واجه الإسلام مع فكرة البعث واليوم الآخر، تحدّيات وقفت لتنكرها وتسخر منها وتعتبرها أسطورة لا تتصل بالحقيقة من قريب أو من بعيد.
ولم يكن لأصحاب هذه التحديات من حجَّة على ذلك، إلا الظنّ والاستبعاد؛ فهم يستبعدون الفكرة من خلال استبعاد أن يتحوّل الجماد إلى حياة.
فكيف يمكن لهذه الذرّات الترابيّة التي يتحوّل الإنسان إليها بعد أن يموت، أن تتحوّل ـ من جديد ـ إلى إنسان ينبض بالحياة ويأخذ صورته التي كانت له؛ كيف يمكن لها أن تتحوّل إلى حياة وهي تفقد كلّ عنصر من عناصرها؟
وبدأ الأسلوب القرآني يتّجه إلى عدة ألوان من تقريب الفكرة إلى الأذهان، ليرفع الاستبعاد من جهة، وليركّز الفكرة على قاعدة أساسيّة من جهة أخرى.
ونلتقي الطريقة العقلية في الحوار التّالي، الذي يديره القرآن مع هؤلاء الذين يدَّعون استحالة المعاد، في قوله تعالى:
1 ـ {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً ونَسِيَ خَلقَهُ قَالَ مَن يُحيي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُل يُحيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلقٍ عَلِيمٌ* الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِنَ الشَّجَرِ الأَخضَرِ نَاراً فإذَا أَنتُم مِنهُ تُوقِدُونَ* أَوَ لَيسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخلُقَ مِثلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ* إنَّما أَمرُهُ إذا أَراد َ شَيئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(يس: 78-82).
2 ـ {وَيَقُولُ الإنسَانُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوفَ أُخرَجُ حَيّاً* أَوَ لاَ يَذكُرُ الإنسانُ أَنَّا خَلَقنَاهُ مِن قَبلُ وَلَم يَكُ شَيئاً}(مريم: 66-67).
إنها الفكرة الواضحة وضوح الحياة، فإذا كان التفكير بالاستحالة نابعاً من التصور الساذج الذي يعجب للحياة كيف تنطلق من التراب الذي لا يملك أيّ مظهر للحياة، فإنّ بإمكاننا أن نثبت له إمكان ذلك من ظاهرة بداية الحياة، لنتساءل كيف أمكن للنطفة التي ترجع في بدايتها إلى التراب، أن تتحوَّل إلى وجود إنساني كامل؟ ولنا أن نقول في الجواب، إن القدرة التي ولَّدت النطفة من التراب، ثم ولَّدت الإنسان من النطفة، هي التي تعطي التراب سرَّ الحياة، ليتحوَّل إلى إنسان كامل من جديد. فإن القدرة على الانتقال من العدم إلى الوجود في البداية، تستلزم القدرة على ذلك في النهاية، لأن أساس الإمكان والاستحالة فيهما واحد لا يختلف ولا يتعدَّد.
وكانت الطريقة الحسيَّة التي تحاول أن تضع الفكرة مع مثيلاتها في الحياة، من خلال حركة التجدّد والتحوّل في خلق الإنسان وفي خلق النبات؛ مما يقرّب الفكرة ليجعلها شيئاً مألوفاً للإنسان، لقربه من المشاهدات الحسيَّة التي تتكرَّر أمامه في كلّ وقت، وهذا ما نلمحه في الآيات الكريمة التالية:
{يَأَيُّهَا النَّاسُ إن كُنتُم في رَيبٍ مِنَ البَعثِ فَإِنَّا خَلَقنَاكُم مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نطفَةٍ ثُم مِن عَلَقَةٍ ثُم مِن مُّضغَةٍ مُّخَلقَةٍ وَغَيرِ مُخَلَّقةٍ لِّنُبَيّنَ لَكُم وَنُقِرُّ في الأَرَحامِ مَا نَشَاءُ إلَى أَجَلٍ مُّسَمّى ثُمَّ نُخرِجُكُم طِفلاً ثُمَّ لِتَبلُغُوا أَشُدَّكُم وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلَى أَرذَلِ العَمُرِ لِكَيلاَ يَعلَمَ مِن بَعدِ عِلم شَيئا وَتَرَى الأَرضَ هَامِدَةً فَإذَا أَنَزلنَا عَلَيهَا المَاءَ اهتَزَّت ورَبَت وأَنبَتَت مِن كُلِّ زَوج بَهِيج* ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وأَنَّهُ يُحيِ المَوتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ* وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبعَثُ مَن في القُبُورِ}(الحج: 5-7).
إنها المحاولة الواقعية التي تريد أن تجعل من قصة المعاد نظاماً للحياة، يتمثَّل في المراحل التي يقطعها وجود الإنسان في بداية وجوده، حيث ينتقل في كل مرحلة من العدم إلى الوجود، ويتجسَّد في خلق النبات الذي لا يموت، إلا ليعود من جديد في عملية بعث الحياة في البذور المتناثرة في الأرض كمثل التراب.
وكان الأسلوب الثالث يسير في اتجاه التأكيد على عظمة الله وقدرته التي لا تقف عند حدّ؛ الأمر الذي يجعل من موضوع الاستبعاد والتفكير في الاستحالة شيئاً لا معنى له ، فما دامت قدرة الله متمثِّلة في كلّ هذا الوجود، فما الذي يمنعها من أن تتجسَّد في إعادته من جديد، من دون أن يكون هناك ما يمنع من إعمال القدرة في النّهاية، كما لم يكن هناك ما يمنع من إعمالها في البداية؟ كما أنّ موضوع البحث ليس بأعظم من خلق السماوات والأرض وغيره من مظاهر العظمة في الخلق. وهذا ما نجده في هذه النّماذج من الآيات الكريمة:
1 ـ {بَل قَالُو مِثلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ* قَالُوا أَءِذا مِتنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبعُوثُونَ* لَقَد وُعِدنَا نَحنُ وَءَابَآؤُنَا هَذَا مِن قَبلُ إِن هَذَا إلاَّ أَسَاطيرُ الأَوَّلِينَ* قُل لِمَنِ الأَرضُ وَمَن فِيهَا إن كُنتُم تَعلَمُونَ* سَيَقُولُونَ للهِ قُل أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ* قُل مَن رَّبُّ السَّماوَاتِ السَّبعِ وَرَبُّ العَرِش العَظِيمِ* سَيَقُولُونَ للهِ قُل أَفَلاَ تَتَّقُونَ* قُل مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيهِ إن كُنتُم تَعلَمُونَ* سَيَقُولُونَ للهِ قُل فَأَنَّى تُسَحَرُونَ}(المؤمنون: 81-89).
2 ـ {أَوَ لَم يَرَوا أنَّ اللهَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرضَ وَلَم يَعيَ بِخَلِقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أن يُحِيَ المَوتَى بَلَى إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ}(الأحقاف: 33).
3 ـ {أَوَلَيسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخلُقَ مِثلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ* إنَّمَا أَمرُهُ إِذَا أَرَاد شَيئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(يس: 81-82).
فقد لاحظنا في هذه الآيات، أنها لم تحاول مناقشة تفكير المنكرين للمعاد على أساس الاستبعاد بصورة مباشرة، بل حاولت إثارة علامات الاستفهام أمامهم حول ما يحيط بهم من السماء والأرض وما فيها؛ لمن كلّ هذا، وَمَنْ الذي خلقه، وَمَنْ الذي بيده ملكوت كلّ شيء؟ لتوجّههم إلى عظمة القدرة في ذلك كلّه، ولتقودهم بعد ذلك إلى الاعتراف بالله، الذي خلق كلّ هذا وبيده كلّ هذا، ليعترفوا بقناعة واعية، بأنّ القادر على خلق الكون كلّه، لا يصعب عليه أن يبعث الحياة في التّراب ليكون إنساناً من جديد.
إنّه الأسلوب الذي ينطلق من الحكمة الرائعة، عندما يُفاجىء الخصم بالحقيقة التي ينكرها، وهي تتحدّاه، من خلال قناعاته الذاتيّة التي تحيط به من كلّ جانب؛ دون أن يستطيع منها فكاكاً، أو يجد للهروب منها سبيلاً.
ثم يتّجه الحوار في اتجاه يبتعد عن موضوع الإمكان والاستحالة والقدرة وعدمها، لينطلق بالفكرة في إطار الحكمة من الوجود، وليعتبر أنّ إنكار المعاد مساوٍ لفكرة العبث في الخلق، مما يستحيل نسبته إلى الله سبحانه، وذلك في قوله تعالى: {أفَحَسِبتُم أَنَّمَا خَلَقَناكُم عَبَثا وأَنَّكُم إِلَينَا لاَ ترُجَعُونَ}(المؤمنون: 115).
فإنّ التكليف والمسؤوليّة يستتبعان مواجهة الإنسان نتائج المسؤوليّة، إذ بدون ذلك، يتحول الموضوع إلى عَبَث ولغو، لا ينسجمان مع عظمة الله وحكمته وكماله.
ويرجع الحوار إلى الفكرة التي قرّرناها في بداية الحديث، وهي ارتباط إنكارهم الذي يواجهون به هذه الفكرة، بالظّنون التي لا ترجع إلى أساس، والتخرّصات التي لا ترتكز على دليل؛ وهذا ما تصوِّره لنا الآيتان الكريمتان في قوله تعالى:
1 ـ {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنيَا نَمُوتُ وَنَحيَا وَمَا يُهلِكُنَآ إلاَّ الدَّهرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِن عِلمٍ إن هُم إلاَّ يَظُنُّونَ* وإذَا تُتلَى عَلَيهِم ءَايَاتُنَا بَيِّناتٍ مَّا كَان حُجَتَهُم إلاَ أَن قَالُوا ائتُواْ بِأَبَآئِنَا إن كُنتُم صَادِقِين}(الجاثية: 24- 25). وهكذا نجد النبيّ (ص) ينطلق ـ من خلال القرآن الكريم ـ على قاعدة اعتبار البرهان على الفكرة، سلباً أو إيجاباً، أساساً لرفضها أو قبولها، ثم محاولة تحريك الفكر الإنساني للبحث في التفاصيل للإحاطة بكلّ جوانب الموضوع.
فإذا أدَّى الحوار إلى نتيجة حاسمة، يكون قد حقّق الهدف منه، وإلا فالموقف الحكيم ـ في إطار الإيمان ـ هو إفساح المجال أمام كلّ فكرة لتمارس حريتها في الحركة، ما لم تؤدِّ تلك الحركة إلى الإخلال بالنظام.
إنّ الإسلام يمدّ يده إلى مخالفيه في الرأي، ليحاورهم ويجادلهم بالتي هي أحسن.
{فَإن لَّم يَستَجِيبُوا لَكَ فَاعلَم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهَوآءَهُم وَمَن أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدىً مِنَ اللهِ إنَّ اللهَ لا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ}(القصص: 50).
*من كتاب "الحوار في القرآن".