مقالات
26/03/2025

سياسةُ الشَّيطانِ وسياسةُ أهلِ الوعيِ والإيمان

سياسةُ الشَّيطانِ وسياسةُ أهلِ الوعيِ والإيمان

أذكُر أني قرأتُ جوابًا لسماحة السيّد محمَّد حسين فضل الله (رض) عن سؤال: مِن أينَ تعلَّمتَ السياسة؟ فكان جوابُه لافتًا، فرسخ في ذهني، وإن لم أعد أتذكَّر المصدر بالضَّبط (ولعلَّه كان في كتاب الندوة).
قال (بالمضمون): تعلَّمتُ السياسة من نبيّ الله موسى (ع)؛ حيث إنَّه عندما أفحم فرعونَ في الحوار، أراد فرعون أن يقلب الطَّاولة عليه بتحريك البُعد العاطفيّ عند جماعته، ليستغلَّ الأمر بعد ذلك في تصفية موسى وإنهاء دعوته، فبادر (فرعونُ) بالسّؤال، كما نقل القرآن عنه: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ}[طه: 51]؟!..
كان هذا سؤالًا غريبًا، خارجًا عن صلب الموضوع! لكنَّ فرعون جعله فخًّا لموسى (ع)، فأجابه موسى مباشرة ودون تردّد: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}[طه: 52]! ويبدو هذا الجواب أيضًا غريبًا؛ لأنَّ موسى يحيل المسألة إلى الله سبحانه رغم علمه بالجواب!.
أراد فرعون بسؤاله عن (القرون الأولى) الَّذين هم أسلاف الملأ والجمهور من أهل مصر من آبائهم وأجدادهم، أن يجرَّ نبيَّ الله موسى إلى مستنقع التناول السلبي لهؤلاء السَّلف، بالوقيعة فيهم بالكلام المؤذي لأبنائهم الحاضرين، ففرعون يعرف، وموسى يعرف، والحاضرون يعرفون، أنَّ هؤلاء السابقين كانوا على غير دين الله، فكانوا كفّارًا أو مشركين، فأنت يا موسى، حين تقول إنَّ من لا يؤمن بإلهك فهو ضالّ ومن أهل النار، فأنا أسألك (فرعون يقول): ماذا عن آبائنا وأجدادنا؛ هل هم من أهل الباطل والضَّلال والنَّار؟!
أراد فرعون من موسى أن ينطق بها، أو أن يزيد عليها بكلام يؤذي فيه مشاعر الحاضرين، لأنَّه مسّ أسلافهم، وحينها سيكون سهلًا على فرعون أن يحرّف الحوار إلى مسألة شخصيَّة عاطفيَّة؛ اسمعوا ما يقول عن آبائكم!! لكنَّ موسى (ع) فطن للخدعة، فأجاب بجواب لا يؤاخذ عليه عند الجمهور، فلا يعطي به لفرعون ما يريد، ويحافظ على قوَّة منطقه وحجَّته عن قضيَّته الأصليَّة، وهي الدعوة إلى الله، وإبطال دعوى فرعون بالربوبية، فقال: {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}. إنَّ مصير مَن سألتني عنهم عند الله ولا شأن لي بهم.
لذلك استمرَّ موسى في المطلب الأساسيّ الَّذي يمثّل بالنّسبة إليه القضيَّة الكبرى في المواجهة مع فرعون، فقال بعدها مباشرة: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ}[طه: 52- 54].
هكذا تعلَّم السيّد فضل الله أن يُسقط من يد العدوّ الورقة الرابحة التي يلعب بها إذا ضاق عليه الخناق، وهكذا يجب أن نتعامل مع الأمور. ولا بأس أن أنقل لكم نصَّ كلام السيّد (ره) في تفسير الآية في كتابه من وحي القرآن.
يقول: "إنَّ فرعون أراد إثارة موضوع القرون الأولى ليثير الأجواء السلبيَّة حول موسى، لإيجاد جوّ عاطفي في المجتمع المحيط بموسى، يدفع هؤلاء باتجاه الدفاع عن آبائهم الذين يرميهم موسى بالضَّلال، ويحكم عليهم بالعذاب، فكان إيكال موسى علم هؤلاء في مصيرهم إلى الله، الَّذي يعلم من جزئيات أعمالهم ما لا نعلمه، مما أحاط به ولم نحط، لونًا من ألوان الخروج من أجواء الجدل الضَّائع الذي لا يؤدي إلى نتيجة، ويُدخل الحديث في متاهات انفعاليَّة لا مجال للخروج منها إلا بالوقوع في كثير من المشاكل الاجتماعيَّة" [من وحي القرآن، ج: ١٢، ص: ١٢٩].
وقد تكرَّر هذا الموقف، وهو استراتيجية دائمة عند أهل الباطل للخروج من عنق الزجاجة إذا أعيتهم الحجَّة، بين معاوية بن أبي سفيان وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع)، أثناء المراسلات بينهما قبل حرب صفّين، حيث كان معاوية يؤكّد في رسائله للإمام (ع) على فضل الشيخين أبي بكر وعمر، وينتظر من الإمام أن يقع فيهما ليتَّخذ ذلك ذريعة لتهييج أهل الشَّام على الإمام، لكنَّ أمير المؤمنين أكبر من أن يقع في حبائل ابن أبي سفيان أو ابن العاص. فقد روى المؤرخون أنَّ عمرو بن العاص قال لمعاوية: "إنَّ عليًّا نزِقٌ تيّاه (نعوذ بالله) وما شيءٌ تستطعمُ به منه الكلام على أبي بكر وعمر بمثل تقريضهما له، فاكتب إليه كتابًا ثانيًا مثل الأوَّل، لكي يحمله الغضب لنفسه أن يكتب إليك كلامًا فيهما تتعلَّق به لتقبيح حاله وتهجين مذهبه"! [موسوعة التاريخ الإسلامي، ج: ٥، ص: ٥٣]..
فكان من جواب الإمام (ع) أنَّه كتب له: "إنّ الله اجتبى له (يقصد النبيّ الأكرم (ص)) من المسلمين أعوانًا أيَّده الله بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم، زعمتَ، في الإسلام وأنصحهم لله ورسوله خليفته، وخليفة خليفته من بعده، ولعمري إنَّ مكانهما من الإسلام لعظيم! وإنَّ المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد! رحمهما الله وجزاهما بأحسن الجزاء" [المصدر السابق، ص: ٤٨].
وتعليقًا على هذه الرسالة للأمير (ع)، كتب ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج بيانًا رائعًا، أوضح فيه سرَّ هذا الجواب من الإمام لمعاوية، فقد "نقل المعتزلي عن شيخه النَّقيب الزيدي، أنَّه أملى عليه، فكتب عنه تعليقًا على مثل هذا الكتاب عنه (ع)، قال: كان معاوية لا يزال يكيد عليًّا (ع) بالكتاب يكتبه، والرسالة يبعثها، يطلب أن ينفث بما في صدره من حال أبي بكر وعمر، إمَّا مكاتبة أو مراسلة، فيجعل ذلك حجَّة عند أهل الشام على الإمام، ويضيفه إلى ما قرَّره في أنفسهم من ذنوبه كما زعم، إذ كان قد اتَّهمه عندهم بأنَّه قتل عثمان أو مالأ على قتله! وأنَّه قتل طلحة والزبير، وأسر عائشة، وأراق دماء أهل البصرة! وبقيت خصلة واحدة، وهي: أن يثبت لهم أنَّه يتبرأ من أبي بكر وعمر، وينسبهما إلى مخالفة الرسول في أمر الخلافة، وأنهما وثبا عليه غلبةً وغصباها منه ظلمًا، وكانت هذه الطامَّة الكبرى غير مقتصرة على فساد أهل الشَّام على الإمام، بل وأهل العراق الَّذين هم جنده وبطانته وأنصاره؛ لأنهم كانوا يعتقدون إمامة الشَّيخين، إلَّا القليل الشاذّ من خواصّ الشيعة.
فكتب ذلك الكتاب مع أبي مسلم الخولاني، يقصد أن يغضب عليًّا ويحرجه ويحوجه، إذا قرأ ذكر أبي بكر، وأنَّه أفضل المسلمين، إلى أن يخلط في جوابه بكلمة تقتضي طعنًا في أبي بكر! فكان الجواب غير بيِّن، ليس فيه تصريح بالتظليم لهما ولا التصريح ببراءتهما، فتارةً يقول: أخذا حقّي وقد تركته لهما، وتارةً يترحَّم عليهما". انتهى كلام ابن أبي الحديد [راجعه في: موسوعة التَّاريخ الإسلامي، ج٥].
بناءً عليه، يجدر بنا أن نعي كيف نعالج هذه المنزلقات الخطيرة، وخصوصًا عندما نكون في خضمّ حرب وجوديَّة مع أعداء الإسلام وأعداء الإنسانيَّة كما هي حالنا اليوم.
ختاماً، من المناسب جدًّا أن أنقل هذا النّصّ الجميل لسماحة السيّد فضل الله (رض)، تعقيبًا منه على تفسيره للآيات المذكورة أعلاه، والمختصَّة بمواجهة نبيّ الله موسى مع فرعون. يقول السيّد:
"وهذا أسلوب حكيم، يحتاج الإنسان الدَّاعية إلى الأخذ به في مواجهة الأشخاص الذين يريدون إيقاعه في أجواء الإثارة الاجتماعيَّة، أو السياسة الانفعاليَّة العاطفيَّة التي يتحرَّك الناس فيها بعيدًا من أيَّة حالة عقلية، ما يخلق الكثير من الإرباك العمليّ في مجال الدَّعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، فيحاول الدَّاعية الهروب من ذلك بتوجيه المسألة إلى اتجاهٍ لا يثير الكثير من الجدل، بإيكال الأمر إلى الله في الأمور الَّتي أحاط بها علمه. والله العالم بحقائق آياته"[من وحي القرآن، ج: ١٢].

* نقلاً عن الفايسبوك، بتاريخ: 22-03-2025م.
أذكُر أني قرأتُ جوابًا لسماحة السيّد محمَّد حسين فضل الله (رض) عن سؤال: مِن أينَ تعلَّمتَ السياسة؟ فكان جوابُه لافتًا، فرسخ في ذهني، وإن لم أعد أتذكَّر المصدر بالضَّبط (ولعلَّه كان في كتاب الندوة).
قال (بالمضمون): تعلَّمتُ السياسة من نبيّ الله موسى (ع)؛ حيث إنَّه عندما أفحم فرعونَ في الحوار، أراد فرعون أن يقلب الطَّاولة عليه بتحريك البُعد العاطفيّ عند جماعته، ليستغلَّ الأمر بعد ذلك في تصفية موسى وإنهاء دعوته، فبادر (فرعونُ) بالسّؤال، كما نقل القرآن عنه: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ}[طه: 51]؟!..
كان هذا سؤالًا غريبًا، خارجًا عن صلب الموضوع! لكنَّ فرعون جعله فخًّا لموسى (ع)، فأجابه موسى مباشرة ودون تردّد: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}[طه: 52]! ويبدو هذا الجواب أيضًا غريبًا؛ لأنَّ موسى يحيل المسألة إلى الله سبحانه رغم علمه بالجواب!.
أراد فرعون بسؤاله عن (القرون الأولى) الَّذين هم أسلاف الملأ والجمهور من أهل مصر من آبائهم وأجدادهم، أن يجرَّ نبيَّ الله موسى إلى مستنقع التناول السلبي لهؤلاء السَّلف، بالوقيعة فيهم بالكلام المؤذي لأبنائهم الحاضرين، ففرعون يعرف، وموسى يعرف، والحاضرون يعرفون، أنَّ هؤلاء السابقين كانوا على غير دين الله، فكانوا كفّارًا أو مشركين، فأنت يا موسى، حين تقول إنَّ من لا يؤمن بإلهك فهو ضالّ ومن أهل النار، فأنا أسألك (فرعون يقول): ماذا عن آبائنا وأجدادنا؛ هل هم من أهل الباطل والضَّلال والنَّار؟!
أراد فرعون من موسى أن ينطق بها، أو أن يزيد عليها بكلام يؤذي فيه مشاعر الحاضرين، لأنَّه مسّ أسلافهم، وحينها سيكون سهلًا على فرعون أن يحرّف الحوار إلى مسألة شخصيَّة عاطفيَّة؛ اسمعوا ما يقول عن آبائكم!! لكنَّ موسى (ع) فطن للخدعة، فأجاب بجواب لا يؤاخذ عليه عند الجمهور، فلا يعطي به لفرعون ما يريد، ويحافظ على قوَّة منطقه وحجَّته عن قضيَّته الأصليَّة، وهي الدعوة إلى الله، وإبطال دعوى فرعون بالربوبية، فقال: {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}. إنَّ مصير مَن سألتني عنهم عند الله ولا شأن لي بهم.
لذلك استمرَّ موسى في المطلب الأساسيّ الَّذي يمثّل بالنّسبة إليه القضيَّة الكبرى في المواجهة مع فرعون، فقال بعدها مباشرة: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ}[طه: 52- 54].
هكذا تعلَّم السيّد فضل الله أن يُسقط من يد العدوّ الورقة الرابحة التي يلعب بها إذا ضاق عليه الخناق، وهكذا يجب أن نتعامل مع الأمور. ولا بأس أن أنقل لكم نصَّ كلام السيّد (ره) في تفسير الآية في كتابه من وحي القرآن.
يقول: "إنَّ فرعون أراد إثارة موضوع القرون الأولى ليثير الأجواء السلبيَّة حول موسى، لإيجاد جوّ عاطفي في المجتمع المحيط بموسى، يدفع هؤلاء باتجاه الدفاع عن آبائهم الذين يرميهم موسى بالضَّلال، ويحكم عليهم بالعذاب، فكان إيكال موسى علم هؤلاء في مصيرهم إلى الله، الَّذي يعلم من جزئيات أعمالهم ما لا نعلمه، مما أحاط به ولم نحط، لونًا من ألوان الخروج من أجواء الجدل الضَّائع الذي لا يؤدي إلى نتيجة، ويُدخل الحديث في متاهات انفعاليَّة لا مجال للخروج منها إلا بالوقوع في كثير من المشاكل الاجتماعيَّة" [من وحي القرآن، ج: ١٢، ص: ١٢٩].
وقد تكرَّر هذا الموقف، وهو استراتيجية دائمة عند أهل الباطل للخروج من عنق الزجاجة إذا أعيتهم الحجَّة، بين معاوية بن أبي سفيان وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع)، أثناء المراسلات بينهما قبل حرب صفّين، حيث كان معاوية يؤكّد في رسائله للإمام (ع) على فضل الشيخين أبي بكر وعمر، وينتظر من الإمام أن يقع فيهما ليتَّخذ ذلك ذريعة لتهييج أهل الشَّام على الإمام، لكنَّ أمير المؤمنين أكبر من أن يقع في حبائل ابن أبي سفيان أو ابن العاص. فقد روى المؤرخون أنَّ عمرو بن العاص قال لمعاوية: "إنَّ عليًّا نزِقٌ تيّاه (نعوذ بالله) وما شيءٌ تستطعمُ به منه الكلام على أبي بكر وعمر بمثل تقريضهما له، فاكتب إليه كتابًا ثانيًا مثل الأوَّل، لكي يحمله الغضب لنفسه أن يكتب إليك كلامًا فيهما تتعلَّق به لتقبيح حاله وتهجين مذهبه"! [موسوعة التاريخ الإسلامي، ج: ٥، ص: ٥٣]..
