانت فرص النَّجاة أكثر. وأيّ حبلٍ أقوى من حبلِ الله سبحانه وتعالى؟! وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص) أنَّ حبل الله كتابُهُ، وهو ما ورد في حديث الثّقلين: "إنِّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكْتُم به لن تضلُّوا بعدي، أحدُهُما أعظمُ منَ الآخرِ: كتابُ اللهِ، حبلٌ ممدودٌ من السَّماءِ إلى الأرضِ، وعترتي أهلُ بيتي، ولن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوضَ".
وقد ورد في بعض الأحاديث أنَّ حبل الله هو رسول الله، لأنَّ النَّاس إذا تمسَّكوا به في خطِّ الرِّسالة والقيادة، نجوا وتخلَّصوا من الخطر.
وهناك حديثٌ أنَّ حبلَ اللهِ هم أهل البيت (ع)، ويقولُ صاحبُ "مجمع البيان"، إنَّ كلَّ هذه الرِّوايات يلتقي بعضها مع بعض، فالكتابُ هو الخطُّ الَّذي يبيِّن الله فيه أسس العقيدة ومفاهيم الحياة، وحلاله وحرامه، والنَّبيّ وأهل بيته هم حبل الله في خطِّ القيادة، لأنَّهم هم الَّذين يبيِّنون للنَّاس ما في كتاب الله، ويشرحون ويفسِّرون ويعلِّمون، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[الجمعة: 2]. لذلك، فإنَّ قيادة النَّبيّ (ص)، لأنَّه المعلِّم والمرشد والموجِّه والمزكِّي والمطهِّر، هو حبل الله في الجانب العمليّ من ذلك.
وعلى أيّ حال، إنَّ الله يقول للمسلمين، ليكن اعتصامكم جميعاً بحبلِ الله، ولتكن وحدتكم على أساس التزامكم بحبل الله، {وَلَا تَفَرَّقُواْ}، فلا تسمحوا لخصوصيَّاتكم الأخرى بأن تفرِّقكم، لأنَّ المسلمين يفترقون، فكلٌّ من عشيرة وعائلة، وكلٌّ من عرق، وكلٌّ من منطقة جغرافيَّة تختلف عن الأخرى...
وهذه الخصوصيَّات أدَّت في التَّاريخ في واقع المجتمع، وفي واقع المسلمين، إلى الحروب والمنازعات. ولذلك، فإنَّ الإسلامَ ألغى كلَّ العصبيَّاتِ التَّاريخيَّةِ الَّتي كانت تتحرَّك على أساس الخلافِ العائليِّ أو العرقيِّ أو الجغرافيِّ، وما إلى ذلك من شؤون الخلافات، ولم يرد لها أن تثارَ من جديد، ولم يُرِدْ للمسلمِ أن يفخرَ على مسلم.
رفضُ الإسلامِ نهجَ العصبيَّة
وقد ورد في أسبابِ نزولِ هذه الآية {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}، أنَّ المدينة كانت تحتوي عشيرتين كبيرتين، وهما الأوس والخزرج، وهاتان العشيرتان كانتا تعيشان في تاريخهما قبل الإسلام الحروب الطَّاحنة، وكان اليهود في المدينة يغذّون هذه الحروب، لأنَّهم يغذّون العصبيَّات، حتَّى إذا هدى الله العشيرتين إلى الإسلام، وجاء رسول الله (ص) والمؤمنون معه مهاجرين إليهم، آووهم ونصروهم وانفتحوا عليهم، وركَّز رسول الله (ص) مجتمع المدينة بالأخوَّة بين المهاجرين أنفسهم، وبين الأنصار أنفسهم، وبين المهاجرين والأنصار، بحيث تحوَّلوا إلى مجتمعٍ واحد، فليس هناك في الأوس من يثير عصبيَّات التَّاريخ الماضي ضدَّ الخزرج، وليس هناك في الخزرج من يثير عصبيَّات التَّاريخ الماضي ضدَّ الأوس، لأنهم التقوا على أساس الإسلام.
هذا الأمر أزعج اليهود الَّذين كانوا يقيمون في المدينة، وكانوا يأخذون قوَّتهم من خلافات أهل المدينة فيما بينهم، فأوعزوا إلى شابِّ من شبابهم، كما يقول محمَّد بن إسحاق صاحب السِّيرة النَّبويّة، أن اجلس في مجتمع الأوس والخزرج، وحاول أن تذكِّرهم بالأيَّام السَّابقة. وهكذا، ذهب هذا الشَّابُّ اليهوديّ، كما تقول الرِّواية، وبدأ يقرأ بعض الأشعار الَّتي نظمها شاعر الأوس عندما انتصروا على الخزرج، وقال لقد أبدع الشَّاعر فيما يقول، وقرأ الشِّعر، وردَّ عليه شخص من الخزرج، وقال إنَّ شاعرنا ردَّ على ذلك، وقرأ القصيدة، وهكذا انفتح التَّاريخ أمامهم من جديد، وبدأ كلّ واحد منهم يفخر على الآخر، كما كانوا يفعلون من قبل، وثارت العصبيَّات، حتَّى تنادوا: السِّلاح السِّلاح، وكادت الحرب تقع من جديد.
وذهب البعض إلى رسول الله (ص) وقال له أدرك المسلمين قبل أن تقع الواقعة فيما بينهم، وعندما جاء رسول الله (ص) قال لهم ما مضمونه: أكفر بعد إيمان؟ فعندما رأوا رسول الله، خجلوا وطرحوا سلاحهم، فنزلت هذه الآية {وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰاتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
التَّآلفُ بينَ قلوبِ المسلمين
فالله يحدِّثهم عن نعمة الإسلام، وأنَّ الإسلام لم تكن فائدته فقط في إنقاذكم في الآخرة، ولكن أيضاً في إنقاذكم في الدنيا، لأنَّه ألَّف بين قلوبكم. ولاحظوا التَّعبير القرآني الرائع، أنَّه لم يقل: ألَّف بينكم، بل قال: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}، فكأنَّ المسألة الَّتي يريدها الله سبحانه وتعالى في علاقة المسلم مع المسلم، أن ينفتح القلبُ على القلب، وأن يتآلف القلبُ مع القلب، بحيث تكون الأخوَّة أخوَّة القلوب لا أخوَّة الكلمات، أن تكون أخوَّةً تنطلق من أعماق مشاعر المسلم وأحاسيسه ونبضات قلبه.
وقد حدَّث الله نبيَّه (ص) في آيةٍ أخرى، أنَّ الله الَّذي يحول بين المرء وقلبه، والله الَّذي هو مقلِّب القلوب، هو الَّذي يؤلِّف القلوبَ بأسباب التَّأليف {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}[الأنفال: 63]، ألَّف بينهم من خلال نعمة الإيمان، ومن خلال لطفه الَّذي أفاض به عليهم في انفتاحهم على ما يريده الله ورسوله، في أن يتوحَّدوا على أساس الله، وعلى أساس علاقتهم بالله وبرسوله.
{وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً - قبل أن تدخلوا الإسلام، فكان بعضكم يقتل الآخر - فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا - و{عَلَىٰ شَفَا} يعني على الحرف.
وهناك تفسيران حول قوله: {عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ}، فبعض المفسِّرين يقول إنَّ هذه النَّار هي نار الآخرة، لأنَّ الإنسان الَّذي يبتعد عن الله ويكفر به، هو على حافة النَّار، ولا يكون بينه وبينها إلَّا بعض الشّروط ليسقط فيها. ولكنَّ هناك من يفسِّرها بالأعمّ من ذلك، بأنّها نار الحروب والأحقاد والبغضاء، والَّتي تجعل الإنسان عندما يسقط في داخلها، أو عندما يقف على مشارفها، كأنَّه وقف على النَّار. وعلى كلِّ حال، فالمسألة تشمل بحسب طبيعتها، بقطع النظر عن معنى الآية، كلتا الحالتين.
- كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰاتِهِۦ - فيما تأخذون به - لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
عصبيَّةُ التَّفاخر
هذه الآية في طبيعة القصَّة كما يرويها محمَّد بن إسحاق. وفي بعض الروايات الواردة عندنا، أنَّ المسألة كانت مع المسلمين من الأوس والخزرج، ولكن على أساس المفاخرة في شهدائهم، فالأوس عندهم شهداء، والخزرج عندهم شهداء، فكانوا يجلسون ويتفاخر كلٌّ منهم بشهدائهم، فكلٌّ من الفريقين يقول: منَّا فلانٌ وفلانٌ وفلان، لتصبحَ المسألةُ مسألةَ إثارةٍ للعصبيَّة، فكلّ طرف يقول منَّا فلان الشَّهيد، ومنَّا فلان المهاجر، ومنَّا فلان كذا، من أجل التَّفاخر. ومرّةً يذكر الإنسان ذلك من أجل أن يشكر الله عليه، ومرَّةً يقول ذلك من أجل أن يتغلَّب على الآخر ويتكبَّر عليه. فعندما تحدَّثوا بذلك، امتدَّ بهم النِّزاع والخلاف، وهم في غفلة عن إيمانهم، وثارت عصبيَّاتهم، وتنادوا السِّلاح السِّلاح، وجاء رسول الله (ص) ونزلت الآية.
وعلى أيِّ حال، سواء كانت الرّواية الأولى هي المناسبة الَّتي نزلت الآية فيها، أو الرّواية الثَّانية، فما نريد أن نعيشه هو هذا الجوّ الَّذي تمثِّله هذه الآية في حياتنا.
{وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ} الآن في واقعنا المعاصر، لأنَّ واقع الأوس والخزرج واقع مضى، ومضوا جميعاً إلى الله، و "إِنَّ الْقُرْآنَ - كما يقول الإمام محمَّد الباقر (ع) - حَيٌّ لَمْ يَمُتْ – فالقرآن ليس كتاب تاريخ يتحدَّث عن الماضي - وَإِنَّهُ يَجْرِي كَمَا يَجْرِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَكَمَا يَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَيَجْرِي عَلَى آخِرِنَا كَمَا يَجْرِي عَلَى أَوَّلِنَا"، يعني عندما ينزل القرآن في مناسبة معيَّنة، فإنَّ هذه المناسبة تكون نقطة الانطلاق، ولا يكون معنى الآية محصوراً بهذه المناسبة الخاصَّة. لذلك، فإنَّ القرآن يتحرَّك بحركة الزَّمن، فيكون له إيحاء في كلِّ زمن، وتكون له حركة في واقع النَّاس، وفي واقع المفاهيم، في كلِّ زمن من الأزمنة.
التوحُّدُ على كتابِ الله
والآية موجَّهة إلى المؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}. والمراد بكلمة {الَّذِينَ آمَنُوا}، كما يقول السيِّد أبو القاسم الخوئي (ره) في كتابه الفقهيّ، أنَّ كلمة "الذين آمنوا" إذا وردت في القرآن، فالمقصود بها المسلمون الَّذين دخل الإسلام في قلوبهم واعتقدوه، وليس المراد به مذهبيَّة خاصَّة، خلافاً للمصطلح الَّذي اتَّخذه أهل البيت (ع) في مجال آخر.
وعلى هذا الأساس، يخاطب القرآن المسلمين الَّذين يعيشون في قلوبهم الاقتناع بالإسلام والإيمان به؛ إنَّه يدعوهم إلى كتاب الله، كما دعاهم رسول الله (ص) عندما قال: "إنِّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكْتُم به لن تضلُّوا بعدي، أحدُهُما أعظمُ منَ الآخرِ: كتابُ اللهِ، حبلٌ ممدودٌ من السَّماءِ إلى الأرضِ، وعترتي أهلُ بيتي"، فلا بدَّ للمسلمين أن يرجعوا إلى كتاب الله في كلِّ ما يختلفون فيه. وقد ورد في بعض الآيات، أنَّ المسلمين إذا تنازعوا في شيء، فإنَّ عليهم أن يردّوه إلى الله وإلى الرَّسول {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النِّساء: 59]، والردُّ إلى الرَّسول هو ردٌّ إلى كتاب الله، لأنَّ الله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر: 7].
لذلك، لا بدَّ لنا أن نجتمع على كتاب الله، بأن نستنطقه، ونستنطق في خطِّه سنَّةَ رسول الله (ص)، إذا اختلفنا في مسألة الإمامة والخلافة، وإذا اختلفنا في مفهوم إسلاميّ، أو في حكم شرعيّ، أن لا تتحوَّل الخلافات فيما بيننا إلى عصبيَّات ذاتيَّة، بحيث تتحوَّل المذهبيَّة إلى حالة طائفيَّة كما لو كانت شيئاً خاصّاً ذاتيّاً غير الإسلام، بحيث يستغرق الإنسان في مذهبيَّته من دون وعي الخطِّ المذهبيّ، بل يعتبر جماعته عشيرةً من العشائر، بقطع النَّظر عن كلِّ المفاهيم الَّتي يقتضيها هذا المذهب أو ذاك المذهب. وبذلك يبدأ تكفير المسلمين بعضهم لبعض، وحرب المسلمين بعضهم ضدَّ بعض، مما يمكِّن الكافرين منهم.
الدَّعوةُ إلى نهجِ الحوار
إنَّ المشكلة الَّتي يعيشها المسلمون - وكلٌّ يقول قال الله وقال رسول الله - هي أنَّهم لا يحاولون أن يلتقوا في لقاءات إسلاميَّة تنطلق من الحوار المباشر الَّذي يخاطب فيه بعضهم بعضاً، ويحاور فيه بعضهم بعضاً، ويعمل كلّ واحد منهم على أن يقدِّم حجَّته لتكون المسألة للأقوى، بل المسألة هي أنَّنا نتراشق بالاتهامات وبالتَّكفير، وما إلى ذلك، وهذا ما جعل واقع المسلمين التَّاريخي وواقعهم المعاصر واقع الشَّرذمة، وواقع التمزّق، وواقع الوصول إلى مواقع الهلاك، عندما تصادَر مجتمعاتهم، وتصادَر أرضهم، ويصادَر اقتصادهم، وما إلى ذلك.
إنَّ الله يريدنا إذا كنَّا جادّين في التزامنا بكتاب الله وبرسوله، أن نعيش بعقلٍ مفتوحٍ واعٍ، لنبحث ذلك كما لو كنَّا معاً نريد أن نصل إلى الحقيقة، يعني هناك فرق بين أن تحاور الآخر حتَّى تسجِّل عليه نقطة، أو حتّى تثبت ما عندك حتَّى لو كان ما عندك خطأ، أو أن يحاورك الآخر بهذه الرّوحيَّة، وبين أن تتحاورا لتصلا إلى الحقيقة! إنَّ الحوار الطَّبيعيَّ والموضوعيَّ، والحوار الَّذي يمكن أن يؤدِّي إلى نتيجة، هو أن يقف المتحاوران، حتَّى لو كان كلّ منهما يعتقد بما يلتزمه مائة في المائة، لكن في حالة الحوار، أن يكون كلّ منهما في موقف الباحث عن الحقيقة، بحيث يتعاونان معاً للوصول إليها.
وهذا ما علَّمه الله لرسوله في كتابه عندما أراد له أن يحاور الكفَّار، فكان يقول لهم: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[سبأ: 24]. فالنَّبيُّ (ص) في هذه الآية، يظهر - نعوذ بالله - وكأنَّه شاكٌّ في المسألة، لا يعرف إذا كان على هدى أو على ضلال، أو إذا كان الآخرون على هدى أو ضلال. فهل القضيَّة كذلك؟ والرَّسول (ص) الَّذي {جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}[الزّمر: 33]، والدَّاعية إلى الله، والدَّاعية إلى الحقِّ، والَّذي بعثه الله {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[الجمعة: 2]، لا يمكن أن يكون شاكّاً ولو بنسبة الواحد إلى المليون. لكنَّ الله أراد للحوار الإسلاميّ أن يبتعد عن كلِّ الانفعالات الذَّاتيَّة عندما تخاطب الفريق الثَّاني، بحيث تخاطبه كما لو كنت شاكّاً في المسألة وتبحث عن الحقيقة، وأنت لست بشاكّ، لتجرَّه إلى أن يتقمَّص شخصيَّة الشَّاكِّ ليبحث عن الحقيقة، حتَّى يكون الحوار من الطَّرفين في أجواء التَّعاون على الوصول إلى الحقيقة، وإلَّا كانت المسألة مثل اللّعبة الرّياضيَّة، فهذا يريد تسجيل هدف على ذاك، وذاك يريد تسجيل هدف على هذا.
في الحوار الفكريّ، لا يوجد تسجيل هدفٍ من طرفٍ على آخر، بل الهدف هو الوصول إلى الحقّ والحقيقة، فإذا كنْتَ مقتنعاً بالحقّ، فينبغي أن تلجأَ إلى كلِّ الوسائل الفكريَّة والشعوريَّة والبيانيَّة الَّتي تفتح لك عقل الإنسان الآخر وقلبه، لأنَّك إذا واجهت الآخر بالتعصّب والسُّباب والشَّتائم والتَّكفير، فإنَّك تغلق ما كان مفتوحاً من قلبه، ونحن نريد أن نفتح ما كان مغلقاً من قلبه، نريد أن نفتح قلوب النَّاس على الحقّ، بالكلمة الطيِّبة، بالابتسامة الطيِّبة، بالأسلوب الطيِّب.
اتّباعُ الأسلوبِ الأحسن
ومشكلتنا، أيُّها الأحبَّة، أنَّنا نصلِّي جيِّداً، ونصوم جيِّداً، ولكنَّنا لا نتكلَّم جيِّداً، ولا نمارس أسلوبنا جيِّداً، فقط نقرأ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}[البقرة: 43]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}[البقرة: 183]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}[آل عمران: 97]، وهذه عبادات ضروريَّة وأساسيَّة، لكن عندنا أيضاً في القرآن {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ - فالله يطلب من النَّبيّ (ص) أن يقول لعباده أن يختاروا في حديث بعضهم مع بعض أو مع الآخرين، الكلمة الأحسن. لماذا؟ لأنَّ الشَّيطان يدخل في داخل الكلمات - إنَّ ٱلشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ - ألا نقول في المثل الشَّعبي – والأمثال تمثِّل تجارب تاريخيَّة وواقعيّة – "كلمة تحنِّن، وكلمة تجنِّن"؟! ألا تجرّبونها عندما يكون هناك خلاف بين الزَّوجة وزوجها؟ فكلمة قد تجنِّن وتخرب البيت، وكلمة قد تحنِّن وتحافظ على البيت. فالله يقول لك اختر الكلمة الّتي تحنِّن، والّتي تقرِّب ولا تبعِّد، والَّتي تفتح قلب الإنسان لا الَّتي تغلقه - إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}[الإسراء: 53].
وبعد ذلك، عندما تحدث مشكلة بينك وبين أحد آخر، سواء كانت مشكلة ثقافيَّة أو سياسيَّة أو عقيديَّة، أو أيّ مشكلة أخرى، فالله يقول لك: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ - بالأسلوب الأحسن الطيِّب اللائق. لماذا؟ - فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصِّلت: 34].
ليكن أسلوبك في مواجهة الإنسان الآخر الَّذي تختلف معه، الأسلوبَ الَّذي يحوِّل عداوتَهُ إلى صداقة. ولكنَّ أسلوبنا، أيُّها الأحبَّة، هو الأسلوب الَّذي يحوِّل أصدقاءنا إلى أعداء، والله سبحانه يقول لك، عندما تريد أن تدعو النَّاس إلى دينك، وإلى طريقتك ورأيك: {ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ}[النَّحل: 125].
كم من الفرق بيننا وبين اليهود والنَّصارى؟! {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}[التّوبة: 30]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}[المائدة: 73]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}[المائدة: 72]، ومع ذلك، أوصانا الله من خلال نبيِّه، أن لا نجادلهم إلّا بالّتي هي أحسن {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ - مثل اليهود الَّذين يحاربوننا ويظلموننا، والنَّصارى الَّذين يحاربوننا ويظلموننا أيضاً. فالظَّالم له حساب آخر، أمَّا الإنسان الَّذي يختلف معك بالفكر، فعليك أن تتكلَّم معه بالكلام الطيّب. ولكن كيف نحاور اليهود والنَّصارى ونجادلهم؟ - وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا – نؤمن بالتَّوراة والإنجيل والقرآن - وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46].
نحن دائماً عندما نختلف حتَّى في القضايا الصَّغيرة، ما الأسلوب الشَّعبي عندنا في الجدال؟ دائماً نستخدم الأسلوب السَّلبيّ مع الآخر، ونركِّز على ما يفرّق لا على ما يجمع، فنقول له: أنت شيء ونحن شيء آخر، أنت في طريق ونحن في طريق آخر، حتَّى فيما بيننا نحن المؤمنين، حتَّى أتباع أهل البيت (ع). الله يأمر النَّبيّ (ص) ويأمرنا أيضاً مع النَّبيّ (ص)، أن نقول لمن نختلف معهم، تعالوا نلتق على ما اجتمعنا عليه، ونتفاهم على ما نتفرَّق حوله {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، وفي الآية الأخرى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ - هناك أرض مشتركة بيننا وبينكم، فلنقف عليها معاً، ثمَّ بعد ذلك، عندما نصل إلى مفارق الطّرق، فإمَّا أن نبقى مفترقين، وإمَّا أن يقنع الواحد منَّا الآخر - أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}[آل عمران: 64].
الالتزامُ بمنطقِ القرآن
هذا هو المنطق الإسلاميّ والمنطق القرآنيّ {وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا}، والاعتصام بحبل الله هو أن نلتزم بالقرآن في أسلوب الدَّعوة، وفي أسلوب الكلام، وفي أسلوب حلِّ المشاكل، وفي أسلوب الجدال، تماماً كما نلتزم بالقرآن في الصَّلاة والصِّيام والحجّ وغير ذلك.
أمَّا الإنسان الَّذي يقول الكلمة الأسوأ، ويمارس الأسلوب الأسوأ، ويجادل بالَّتي هي أسوأ، فهو لم يعتصم بحبل الله. وهذه نقطة يجب أن نفهمها، أنَّ الأخلاق القرآنيَّة، أيُّها الأحبَّة، هي جزء من الإيمان، وجزء من التمسّك بحبل الله، لأنَّ القرآن لا بدَّ أن نأخذه كلَّه، لا يجوز أن نقول كما كانوا يقولون {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}[النِّساء: 150]، فما يعجبنا نأخذ به، وما لا يعجبنا نتركه، أو نفسِّره تفسيراً آخر.. إنَّ علينا أن ننفتح على القرآن كلّه. وقد كان أهل البيت (ع) الَّذين هم مظهرٌ لحبل الله، في خطِّ جدِّهم رسول الله (ص) الَّذي هو خطِّ الله وخطّ كتابه، كانوا يتحركون بهذا الأسلوب؛ أسلوب الحوار، وأسلوب الّتي هي أحسن.
لقد دخل عليّ (ع) في صراعٍ مريرٍ مع أصحابه الَّذين تحوَّلوا إلى الخوارج. ماذا قال الخوارج عندما دخل الإمام في مسألة التَّحكيم في حربه في صفّين؟ قالوا له: لقد كفرت يا عليّ، لقد أشركت عندما حكَّمت الرِّجال في دين الله، فماذا كان موقف الإمام (ع)؟ هل حاربهم؟ هل قاتلهم؟ هل سبَّهم؟ كلّ ذلك لم يكن، بل أرسل إليهم عبد الله بن عبَّاس ليحاورهم وليقنعهم، وقد ورد في بعض ما ذكره الشَّريف الرّضيّ في "نهج البلاغة"، أنَّه كان يحاورهم بنفسه، ويردّ عليهم بالمنطق والحجَّة، وقد قال (ع) بعد ذلك: "لَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي؛ فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ، كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ". يقول (ع) إنَّ هؤلاء يريدون الحقَّ، ولكنّهم أخطأوا الطَّريق إليه. وعندما حاربهم الإمام عليّ (ع)، إنما حاربهم لأنَّهم أخلوا بالنظام، لأنَّهم قتلوا خباب وزوجته، فعندما قطعوا طريق المسلمين، حاربهم الإمام، لا من جهة تفكيرهم لأجل أن يضغط عليهم في تفكيرهم، ومن حقِّه ذلك، ولكن لأنَّهم أخلوا بالنظام، وهو المسؤول عن حفظ نظام المسلمين.
هكذا كان أسلوب أهل البيت (ع)، ومنهم الإمام الحسين (ع) الَّذي وقف في كربلاء أمام كلِّ تلك الجموع الَّتي جاءت لقتاله، لا من موقع ضعف، ولكن وقف في موقع الحوار، من أجل أن يعطيهم الحجَّة، ومن أجل أن يعطيهم الموعظة الحسنة، ومن أجل أن يجتذبهم ليحاوروه فيما هم فيه وفيما هو فيه.
المجالسُ منطلقٌ للوعي
لذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما نتحرَّك مع أهل البيت (ع) في مجالسهم هذه الَّتي يحبّها الله ورسوله وأهل بيته، فإنّنا نريد لهذه المجالس أن تكون مفتاح وعي للعقيدة، ووعي للالتزام بالشريعة، ووعي للواقع، حتَّى ننطلق فيما انطلقوا فيه، ونسير على ما ساروا عليه.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ قصَّة ذاك اليهوديّ الَّذي أثار مسألة الخلاف من جديد بين المسلمين، والَّتي يقال إنَّ الآية نزلت لتعالجها، لا بدَّ أن تعطيكم وعياً، لأنَّ السَّاحة الإسلاميَّة هي السَّاحة الوحيدة الَّتي تقف في وجه التحدّي الإسرائيلي والتحدّي الأمريكي، والَّتي تقف بكلِّ قوَّة وصلابة، وهي الَّتي حوَّلت أرض الجنوب والبقاع الغربي إلى كربلاء واعية قويَّة منفتحة صلبة، ولأنَّها كذلك، فإنَّهم يحاولون أن يربكوها، وأن يثيروا في داخلها الكثير من الخلافات الجانبيَّة، من أجل أن يقف المؤمن ضدَّ المؤمن، ومن أجل أن يحقد المؤمن على المؤمن.
حذارِ من كلِّ الخطط الَّتي قد ينطلق فيها المؤمنون عندما يتباغضون، أو عندما يختلفون، أو عندما يتنازعون، أو عندما يسبُّ بعضهم بعضاً، قد ينطلقون بحسن نيَّة، لأنَّ كلَّ واحد يعتقد أنَّه يدافع عن الإسلام وعن أهل البيت (ع)، ولكن لو تمعّنوا بهذه الأمور، لرأوا أنَّ الآخرين، ومنهم المخابرات الإسرائيليَّة والمخابرات الأمريكيَّة، يحاولون أن يدرسوا كلَّ نقاط الضّعف فينا.
أنا لا أقول إنَّ الَّذين يأخذون بهذا هم مخابرات، كما حاول بعضهم أن يقول إنَّ السيِّد يتَّهم النَّاس بأنَّهم مخابرات، أنا لم أقل ذلك، ولا أجيز لنفسي أن أقول ذلك، ولكنَّ المسألة أنَّنا قد نقع ضحيَّة خطط المخابرات، عندما يستغلّون بعض نقاط ضعفنا. هناك في الجامعات الأمريكيَّة والجامعة العبريَّة وكثير من الجامعات، أجهزة تدرس كلَّ نقاط الخلاف بين المسلمين، سواء في الجانب المذهبيّ، أو في الجانب الاجتماعيّ، أو في الجوانب الحزبيَّة والسياسيَّة، حتَّى تركِّز خططها من أجل أن تشغل المسلمين بعضهم ببعض، لينشغلوا عن قضيَّتهم الأساسيَّة.
لذلك، نقول، أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن ننتبه إلى طبيعة اللّعبة، إنَّ السَّاحة لا تتحمَّل الكثير من اللّغو الَّذي يدور، ولا تتحمَّل الكثير من أساليب العصبيَّة وأساليب البغضاء والحقد، "إِذَا قَالَ المُؤْمِنُ لِأَخِيهِ أَنْتَ عَدُوِّي، كَفَرَ أَحَدُهُما"، هذا كلام الإمام الصَّادق (ع).
التَّعاملُ بحكمةٍ وعقلانيَّة
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لنكن الواعين، قد تكون هناك في المجتمع وجهات نظر، ولكن علينا أن ندرسها بالحكمة والموعظة الحسنة، أن لا تكون القضايا مصدراً لأن نأخذ بما أخذ به النَّاس الآخرون {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}[البقرة: 74]. علينا أن تبقى قلوبنا مفتوحةً للمؤمنين حتَّى لو اختلفنا معهم في وجهات النَّظر، وأن نتعامل مع الاختلاف بكلِّ حكمة وعقلانيَّة، وأن نردَّ الأمر إلى الله وإلى رسوله.
قيمة عاشوراء، هي قيمة الوعي المنفتح على الإسلام كلِّه، وعلى خطِّ أهل البيت كلِّه، وعلى الواقع كلِّه. لذلك، لا تنشغلوا بحساسيَّاتكم، وليكن كلّ شغلكم بإسلامكم وبقضاياكم الحيويَّة في مصيركم في الدنيا والآخرة.
والحمد لله ربِّ العالمين.
* محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 10/05/1997م.
{وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].
هذه هي النقطة الثانية الَّتي أراد الله للمسلمين أن يعيشوها، وكانت النقطة الأولى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102].
أمَّا هذه النقطة، فإنَّها تؤكِّد الوحدة على أساس الاعتصام بحبل الله، لأنَّ الوحدة لا تُقبَل كيفما كان، بل لا بدَّ من أن تكون منطلقةً من أساسٍ يتَّصل بالإنسان في كلِّ مصيره في الدنيا وفي الآخرة، ليلتقي النَّاس على ما يلتزمونه في عقيدتهم وفي حياتهم. هذه هي الوحدة المطلوبة في الخطِّ الإسلاميّ.
التّمسّكُ بحبلِ الله
{وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}. ومعنى الاعتصام هو التمسّك بحبل الله، فعندما يعيش المجتمع الاهتزاز وحالة الضّياع، فإنَّ علينا أن نتمسَّك بحبل الله، كما يتمسَّك الإنسان بالحبل عندما يكون في خطر معيَّن كي لا يقع، وكلَّما كان الحبل متيناً أكثر، كانت فرص النَّجاة أكثر. وأيّ حبلٍ أقوى من حبلِ الله سبحانه وتعالى؟! وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص) أنَّ حبل الله كتابُهُ، وهو ما ورد في حديث الثّقلين: "إنِّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكْتُم به لن تضلُّوا بعدي، أحدُهُما أعظمُ منَ الآخرِ: كتابُ اللهِ، حبلٌ ممدودٌ من السَّماءِ إلى الأرضِ، وعترتي أهلُ بيتي، ولن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوضَ".
وقد ورد في بعض الأحاديث أنَّ حبل الله هو رسول الله، لأنَّ النَّاس إذا تمسَّكوا به في خطِّ الرِّسالة والقيادة، نجوا وتخلَّصوا من الخطر.
وهناك حديثٌ أنَّ حبلَ اللهِ هم أهل البيت (ع)، ويقولُ صاحبُ "مجمع البيان"، إنَّ كلَّ هذه الرِّوايات يلتقي بعضها مع بعض، فالكتابُ هو الخطُّ الَّذي يبيِّن الله فيه أسس العقيدة ومفاهيم الحياة، وحلاله وحرامه، والنَّبيّ وأهل بيته هم حبل الله في خطِّ القيادة، لأنَّهم هم الَّذين يبيِّنون للنَّاس ما في كتاب الله، ويشرحون ويفسِّرون ويعلِّمون، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[الجمعة: 2]. لذلك، فإنَّ قيادة النَّبيّ (ص)، لأنَّه المعلِّم والمرشد والموجِّه والمزكِّي والمطهِّر، هو حبل الله في الجانب العمليّ من ذلك.
وعلى أيّ حال، إنَّ الله يقول للمسلمين، ليكن اعتصامكم جميعاً بحبلِ الله، ولتكن وحدتكم على أساس التزامكم بحبل الله، {وَلَا تَفَرَّقُواْ}، فلا تسمحوا لخصوصيَّاتكم الأخرى بأن تفرِّقكم، لأنَّ المسلمين يفترقون، فكلٌّ من عشيرة وعائلة، وكلٌّ من عرق، وكلٌّ من منطقة جغرافيَّة تختلف عن الأخرى...
وهذه الخصوصيَّات أدَّت في التَّاريخ في واقع المجتمع، وفي واقع المسلمين، إلى الحروب والمنازعات. ولذلك، فإنَّ الإسلامَ ألغى كلَّ العصبيَّاتِ التَّاريخيَّةِ الَّتي كانت تتحرَّك على أساس الخلافِ العائليِّ أو العرقيِّ أو الجغرافيِّ، وما إلى ذلك من شؤون الخلافات، ولم يرد لها أن تثارَ من جديد، ولم يُرِدْ للمسلمِ أن يفخرَ على مسلم.
رفضُ الإسلامِ نهجَ العصبيَّة
وقد ورد في أسبابِ نزولِ هذه الآية {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}، أنَّ المدينة كانت تحتوي عشيرتين كبيرتين، وهما الأوس والخزرج، وهاتان العشيرتان كانتا تعيشان في تاريخهما قبل الإسلام الحروب الطَّاحنة، وكان اليهود في المدينة يغذّون هذه الحروب، لأنَّهم يغذّون العصبيَّات، حتَّى إذا هدى الله العشيرتين إلى الإسلام، وجاء رسول الله (ص) والمؤمنون معه مهاجرين إليهم، آووهم ونصروهم وانفتحوا عليهم، وركَّز رسول الله (ص) مجتمع المدينة بالأخوَّة بين المهاجرين أنفسهم، وبين الأنصار أنفسهم، وبين المهاجرين والأنصار، بحيث تحوَّلوا إلى مجتمعٍ واحد، فليس هناك في الأوس من يثير عصبيَّات التَّاريخ الماضي ضدَّ الخزرج، وليس هناك في الخزرج من يثير عصبيَّات التَّاريخ الماضي ضدَّ الأوس، لأنهم التقوا على أساس الإسلام.
هذا الأمر أزعج اليهود الَّذين كانوا يقيمون في المدينة، وكانوا يأخذون قوَّتهم من خلافات أهل المدينة فيما بينهم، فأوعزوا إلى شابِّ من شبابهم، كما يقول محمَّد بن إسحاق صاحب السِّيرة النَّبويّة، أن اجلس في مجتمع الأوس والخزرج، وحاول أن تذكِّرهم بالأيَّام السَّابقة. وهكذا، ذهب هذا الشَّابُّ اليهوديّ، كما تقول الرِّواية، وبدأ يقرأ بعض الأشعار الَّتي نظمها شاعر الأوس عندما انتصروا على الخزرج، وقال لقد أبدع الشَّاعر فيما يقول، وقرأ الشِّعر، وردَّ عليه شخص من الخزرج، وقال إنَّ شاعرنا ردَّ على ذلك، وقرأ القصيدة، وهكذا انفتح التَّاريخ أمامهم من جديد، وبدأ كلّ واحد منهم يفخر على الآخر، كما كانوا يفعلون من قبل، وثارت العصبيَّات، حتَّى تنادوا: السِّلاح السِّلاح، وكادت الحرب تقع من جديد.
وذهب البعض إلى رسول الله (ص) وقال له أدرك المسلمين قبل أن تقع الواقعة فيما بينهم، وعندما جاء رسول الله (ص) قال لهم ما مضمونه: أكفر بعد إيمان؟ فعندما رأوا رسول الله، خجلوا وطرحوا سلاحهم، فنزلت هذه الآية {وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰاتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
التَّآلفُ بينَ قلوبِ المسلمين
فالله يحدِّثهم عن نعمة الإسلام، وأنَّ الإسلام لم تكن فائدته فقط في إنقاذكم في الآخرة، ولكن أيضاً في إنقاذكم في الدنيا، لأنَّه ألَّف بين قلوبكم. ولاحظوا التَّعبير القرآني الرائع، أنَّه لم يقل: ألَّف بينكم، بل قال: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}، فكأنَّ المسألة الَّتي يريدها الله سبحانه وتعالى في علاقة المسلم مع المسلم، أن ينفتح القلبُ على القلب، وأن يتآلف القلبُ مع القلب، بحيث تكون الأخوَّة أخوَّة القلوب لا أخوَّة الكلمات، أن تكون أخوَّةً تنطلق من أعماق مشاعر المسلم وأحاسيسه ونبضات قلبه.
وقد حدَّث الله نبيَّه (ص) في آيةٍ أخرى، أنَّ الله الَّذي يحول بين المرء وقلبه، والله الَّذي هو مقلِّب القلوب، هو الَّذي يؤلِّف القلوبَ بأسباب التَّأليف {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}[الأنفال: 63]، ألَّف بينهم من خلال نعمة الإيمان، ومن خلال لطفه الَّذي أفاض به عليهم في انفتاحهم على ما يريده الله ورسوله، في أن يتوحَّدوا على أساس الله، وعلى أساس علاقتهم بالله وبرسوله.
{وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً - قبل أن تدخلوا الإسلام، فكان بعضكم يقتل الآخر - فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا - و{عَلَىٰ شَفَا} يعني على الحرف.
وهناك تفسيران حول قوله: {عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ}، فبعض المفسِّرين يقول إنَّ هذه النَّار هي نار الآخرة، لأنَّ الإنسان الَّذي يبتعد عن الله ويكفر به، هو على حافة النَّار، ولا يكون بينه وبينها إلَّا بعض الشّروط ليسقط فيها. ولكنَّ هناك من يفسِّرها بالأعمّ من ذلك، بأنّها نار الحروب والأحقاد والبغضاء، والَّتي تجعل الإنسان عندما يسقط في داخلها، أو عندما يقف على مشارفها، كأنَّه وقف على النَّار. وعلى كلِّ حال، فالمسألة تشمل بحسب طبيعتها، بقطع النظر عن معنى الآية، كلتا الحالتين.
- كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰاتِهِۦ - فيما تأخذون به - لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
عصبيَّةُ التَّفاخر
هذه الآية في طبيعة القصَّة كما يرويها محمَّد بن إسحاق. وفي بعض الروايات الواردة عندنا، أنَّ المسألة كانت مع المسلمين من الأوس والخزرج، ولكن على أساس المفاخرة في شهدائهم، فالأوس عندهم شهداء، والخزرج عندهم شهداء، فكانوا يجلسون ويتفاخر كلٌّ منهم بشهدائهم، فكلٌّ من الفريقين يقول: منَّا فلانٌ وفلانٌ وفلان، لتصبحَ المسألةُ مسألةَ إثارةٍ للعصبيَّة، فكلّ طرف يقول منَّا فلان الشَّهيد، ومنَّا فلان المهاجر، ومنَّا فلان كذا، من أجل التَّفاخر. ومرّةً يذكر الإنسان ذلك من أجل أن يشكر الله عليه، ومرَّةً يقول ذلك من أجل أن يتغلَّب على الآخر ويتكبَّر عليه. فعندما تحدَّثوا بذلك، امتدَّ بهم النِّزاع والخلاف، وهم في غفلة عن إيمانهم، وثارت عصبيَّاتهم، وتنادوا السِّلاح السِّلاح، وجاء رسول الله (ص) ونزلت الآية.
وعلى أيِّ حال، سواء كانت الرّواية الأولى هي المناسبة الَّتي نزلت الآية فيها، أو الرّواية الثَّانية، فما نريد أن نعيشه هو هذا الجوّ الَّذي تمثِّله هذه الآية في حياتنا.
{وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ} الآن في واقعنا المعاصر، لأنَّ واقع الأوس والخزرج واقع مضى، ومضوا جميعاً إلى الله، و "إِنَّ الْقُرْآنَ - كما يقول الإمام محمَّد الباقر (ع) - حَيٌّ لَمْ يَمُتْ – فالقرآن ليس كتاب تاريخ يتحدَّث عن الماضي - وَإِنَّهُ يَجْرِي كَمَا يَجْرِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَكَمَا يَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَيَجْرِي عَلَى آخِرِنَا كَمَا يَجْرِي عَلَى أَوَّلِنَا"، يعني عندما ينزل القرآن في مناسبة معيَّنة، فإنَّ هذه المناسبة تكون نقطة الانطلاق، ولا يكون معنى الآية محصوراً بهذه المناسبة الخاصَّة. لذلك، فإنَّ القرآن يتحرَّك بحركة الزَّمن، فيكون له إيحاء في كلِّ زمن، وتكون له حركة في واقع النَّاس، وفي واقع المفاهيم، في كلِّ زمن من الأزمنة.
التوحُّدُ على كتابِ الله
والآية موجَّهة إلى المؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}. والمراد بكلمة {الَّذِينَ آمَنُوا}، كما يقول السيِّد أبو القاسم الخوئي (ره) في كتابه الفقهيّ، أنَّ كلمة "الذين آمنوا" إذا وردت في القرآن، فالمقصود بها المسلمون الَّذين دخل الإسلام في قلوبهم واعتقدوه، وليس المراد به مذهبيَّة خاصَّة، خلافاً للمصطلح الَّذي اتَّخذه أهل البيت (ع) في مجال آخر.
وعلى هذا الأساس، يخاطب القرآن المسلمين الَّذين يعيشون في قلوبهم الاقتناع بالإسلام والإيمان به؛ إنَّه يدعوهم إلى كتاب الله، كما دعاهم رسول الله (ص) عندما قال: "إنِّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكْتُم به لن تضلُّوا بعدي، أحدُهُما أعظمُ منَ الآخرِ: كتابُ اللهِ، حبلٌ ممدودٌ من السَّماءِ إلى الأرضِ، وعترتي أهلُ بيتي"، فلا بدَّ للمسلمين أن يرجعوا إلى كتاب الله في كلِّ ما يختلفون فيه. وقد ورد في بعض الآيات، أنَّ المسلمين إذا تنازعوا في شيء، فإنَّ عليهم أن يردّوه إلى الله وإلى الرَّسول {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النِّساء: 59]، والردُّ إلى الرَّسول هو ردٌّ إلى كتاب الله، لأنَّ الله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر: 7].
لذلك، لا بدَّ لنا أن نجتمع على كتاب الله، بأن نستنطقه، ونستنطق في خطِّه سنَّةَ رسول الله (ص)، إذا اختلفنا في مسألة الإمامة والخلافة، وإذا اختلفنا في مفهوم إسلاميّ، أو في حكم شرعيّ، أن لا تتحوَّل الخلافات فيما بيننا إلى عصبيَّات ذاتيَّة، بحيث تتحوَّل المذهبيَّة إلى حالة طائفيَّة كما لو كانت شيئاً خاصّاً ذاتيّاً غير الإسلام، بحيث يستغرق الإنسان في مذهبيَّته من دون وعي الخطِّ المذهبيّ، بل يعتبر جماعته عشيرةً من العشائر، بقطع النَّظر عن كلِّ المفاهيم الَّتي يقتضيها هذا المذهب أو ذاك المذهب. وبذلك يبدأ تكفير المسلمين بعضهم لبعض، وحرب المسلمين بعضهم ضدَّ بعض، مما يمكِّن الكافرين منهم.
الدَّعوةُ إلى نهجِ الحوار
إنَّ المشكلة الَّتي يعيشها المسلمون - وكلٌّ يقول قال الله وقال رسول الله - هي أنَّهم لا يحاولون أن يلتقوا في لقاءات إسلاميَّة تنطلق من الحوار المباشر الَّذي يخاطب فيه بعضهم بعضاً، ويحاور فيه بعضهم بعضاً، ويعمل كلّ واحد منهم على أن يقدِّم حجَّته لتكون المسألة للأقوى، بل المسألة هي أنَّنا نتراشق بالاتهامات وبالتَّكفير، وما إلى ذلك، وهذا ما جعل واقع المسلمين التَّاريخي وواقعهم المعاصر واقع الشَّرذمة، وواقع التمزّق، وواقع الوصول إلى مواقع الهلاك، عندما تصادَر مجتمعاتهم، وتصادَر أرضهم، ويصادَر اقتصادهم، وما إلى ذلك.
إنَّ الله يريدنا إذا كنَّا جادّين في التزامنا بكتاب الله وبرسوله، أن نعيش بعقلٍ مفتوحٍ واعٍ، لنبحث ذلك كما لو كنَّا معاً نريد أن نصل إلى الحقيقة، يعني هناك فرق بين أن تحاور الآخر حتَّى تسجِّل عليه نقطة، أو حتّى تثبت ما عندك حتَّى لو كان ما عندك خطأ، أو أن يحاورك الآخر بهذه الرّوحيَّة، وبين أن تتحاورا لتصلا إلى الحقيقة! إنَّ الحوار الطَّبيعيَّ والموضوعيَّ، والحوار الَّذي يمكن أن يؤدِّي إلى نتيجة، هو أن يقف المتحاوران، حتَّى لو كان كلّ منهما يعتقد بما يلتزمه مائة في المائة، لكن في حالة الحوار، أن يكون كلّ منهما في موقف الباحث عن الحقيقة، بحيث يتعاونان معاً للوصول إليها.
وهذا ما علَّمه الله لرسوله في كتابه عندما أراد له أن يحاور الكفَّار، فكان يقول لهم: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[سبأ: 24]. فالنَّبيُّ (ص) في هذه الآية، يظهر - نعوذ بالله - وكأنَّه شاكٌّ في المسألة، لا يعرف إذا كان على هدى أو على ضلال، أو إذا كان الآخرون على هدى أو ضلال. فهل القضيَّة كذلك؟ والرَّسول (ص) الَّذي {جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}[الزّمر: 33]، والدَّاعية إلى الله، والدَّاعية إلى الحقِّ، والَّذي بعثه الله {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[الجمعة: 2]، لا يمكن أن يكون شاكّاً ولو بنسبة الواحد إلى المليون. لكنَّ الله أراد للحوار الإسلاميّ أن يبتعد عن كلِّ الانفعالات الذَّاتيَّة عندما تخاطب الفريق الثَّاني، بحيث تخاطبه كما لو كنت شاكّاً في المسألة وتبحث عن الحقيقة، وأنت لست بشاكّ، لتجرَّه إلى أن يتقمَّص شخصيَّة الشَّاكِّ ليبحث عن الحقيقة، حتَّى يكون الحوار من الطَّرفين في أجواء التَّعاون على الوصول إلى الحقيقة، وإلَّا كانت المسألة مثل اللّعبة الرّياضيَّة، فهذا يريد تسجيل هدف على ذاك، وذاك يريد تسجيل هدف على هذا.
في الحوار الفكريّ، لا يوجد تسجيل هدفٍ من طرفٍ على آخر، بل الهدف هو الوصول إلى الحقّ والحقيقة، فإذا كنْتَ مقتنعاً بالحقّ، فينبغي أن تلجأَ إلى كلِّ الوسائل الفكريَّة والشعوريَّة والبيانيَّة الَّتي تفتح لك عقل الإنسان الآخر وقلبه، لأنَّك إذا واجهت الآخر بالتعصّب والسُّباب والشَّتائم والتَّكفير، فإنَّك تغلق ما كان مفتوحاً من قلبه، ونحن نريد أن نفتح ما كان مغلقاً من قلبه، نريد أن نفتح قلوب النَّاس على الحقّ، بالكلمة الطيِّبة، بالابتسامة الطيِّبة، بالأسلوب الطيِّب.
اتّباعُ الأسلوبِ الأحسن
ومشكلتنا، أيُّها الأحبَّة، أنَّنا نصلِّي جيِّداً، ونصوم جيِّداً، ولكنَّنا لا نتكلَّم جيِّداً، ولا نمارس أسلوبنا جيِّداً، فقط نقرأ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}[البقرة: 43]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}[البقرة: 183]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}[آل عمران: 97]، وهذه عبادات ضروريَّة وأساسيَّة، لكن عندنا أيضاً في القرآن {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ - فالله يطلب من النَّبيّ (ص) أن يقول لعباده أن يختاروا في حديث بعضهم مع بعض أو مع الآخرين، الكلمة الأحسن. لماذا؟ لأنَّ الشَّيطان يدخل في داخل الكلمات - إنَّ ٱلشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ - ألا نقول في المثل الشَّعبي – والأمثال تمثِّل تجارب تاريخيَّة وواقعيّة – "كلمة تحنِّن، وكلمة تجنِّن"؟! ألا تجرّبونها عندما يكون هناك خلاف بين الزَّوجة وزوجها؟ فكلمة قد تجنِّن وتخرب البيت، وكلمة قد تحنِّن وتحافظ على البيت. فالله يقول لك اختر الكلمة الّتي تحنِّن، والّتي تقرِّب ولا تبعِّد، والَّتي تفتح قلب الإنسان لا الَّتي تغلقه - إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}[الإسراء: 53].
وبعد ذلك، عندما تحدث مشكلة بينك وبين أحد آخر، سواء كانت مشكلة ثقافيَّة أو سياسيَّة أو عقيديَّة، أو أيّ مشكلة أخرى، فالله يقول لك: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ - بالأسلوب الأحسن الطيِّب اللائق. لماذا؟ - فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصِّلت: 34].
ليكن أسلوبك في مواجهة الإنسان الآخر الَّذي تختلف معه، الأسلوبَ الَّذي يحوِّل عداوتَهُ إلى صداقة. ولكنَّ أسلوبنا، أيُّها الأحبَّة، هو الأسلوب الَّذي يحوِّل أصدقاءنا إلى أعداء، والله سبحانه يقول لك، عندما تريد أن تدعو النَّاس إلى دينك، وإلى طريقتك ورأيك: {ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ}[النَّحل: 125].
كم من الفرق بيننا وبين اليهود والنَّصارى؟! {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}[التّوبة: 30]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}[المائدة: 73]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}[المائدة: 72]، ومع ذلك، أوصانا الله من خلال نبيِّه، أن لا نجادلهم إلّا بالّتي هي أحسن {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ - مثل اليهود الَّذين يحاربوننا ويظلموننا، والنَّصارى الَّذين يحاربوننا ويظلموننا أيضاً. فالظَّالم له حساب آخر، أمَّا الإنسان الَّذي يختلف معك بالفكر، فعليك أن تتكلَّم معه بالكلام الطيّب. ولكن كيف نحاور اليهود والنَّصارى ونجادلهم؟ - وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا – نؤمن بالتَّوراة والإنجيل والقرآن - وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46].
نحن دائماً عندما نختلف حتَّى في القضايا الصَّغيرة، ما الأسلوب الشَّعبي عندنا في الجدال؟ دائماً نستخدم الأسلوب السَّلبيّ مع الآخر، ونركِّز على ما يفرّق لا على ما يجمع، فنقول له: أنت شيء ونحن شيء آخر، أنت في طريق ونحن في طريق آخر، حتَّى فيما بيننا نحن المؤمنين، حتَّى أتباع أهل البيت (ع). الله يأمر النَّبيّ (ص) ويأمرنا أيضاً مع النَّبيّ (ص)، أن نقول لمن نختلف معهم، تعالوا نلتق على ما اجتمعنا عليه، ونتفاهم على ما نتفرَّق حوله {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، وفي الآية الأخرى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ - هناك أرض مشتركة بيننا وبينكم، فلنقف عليها معاً، ثمَّ بعد ذلك، عندما نصل إلى مفارق الطّرق، فإمَّا أن نبقى مفترقين، وإمَّا أن يقنع الواحد منَّا الآخر - أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}[آل عمران: 64].
الالتزامُ بمنطقِ القرآن
هذا هو المنطق الإسلاميّ والمنطق القرآنيّ {وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا}، والاعتصام بحبل الله هو أن نلتزم بالقرآن في أسلوب الدَّعوة، وفي أسلوب الكلام، وفي أسلوب حلِّ المشاكل، وفي أسلوب الجدال، تماماً كما نلتزم بالقرآن في الصَّلاة والصِّيام والحجّ وغير ذلك.
