كتابات
02/09/2020

لا حيادَ في معركة الحقّ والباطل

لا حيادَ في معركة الحقّ والباطل

هناك أشخاص يقولون دائماً: إنَّنا حياديّون، لا مع هذا ولا مع ذاك، أو يقولون: إنَّنا لا نريد أن ندخل بين السّلاطين أو بين المختلفين.

المسألة في نظر الإسلام، وفي نظر الإمام الذي يستمدّ ذلك من الإسلام، مختلفة: قل لنفسك مَن أنت؛ هل أنتَ مسلم، هل أنتَ مع الحقّ، هل أنت على طريق القرآن، أم أنّك كافر، وعلى طريق الشيطان، ومائع الشخصية؟ {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء...}[النساء: 143]، منافق تماماً، كبعض الناس الذين يقولون الطعام عند معاوية أدسم، والصّلاة وراء عليّ أقوم، والجلوس على التلّ أسلم.

مَن أنت؟ إذا كنتَ مسلماً، حاول أن تطرح على نفسك سؤالاً آخر: ما هو الإسلام؟ هل هو أن أُصلّي وأصوم وأحجّ وأُخمِّس وأُزكّي وتنتهي القصّة عند هذا الحدّ، أم أنّ الإسلام هو الموقف في الحياة، وجهاد للكفّار وللمنافقين وللطاغين، وموقف مع الحقّ ضدّ الباطل؟ هل أنتَ تفهم الإسلام عزلة عن الحياة، أم تفهمه موقفاً في الحياة؟ إذا كنتَ مسلماً، وإذا كنت تتحرّك في خطّ الإسلام، وكنتَ ترى أنّ الإسلام يشمل الحياة كلّها، فلا بدَّ لك أن تكون إنساناً ملتزماً، أن لا تكون حياديّاً، وأن لا تنعزل عن ساحة الصّراع.

متى نقف على الحياد؟!

تارةً يكون الصّراع بين باطلين وبين ظلمين وبين شرّين وبين كفرين، وأخرى يكون الصّراع بين حقّ وباطل، بين كفر وإيمان، بين خير وشرّ، بين عدل وظلم. في هذا المجال، إذا كان الصّراع بين كفرين وباطلين، كانت المسألة فتنة، والفتنة لا بدَّ لك أن تقف أمامها حياديّاً، لتترك الباطلين يتصارعان فيما بينهما، ليضعفا ولتكون القوّة لك بعد ذلك. وإذا رأيت أنَّ بعض الباطل قد يخدم أهدافك وقتاً ما أكثر من ذلك، في وقت لا تكون أنتَ البديل، ادعم من يكون أقرب إلى هدفك، أو أضعِف من يكون بعيداً من هدفك، حتّى تستطيع أن تقطع شوطاً في ذلك من دون أن تلتزم شرعيّة الباطل.

هذا الذي عبَّر عنه أمير المؤمنين في ما عبَّر عنه من كلمات: "كُن في الفتنة كابن اللّبون؛ لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب"[1]. فابن اللّبون هو ولد النّاقة الذّكر الذي لم يبلغ السنة الثانية من العمر، بحيث لم يقوَ لكي يُنتفع بركوبه، وهو ليس أنثى حتى تحلب منه.

كن حياديّاً في الفتنة التي يتنازع فيها أهل الباطل ولا تنتفع منها في موقفك بشيء، كما يقول المثل الشعبي: "فخَّار يكسِّر بعضه"، لأنّ الباطل يكسّر باطلاً، والكفر يكسّر كفراً، إلّا إذا كان في هذا الصّراع انعكاس سلبي على واقع المسلمين، عند ذلك، لا بدّ أن تدرس موقفك كيف يمكن أن تحفظ الواقع الإسلامي العام من خلاله.

ولكن قد تكون المسألة وجود صراع بين خطّ يحمل الحقّ وخطّ يحمل الباطل، في هذا المجال، لا بدّ أن تدقّق، لا تكن حياديّاً وتقل لا أعرف الحقّ مع مَن والباطل مع مَن {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النحل: 43].. اسألوا مَن يملكون العلم والأمانة في حركة العلم والوعي في السّاحة، حتى تستعينوا بهم لمعرفة الحقّ أين يكون، وخطّ الباطل أين يكون؟ فإذا عرفتم خطّ الحقّ فقفوا معه، وإذا عرفتم خطّ الباطل فقفوا ضدّه؛ فإذا لم تلتزموا ذلك، فمعناه أنّكم لم تلتزموا بالإسلام، لأنَّ الله يريدكم أن تتحرَّكوا في خطّ الحقّ كلّه، سواء كان حقّاً في العقيدة أو في العمل، وسواء كان العمل في الواقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الأمني أو أيّ جانب من الجوانب الأخرى، أن تلتزم الحقّ على أساس أنّ التزامك بالإسلام يفرض عليك ذلك، وإلّا كنتَ منحرفاً عن خطّ الحقّ.

الحياد نصرةٌ للباطل

وهناك نقطة لا بدَّ أن نفهمها في مجرى الحياة العمليّة في الواقع العسكري أو السياسي أو الأمني، وهي أنَّ معنى أن يكون الإنسان حياديّاً بين الحقّ والباطل ـ وهو من جماعة الحقّ ـ معنى الحياد أنّك تعين الباطل بأن تنسحب من موقف الحقّ، لأنَّ الباطل يقوى بطريقتين: الطريقة الأولى، هي أن يملك قوّة أكثر ممّا يملكها الحقّ، والطريقة الأخرى، هي أن يسحب الباطل من الحقّ جماعة ليحيدهم فلا ينصروا الحقّ. هنا، لا يوجد فرق بين أن تذهب وتحارب مع الباطل ومع الظلم ضدّ الحقّ، وبين أن تكون حيادياً بين الحقّ والباطل وتنسحب من الساحة. أنتَ حاربت الحقّ بأن منعته قوّتك، فأصبح الباطل يقوى عليه.

أنتم تستمعون دائماً في ذكرى عاشوراء إلى قصَّة مسلم بن عقيل، الّذي كان معه 18 ألف رجل، وابن زياد ليس معه أحد، حتّى إِنَّه يقال عندما جاء ابن زياد إلى الكوفة، أغلق عليه باب القصر، لأنّه لم يكن يملك القوَّة التي تستطيع أن تواجه القوّة التي كانت عند مسلم بن عقيل، ولكنّهم دسّوا المخابرات التي كانت مهمّتها أن تخذل الحقّ أو تكسب للباطل جماعة، واستخدموا العنصر النسائي، فكانت المرأة تأتي إلى ابنها أو زوجها أو أخيها وتبكي أمامه ـ والدموع في كثير من الحالات تسقط الموقف ـ وتقول له: يكفيك بقيّة الناس، ماذا تريد بكلّ هذه "اللّبكة"؟ يكفيك كلّ هؤلاء، هم ثمانية عشر ألفاً، إذا نقصوا واحداً فما المشكلة؟ وهكذا وصلت الحال بمسلم إلى أن يمشي داخل المسجد ومعه ثلاثون، وصلَّى المغرب ومعه عشرة، وصلَّى العشاء وليس معه أحد.

هذا واقع موجود الآن، الذين يسمُّون الأكثريّة الصّامتة. والأكثريّة الصامتة هي الأكثريّة التي يكون صمتها صمتاً عن الحقّ، لأنَّ الساكت عن الحقّ شيطانٌ أخرس، في الوقت الذي يحتاج الحقّ إلى هذه الأكثريّة. والأكثرية الصامتة قد تتحوّل إلى أكثريّة منافقة، وقد تتحوّل إلى أكثريّة معادية. بعض الأشخاص كانوا على الحياد في زمان الإمام عليّ (ع) عندما دخل المعركة مع معاوية في صفّين. هؤلاء اعتزلوا القتال، فنقل أمرهم إلى الإمام عليّ (ع)، فقال: "إنَّهم خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل"[2]، لم ينصروا الباطل مباشرة، ولكنّهم نصروه بخذلان الحقّ، لأنّ الحقّ كلّما كان النّاس معه أكثر، وكلّما كانت الطاقات معه أكثر، كان أقوى.

فكِّروا في هذه المعادلة، على أيّ مستوى من المستويات؛ عندما يكون عدوّك عنده عشرون شخصاً، وأنتَ عندك مئة، أنتَ تستطيع أن تغلب عدوّك، لكن إذا تحيَّد هؤلاء المئة وأصبحوا عشرة، فسوف يغلبك عدوّك بعد ذلك. هم لم يقاتلوا مع عدوّك، لكنَّهم نصروا عدوّك عليك بانسحابهم من نصرتك.