فكان من جواب الإمام (ع) أنَّه كتب له: "إنّ الله اجتبى له (يقصد النبيّ الأكرم (ص)) من المسلمين أعوانًا أيَّده الله بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم، زعمتَ، في الإسلام وأنصحهم لله ورسوله خليفته، وخليفة خليفته من بعده، ولعمري إنَّ مكانهما من الإسلام لعظيم! وإنَّ المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد! رحمهما الله وجزاهما بأحسن الجزاء" [المصدر السابق، ص: ٤٨].
وتعليقًا على هذه الرسالة للأمير (ع)، كتب ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج بيانًا رائعًا، أوضح فيه سرَّ هذا الجواب من الإمام لمعاوية، فقد "نقل المعتزلي عن شيخه النَّقيب الزيدي، أنَّه أملى عليه، فكتب عنه تعليقًا على مثل هذا الكتاب عنه (ع)، قال: كان معاوية لا يزال يكيد عليًّا (ع) بالكتاب يكتبه، والرسالة يبعثها، يطلب أن ينفث بما في صدره من حال أبي بكر وعمر، إمَّا مكاتبة أو مراسلة، فيجعل ذلك حجَّة عند أهل الشام على الإمام، ويضيفه إلى ما قرَّره في أنفسهم من ذنوبه كما زعم، إذ كان قد اتَّهمه عندهم بأنَّه قتل عثمان أو مالأ على قتله! وأنَّه قتل طلحة والزبير، وأسر عائشة، وأراق دماء أهل البصرة! وبقيت خصلة واحدة، وهي: أن يثبت لهم أنَّه يتبرأ من أبي بكر وعمر، وينسبهما إلى مخالفة الرسول في أمر الخلافة، وأنهما وثبا عليه غلبةً وغصباها منه ظلمًا، وكانت هذه الطامَّة الكبرى غير مقتصرة على فساد أهل الشَّام على الإمام، بل وأهل العراق الَّذين هم جنده وبطانته وأنصاره؛ لأنهم كانوا يعتقدون إمامة الشَّيخين، إلَّا القليل الشاذّ من خواصّ الشيعة.
فكتب ذلك الكتاب مع أبي مسلم الخولاني، يقصد أن يغضب عليًّا ويحرجه ويحوجه، إذا قرأ ذكر أبي بكر، وأنَّه أفضل المسلمين، إلى أن يخلط في جوابه بكلمة تقتضي طعنًا في أبي بكر! فكان الجواب غير بيِّن، ليس فيه تصريح بالتظليم لهما ولا التصريح ببراءتهما، فتارةً يقول: أخذا حقّي وقد تركته لهما، وتارةً يترحَّم عليهما". انتهى كلام ابن أبي الحديد [راجعه في: موسوعة التَّاريخ الإسلامي، ج٥].
بناءً عليه، يجدر بنا أن نعي كيف نعالج هذه المنزلقات الخطيرة، وخصوصًا عندما نكون في خضمّ حرب وجوديَّة مع أعداء الإسلام وأعداء الإنسانيَّة كما هي حالنا اليوم.
ختاماً، من المناسب جدًّا أن أنقل هذا النّصّ الجميل لسماحة السيّد فضل الله (رض)، تعقيبًا منه على تفسيره للآيات المذكورة أعلاه، والمختصَّة بمواجهة نبيّ الله موسى مع فرعون. يقول السيّد:
"وهذا أسلوب حكيم، يحتاج الإنسان الدَّاعية إلى الأخذ به في مواجهة الأشخاص الذين يريدون إيقاعه في أجواء الإثارة الاجتماعيَّة، أو السياسة الانفعاليَّة العاطفيَّة التي يتحرَّك الناس فيها بعيدًا من أيَّة حالة عقلية، ما يخلق الكثير من الإرباك العمليّ في مجال الدَّعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، فيحاول الدَّاعية الهروب من ذلك بتوجيه المسألة إلى اتجاهٍ لا يثير الكثير من الجدل، بإيكال الأمر إلى الله في الأمور الَّتي أحاط بها علمه. والله العالم بحقائق آياته"[من وحي القرآن، ج: ١٢].

* نقلاً عن الفايسبوك، بتاريخ: 22-03-2025م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية