رحيل السيّد... يُتْمٌ متعاظم! |
أيمن عقيل
في لحظةٍ حرجةٍ من تاريخ لبنان، يتمفصل عندها أكثر من احتمال، فقدت السّاحة الإسلاميّة والإنسانيّة أحد أهمِّ أعمدة الفكر والفقه الإسلاميّ المعاصر، فاجتاحت المثقّفين في لبنان والعالم موجاتُ يُتْمٍ قاسيةٍ قد تتضاعف في القادم من الأيَّام، حيث سيفتقده لبنان أكثر حين يحتاجه أكثر، في ظروفٍ من المتوقَّع أن تكون أحلك كما يبدو من مسار الأحداث المقبلة، والَّتي سيتمُّ فيها تداول قضايا إشكاليَّة عديدة. والعارفون بأبسط قواعد ميكانيكيا الموزاييك اللّبنانيّ، يدركون أنَّ أيَّة محاولةٍ لطرح قضيَّةٍ إشكاليَّةٍ في لبنان، تعتبر بمثابة "استطلاعٍ بالنّيران" لمنظومة القلق الطّائفيِّ والهواجس الأقلّويَّة السَّائدة، ويلزمنا، بالتّالي، جامعو أمزجةٍ ذوو مهاراتٍ احترافيَّةٍ ليتمكَّنوا من إجراء مسحٍ شامٍل لردَّات الفعل الّتي من الممكن أن تصدر عن أرباب الطّوائف، تلك الرّدود الّتي ستتراوح بين المرحِّبة والسّاكتة (والسّكوت علامة الترقّب في لبنان) والغاضبة، وعند هذا المفصل تحديداً، نحن بحاجةٍ إلى رحابة سماحة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(قده) الّذي كان يملك شجاعة المناضلين من دون أن يفرّط بواقعيّة المفكّرين، علماً أنّ فرادته لم تكمن في انفتاحه على الآخر، فقد سبقه إلى هذا الكثيرون، بل من خلال مقدرته الفذّة من موقعه على رأس هرمٍ فقهيّ إسلاميّ، أي مرجعيّته، على أن يبادر إلى تزخيم ديناميّة تدمير الأقفال وليس الأبواب، وهنا تجلّت واقعيّته وحكمته الّتي لم تفارقه حتّى في أوج استحقاقات النّضال والكفاح الّتي خاضها محاضراً وحاضناً لقضايا لبنان وفلسطين والعراق وغيرها من قضايا المظلوميّة في العالم.
أعتقد أنّنا في مرحلة ما بعد السيّد، لسنا بحاجةٍ إلى من يتابع المسيرة بقدر حاجتنا إلى من يكتشف معالم مسيرته الإبداعيّة في غير مجالٍ وميدان. ولا شكّ في أنّ إنجازات السيّد الفكريّة ستتقاطع مع ما قام به العديد من المفكّرين الأكاديميّين المسلمين من جهودٍ خارقةٍ لوضع الفكر الإسلاميّ على الخطوط الرّاهنة للفكر والفلسفة المعاصرة، كما هي الحال مع المفكّر والفيلسوف الإسلاميّ محمد أركون، الّذي سدّد في الكثير من أعماله على هدف أنسنة الإسلام، وجال في التاريخ الإسلامي باحثاً عن ملامح الأنسنة وخرائطها في قسماته، وفي هذا السّياق، سيكون تراث السيّد بمثابة كنـز، لا بدّ من إماطة اللّثام عنه، لأنّه يمنح أطروحة الأنسنة الأثيرة، إذ يقعّد لها في الشّريعة أساساً فقهيّاً متيناً، ما يكسبها شرعيّة الطّرح في أروقة الحوزات والمعاهد الشّرعيّة، الأكثر قدرةً على التّأثير، على امتداد أقطار العالم الإسلاميّ. كما أنّ السيّد تناول مقولات الاعتدال والتّسامح، ليس بوصفها ترفاً فكريّاً أو بهارات فلسفيّة، بل عمل على تأصيل هذه القيم فقهيّاً، ومن رحم المخزون الرّوائيّ والاستنباطيّ الإسلاميّ، جاعلاً إيّاها في واجهة ردوده على الصّراخ والتّهافت الّذين احتلا منابر الخطاب لفتراتٍ طويلةٍ من تاريخنا الفكريّ.
وفي تلك المساحة الّتي يبدو فيها الدِّين إيماناً بالغيب، وبمعنى آخر، ممارسة عمليّة القفز في الغيب، في تلك المساحة بالضّبط، امتلك السيّد إمكانيّة الالتفات نحو ذلك المخلوق الضّعيف والرّائع، الّذي هو الإنسان، التفت إليه السيّد وانتشله من تحت عجلات العقائد المغلوطة، ومن بين مسنّنات الإيديولوجيّات الصمّاء، وفي هذا شيء من الفقه المقاصديّ الإنسانيّ الّذي لا ينفكّ يذكّرنا بمركزيّة الإنسان الّتي لا مساومة عليها ولا تضييق، ولا شكّ في أنّ فتواه بشأن طهارة الإنسان المطلقة، هي من أبرز تجلّيات مركزيّة الجوهر الإنسانيّ في إبداعه الفقهيّ، وأعتقد أنّ في هذا الفتوى ما يؤشّر إلى أنّنا بصدد عالمٍ إسلاميّ استثنائيّ استطاع أن يكتشف النّفخة الإلهيّة الشظيّة الّتي استقرّت في روح الإنسان منذ قرّر الله أن يكون هناك إنسان، مؤرّخاً بالتّالي لذهنيّةٍ فقهيَّةٍ تملك أن تكون عابرةً لمقتضيات الطّقوس في الشَّريعة، بمعنى أنَّها تساهم في إشاعة الرّوح الإلهيَّة السَّامية وتعميمها وتسييلها في مختلف الشَّرائح الاجتماعيّة، بغضّ النّظر عن علاقتها بحرفيّة الالتزام الدّينيّ.
ومن الواضح أنَّ السّاحة الإسلاميَّة أشبه ما تكون بخطوط جبهةٍ ثقافيّةٍ مستعرةٍ ذات امتداداتٍ أمنيَّةٍ واجتماعيَّةٍ في غاية الخطورة، فما بين دعوات السّلفيَّة الموغلة بعكس عقارب الحضارة، والّتي تخترق سائر المذاهب والفِرَق، ودعوات العلمنة المراهقة الّتي تريد أن تنسخ تجربة الغرب، لتفرز مشهداً إسلاميّاً مشوَّهاً وهجيناً على الضفَّة الأخرى للمتوسّط، وما بينهما، يتموضع تراث السيّد، ليس بوصفه معتدلاً أو وسطيّاً بين حدّي معادلة، بل بوصفه الطّرح الأصيل الخالي من عقد النّقص أو حتّى آفة التورّم والمغالاة الإسلامويّة.
استطاع السيِّد، وبنجاح منقطع النَّظير، أن يجمع بين شيعيَّة حارةٍ وشيعيَّة تفاعلٍ حارّ مع قضايا العالمين العربيّ والإسلاميّ، ولا شكَّ في أنَّ هذا الجمع يحتاج كيميائيّاً بارعاً يتقن فنّ المزاوجة بين مساحات المشاعر والأفكار، دون أن يتسبّب بانفجارٍ أو تشظٍّ في هويّته الأساس. وفي هذا الإطار، كان السيّد بمثابة جابر بن حيّان ـ الفقهيّ، لأنّه أحكم صنع المراهم والوصفات المضادّة للتشنّجات والتقرّحات المزمنة، والّتي لطالما عانى منها البيت الدّاخليّ للأمّة الإسلاميّة، وجهده هذا، حرم الكثير من قادة فصائل التطرّف من مطايا لطالما كانت طيّعةً لبثّ جرعات الكراهية والنّفور بين صفوف المذاهب والفرق المتعدّدة.
عند هذه النّقطة تحديداً، لن يعود سؤال "من خسر السيّد" منطقيّاً بما فيه الكفاية، بل سيفسح المجال لسؤالٍ أكثر قدرةً على محاصرة إجابته، ألا وهو: "من لم يخسر السيّد"، وسيكون الرّهان الأساس هو مدى قدرتنا على مقاربة الجواب، وبالأحرى مدى قدرتنا على تلمّس وتشخيص مكامن الاهتراء في مواقع التّفكير، أو التّبصير، في واقعنا المعاش والمأزوم.
|