أمَّا الإنسان الَّذي يقول الكلمة الأسوأ، ويمارس الأسلوب الأسوأ، ويجادل بالَّتي هي أسوأ، فهو لم يعتصم بحبل الله. وهذه نقطة يجب أن نفهمها، أنَّ الأخلاق القرآنيَّة، أيُّها الأحبَّة، هي جزء من الإيمان، وجزء من التمسّك بحبل الله، لأنَّ القرآن لا بدَّ أن نأخذه كلَّه، لا يجوز أن نقول كما كانوا يقولون {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}[النِّساء: 150]، فما يعجبنا نأخذ به، وما لا يعجبنا نتركه، أو نفسِّره تفسيراً آخر.. إنَّ علينا أن ننفتح على القرآن كلّه. وقد كان أهل البيت (ع) الَّذين هم مظهرٌ لحبل الله، في خطِّ جدِّهم رسول الله (ص) الَّذي هو خطِّ الله وخطّ كتابه، كانوا يتحركون بهذا الأسلوب؛ أسلوب الحوار، وأسلوب الّتي هي أحسن.
لقد دخل عليّ (ع) في صراعٍ مريرٍ مع أصحابه الَّذين تحوَّلوا إلى الخوارج. ماذا قال الخوارج عندما دخل الإمام في مسألة التَّحكيم في حربه في صفّين؟ قالوا له: لقد كفرت يا عليّ، لقد أشركت عندما حكَّمت الرِّجال في دين الله، فماذا كان موقف الإمام (ع)؟ هل حاربهم؟ هل قاتلهم؟ هل سبَّهم؟ كلّ ذلك لم يكن، بل أرسل إليهم عبد الله بن عبَّاس ليحاورهم وليقنعهم، وقد ورد في بعض ما ذكره الشَّريف الرّضيّ في "نهج البلاغة"، أنَّه كان يحاورهم بنفسه، ويردّ عليهم بالمنطق والحجَّة، وقد قال (ع) بعد ذلك: "لَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي؛ فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ، كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ". يقول (ع) إنَّ هؤلاء يريدون الحقَّ، ولكنّهم أخطأوا الطَّريق إليه. وعندما حاربهم الإمام عليّ (ع)، إنما حاربهم لأنَّهم أخلوا بالنظام، لأنَّهم قتلوا خباب وزوجته، فعندما قطعوا طريق المسلمين، حاربهم الإمام، لا من جهة تفكيرهم لأجل أن يضغط عليهم في تفكيرهم، ومن حقِّه ذلك، ولكن لأنَّهم أخلوا بالنظام، وهو المسؤول عن حفظ نظام المسلمين.
هكذا كان أسلوب أهل البيت (ع)، ومنهم الإمام الحسين (ع) الَّذي وقف في كربلاء أمام كلِّ تلك الجموع الَّتي جاءت لقتاله، لا من موقع ضعف، ولكن وقف في موقع الحوار، من أجل أن يعطيهم الحجَّة، ومن أجل أن يعطيهم الموعظة الحسنة، ومن أجل أن يجتذبهم ليحاوروه فيما هم فيه وفيما هو فيه.
المجالسُ منطلقٌ للوعي
لذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما نتحرَّك مع أهل البيت (ع) في مجالسهم هذه الَّتي يحبّها الله ورسوله وأهل بيته، فإنّنا نريد لهذه المجالس أن تكون مفتاح وعي للعقيدة، ووعي للالتزام بالشريعة، ووعي للواقع، حتَّى ننطلق فيما انطلقوا فيه، ونسير على ما ساروا عليه.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ قصَّة ذاك اليهوديّ الَّذي أثار مسألة الخلاف من جديد بين المسلمين، والَّتي يقال إنَّ الآية نزلت لتعالجها، لا بدَّ أن تعطيكم وعياً، لأنَّ السَّاحة الإسلاميَّة هي السَّاحة الوحيدة الَّتي تقف في وجه التحدّي الإسرائيلي والتحدّي الأمريكي، والَّتي تقف بكلِّ قوَّة وصلابة، وهي الَّتي حوَّلت أرض الجنوب والبقاع الغربي إلى كربلاء واعية قويَّة منفتحة صلبة، ولأنَّها كذلك، فإنَّهم يحاولون أن يربكوها، وأن يثيروا في داخلها الكثير من الخلافات الجانبيَّة، من أجل أن يقف المؤمن ضدَّ المؤمن، ومن أجل أن يحقد المؤمن على المؤمن.
حذارِ من كلِّ الخطط الَّتي قد ينطلق فيها المؤمنون عندما يتباغضون، أو عندما يختلفون، أو عندما يتنازعون، أو عندما يسبُّ بعضهم بعضاً، قد ينطلقون بحسن نيَّة، لأنَّ كلَّ واحد يعتقد أنَّه يدافع عن الإسلام وعن أهل البيت (ع)، ولكن لو تمعّنوا بهذه الأمور، لرأوا أنَّ الآخرين، ومنهم المخابرات الإسرائيليَّة والمخابرات الأمريكيَّة، يحاولون أن يدرسوا كلَّ نقاط الضّعف فينا.
أنا لا أقول إنَّ الَّذين يأخذون بهذا هم مخابرات، كما حاول بعضهم أن يقول إنَّ السيِّد يتَّهم النَّاس بأنَّهم مخابرات، أنا لم أقل ذلك، ولا أجيز لنفسي أن أقول ذلك، ولكنَّ المسألة أنَّنا قد نقع ضحيَّة خطط المخابرات، عندما يستغلّون بعض نقاط ضعفنا. هناك في الجامعات الأمريكيَّة والجامعة العبريَّة وكثير من الجامعات، أجهزة تدرس كلَّ نقاط الخلاف بين المسلمين، سواء في الجانب المذهبيّ، أو في الجانب الاجتماعيّ، أو في الجوانب الحزبيَّة والسياسيَّة، حتَّى تركِّز خططها من أجل أن تشغل المسلمين بعضهم ببعض، لينشغلوا عن قضيَّتهم الأساسيَّة.
لذلك، نقول، أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن ننتبه إلى طبيعة اللّعبة، إنَّ السَّاحة لا تتحمَّل الكثير من اللّغو الَّذي يدور، ولا تتحمَّل الكثير من أساليب العصبيَّة وأساليب البغضاء والحقد، "إِذَا قَالَ المُؤْمِنُ لِأَخِيهِ أَنْتَ عَدُوِّي، كَفَرَ أَحَدُهُما"، هذا كلام الإمام الصَّادق (ع).
التَّعاملُ بحكمةٍ وعقلانيَّة
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لنكن الواعين، قد تكون هناك في المجتمع وجهات نظر، ولكن علينا أن ندرسها بالحكمة والموعظة الحسنة، أن لا تكون القضايا مصدراً لأن نأخذ بما أخذ به النَّاس الآخرون {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}[البقرة: 74]. علينا أن تبقى قلوبنا مفتوحةً للمؤمنين حتَّى لو اختلفنا معهم في وجهات النَّظر، وأن نتعامل مع الاختلاف بكلِّ حكمة وعقلانيَّة، وأن نردَّ الأمر إلى الله وإلى رسوله.
قيمة عاشوراء، هي قيمة الوعي المنفتح على الإسلام كلِّه، وعلى خطِّ أهل البيت كلِّه، وعلى الواقع كلِّه. لذلك، لا تنشغلوا بحساسيَّاتكم، وليكن كلّ شغلكم بإسلامكم وبقضاياكم الحيويَّة في مصيركم في الدنيا والآخرة.
والحمد لله ربِّ العالمين.
* محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 10/05/1997م.