من الطبيعيّ أنّنا عندما نريد أن نحرّك العقل في عالم المعرفة، فإنَّ علينا أن نقوم بثورة ضدّ الخرافات، وضدّ كلّ الأشياء التي ماتت مع الماضي.
إنّ مسألتنا هي أن لا نقدّس غير المقدّس، في ماضي المفكّرين، وفي ماضي العلماء، وفي ماضي السياسيّين. في الماضي، هناك خطأ قد يتحرّك، لا بدَّ أن نطرده، كما يطرده الزّمن، وهناك صواب يفرض نفسَه في الماضي، ولكنّه صواب مؤطّر بالظروف الموضوعيّة للزّمن، فإذا تقدّم الزمن، مات هذا الصوابُ بموت الظروف الموضوعيّة التي أحاطت به، وهناك صوابٌ لا يعطّله الزّمن، يحمل معنى الحقيقة، وهو القيم الإنسانيّة والروحيّة والأخلاقيّة، بغضّ النظر عن أساليبها ووسائلها، هذا شيء يمكن أن نبقيه بشرط أن ندرسه، حتى نُبعد عنه كلّ ما علق به، مما يمكن أن يبعده عن اتجاهه الصّحيح.
مع العلم.. ولكن!
لذلك، علينا أن نؤمن بالعلم، ولكنّ إيماننا بالعلم لا يعني أن نحوّل العلم صنماً نعبده. العلم يتحرّك في خطَّين؛ خطّ النظريّة العلميّة، وخطّ الحقيقة العلميّة.. عندما تكون هناك حقيقة علميّة على طريقة الحقائق الرياضيّة، واحد زائد واحد يساوي اثنين، فعلينا أن ننفتح عليها، ونُغمض عيوننا ونحن نسير معها، لكنّ النظريّة العلميّة التي تقوم على تأمّلٍ واستقراءٍ ناقص، وما إلى ذلك، ككثير من النظريّات التي ربّما كانت تمثّل الحقيقة في ظرفها، ولكنّ الزمن عندما تقدّمت فيه التجارب العلميّة الأخرى، رأى أنّ هذه الحقيقة لا تمثّل شيئاً، لأنّه اكتشف كثيراً من العناصر التي تجعل هذه الحقيقة ليست حقيقة... هنا، علينا أن لا نتجمَّد أمام ما تعوّدناه من هذه المعارف التي ثبت بطلانها.
لذلك، علينا عندما ننظر إلى العلم، أن لا نعيش الانبهار بما يُقدَّم إلينا، فقد عاش الإنسان الانبهار، ولا سيّما إنسانُنا في العالم الثّالث، الذي تُقدَّم إليه النظريات العلميّة معلّبة دون أن يشارك فيها، وتُقدّم إليه الكثير من العناوين الكبرى التي يلتزمها على أساس أنّها جاءت من الغرب؛ نحن علينا أن نعيش العلم، أن لا نعطيَ العلم أكثر مما يعطيه لنفسه، لأنّ العلم عندما يكون مرتكزاً على نظريّة، فلا بدَّ لنا أن نلاحق هذه النظرية في تجارب جديدة، وتأمّلات جديدة، فلعلّها تسقط أمام التجارب الجيّدة، أو في مستوى الحقيقة العلميّة..
قيمة الإنسان بمقدار علمه
ومن الطبيعي أنّه لا بدّ لنا ـ وهذا أمر يتحرّك في القيمة الأخلاقيّة ـ أن يكون العلم أساساً لبناء الحياة، ولا يكون أساساً لدمار الحياة. أمّا الإنسان، هذا الكائن الحيّ الذي أراد الله له أن يكون سيّد الكون، {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة: 30] ليس خليفةً بالمعنى الدينيّ فيما تعطيه كلمة "الخليفة" من خطوط شرعيّة وقانونيّة، لكن بمعنى أنّ الله تعالى استخلف هذا الإنسان في الأرض، من أجل أن يعيش تجربته، ومن أجل أن يؤكّد عقله، ويؤكّد حيويّته وحركيّته، وقد قال الله للملائكة في البداية: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، ثم حدّثهم عما يقوم به هذا الخليفة: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 30]. وهنا أخبرهم أنّ قيمة هذا الإنسان هو في انفتاحه على مسألة العلم، لأنّه وحده من بين المخلوقات الذي يمكن أن ينتج علماً من خلال عقله، ومن خلال كلّ ما يشاهده ويسمعه ويلمسه {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 31]. إنّه جعل الإنسان سيّد الكون من أجل أن يعيش تجربته، ومن أجل أن يعيش خياره بنفسه، طرح أمامه الإيمان والكفر والخير والشرّ، وقال له: تحمّل مسؤوليّة خيارك {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[الإنسان: 3] {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد: 10] {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 29]، ولكن عليك أن تتحمّل مسؤوليّة كفرك أو إيمانك، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}[الزلزلة: 7-8]..
لذلك، جعل الإنسان حرّاً، ولكنّها حرية تنطلق في خطّ المسؤوليّة، وليست حرية تعيش الفوضى، ويكبر الإنسان في عقله، ويكبرُ الإنسان بعمله، ويكبرُ الإنسان بمسؤوليّته في الحياة، ويكبرُ الإنسان قبل كلّ شيء بقربه من ربّه، لأنّه كلّما قرب من الله أكثر، انفتح على المطلق أكثر، وكلّما تجاوز، استطاع أن يحطّم كثيراً من حدود المحدود أكثر، وهناك حديث شريف يقول: "تخلّقوا بأخلاق الله". لا يكن الله عندكم مجرّد إلهٍ بعيد عنكم، لا علاقة لكم به إلّا من خلال مسألة الخضوع، ولكن تعلّموا منه، وهو الرّحمن الرّحيم، كيف تكونون الرّحماء، وتعلّموا منه وهو القويّ العزيز، كيف تكونون الأقوياء الأعزّاء، وتعلّموا منه وهو العالم بالعلم المطلق، كيف تُنتجون العلم وتعيشونه، وهكذا يقترب الإنسان من ربِّه، ليقترب من إنسانيّته، وليقترب من روحه.
تضادّ بين العلم والدّين؟!
إنَّ المسألة - أيّها الأحبّة - التي أراد الكثيرون أن يُثيروها عندما تحدّثوا عن هذا التضادّ بين العلم والدّين، إنّما نظروا إلى جانب معيّن.. حتى قضيّة النصّ، فالنّصّ يتحرّك في الجانب التّشريعيّ في بعض الجوانب التشريعيّة، ويمكن أن يحمل الكثير من المرونة الفكريّة في داخله، أمّا اكتشاف الحياة، أمّا حركة الإنسان في إنتاج الحياة، فهذه أمور جعلها الدين مسؤوليّة الإنسان، {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}[طه: 114]، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[الزمر: 9]. وقال الإمام عليّ (ع) تلك الكلمة الخالدة: "قيمة كلّ امرئ ما يُحسنه". قل لي ما هو مستوى علمك، أقل لك ما قيمتك، لأنّ إنسانيّة الإنسان، إنّما تكبر وتعظم وتتصلّب وتتركّز، بمقدار ما يمثّله الإنسان من وعي لنفسه، ووعي لربّه، ووعي للحياة، وبمقدار ما ينفتح الإنسان على الإنسان الآخر في حوار يتناول كلّ شيء.
وقد قلتُ في حديث سابق: ليس هناك مقدّسات في الحوار، حاور في كلّ شيء، لأنّ الحقيقة بِنْتُ الحوار، ليس هناك مقدّسات في عالم الحوار من حيث مَنْ تحاور، لأنّ الله حاور إبليس، وليس هناك مقدّسات في الحوار فيما تحاور، لأنّ الله حاور الكفّار والمشركين والمنافقين، في قضيّة الشّرك والتّوحيد والإيمان والكفر، إنّ الأمّة التي تمتنع من الحوار، هي أمَّة تتحجّر وتتجمّد، وإنَّ الشخص الذي يهرب من الحوار، هو شخصٌ لا يثق بنفسه، ولا يثق بفكره.
الانفتاح الإنسانيّ
تعالوا - أيّها الأحبّة - في هذا العالم الذي نعيشه؛ في لبنان، وفي العالم العربي، والعالم الإسلامي، والعالم الثّالث، تعالوا ننفتح على الإنسان الآخر، حتى نستطيع أن نخرج من كلّ هذا التخلّف المتحجّر في عقولنا، والذي زحف حتى تحجّرت قلوبنا، وتحجّرت أحاسيسنا ومشاعرنا.
أيّها الأحبّة، تعالوا حتى ينطلق الإنسان مع الإنسان، يحاول كلُّ واحد منّا أن يستنفر إنسانيّته في عقله، وفي قلبه، وقد قلت إنَّ علينا أن نعطي العقل جرعة من العاطفة ليرقّ ويلين، ونُعطي العاطفة جرعةً من العقل ليتوازن.. هذا النوع من الجدليّة بين العقل والعاطفة هو الذي نحتاجه، حتى لا تتحرّك عاطفتنا، لتتّجه إلى ما يهدم الواقع، نتيجة هذا الذوبان العاطفي، وأن لا نجعل العقلَ يتصلّب ويتحجّر، فيتراجع حسّنا الإنساني.. إنّ علينا أن نجعل العقل والعاطفة في الواقع الثقافيّ والسياسيّ والاجتماعيّ في خطٍّ متوازٍ، لأنّ مشكلتنا أنّنا شعب لا يزال يعطي العاطفة تسعين في المائة، ويعطي العقل عشرة في المائة، وهذا ما نلاحظه في كلِّ أدائنا السياسي والاجتماعيّ وحتى في أدائنا الدينيّ...
فلنحرِّك إنسانيّتنا في معنى المسؤوليّة، ولنحرِّك المسؤوليّة في معنى الحاضر والمستقبل...
*من كتاب "خطاب العقل والروح".