مع وضوح الموقف

لهذا، في الإسلام، لا يجوز أن يكون هناك موقف مائع، فيقف الواحد ليقول: أنا لستُ مع هذه الجهة، ولا مع تلك، ماذا يقول النّاس؟ ماذا تقول العائلة؟ ماذا يقول أهل البلد؟ هذا خطأ، لأنَّ الله لن يحاسبك على أقوال هؤلاء، بل سيحاسبك على ما قلت أنتَ، وعلى أيّ أساس قلت: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النحل: 111]، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}[مريم: 95]، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ...}[الأنعام: 94]. أنت تبرز أمام الله من خلال عقلك ليحاسب الله عقلك، وبإرادتك ليحاسب إرادتك، وبموقفك ليحاسب موقفك، أمَّا موقف الآخرين، فسيحاسب الله الآخرين عليه، قد يتَّصل بك وقد لا يتَّصل، الإمام الكاظم (ع) قالها كلمةً لبعض أصحابه، وهو يريد أن يتحدّث عن هذا الجوّ: "أبلغ خيراً، وقل خيراً، ولا تكن إِمَّعَة". قالوا: وما الإِمَّعَة؟ قال: "أن تقول أنا مع الناس".. ولكن ما هو رأيك، وما هو موقفك؟ ليس لي موقف. "لا تقل أنا مع الناس، وأنا كواحدٍ من النّاس، إنَّ رسول الله (ص) قال: يا أيّها النّاس، إنَّما هما نجدان؛ نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحبَّ إليكم من نجد الخير"[3].

لهذا، لا بدّ لنا من خلال ما يعلّمنا الإمام (سلام الله عليه) من خلال الإسلام، لا بدّ لنا من أن نحدّد مواقفنا في كلّ شيء، ابتداءً من القضايا الجزئيّة إلى القضايا الكليّة، لأنَّ الله يريد للأُمّة أن تفكّر، وأن تقرِّر على أساس ما تفكّر، ويريد لها أن تركِّز إرادتها على أساس فكرها وقرارها، وأن تتحرَّك، وأنْ تتحمَّل مسؤوليّتها تجاه كلّ الواقع الذي تعيشه، وأن تناقش قادتها، وأن تطيعهم إذا كانوا مؤتمنين على الأُمَّة. ولكن من حقّ الأُمّة على قادتها أن يبيِّنوا لها أمورها، ويحرِّكوا لها وعيها في الاتجاه السَّليم.

* من كتاب "الجمعة ـ منبر ومحراب" 


[1]  نهج البلاغة، ج4، ص3.

[2]  نهج البلاغة، ج4، ص 6.

[3]  ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج4، ص 3402.

هناك أشخاص يقولون دائماً: إنَّنا حياديّون، لا مع هذا ولا مع ذاك، أو يقولون: إنَّنا لا نريد أن ندخل بين السّلاطين أو بين المختلفين.

المسألة في نظر الإسلام، وفي نظر الإمام الذي يستمدّ ذلك من الإسلام، مختلفة: قل لنفسك مَن أنت؛ هل أنتَ مسلم، هل أنتَ مع الحقّ، هل أنت على طريق القرآن، أم أنّك كافر، وعلى طريق الشيطان، ومائع الشخصية؟ {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء...}[النساء: 143]، منافق تماماً، كبعض الناس الذين يقولون الطعام عند معاوية أدسم، والصّلاة وراء عليّ أقوم، والجلوس على التلّ أسلم.

مَن أنت؟ إذا كنتَ مسلماً، حاول أن تطرح على نفسك سؤالاً آخر: ما هو الإسلام؟ هل هو أن أُصلّي وأصوم وأحجّ وأُخمِّس وأُزكّي وتنتهي القصّة عند هذا الحدّ، أم أنّ الإسلام هو الموقف في الحياة، وجهاد للكفّار وللمنافقين وللطاغين، وموقف مع الحقّ ضدّ الباطل؟ هل أنتَ تفهم الإسلام عزلة عن الحياة، أم تفهمه موقفاً في الحياة؟ إذا كنتَ مسلماً، وإذا كنت تتحرّك في خطّ الإسلام، وكنتَ ترى أنّ الإسلام يشمل الحياة كلّها، فلا بدَّ لك أن تكون إنساناً ملتزماً، أن لا تكون حياديّاً، وأن لا تنعزل عن ساحة الصّراع.

متى نقف على الحياد؟!

تارةً يكون الصّراع بين باطلين وبين ظلمين وبين شرّين وبين كفرين، وأخرى يكون الصّراع بين حقّ وباطل، بين كفر وإيمان، بين خير وشرّ، بين عدل وظلم. في هذا المجال، إذا كان الصّراع بين كفرين وباطلين، كانت المسألة فتنة، والفتنة لا بدَّ لك أن تقف أمامها حياديّاً، لتترك الباطلين يتصارعان فيما بينهما، ليضعفا ولتكون القوّة لك بعد ذلك. وإذا رأيت أنَّ بعض الباطل قد يخدم أهدافك وقتاً ما أكثر من ذلك، في وقت لا تكون أنتَ البديل، ادعم من يكون أقرب إلى هدفك، أو أضعِف من يكون بعيداً من هدفك، حتّى تستطيع أن تقطع شوطاً في ذلك من دون أن تلتزم شرعيّة الباطل.

هذا الذي عبَّر عنه أمير المؤمنين في ما عبَّر عنه من كلمات: "كُن في الفتنة كابن اللّبون؛ لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب"[1]. فابن اللّبون هو ولد النّاقة الذّكر الذي لم يبلغ السنة الثانية من العمر، بحيث لم يقوَ لكي يُنتفع بركوبه، وهو ليس أنثى حتى تحلب منه.

كن حياديّاً في الفتنة التي يتنازع فيها أهل الباطل ولا تنتفع منها في موقفك بشيء، كما يقول المثل الشعبي: "فخَّار يكسِّر بعضه"، لأنّ الباطل يكسّر باطلاً، والكفر يكسّر كفراً، إلّا إذا كان في هذا الصّراع انعكاس سلبي على واقع المسلمين، عند ذلك، لا بدّ أن تدرس موقفك كيف يمكن أن تحفظ الواقع الإسلامي العام من خلاله.

ولكن قد تكون المسألة وجود صراع بين خطّ يحمل الحقّ وخطّ يحمل الباطل، في هذا المجال، لا بدّ أن تدقّق، لا تكن حياديّاً وتقل لا أعرف الحقّ مع مَن والباطل مع مَن {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النحل: 43].. اسألوا مَن يملكون العلم والأمانة في حركة العلم والوعي في السّاحة، حتى تستعينوا بهم لمعرفة الحقّ أين يكون، وخطّ الباطل أين يكون؟ فإذا عرفتم خطّ الحقّ فقفوا معه، وإذا عرفتم خطّ الباطل فقفوا ضدّه؛ فإذا لم تلتزموا ذلك، فمعناه أنّكم لم تلتزموا بالإسلام، لأنَّ الله يريدكم أن تتحرَّكوا في خطّ الحقّ كلّه، سواء كان حقّاً في العقيدة أو في العمل، وسواء كان العمل في الواقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الأمني أو أيّ جانب من الجوانب الأخرى، أن تلتزم الحقّ على أساس أنّ التزامك بالإسلام يفرض عليك ذلك، وإلّا كنتَ منحرفاً عن خطّ الحقّ.

الحياد نصرةٌ للباطل

وهناك نقطة لا بدَّ أن نفهمها في مجرى الحياة العمليّة في الواقع العسكري أو السياسي أو الأمني، وهي أنَّ معنى أن يكون الإنسان حياديّاً بين الحقّ والباطل ـ وهو من جماعة الحقّ ـ معنى الحياد أنّك تعين الباطل بأن تنسحب من موقف الحقّ، لأنَّ الباطل يقوى بطريقتين: الطريقة الأولى، هي أن يملك قوّة أكثر ممّا يملكها الحقّ، والطريقة الأخرى، هي أن يسحب الباطل من الحقّ جماعة ليحيدهم فلا ينصروا الحقّ. هنا، لا يوجد فرق بين أن تذهب وتحارب مع الباطل ومع الظلم ضدّ الحقّ، وبين أن تكون حيادياً بين الحقّ والباطل وتنسحب من الساحة. أنتَ حاربت الحقّ بأن منعته قوّتك، فأصبح الباطل يقوى عليه.

أنتم تستمعون دائماً في ذكرى عاشوراء إلى قصَّة مسلم بن عقيل، الّذي كان معه 18 ألف رجل، وابن زياد ليس معه أحد، حتّى إِنَّه يقال عندما جاء ابن زياد إلى الكوفة، أغلق عليه باب القصر، لأنّه لم يكن يملك القوَّة التي تستطيع أن تواجه القوّة التي كانت عند مسلم بن عقيل، ولكنّهم دسّوا المخابرات التي كانت مهمّتها أن تخذل الحقّ أو تكسب للباطل جماعة، واستخدموا العنصر النسائي، فكانت المرأة تأتي إلى ابنها أو زوجها أو أخيها وتبكي أمامه ـ والدموع في كثير من الحالات تسقط الموقف ـ وتقول له: يكفيك بقيّة الناس، ماذا تريد بكلّ هذه "اللّبكة"؟ يكفيك كلّ هؤلاء، هم ثمانية عشر ألفاً، إذا نقصوا واحداً فما المشكلة؟ وهكذا وصلت الحال بمسلم إلى أن يمشي داخل المسجد ومعه ثلاثون، وصلَّى المغرب ومعه عشرة، وصلَّى العشاء وليس معه أحد.

هذا واقع موجود الآن، الذين يسمُّون الأكثريّة الصّامتة. والأكثريّة الصامتة هي الأكثريّة التي يكون صمتها صمتاً عن الحقّ، لأنَّ الساكت عن الحقّ شيطانٌ أخرس، في الوقت الذي يحتاج الحقّ إلى هذه الأكثريّة. والأكثرية الصامتة قد تتحوّل إلى أكثريّة منافقة، وقد تتحوّل إلى أكثريّة معادية. بعض الأشخاص كانوا على الحياد في زمان الإمام عليّ (ع) عندما دخل المعركة مع معاوية في صفّين. هؤلاء اعتزلوا القتال، فنقل أمرهم إلى الإمام عليّ (ع)، فقال: "إنَّهم خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل"[2]، لم ينصروا الباطل مباشرة، ولكنّهم نصروه بخذلان الحقّ، لأنّ الحقّ كلّما كان النّاس معه أكثر، وكلّما كانت الطاقات معه أكثر، كان أقوى.

فكِّروا في هذه المعادلة، على أيّ مستوى من المستويات؛ عندما يكون عدوّك عنده عشرون شخصاً، وأنتَ عندك مئة، أنتَ تستطيع أن تغلب عدوّك، لكن إذا تحيَّد هؤلاء المئة وأصبحوا عشرة، فسوف يغلبك عدوّك بعد ذلك. هم لم يقاتلوا مع عدوّك، لكنَّهم نصروا عدوّك عليك بانسحابهم من نصرتك.

مع وضوح الموقف

لهذا، في الإسلام، لا يجوز أن يكون هناك موقف مائع، فيقف الواحد ليقول: أنا لستُ مع هذه الجهة، ولا مع تلك، ماذا يقول النّاس؟ ماذا تقول العائلة؟ ماذا يقول أهل البلد؟ هذا خطأ، لأنَّ الله لن يحاسبك على أقوال هؤلاء، بل سيحاسبك على ما قلت أنتَ، وعلى أيّ أساس قلت: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النحل: 111]، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}[مريم: 95]، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ...}[الأنعام: 94]. أنت تبرز أمام الله من خلال عقلك ليحاسب الله عقلك، وبإرادتك ليحاسب إرادتك، وبموقفك ليحاسب موقفك، أمَّا موقف الآخرين، فسيحاسب الله الآخرين عليه، قد يتَّصل بك وقد لا يتَّصل، الإمام الكاظم (ع) قالها كلمةً لبعض أصحابه، وهو يريد أن يتحدّث عن هذا الجوّ: "أبلغ خيراً، وقل خيراً، ولا تكن إِمَّعَة". قالوا: وما الإِمَّعَة؟ قال: "أن تقول أنا مع الناس".. ولكن ما هو رأيك، وما هو موقفك؟ ليس لي موقف. "لا تقل أنا مع الناس، وأنا كواحدٍ من النّاس، إنَّ رسول الله (ص) قال: يا أيّها النّاس، إنَّما هما نجدان؛ نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحبَّ إليكم من نجد الخير"[3].

لهذا، لا بدّ لنا من خلال ما يعلّمنا الإمام (سلام الله عليه) من خلال الإسلام، لا بدّ لنا من أن نحدّد مواقفنا في كلّ شيء، ابتداءً من القضايا الجزئيّة إلى القضايا الكليّة، لأنَّ الله يريد للأُمّة أن تفكّر، وأن تقرِّر على أساس ما تفكّر، ويريد لها أن تركِّز إرادتها على أساس فكرها وقرارها، وأن تتحرَّك، وأنْ تتحمَّل مسؤوليّتها تجاه كلّ الواقع الذي تعيشه، وأن تناقش قادتها، وأن تطيعهم إذا كانوا مؤتمنين على الأُمَّة. ولكن من حقّ الأُمّة على قادتها أن يبيِّنوا لها أمورها، ويحرِّكوا لها وعيها في الاتجاه السَّليم.

* من كتاب "الجمعة ـ منبر ومحراب" 


[1]  نهج البلاغة، ج4، ص3.

[2]  نهج البلاغة، ج4، ص 6.

[3]  ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج4، ص 3402.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية