المنهج النبويّ في مواجهة الأعداء: النبيّ إبراهيم نموذجاً

المنهج النبويّ في مواجهة الأعداء: النبيّ إبراهيم نموذجاً

تقدّم الحديث عن المنهج النبويّ في مواجهة أعداء الرسالة، في مخطَّطاتهم التآمريّة لإسقاطها، والحيلولة دون بلوغها مرحلة الاندماج في الوسط الجماهيري، عبر وسائل وآليات مختلفة ومتنوّعة. وقد تحدَّثنا عن النبي نوح(ع)، وحديثنا في هذا الأسبوع يتناول النبي إبراهيم(ع)، الَّذي تحركت حياته في أكثر من جانب، وفي أكثر من أسلوب، حيث اعتمد في بداية دعوته طريقة المناجاة الذاتيَّة، الَّتي لا تستثير عواطف أعدائه، ولا تولّد أية حالة عدائية تجاههم، بل كانت تهدف إلى مواجهة الأفكار المنحرفة، ليدفعهم من خلال الاستماع إليه، إلى التفكير فيما يعبدونه من الكواكب والشمس والقمر وما إلى ذلك.

وربما كانت حداثة سنّه تشفع له في ابتعادهم عن مواجهته، لأنه لا يشكّل خطراً على موروثاتهم أو معبوداتهم. وقد حدّثنا الله عن هذه المرحلة في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

ولم يلتفت قومه إليه في البداية، لأنه كان ـ حسبما جاء في الآيات ـ يعبّر عن حالة شخصيَّة لا تهدّد مصالحهم، ولا تؤثّر في الجوّ العام للمجتمع، ودخلوا معه في جدال حول عقيدته التوحيدية والتزامهم الوثني، كما لو كانوا يحاولون إرجاعه إلى عبادة الأوثان، {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ}، وربما تحدّثوا له عن أوثانهم وعن الذهنيات التي تنكر وجود الله أو توحيده، انطلاقاً من بعض الرواسب التاريخية المستقرّة في أفكارهم، من دون أيِّ أساس علمي أو أسلوب موضوعي، وربما كانوا يخوِّفونه من تأثير غضب الأصنام في حياته، {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ} إلى الحقّ، من خلال العقل الذي يحدِّد لي الصّواب والخطأ والهدى والإيمان، ومن خلال الرسالة التي أرسلني الله بها، فاهتديت إلى أنَّ القوة لله جميعاً، ولا قوّة لغيره، لأنَّ كلّ مخلوق يستمدّ القوّة منه، كما استمدّ الوجود منه، {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ}، ولا من أيّ شيء، {إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً}، الذي يملك مني ما لا أملكه من نفسي، وهو وليُّ الضّرّ والنفع والمحيط بكلّ شيء، {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}، وتخرجون من الغفلة التي أطبقت عليكم، فخضعتم لها في استغراقكم في عقائد آبائكم وأجدادكم التي قادتكم إلى الشرك.

{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ}، وهي أحجار لا تضرّ ولا تنفع، {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً}، ولا تملكون عليه أيّ حجَّة، وهو المهيمن على الأمر كلّه، {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، هل هو الفريق الّذي يؤمن بالله، ويعمل في خطِّ رضوانه، أو هو الفريق الذي يشرك به ويتمرّد عليه؟! {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[1]، ولم تتحدّث الآيات عن ردّ فعلهم على هذه الحجة الإبراهيميّة، لأنهم كانوا لا يجدون الخطر في ذلك.

وكان يتحدث إليهم ـ بين وقت وآخر ـ بمنطق يتأرجح بين اللّين والعنف، {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[2]، وقد أبلغتكم رسالة ربي بكلّ صدق وأمانة ووضوح، وقامت الحجَّة عليكم من الله بذلك.

معاناة من الدّاخل

وكانت مشكلة إبراهيم(ع) في موقف أبيه آزر منه، فقد كان كافراً يعبد الأوثان كقومه، وكان إبراهيم(ع) يريد هدايته، وكانت تجربته في هداية أبيه لا تخلو من صعوبة بالغة، لأنّ الآباء ـ عادةً ـ ولا سيما في ذلك المجتمع، لا يتقبّلون تخطئة أولادهم لهم، بل كانوا يمارسون القوّة المستحيلة ضدّهم إذا خالفوهم في أمر ما، وقد نقل لنا القرآن حديثه مع أبيه وحواره معه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}[3].

وهنا، يؤكّد إبراهيم(ع) لأبيه وجوب تقدّم العلم على ما عداه من علاقات، حتى الأبوّة، فهو يقول له إنّ أبوّتك لي وتقدّمك في السّنّ، لا يمنعانك من اتباعي في العلم الذي أملكه، مما لا تملك منه شيئاً، لأنَّ مسألة التقدّم في العلم، ترتبط بالظّروف التي تمنح الإنسان الفرصة في التزوُّد به، والأخذ منه دون غيره، {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً}، ولكنَّ الأب رفض هذا المنطق الهادئ الّذي تمتزج فيه الموعظة بالوعي والحنان، لأنَّ عقدة الأبوَّة، إضافةً إلى التحجّر الفكري، قد سيطرا عليه، {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ}، فأنت تحدّثني عن إله واحد لا شريك له، مما لا أرتضيه منك، لأنه يمثّل التمرّد عليّ وعلى القوم الذين أنتمي إليهم، وعلى الأصنام التي نعبدها، {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً}. وكان ردّ فعل إبراهيم(ع) نابضاً بالمنطق الهادئ، والروح الرضيّة، والأمل الكبير بهداية الله له، من خلال استغفاره له، والاستجابة لمطلبه في هجرانه له، حذراً من الاصطدام بأبيه، وهو ما لا يريده إبراهيم(ع) في علاقته بأبيه، {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ}، فلن تجد مني إلا السلام؛ السلام الذي يبقى في وعي الرسول وحركته عنواناً للعلاقة مع الآخرين الّذين يعمل لهداهم، ولن أدخل في جدل عقيم معك {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} من خلال ما يهيّئ لك من سبل الهداية، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً}[4]، بما أحصل عليه من الاستجابة لدعائي، ومن الحصول على رضوانه.

وفي موقف آخر، نجد إبراهيم(ع) في موقع الحوار مع أبيه وقومه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}، ليفتح لهم آفاق الدّخول معه في الحديث، {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} في كلّ طقوس العبادة المتميزة بالخضوع والخشوع وطلب الحاجات منها، {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}[5]، وأراد بهذا التساؤل أن يفتح عقولهم على التّفكير في هذه الأصنام، من حيث تفاعلها معهم في الاستماع إليهم في دعواتهم، وفي النتائج الإيجابيّة أو السلبيّة، مما تنفتح به عليهم في إقبالهم عليها أو إعراضهم عنها، وأن يدخلهم في تجربة الابتهال إلى الله والطّلب إليه، من خلال تجربته الخاصَّة في ذلك، وليخشعوا معه، وليدخلوا في عالم جديد، من خلال الإيحاء بالرّجوع إلى الله، لأنّه هو المرجع وإليه المصير، {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[6].

أسلوب التحدّي

ولكنَّ إبراهيم(ع) لم يلبث في نهاية المطاف أن غيّر أسلوبه في الدّعوة لقومه من اللّين والهدوء إلى التحدّي العنيف، حيث قام بتكسير الأصنام فيما كان يخطّط له في نفسه، ليقيم الحجّة عليهم بذلك، بأسلوب يختزن الكثير من القوّة والسخرية، {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}، ربما قالها في نفسه، {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}، فيواجهون الموقف ببعض التّفكير الذي يدفع إلى التّساؤل، {قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}، لما يمثّله هذا العمل من عدوانٍ على المقدَّسات الّتي هي بمستوى الآلهة، وهو ما يمثّل بدوره عدواناً على المجتمع كلّه، {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ}، ويتحدَّث عنهم بطريقة سلبيّة رافضة لعبادتنا إيّاهم، ويدعو إلى عبادة الله الواحد، {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}[7]، فلم نسمع أحداً يذكرهم بالسوء غيره، فهو المتّهم الوحيد في مجتمعنا بهذه الجريمة، {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، إننا نلتقي معك بأن هذه الأصنام لا تسمعنا، ولا تتفاعل معنا، ولا تملك أية حركة للنفع والضّرر، ولذلك، ليست القضيّة عندنا هي قضية فكر يتابع الطاقات الحيّة الفاعلة التي تملكها الأصنام، بل القضيّة هي أنّ المنهج الذي نأخذ به، هو اتّباع آبائنا فيما أخذوا به وساروا عليه، فنحن نعبد ما يعبدون من دون جدال أو مناقشة أو تفكير.

وهنا، أخذ إبراهيم(ع) بزمام المبادرة، ليواجههم بقوّة في حديثه عن الله في مواقع نعمته ومجالات عظمته، مقارنةً بأصنامهم، وفي إعلانه العداوة لها، لأنها أضلّت الكثير من الناس عن الله وعن الصّراط المستقيم، {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي}، لا من خلال عقدة ذاتية، بل من وعي منفتح على الحقّ الذي يلتقي بالإيمان بالله، ومعرفة بالباطل الذي تمثّله هذه الأصنام في النتائج المدمّرة التي تؤدّي بالإنسان إلى فقدان الهدى في خطّ الإيمان، {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[8]، وكأنَّه أراد أن يوحي إليهم بأنَّ الله هو الخالق، والهادي، والُمطعم، والساقي، والشافي، والمميت، والمحيي بعد الموت، والغافر لخطايا الإنسان جميعاً، وهو أي إبراهيم(ع) ـ واحد منهم، حيث لا خصوصيّة له في ذلك، لأنّ الله هو الذي يملك ذلك كله، ولا يملكه غيره، {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}، ويسمعون اعترافه على فعلته في محاكمة علنية، لأن القضية تشمل الناس كلّهم. وبدأت المحاكمة ببداية التحقيق، {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، فهو الوحيد السالم من بينهم، ما يجعله المتّهم البارز الذي استغلّ حجمه الكبير في العدوان عليهم، {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}، لأنَّ المعتدى عليهم هم الّذين يتحدّثون عن المعتدي في عدوانه عليهم، {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ}، الذين يلتزمون هذه الأصنام التي لا تملك لنفسها ضرّاً ولا نفعاً، {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ}، في حالة إحباط أمام إبراهيم(ع)، وقالوا له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ}، فكيف تطلب منّا أن نسألهم ونستنطقهم؟

وهنا، جاءت الفرصة له ليبطل وثنيتهم في عبادتهم لهذه الأوثان، {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، والله هو وحده الربّ المستحقّ للعبادة، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. ولم يستجيبوا لمنطقه، لأنهم لا يملكون الحجّة في مقابله، ولا يريدون التراجع، واستيقظت فيهم عصبيّة التخلّف، {قَالُوا حَرِّقُوهُ}، فهذا جزاء من يعتدي على الآلهة، {وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}، ليكون عبرةً للآخرين، وألقوه في النار. ولكنَّ الله أنجاه بمعجزة خارقة، {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}[9].

وهكذا، انتهت هذه المرحلة الصداميّة مع قومه، لينطلق إلى عالم جديد يبني فيه بيت الله الحرام، ويمارس الدّعوة في موقع جديد ومرحلة جديدة لم يتحدّث القرآن عنها تفصيلاً، وكان عنوانها قوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[10].

إنَّه النبيّ الذي كان أمّةً، وواجه أعداءه وأعداء الله بأساليب متنوّعة، لا بدّ للدّعاة من أن يدرسوها وينهجوا نهجها في تجاربهم الحركيّة في طريق الدعوة إلى الله. وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}[11]؛ إنّه الدّين الحقّ الذي يريد الله للإنسان أن يتحسَّسه في مشاعره وأفكاره، فيستسلم له استسلاماً مطلقاً في جميع قضاياه وتصرّفاته، وهذا هو ما تمثّله كلمة الإسلام لله أو إسلام الوجه لله، في اتباع الرّسل وأحكام الرّسالات، والتي تتمثّل في إبراهيم(ع) بما كان يمثّله من الخطّ العام لكلّ الرسل.

ولذلك، كانت ملَّة إبراهيم(ع) حنيفاً ـ أي مخلصاً ـ وجهاً من وجوه الالتزام بالإسلام وبالله، لأنَّه كان المخلص الذي أسلم لله بالمطلق، ليكون خليل الله في تكريم الله له ولتضحياته وإخلاصه في ذات الله، وقد قال الإمام الرّضا(ع): "إنما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، لأنه لم يرّد أحداً، ولم يسأل أحداً قطّ غير الله عزّ وجلّ"[12]. فكيف نتمثّله؟ وكيف نتّبعه لنكون الأولى به والأقرب إليه؟

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأنعام: 75 ـ 83].

[2]  [العنكبوت: 16 ـ 18].

[3]  [مريم: 41 ـ 43].

[4]  [مريم: 45، 48].

[5]  [الشعراء: 70 ـ 73].

[6]  [الشعراء: 83 ـ 89].

[7]  [الأنبياء: 57 ـ 60].

[8]  [الشعراء: 75 ـ 82].

[9]  [الأنبياء: 61 ـ70].

[10]  [العنكبوت: 26].

[11]  [النساء: 125].

[12]  وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 9، ص 442.


تقدّم الحديث عن المنهج النبويّ في مواجهة أعداء الرسالة، في مخطَّطاتهم التآمريّة لإسقاطها، والحيلولة دون بلوغها مرحلة الاندماج في الوسط الجماهيري، عبر وسائل وآليات مختلفة ومتنوّعة. وقد تحدَّثنا عن النبي نوح(ع)، وحديثنا في هذا الأسبوع يتناول النبي إبراهيم(ع)، الَّذي تحركت حياته في أكثر من جانب، وفي أكثر من أسلوب، حيث اعتمد في بداية دعوته طريقة المناجاة الذاتيَّة، الَّتي لا تستثير عواطف أعدائه، ولا تولّد أية حالة عدائية تجاههم، بل كانت تهدف إلى مواجهة الأفكار المنحرفة، ليدفعهم من خلال الاستماع إليه، إلى التفكير فيما يعبدونه من الكواكب والشمس والقمر وما إلى ذلك.

وربما كانت حداثة سنّه تشفع له في ابتعادهم عن مواجهته، لأنه لا يشكّل خطراً على موروثاتهم أو معبوداتهم. وقد حدّثنا الله عن هذه المرحلة في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

ولم يلتفت قومه إليه في البداية، لأنه كان ـ حسبما جاء في الآيات ـ يعبّر عن حالة شخصيَّة لا تهدّد مصالحهم، ولا تؤثّر في الجوّ العام للمجتمع، ودخلوا معه في جدال حول عقيدته التوحيدية والتزامهم الوثني، كما لو كانوا يحاولون إرجاعه إلى عبادة الأوثان، {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ}، وربما تحدّثوا له عن أوثانهم وعن الذهنيات التي تنكر وجود الله أو توحيده، انطلاقاً من بعض الرواسب التاريخية المستقرّة في أفكارهم، من دون أيِّ أساس علمي أو أسلوب موضوعي، وربما كانوا يخوِّفونه من تأثير غضب الأصنام في حياته، {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ} إلى الحقّ، من خلال العقل الذي يحدِّد لي الصّواب والخطأ والهدى والإيمان، ومن خلال الرسالة التي أرسلني الله بها، فاهتديت إلى أنَّ القوة لله جميعاً، ولا قوّة لغيره، لأنَّ كلّ مخلوق يستمدّ القوّة منه، كما استمدّ الوجود منه، {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ}، ولا من أيّ شيء، {إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً}، الذي يملك مني ما لا أملكه من نفسي، وهو وليُّ الضّرّ والنفع والمحيط بكلّ شيء، {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}، وتخرجون من الغفلة التي أطبقت عليكم، فخضعتم لها في استغراقكم في عقائد آبائكم وأجدادكم التي قادتكم إلى الشرك.

{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ}، وهي أحجار لا تضرّ ولا تنفع، {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً}، ولا تملكون عليه أيّ حجَّة، وهو المهيمن على الأمر كلّه، {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، هل هو الفريق الّذي يؤمن بالله، ويعمل في خطِّ رضوانه، أو هو الفريق الذي يشرك به ويتمرّد عليه؟! {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[1]، ولم تتحدّث الآيات عن ردّ فعلهم على هذه الحجة الإبراهيميّة، لأنهم كانوا لا يجدون الخطر في ذلك.

وكان يتحدث إليهم ـ بين وقت وآخر ـ بمنطق يتأرجح بين اللّين والعنف، {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[2]، وقد أبلغتكم رسالة ربي بكلّ صدق وأمانة ووضوح، وقامت الحجَّة عليكم من الله بذلك.

معاناة من الدّاخل

وكانت مشكلة إبراهيم(ع) في موقف أبيه آزر منه، فقد كان كافراً يعبد الأوثان كقومه، وكان إبراهيم(ع) يريد هدايته، وكانت تجربته في هداية أبيه لا تخلو من صعوبة بالغة، لأنّ الآباء ـ عادةً ـ ولا سيما في ذلك المجتمع، لا يتقبّلون تخطئة أولادهم لهم، بل كانوا يمارسون القوّة المستحيلة ضدّهم إذا خالفوهم في أمر ما، وقد نقل لنا القرآن حديثه مع أبيه وحواره معه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}[3].

وهنا، يؤكّد إبراهيم(ع) لأبيه وجوب تقدّم العلم على ما عداه من علاقات، حتى الأبوّة، فهو يقول له إنّ أبوّتك لي وتقدّمك في السّنّ، لا يمنعانك من اتباعي في العلم الذي أملكه، مما لا تملك منه شيئاً، لأنَّ مسألة التقدّم في العلم، ترتبط بالظّروف التي تمنح الإنسان الفرصة في التزوُّد به، والأخذ منه دون غيره، {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً}، ولكنَّ الأب رفض هذا المنطق الهادئ الّذي تمتزج فيه الموعظة بالوعي والحنان، لأنَّ عقدة الأبوَّة، إضافةً إلى التحجّر الفكري، قد سيطرا عليه، {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ}، فأنت تحدّثني عن إله واحد لا شريك له، مما لا أرتضيه منك، لأنه يمثّل التمرّد عليّ وعلى القوم الذين أنتمي إليهم، وعلى الأصنام التي نعبدها، {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً}. وكان ردّ فعل إبراهيم(ع) نابضاً بالمنطق الهادئ، والروح الرضيّة، والأمل الكبير بهداية الله له، من خلال استغفاره له، والاستجابة لمطلبه في هجرانه له، حذراً من الاصطدام بأبيه، وهو ما لا يريده إبراهيم(ع) في علاقته بأبيه، {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ}، فلن تجد مني إلا السلام؛ السلام الذي يبقى في وعي الرسول وحركته عنواناً للعلاقة مع الآخرين الّذين يعمل لهداهم، ولن أدخل في جدل عقيم معك {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} من خلال ما يهيّئ لك من سبل الهداية، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً}[4]، بما أحصل عليه من الاستجابة لدعائي، ومن الحصول على رضوانه.

وفي موقف آخر، نجد إبراهيم(ع) في موقع الحوار مع أبيه وقومه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}، ليفتح لهم آفاق الدّخول معه في الحديث، {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} في كلّ طقوس العبادة المتميزة بالخضوع والخشوع وطلب الحاجات منها، {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}[5]، وأراد بهذا التساؤل أن يفتح عقولهم على التّفكير في هذه الأصنام، من حيث تفاعلها معهم في الاستماع إليهم في دعواتهم، وفي النتائج الإيجابيّة أو السلبيّة، مما تنفتح به عليهم في إقبالهم عليها أو إعراضهم عنها، وأن يدخلهم في تجربة الابتهال إلى الله والطّلب إليه، من خلال تجربته الخاصَّة في ذلك، وليخشعوا معه، وليدخلوا في عالم جديد، من خلال الإيحاء بالرّجوع إلى الله، لأنّه هو المرجع وإليه المصير، {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[6].

أسلوب التحدّي

ولكنَّ إبراهيم(ع) لم يلبث في نهاية المطاف أن غيّر أسلوبه في الدّعوة لقومه من اللّين والهدوء إلى التحدّي العنيف، حيث قام بتكسير الأصنام فيما كان يخطّط له في نفسه، ليقيم الحجّة عليهم بذلك، بأسلوب يختزن الكثير من القوّة والسخرية، {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}، ربما قالها في نفسه، {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}، فيواجهون الموقف ببعض التّفكير الذي يدفع إلى التّساؤل، {قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}، لما يمثّله هذا العمل من عدوانٍ على المقدَّسات الّتي هي بمستوى الآلهة، وهو ما يمثّل بدوره عدواناً على المجتمع كلّه، {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ}، ويتحدَّث عنهم بطريقة سلبيّة رافضة لعبادتنا إيّاهم، ويدعو إلى عبادة الله الواحد، {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}[7]، فلم نسمع أحداً يذكرهم بالسوء غيره، فهو المتّهم الوحيد في مجتمعنا بهذه الجريمة، {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، إننا نلتقي معك بأن هذه الأصنام لا تسمعنا، ولا تتفاعل معنا، ولا تملك أية حركة للنفع والضّرر، ولذلك، ليست القضيّة عندنا هي قضية فكر يتابع الطاقات الحيّة الفاعلة التي تملكها الأصنام، بل القضيّة هي أنّ المنهج الذي نأخذ به، هو اتّباع آبائنا فيما أخذوا به وساروا عليه، فنحن نعبد ما يعبدون من دون جدال أو مناقشة أو تفكير.

وهنا، أخذ إبراهيم(ع) بزمام المبادرة، ليواجههم بقوّة في حديثه عن الله في مواقع نعمته ومجالات عظمته، مقارنةً بأصنامهم، وفي إعلانه العداوة لها، لأنها أضلّت الكثير من الناس عن الله وعن الصّراط المستقيم، {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي}، لا من خلال عقدة ذاتية، بل من وعي منفتح على الحقّ الذي يلتقي بالإيمان بالله، ومعرفة بالباطل الذي تمثّله هذه الأصنام في النتائج المدمّرة التي تؤدّي بالإنسان إلى فقدان الهدى في خطّ الإيمان، {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[8]، وكأنَّه أراد أن يوحي إليهم بأنَّ الله هو الخالق، والهادي، والُمطعم، والساقي، والشافي، والمميت، والمحيي بعد الموت، والغافر لخطايا الإنسان جميعاً، وهو أي إبراهيم(ع) ـ واحد منهم، حيث لا خصوصيّة له في ذلك، لأنّ الله هو الذي يملك ذلك كله، ولا يملكه غيره، {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}، ويسمعون اعترافه على فعلته في محاكمة علنية، لأن القضية تشمل الناس كلّهم. وبدأت المحاكمة ببداية التحقيق، {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، فهو الوحيد السالم من بينهم، ما يجعله المتّهم البارز الذي استغلّ حجمه الكبير في العدوان عليهم، {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}، لأنَّ المعتدى عليهم هم الّذين يتحدّثون عن المعتدي في عدوانه عليهم، {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ}، الذين يلتزمون هذه الأصنام التي لا تملك لنفسها ضرّاً ولا نفعاً، {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ}، في حالة إحباط أمام إبراهيم(ع)، وقالوا له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ}، فكيف تطلب منّا أن نسألهم ونستنطقهم؟

وهنا، جاءت الفرصة له ليبطل وثنيتهم في عبادتهم لهذه الأوثان، {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، والله هو وحده الربّ المستحقّ للعبادة، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. ولم يستجيبوا لمنطقه، لأنهم لا يملكون الحجّة في مقابله، ولا يريدون التراجع، واستيقظت فيهم عصبيّة التخلّف، {قَالُوا حَرِّقُوهُ}، فهذا جزاء من يعتدي على الآلهة، {وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}، ليكون عبرةً للآخرين، وألقوه في النار. ولكنَّ الله أنجاه بمعجزة خارقة، {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}[9].

وهكذا، انتهت هذه المرحلة الصداميّة مع قومه، لينطلق إلى عالم جديد يبني فيه بيت الله الحرام، ويمارس الدّعوة في موقع جديد ومرحلة جديدة لم يتحدّث القرآن عنها تفصيلاً، وكان عنوانها قوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[10].

إنَّه النبيّ الذي كان أمّةً، وواجه أعداءه وأعداء الله بأساليب متنوّعة، لا بدّ للدّعاة من أن يدرسوها وينهجوا نهجها في تجاربهم الحركيّة في طريق الدعوة إلى الله. وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}[11]؛ إنّه الدّين الحقّ الذي يريد الله للإنسان أن يتحسَّسه في مشاعره وأفكاره، فيستسلم له استسلاماً مطلقاً في جميع قضاياه وتصرّفاته، وهذا هو ما تمثّله كلمة الإسلام لله أو إسلام الوجه لله، في اتباع الرّسل وأحكام الرّسالات، والتي تتمثّل في إبراهيم(ع) بما كان يمثّله من الخطّ العام لكلّ الرسل.

ولذلك، كانت ملَّة إبراهيم(ع) حنيفاً ـ أي مخلصاً ـ وجهاً من وجوه الالتزام بالإسلام وبالله، لأنَّه كان المخلص الذي أسلم لله بالمطلق، ليكون خليل الله في تكريم الله له ولتضحياته وإخلاصه في ذات الله، وقد قال الإمام الرّضا(ع): "إنما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، لأنه لم يرّد أحداً، ولم يسأل أحداً قطّ غير الله عزّ وجلّ"[12]. فكيف نتمثّله؟ وكيف نتّبعه لنكون الأولى به والأقرب إليه؟

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأنعام: 75 ـ 83].

[2]  [العنكبوت: 16 ـ 18].

[3]  [مريم: 41 ـ 43].

[4]  [مريم: 45، 48].

[5]  [الشعراء: 70 ـ 73].

[6]  [الشعراء: 83 ـ 89].

[7]  [الأنبياء: 57 ـ 60].

[8]  [الشعراء: 75 ـ 82].

[9]  [الأنبياء: 61 ـ70].

[10]  [العنكبوت: 26].

[11]  [النساء: 125].

[12]  وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 9، ص 442.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية