رجل الدّين ورجل الإيمان

رجل الدّين ورجل الإيمان
 
رجل الدّين ورجل الإيمان

ميزة الرّجال الأماجد، أنّهم متى رحلوا بالجسد غياباً في موكب الموت، استرجعتهم ذاكرة الحياة حضوراً في الفكر والوجدان، وألقاً لا يمحوه النّسيان. فالعمر لا يقاس بعدد السّنين، بل إنّ العمر أفعال وأعمال، تضيق بها مساحة الزّمان ومدى المكان، ليصبح جزءاً من مسيرة التّاريخ وديمومة العالم.

بهذا المعيار التّقويميّ الّذي لا يندرج في بورصة التحوّلات الظرفيَّة، ننظر إلى شخصيَّة آية الله العظمى السيِّد محمّد حسين فضل الله، طيّب الله ثراه، في سيرته ومساره، من خلال حكمته الوازنة، وعقله الرَّاجح ومحبّته السّمحاء، التي تجلَّت في خدمته للنّاس والمجتمع، هو الّذي أمضى عمره مجتهداً وباحثاً فذّاً، وباحثاً علاّمة عن سبل جادّة ومفيدة لتيسير حياة النّاس في شؤون الدّين والدّنيا.

لقد تعرّفت إلى سماحته شخصيّاً منذ أوائل التّسعينات، عندما كنت أزوره برفقة موفدين من الفاتيكان، أو وفود أجنبيّة من دول أوروبّا، أو من خلال كتاباته ومحاضراته الّتي تناولت جوانب الحياة في بُعديها الرّوحيّ والدّنيويّ، وكذلك من خلال عملنا المشترك في مجالات الحوار والتّلاقي، بتأكيد نظرتنا الواحد إلى الآخر وقبوله، رغم الاختلافات الفكريّة والسياسيّة والعقائديّة، لأنّ هذه القضيّة كانت وما زالت مشكلة الإنسان منذ بدء الخليقة، حيث رأينا قابيل وهابيل في أزمةٍ نشأت من عدم القدرة على قبول الأخ لأخيه، بسبب الحسد وحبّ الذّات ونوازع الشّرّ، وعلى هذا النّمط عاش النّاس في مسيرتهم الطّويلة، لا يستطيعون النّظر إلى الآخر إلا من خلال بُعدٍ واحدٍ يتّصل بالذّات أو (الأنا)، ما جعلهم فيما بعد، بسبب التنوّع والتعدّد والاختلاف على كلّ المستويات، يذهبون متباعدين متقاتلين إلى الحروب والصّراعات المدمّرة الّتي أنتجت الكثير من الآلام والويلات، فكان حبّ الذّات وبغض الآخر تدميراً لهذه الذّات بنفسها.

1 ـ محمد حسين فضل الله وقضايا الحوار

عندما تناول سماحته الحوار بين الأديان والجماعات، رأى أنّه من الواجب إزالة العوائق الّتي تحول دون تحقيق هذا الحوار فعليّاً، وبالتّحديد تلك العوامل الذاتيّة الّتي تشكّل المقدّسات الّتي نرسمها في خاطرنا، ونمنع الحوار فيها أو التحدّث بشؤونها، لأنّنا في خوفٍ من أن تهتزّ صورة هذه المقدّسات، رغم أنّ الإنسان ورث في عقيدته الكثير من التّفاصيل الّتي لا تمتّ إلى واقع الإيمان بصلة. ومن أجل هذا، أطلق سماحته فكرة "لا مقدّسات في الحوار"، وقال: "إنّنا نستطيع التّحاور في كلّ شيء، وإذا استقام للمتحاوريْن أنّهما لا يحملان معنًى عدوانيّاً، الواحد تجاه الآخر، فبإمكانهما أن ينطلقا من أجل أن يتحاورا في كلّ شيء".

جوهر المشكلة أيّها الأخوة، أنّنا نتحدّث مع الآخر من خلال ما نريده نحن، لا من خلال ما يريد أن يقول الآخر، ولذلك يتحوّل الحوار إلى حوارٍ مع الذّات، ومن طرفٍ واحد، وهو ما نسمّيه (المونولوغ). إنّ الرّؤية الحواريّة والتلاقويّة النيّرة التي تحدّث عنها سماحته، تتلاقى في كثيرٍ من وجوهها مع نظرة الكنيسة في ما صدر عن المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، حيث جاء في مقرّراته: "إنّ الكنيسة تنظر وفق مهمّتها في دعم الوحدة والمحبّة بين البشر، إلى ما هو مشترك بين النّاس، ومن شأنه أن يقودهم إلى الشّركة مع بعضهم البعض. وبالتّالي، فإنّ الكنيسة لا ترفض ما هو مقدَّس لدى الدِّيانات الأخرى، ولو اختلف الأسلوب أو طريقة التَّعبير، فوجود الخير والحقيقة في تلك الدِّيانات، يرجع إلى فعل عناية الله، ولذلك يتوجّب على المسيحيّين أن يعترفوا بهذه العناصر، وأن يساعدوا على صيانة هذه القيم الرّوحيّة والأخلاقيّة".

يمكننا التّبصُّر في مدى حكمة هذا العالم الجليل والمرجعيَّة الدّينيَّة والفقهيَّة الرَّصينة وإصغائه وبُعد نظره في مستويات عدّة، إن على المستوى الإسلاميّ، حيث برزت مواقفه الانفتاحيّة والمتقدّمة على الواقع في الكثير من الظّروف، أو في الفتاوى الّتي تنمّ عن روحٍ استشرافيّةٍ تتجاوز حدود المصالح المذهبيّة والفئويّة الضيّقة لتتلاقى مع الإنسان في مداه الأوسع، بما يوفّر له أنماطاً جديدةً للعيش لا تتناقض مع جوهر الإيمان، ولا تقع في شرك الجهل والتّقاليد الآسرة.

2 ـ محمّد حسين فضل الله والعلاقة مع الغرب

يرى سماحته أنَّه لم يعد هناك شرقٌ وغربٌ، بل أصبح العالم كلُّه قريةً ومنظومةً جغرافيَّةً واحدةً، ولم تعد هناك حواجز مانعة حتَّى في المسائل الثّقافيَّة، وهذا ما عبَّر عنه صراحةً وقال: "إنَّنا ومن موقفنا الإسلاميّ، ندعو إلى حوارٍ إسلاميّ ـ أوروبيّ على نطاقٍ واسع، تشترك فيه الشخصيَّات والأحزاب ومراكز الدِّراسات، لتوضيح الصّورة الحقيقيَّة للإسلام في نظرته إلى الغرب، كما نريد للأنظمة الإسلاميَّة أن تعمل على تحسين سجلِّها في مجال حقوق الإنسان، انطلاقاً من القيم الإسلاميَّة، ومن الرَّغبة في التَّعاون والتَّقارب ورفض الظّلم الاجتماعيّ والسّياسيّ والدّينيّ على مستوى العالم كلِّه".

في مقاربته لموضوع الحكمة، رأى سماحته أنَّ الحكمة عنوان رسالة الأنبياء، وهم عاشوها في خطِّ الدَّعوة، وعلَّموها للنَّاس، ويسَّروا لهم فهمها، ودعوهم إلى السَّير بمداها، وهذا أمرٌ صعب ومعقّد يحتاج إلى جهودٍ فكريّةٍ واطّلاعٍ واسعٍ وتفكيرٍ عميق. ومن هنا تنشأ الجدليّة بين الحكمة والموعظة الحسنة، إذ لا بدَّ للإنسان من أن ينطلق، وللرّوح من أن تطمئنّ، وللعقل من أن يفكّر برويّة، وكما أنّ القرآن الكريم تعامل مع الواقع في خطّ الحكمة، حيث نجده يحسم تارةً ويتساهل تارةً أخرى، نرى أنّه لا بدّ للحكمة من أن تلتقي بالمرونة، وأن تلتقي المرونة بالموعظة الحسنة وبالأسلوب الأحسن.

وإذا كان الدّين الإسلاميّ قد أراد للإنسان أن يُغني ثقافته العلميّة بأسرار الكون، واعتبر أنّ التّفكير فريضة، فإنّه قد فضّل تفكير ساعةٍ على عبادة سنة. وإذا كان الإسلام يتحرّك دوماً في خطِّ الفكر والعلم، ما يجعله حركةً دائمةً في اتّجاه اكتشاف أسرار الكون والحياة والإنسان، وإذا كانت بعض السّلطات تلتزم فكراً معيّناً أو رأياً خاصّاً لتضطهد الّذين يخالفونها فيه بفعل القوّة الظّالمة، فإنّ الإسلام نفسه لا يتحمّل وزر هذه الأفعال والتصرّفات، لأنّ الاستكبار السّلطويّ هو وحده الّذي يتحمّل المسؤوليّة في نظرته التّقديسيّة والتّحريميّة إلى الأوضاع الفكريّة والعلميّة والسياسيّة وغيرها.

لقد عاش سماحة السيِّد حياةً غنيّةً بالتّقى والتّجربة والعلم والاجتهاد الفكريّ والجهاد الإيمانيّ، فكانت مساحة حياته دائرةً ملأى بالتحدّيات لمواجهة الواقع، والخروج من الجمود الّذي يحاصر الفكر والرّوح، وينأى بالإنسان عن التّحليق في أجواء الحرية والإيمان الحقّ الّذي التزم به ودعا إليه، والّذي يفتح فكر الإنسان على المطلق، ويقعّده على ثوابت لا تهتزّ أمام انفعالاتٍ غريزيّةٍ وانفلاتاتٍ بعيدةٍ عن السّلوك الإيمانيّ الصّحيح.

في هذه الرّحابة الغنيذة بالعلم والإيمان، أمضى سماحة السيّد سحابة عمره، ليبقى في غيابه كما كان في حضوره، حجّةً دينيّةً ومرجعيّةً علميّةً وفقهيّة، بكلّ ما يختزنه هذا الموقع من قيم الرّوح ووسائط التّلاقي الفكريّ والتّواصل الدّائم بين البشر، كلّ البشر، على دروب الحياة.

خلاصة القول، إنَّ هذا الرَّاحل الكبير، الّذي نفتقده كلَّ وقت، والّذي نتحلَّق حول ذكراه، هو أكثر من رجل دين... هو رجل إيمان، هو علاّمة غارق في النّعمة، نقيّ الدّاخلة، طيّب الكلام، وسمح القلب.

نعم، هو رجل إيمانٍ حيّ، وهو المربّي على فهم الإيمان بذهنيّةٍ هادئةٍ تسعى إلى الحقيقة من دون ادّعائيّة مصادرتها أو احتكارها.

محمّد حسين فضل الله، بفقهه وفكره وأدبه، هو عاشق الله في الإنسان، همّه الأساس أن يعرف الإنسان أنّ الله يحبّه، وأنّ بمقدور هذا الإنسان المحبوب من الله أن يحبّ الآخر، أيّ آخر، ويعتبره أخاً له.

دعاؤنا إلى الرّبّ أن يحتضن سماحة المغفور له بواسع رحمته، وأن يهدينا جميعاً إلى التبصّر، ومعرفة درب الحقّ والخلاص، والعمل بوحي الإيمان والمحبّة...

وكم نحن اليوم بحاجةٍ إلى نار الإيمان ونور المحبّة...!

