العالم المعلّم للجيل الاسلامي |
فرج نجم
الحديث عن قامةٍ بحجم المرجع السيّد محمد حسين فضل الله وعلوّه ومكانته، يثير في النّفس شجوناً، لما لهذا الرّجل من تأثيرٍ وأثرٍ فيّ شخصيّاً، وكذلك في جيلي، ممن تعاطى وتأثَّر بما أنتجه الرَّاحل من الفقه وأصوله، والأدب وأجناسه، وكذلك ممن غمرهم الحراك السياسيّ في منطقتنا المضطربة فكريّاً ومنهجيّاً .
أنا ممن راقب ظاهرة السيِّد فضل الله منذ التِّسعينات، وأقول ممن وقفوا على ضفَّة التّخندق، ولم يقحمه أو يجرفه ـ ولله الحمد ـ التعصّب والتَّمذهب، حتى إنَّ أحد الإخوة الغيارى من الشّيعة، سألني ـ في الثَّمانينات ـ في حيرةٍ إن كنت من السَّادلة أو القابضة، فأخبرته حينها أنّي من السّادلة، فحمد الله لي على اتّباعي لمذهب الآل، ولكنّه لم يكن يعرف أنّ المالكيّة السنّة والإباضيَّة أيضاً يسدلون، فلقد كنت ممن استحثّهم السيّد بجرأته، وأصبحت لا أخشى الغوص في البحث عن أجوبةٍ لأسئلةٍ حرجةٍ وملحّة في الدّين والدّنيا كانت تدور فى العلن وفي الكواليس.
كان الفقيد علامةً فارقةً، من حيث إنّه تحوّل منهلاً ورافداً للعلم والحكمة والرّجاحة والاعتدال في كلِّ شيء بالنِّسبة إليّ. والأهمّ أنّه كان العالم المعلّم الّذي نراه صورةً ونسمعه صوتاً، في وقتٍ كان بعض أقرانه إمّا صورةً بلا صوت، أو صوتاً بلا صورة.
كان يعيش بين الفقراء، بل إنّه سخّر حياته لهم .. يحاكيهم ويخفّف عنهم، وعنّا، نحن الّذين مللنا تشدّد المذاهب وعسر أساليبها.
قرّب بين المسلمين وغيرهم، فكان وحدويّ المزاج ـ كما وصفه أحد الكتّاب ـ تقريبـيّ الهوى، عاش على مائدة القرآن وتكلّم بمفرداته، فأصاب وأخطأ، وكان محمّديّ المسلك ورحمةً للعالمين، ولم يكن منكفئاً على الماضي، بل عارك الحاضر وراهن على المستقبل.
لقد جعل التشيّع مدرسةً للفكر والثَّقافة والتعدّد، عوضاً عن الصّورة النّمطيَّة الخاطئة من تشكيكٍ وتطبيرٍ وعزلة، فتصدَّى بشجاعةٍ وثباتٍ لتلك الرّوايات الّتي كان لها الأثر في فرقة المسلمين، فاستحقّ عليها بامتياز صفة بطل التّقريب، غير عابئ بضغط العوام وإغراء الحكّام.
كما كان صديقاً للمرأة، وأنيساً لها، عندما توحّش عليها الرّجل، واستغول على حقوقها وآدميّتها، فلم يرها السيّد عورةً في الصّورة والصّوت، ولا متعةً أو متاعاً ـ كما هو المعهود في مجتمعاتنا ـ بل رآها الإنسانة كما كرّمها خالقها.
لقد نفّرنا من الخزعبلات والخرافات الّتي ابتلي بها تراثنا، والّتي أساءت إلى الرّسالة المحمديّة الطّاهرة، ووضع حدّاً بيننا وبينها.
ويجب أن نتذكَّر رقَّته ـ في حين تفاخر نظراؤه وأنداده بالشدَّة ـ حيث دعا إلى السَّلام والوئام والتَّعايش مع الآخر.. فقال الشِّعر، وتحدَّث عن المسرح والغناء في سلاسةٍ ومحبَّة .
وفي الأوان نفسه، تصدَّى بحزمٍ للعربدة والظّلم والطّغيان، سواء الدّاخليّ، أو الخارجيّ المتمثِّل بالامبرياليَّة الأمريكيَّة وربيبتها الصّهيونيَّة، وكيانها العنصريّ في فلسطين السّليبة الّتي أحبّها ولم ينساها حتّى آخر لحظةٍ من عمره الشريف.
رحل عنّا السيّد فضل الله، ولكن سيبقى معنا تراثه الّذي سيحيا بيننا ما حيينا.. رحل بعد أن قال كلمته فى جيله.. وختم أمانته الّتى أملاها عليه ضميره.. ورفع راية العلم والإيمان.. ومدَّ يده مصافحاً الشّارع الإسلاميّ دون شروط.. رحمه الله فى هذا اليوم الّذي قيّضه الله لي ولجيلي لنقول كلمتنا فيه.
|