المطران سليم غزال
رئيس اللّجنة الأسقفيّة للحوار المسيحي ـ الإسلامي

التاريخ: 6 شوّال 1431 هـ  الموافق: 14/09/2010 م

 
 
 
 
رجل الدّين ورجل الإيمان

ميزة الرّجال الأماجد، أنّهم متى رحلوا بالجسد غياباً في موكب الموت، استرجعتهم ذاكرة الحياة حضوراً في الفكر والوجدان، وألقاً لا يمحوه النّسيان. فالعمر لا يقاس بعدد السّنين، بل إنّ العمر أفعال وأعمال، تضيق بها مساحة الزّمان ومدى المكان، ليصبح جزءاً من مسيرة التّاريخ وديمومة العالم.

بهذا المعيار التّقويميّ الّذي لا يندرج في بورصة التحوّلات الظرفيَّة، ننظر إلى شخصيَّة آية الله العظمى السيِّد محمّد حسين فضل الله، طيّب الله ثراه، في سيرته ومساره، من خلال حكمته الوازنة، وعقله الرَّاجح ومحبّته السّمحاء، التي تجلَّت في خدمته للنّاس والمجتمع، هو الّذي أمضى عمره مجتهداً وباحثاً فذّاً، وباحثاً علاّمة عن سبل جادّة ومفيدة لتيسير حياة النّاس في شؤون الدّين والدّنيا.

لقد تعرّفت إلى سماحته شخصيّاً منذ أوائل التّسعينات، عندما كنت أزوره برفقة موفدين من الفاتيكان، أو وفود أجنبيّة من دول أوروبّا، أو من خلال كتاباته ومحاضراته الّتي تناولت جوانب الحياة في بُعديها الرّوحيّ والدّنيويّ، وكذلك من خلال عملنا المشترك في مجالات الحوار والتّلاقي، بتأكيد نظرتنا الواحد إلى الآخر وقبوله، رغم الاختلافات الفكريّة والسياسيّة والعقائديّة، لأنّ هذه القضيّة كانت وما زالت مشكلة الإنسان منذ بدء الخليقة، حيث رأينا قابيل وهابيل في أزمةٍ نشأت من عدم القدرة على قبول الأخ لأخيه، بسبب الحسد وحبّ الذّات ونوازع الشّرّ، وعلى هذا النّمط عاش النّاس في مسيرتهم الطّويلة، لا يستطيعون النّظر إلى الآخر إلا من خلال بُعدٍ واحدٍ يتّصل بالذّات أو (الأنا)، ما جعلهم فيما بعد، بسبب التنوّع والتعدّد والاختلاف على كلّ المستويات، يذهبون متباعدين متقاتلين إلى الحروب والصّراعات المدمّرة الّتي أنتجت الكثير من الآلام والويلات، فكان حبّ الذّات وبغض الآخر تدميراً لهذه الذّات بنفسها.

1 ـ محمد حسين فضل الله وقضايا الحوار

عندما تناول سماحته الحوار بين الأديان والجماعات، رأى أنّه من الواجب إزالة العوائق الّتي تحول دون تحقيق هذا الحوار فعليّاً، وبالتّحديد تلك العوامل الذاتيّة الّتي تشكّل المقدّسات الّتي نرسمها في خاطرنا، ونمنع الحوار فيها أو التحدّث بشؤونها، لأنّنا في خوفٍ من أن تهتزّ صورة هذه المقدّسات، رغم أنّ الإنسان ورث في عقيدته الكثير من التّفاصيل الّتي لا تمتّ إلى واقع الإيمان بصلة. ومن أجل هذا، أطلق سماحته فكرة "لا مقدّسات في الحوار"، وقال: "إنّنا نستطيع التّحاور في كلّ شيء، وإذا استقام للمتحاوريْن أنّهما لا يحملان معنًى عدوانيّاً، الواحد تجاه الآخر، فبإمكانهما أن ينطلقا من أجل أن يتحاورا في كلّ شيء".

جوهر المشكلة أيّها الأخوة، أنّنا نتحدّث مع الآخر من خلال ما نريده نحن، لا من خلال ما يريد أن يقول الآخر، ولذلك يتحوّل الحوار إلى حوارٍ مع الذّات، ومن طرفٍ واحد، وهو ما نسمّيه (المونولوغ). إنّ الرّؤية الحواريّة والتلاقويّة النيّرة التي تحدّث عنها سماحته، تتلاقى في كثيرٍ من وجوهها مع نظرة الكنيسة في ما صدر عن المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، حيث جاء في مقرّراته: "إنّ الكنيسة تنظر وفق مهمّتها في دعم الوحدة والمحبّة بين البشر، إلى ما هو مشترك بين النّاس، ومن شأنه أن يقودهم إلى الشّركة مع بعضهم البعض. وبالتّالي، فإنّ الكنيسة لا ترفض ما هو مقدَّس لدى الدِّيانات الأخرى، ولو اختلف الأسلوب أو طريقة التَّعبير، فوجود الخير والحقيقة في تلك الدِّيانات، يرجع إلى فعل عناية الله، ولذلك يتوجّب على المسيحيّين أن يعترفوا بهذه العناصر، وأن يساعدوا على صيانة هذه القيم الرّوحيّة والأخلاقيّة".

يمكننا التّبصُّر في مدى حكمة هذا العالم الجليل والمرجعيَّة الدّينيَّة والفقهيَّة الرَّصينة وإصغائه وبُعد نظره في مستويات عدّة، إن على المستوى الإسلاميّ، حيث برزت مواقفه الانفتاحيّة والمتقدّمة على الواقع في الكثير من الظّروف، أو في الفتاوى الّتي تنمّ عن روحٍ استشرافيّةٍ تتجاوز حدود المصالح المذهبيّة والفئويّة الضيّقة لتتلاقى مع الإنسان في مداه الأوسع، بما يوفّر له أنماطاً جديدةً للعيش لا تتناقض مع جوهر الإيمان، ولا تقع في شرك الجهل والتّقاليد الآسرة.

2 ـ محمّد حسين فضل الله والعلاقة مع الغرب

يرى سماحته أنَّه لم يعد هناك شرقٌ وغربٌ، بل أصبح العالم كلُّه قريةً ومنظومةً جغرافيَّةً واحدةً، ولم تعد هناك حواجز مانعة حتَّى في المسائل الثّقافيَّة، وهذا ما عبَّر عنه صراحةً وقال: "إنَّنا ومن موقفنا الإسلاميّ، ندعو إلى حوارٍ إسلاميّ ـ أوروبيّ على نطاقٍ واسع، تشترك فيه الشخصيَّات والأحزاب ومراكز الدِّراسات، لتوضيح الصّورة الحقيقيَّة للإسلام في نظرته إلى الغرب، كما نريد للأنظمة الإسلاميَّة أن تعمل على تحسين سجلِّها في مجال حقوق الإنسان، انطلاقاً من القيم الإسلاميَّة، ومن الرَّغبة في التَّعاون والتَّقارب ورفض الظّلم الاجتماعيّ والسّياسيّ والدّينيّ على مستوى العالم كلِّه".

في مقاربته لموضوع الحكمة، رأى سماحته أنَّ الحكمة عنوان رسالة الأنبياء، وهم عاشوها في خطِّ الدَّعوة، وعلَّموها للنَّاس، ويسَّروا لهم فهمها، ودعوهم إلى السَّير بمداها، وهذا أمرٌ صعب ومعقّد يحتاج إلى جهودٍ فكريّةٍ واطّلاعٍ واسعٍ وتفكيرٍ عميق. ومن هنا تنشأ الجدليّة بين الحكمة والموعظة الحسنة، إذ لا بدَّ للإنسان من أن ينطلق، وللرّوح من أن تطمئنّ، وللعقل من أن يفكّر برويّة، وكما أنّ القرآن الكريم تعامل مع الواقع في خطّ الحكمة، حيث نجده يحسم تارةً ويتساهل تارةً أخرى، نرى أنّه لا بدّ للحكمة من أن تلتقي بالمرونة، وأن تلتقي المرونة بالموعظة الحسنة وبالأسلوب الأحسن.

وإذا كان الدّين الإسلاميّ قد أراد للإنسان أن يُغني ثقافته العلميّة بأسرار الكون، واعتبر أنّ التّفكير فريضة، فإنّه قد فضّل تفكير ساعةٍ على عبادة سنة. وإذا كان الإسلام يتحرّك دوماً في خطِّ الفكر والعلم، ما يجعله حركةً دائمةً في اتّجاه اكتشاف أسرار الكون والحياة والإنسان، وإذا كانت بعض السّلطات تلتزم فكراً معيّناً أو رأياً خاصّاً لتضطهد الّذين يخالفونها فيه بفعل القوّة الظّالمة، فإنّ الإسلام نفسه لا يتحمّل وزر هذه الأفعال والتصرّفات، لأنّ الاستكبار السّلطويّ هو وحده الّذي يتحمّل المسؤوليّة في نظرته التّقديسيّة والتّحريميّة إلى الأوضاع الفكريّة والعلميّة والسياسيّة وغيرها.

لقد عاش سماحة السيِّد حياةً غنيّةً بالتّقى والتّجربة والعلم والاجتهاد الفكريّ والجهاد الإيمانيّ، فكانت مساحة حياته دائرةً ملأى بالتحدّيات لمواجهة الواقع، والخروج من الجمود الّذي يحاصر الفكر والرّوح، وينأى بالإنسان عن التّحليق في أجواء الحرية والإيمان الحقّ الّذي التزم به ودعا إليه، والّذي يفتح فكر الإنسان على المطلق، ويقعّده على ثوابت لا تهتزّ أمام انفعالاتٍ غريزيّةٍ وانفلاتاتٍ بعيدةٍ عن السّلوك الإيمانيّ الصّحيح.

في هذه الرّحابة الغنيذة بالعلم والإيمان، أمضى سماحة السيّد سحابة عمره، ليبقى في غيابه كما كان في حضوره، حجّةً دينيّةً ومرجعيّةً علميّةً وفقهيّة، بكلّ ما يختزنه هذا الموقع من قيم الرّوح ووسائط التّلاقي الفكريّ والتّواصل الدّائم بين البشر، كلّ البشر، على دروب الحياة.

خلاصة القول، إنَّ هذا الرَّاحل الكبير، الّذي نفتقده كلَّ وقت، والّذي نتحلَّق حول ذكراه، هو أكثر من رجل دين... هو رجل إيمان، هو علاّمة غارق في النّعمة، نقيّ الدّاخلة، طيّب الكلام، وسمح القلب.

نعم، هو رجل إيمانٍ حيّ، وهو المربّي على فهم الإيمان بذهنيّةٍ هادئةٍ تسعى إلى الحقيقة من دون ادّعائيّة مصادرتها أو احتكارها.

محمّد حسين فضل الله، بفقهه وفكره وأدبه، هو عاشق الله في الإنسان، همّه الأساس أن يعرف الإنسان أنّ الله يحبّه، وأنّ بمقدور هذا الإنسان المحبوب من الله أن يحبّ الآخر، أيّ آخر، ويعتبره أخاً له.

دعاؤنا إلى الرّبّ أن يحتضن سماحة المغفور له بواسع رحمته، وأن يهدينا جميعاً إلى التبصّر، ومعرفة درب الحقّ والخلاص، والعمل بوحي الإيمان والمحبّة...

وكم نحن اليوم بحاجةٍ إلى نار الإيمان ونور المحبّة...!

المطران سليم غزال
رئيس اللّجنة الأسقفيّة للحوار المسيحي ـ الإسلامي

التاريخ: 6 شوّال 1431 هـ  الموافق: 14/09/2010 م

 
 
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية