شخصيَّة الرَّسول(ص) كما يقدِّمها الإمام عليّ(ع)

شخصيَّة الرَّسول(ص) كما يقدِّمها الإمام عليّ(ع)

في ذكرى مولد الرَّسول(ص)، لا بدَّ لنا من أن نعيش آفاقه كلّها، قبل أن يبعثه اللّه بالرّسالة، وبعد أن بعثه بها، وذلك من خلال شاهدٍ ليس كمثله شاهد في عظمته بعد رسول اللّه(ص)، من حيث عناصر الشّخصيَّة، ما عدا النبوّة؛ عنيت به علياً(ع)، الذي عاش مع رسول الله(ص) في عمق ذاته، وفي حركة حياته، وفي كلّ امتدادات شخصيّته. فمن أولى بأن يتحدَّث عن رسول اللّه(ص) من عليّ(ع)؟! ولذلك، فنحن في هذا اللّقاء، نحاول أن نلتقط من كلمات عليّ(ع) في (نهج البلاغة)، بعض ما تحدّث به عن رسول اللّه(ص)، وعن أصحابه، وعن أهل بيته(ع).

تجربة الطّفولة الأولى

فها هو أوَّلاً يتحدَّث عن تجربته مع رسول اللّه(ص) في طفولته الأولى، وهو يعيش بين أحضانه. يقول(ع): "أنا وضعت في الصّغر بكلاكل العرب"، و(كلاكل العرب) يعني الَّذين لهم الصَّدارة من أكابر العرب، "وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر"، و(نواجم القرون)، يعني القرون الظّاهرة الرّفيعة، وهي كناية عن أشراف القبائل، "وقد علمتم موضعي من رسول اللّه(ص) بالقرابة القريبة"، فهو ابن عمّه، وأخوه في الرّوح، وصهره، "والمنزلة الخصيصة"، حيث قال رسول اللّه(ص) بحقّه: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي"[1]، وقال أيضاً: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"[2]، وقال كذلك: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ"[3].

"وضعني في حجره"، والإمام آنذاك طفل، "وأنا ولد، يضمّني إلى صدره"، كما تضمّ الأمّ ولدها، بحيث كان رسول اللّه(ص) يختزن في شخصيَّته مع عليّ(ع) حنان الأمّ وعطف الأب في حياة أمّه وأبيه، لأنّه كان يعيش معه، ولم يعش في أحضان أمّه وأبيه، فكان بحقّ ربيب رسول اللّه(ص) وتلميذه منذ نعومة أظفاره.

"يضمّني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه"، أي ينام معه، "ويمسّني جسده"، لأنَّه كان يحتضنه وينام إلى جانبه، "ويشمّني عرفه"، و(العرف) هو الرّائحة الذكيّة الَّتي تفوح من رسول اللّه(ص)، "وكان يمضغ الشَّيء ثم يلقمنيه"، لأنَّه ربما لم تكن بعدُ قد نبتت أسنان عليّ(ع)، ولذلك، كان يمضغ اللّقمة حتى ترقّ، ثم يلقمها له.

"وما وجد لي كذبةً في قول"، فقد عشت معه منذ طفولتي، وتعلّمت الصّدق منه، ومن خلال لطف اللّه بي، لم يجد لي كذبةً في أيّ قول من أقوالي. "ولا خطلةً في فعل" و(الخطلة) هي الخطأ الّذي ينشأ من عدم الرّؤية والرويّة. وهذه الكلمة تعطي فكرة عن أنّ عليّاً(ع) كان معصوماً في كلامه وفي فعله منذ طفولته الأولى. وهذه التجربة الشخصيّة مع رسول اللّه(ص) توحي لنا بتدفّق ينابيع العاطفة الّتي كانت تتفجّر من قلب رسول اللّه(ص)، وتنساب في كلّ كيان عليّ(ع) وشخصيّته، بحيث كانت ينابيع روحانيّة الرّسول وأخلاقه وكلّ حركيّته، تتفجّر في شخصيّة عليّ(ع)، فعقله ينساب في عقل عليّ، وقلبه ينبض في قلب عليّ، وحركته تنطلق في حركة عليّ(ع).

الرّسول(ص) قبل البعثة

ثم يحدّثنا(ع) عن لطف اللّه برسوله(ص) قبل أن يبعثه بالرّسالة، فيقول: "ولقد قرن اللّه به(ص) من لدن أن كان فطيماً"، فكما أنّ عليّاً(ع) منذ أن كان فطيماً، أو بعد الفطام بقليل، اختصّه رسول اللّه(ص) بحضانته ورعايته، فكذلك الرّسول(ص)، منذ أن كان فطيماً، أعطاه اللّه رعايته بشكلٍ غير مألوف، "ولقد قرن اللّه به(ص) من لدن أن كان فطيماً، أعظم ملكٍ من ملائكته"، ولم يشر إلى شخصيَّة الملك، هل هو جبرائيل أو غيره، ولكن عندما يقول إنَّه قرن به أعظم ملك، فمعنى ذلك أنَّ هذا الملك الذي أراد اللّه له أن يربّي رسول اللّه(ص) بعين اللّه، بلغ من كلّ الصّفات ما لم يقترب إليها ملك، لأنَّ أعظم الأنبياء يحتاج إلى أعظم الملائكة، فالمعادلة تفرض هذا الشَّيء.

"يسلك به طريق المكارم"، ليدلّه على كلّ المكارم الإنسانيَّة بكلّ عناصرها الروحيَّة، "ومحاسن أخلاق العالم"، بحيث يجمع له أفضل المحاسن الَّتي يتميَّز بها العالم بأسره، أو كلّها، بحيث تتمثَّل في أخلاقه كلّ الأخلاق الَّتي يتمثّل بها العالم، فيما يتمثّلون به من محاسن الأخلاق، ليكون النّموذج الأكمل الَّذي إذا تمثّله العالم كلّه، رأى فيه النّموذج الذي يقتدي به. "ليله ونهاره"، بحيث كان هذا الملك لا يفارقه في اللّيل والنّهار.

"ولقد كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه"، فكما أنَّ ولد النّاقة يتبعها عندما تمشي، بحيث تتحوّل كلّ خطوة من خطواتها إلى خطوةٍ من خطواته، كذلك كان عليّ(ع) مع رسول اللّه(ص). ومن هنا، نعرف كيف أنَّ الإمام(ع)، كان وهو في تلك السّنّ، وهي سنّ ما قبل العاشرة، يعيش صورة رسول اللّه(ص) في أخلاقه كلّها، وفي كمالاته كلّها.

رفع لي في كلّ يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به"، أي أنّه يقول لي: اعمل كذا واعمل كذا، وسر في هذا الطريق، وتكلّم بهذه الطّريقة، ما يعني أنَّ النّبيّ(ص) كان يعدّه ليكون أخاه ونفسه ووزيره، "ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء (غار حراء)، فأراه ولا يراه غيري"، لأنَّ النّبيّ(ص) عندما كان يجاور بحراء، كان لا يسمح لأحدٍ بأن يزوره، ولا يلتقي أحداً هناك، بل كان في عزلته التأمّليّة الَّتي يناجي فيها ربّه، ويعيش فيها كلَّ روحانيّته وعبادته مع اللّه. "ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام"، عندما بعث النّبي(ص) بالإسلام، "غير رسول اللّه(ص) وخديجة وأنا ثالثهما"، بحيث كان عليّ(ع) عندما أتى النبيّ(ص) بالرّسالة، يعيش في البيت الإسلاميّ الأوّل الذي كان يضمّ رسول اللّه(ص) وخديجة(رض)، وهو الثالث. "أرى نور الوحي والرّسالة"، عندما يشرق على رسول اللّه(ص)، "وأشمّ ريح النبوّة"؛ ريحها المعنويّة والروح والأخلاق، وكلّ ما يتميَّز به رسول اللّه(ص) من نفحات النبوّة وعطر الرّسالة.

ثم يعبّر عن التّجربة الَّتي لم يعشها مسلم منذ كان الإسلام، وإلى أن قُبض رسول اللّه(ص) إلى رحاب ربّه: "ولقد سمعت رنّة الشَّيطان حين نزل الوحي عليه(ص)"، فهو ينقل لنا كيف عاش الشّيطان في حالة طوارئ، والرنّة هنا كناية عن الصّرخة، "فقلت يا رسول اللّه: ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشَّيطان أيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنّك لست بنبيّ، ولكنّك وزير، وإنّك لعلى خير".

إنَّ هذا النّصّ العلويّ الَّذي هو النّص المعصوم الَّذي لا يقترب الباطل إليه، يدلّنا على أنَّ النبيّ(ص) كان يعدّ عليّاً(ع) للوزارة، الَّتي هي الوصاية والخلافة، منذ كان(ع) في بداية شبابه.

من معجزات النّبيّ(ص)

"ولقد كنت معه". وهنا، يعطينا التّجربة كيف أنَّ قريش كانت تطالب رسول اللّه(ص) بأن يقدّم لها المعجزة. وهذا نصّ يمكن أن تختلف الأخبار وبعض الروايات بشأنه، ولكنَّنا نعتدّ بوثاقته، لأنّ عليّاً(ع) هو الشّاهد النّاقل للمعجزة: "ولقد كنت معه ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ لمّا أتاه الملأ من قريش، فقالوا له: يا محمَّد، إنّك قد ادّعيت عظيماً لم يدّعه آباؤك، ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه، علمنا أنّك نبيّ ورسول، وإن لم تفعل، علمنا أنّك ساحر كذّاب"، تحاول أن تسحر عيون النّاس بسحرك. "فقال ـ صلى اللّه عليه وآله ـ وما تسألون؟"، أي ما هو طلبكم؟ "قالوا: تدعو لنا هذه الشّجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك، فقال(ص): إنَّ اللّه على كلّ شيء قدير"، فليست قدرتي الّتي تقتلع الشَّجرة، وإنمّا هي قدرة اللّه، "فإن فعل اللّه لكم ذلك، أتؤمنون وتشهدون بالحقّ؟ قالوا: نعم، قال: فإنِّي سأريكم ما تطلبون، وإنِّي لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير"، فهذا تحدٍّ، ولكنَّني سأكون في مستواه بإذن اللّه، "وإنَّ فيكم من يطرح في القليب (في معركة بدر)، ومن يحزّب الأحزاب"، لقد عرَّفني اللّه مَنْ آباؤكم. "ثم قال(ص): يا أيّتها الشّجرة، إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر"، طبعاً الإيمان بوجودها، لا الإيمان بعقلها، باعتبار أنَّ كلَّ موجود يتجسّد فيه الإيمان من خلال طبيعة ما ركّب اللّه فيه من أسرار الخلق، "إن كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر، وتعلمين أنّي رسول اللّه، فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديَّ بإذن اللّه".

ثم ينقل الإمام(ع) ما شاهده، فيقول: "فوالّذي بعثه بالحقّ، لانقلعت بعروقها، وجاءت ولها دويّ شديد، وقصف كقصف أجنحة الطّير، حتى وقفت بين يدي رسول اللّه(ص) مرفرفةً، وألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه(ص)، وببعض أغصانها على منكبي، وكنت عن يمينه(ص)، فلمّا نظر القوم إلى ذلك، قالوا علوّاً واستكباراً: فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها، فأمرها بذلك، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دويّاً، فكادت تلتفّ برسول اللّه(ص)، فقالوا كفراً وعتوّاً: فمر هذا النّصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره فرجع، فقلت أنا: لا إله إلا اللّه، فإنّي أوَّل مؤمن بك يا رسول اللّه، وأوَّل من أقرَّ بأنَّ الشَّجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تعالى، تصديقاً بنبوَّتك، وإجلالاً لكلمتك، فقال القوم كلّهم: بل ساحر كذَّاب، عجيب السّحر، خفيف فيه، وهل يصدِّقك في أمرك إلا مثل هذا؟ (يعنونني).

ثم يقول: "وإنّي لمن قومٍ لا تأخذهم في اللّه لوم لائم" من أهل البيت(ع)، "سيماهم سيما الصّدّيقين، وكلامهم كلام الأبرار، عمّار اللّيل ومنار النّهار، متمسّكون بحبل القرآن، يحيون سنن اللّه وسنن رسوله، لا يستكبرون، ولا يعلون، ولا يغلّون"، لا يحقدون، "ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل"[4].

هذه هي إحدى الكلمات التي تحدّث بها عليّ(ع) عن حياته الأولى مع رسول اللّه(ص)، وعن بعض التَّجارب الَّتي عاشها معه.

في بعثة النبيّ(ص)

ونحاول أن نلتقط بعض كلماته عن بعثة النّبيّ(ص)، حيث يقول: "بعثه والنّاس ضلاّل في حيرة"، {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}[5]. "وخابطون في فتنة"، فهو يصوّر الفتنة كما لو أنّ الناس يأخذون الحطب الكثير ليشعلوا به النّار أو ليلقوه على النّار، "قد استهوتهم الأهواء"، وعاشوا مع أهوائهم الّتي لا ترتكز على أيّة قاعدة، أو على أيّ أساس، "واستزلّتهم الكبرياء"، مما كانوا يأخذون به من الكبر، انطلاقاً من شعورهم بضخامة شخصيَّتهم، "واستخفّتهم الجاهليّة الجهلاء"، أي جعلتهم خفافاً في عقولهم ومواقعهم، "حيارى"، لأنّهم لا يبصرون طريق الهدى، "في زلزالٍ من الأمر"، لأنَّ الإنسان الّذي لا يرتكز على قاعدة، يبقى في زلزالٍ من أمره، "وبلاءٍ من الجهل، فبالغ صلّى اللّه عليه وآله في النَّصيحة"، حيث بذل كلّ جهده، وألقى كلّ كلماته، وحرّك كلَّ طاقاته من أجل أن ينصحهم بما أعطاه اللّه من حكمة، وبما أنزل عليه من وحي، "ومضى على الطّريقة" الَّتي خطّطها اللّه له، "ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة"[6].

الدّاعية الدّائب الحركة

ثم يصوّر لنا كيف كان رسول اللّه(ص) يتحرّك في المجتمع، فلا يجمد في بيته، بحيث ينتظر الناس ليأتوا إليه، كما يفعل الكثيرون من الّذين لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن التحرّك مع النّاس، بل يبقون في بيوتهم ليقصدهم النَّاس، فإذا سألوهم أجابوا، وإذا لم يسألوهم، رأوا أنفسهم في حلّ. "طبيب دوّار بطبّه"، فلا يجلس في العيادة في انتظار مرضاه، فعندما ينتشر الوباء، فإنّ الأطبّاء يمسكون مفارق الطّرق، كلٌّ يقف في مفرق طريق لمداواة القادمين والخارجين، حتى يمنعوا من تفشّيه، ولكنّ رسول اللّه(ص) طبيب العقول والقلوب، لا طبيب الأبدان، فانظروا كيف يصوّر الإمام(ع) المسألة: "طبيب دوّار بطبّه، قد أحكم مراهمه" لجرحى العقول والقلوب، وجرحى الأخلاق والآداب، وجرحى القيم والمثل، وجرحى الجهل والتخلّف، فالمرهم يوضع على الجراح ليدملها، "وأحمى مواسمه"، والمواسم هنا جمع ميسم، وهو المكواة، باعتبار أنَّ آخر الدّواء الكيّ، فقد لا ينفع المرهم الّذي يمثِّل الدّواء، فلا يكون أمام الطّبيب سوى الكيّ، "يضع من ذلك حيث الحاجة إليه"، يضع المرهم لعلاج مرضٍ هنا، ويكوي مرضاً هناك، "من قلوبٍ عميٍ"، يعالجها حتَّى تنفتح، "وآذان صمّ"، يعالجها حتى تستمع بعد وقر، "وألسنةٍ بكم"، يداويها حتى تنطق بعد بكم، "متتبّع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة"، فهو يتحرك مع الناس الغافلين الذين لم ينفتحوا على أفق الوعي، بل كانوا في ظلمة الغفلة يتقلّبون، ليعيدهم إلى وعيهم ورشدهم، فهو كما الطّبيب الّذي يتتبّع مواقع المرض الموجودة هنا وهناك، ويحاول أن يدرس كلَّ مظاهره، وكلّ أوضاع المرضى، "لم يستضيئوا بأضواء الحكمة، ولم يقدحوا بزناد العلوم الثّاقبة"، ومعنى أن يقدح الزّناد، أن يخرج النّور من خلاله، وكأنّ الإنسان عندما ينفتح على العلم، فإنّه يضيء له النّور الّذي يبدِّد ظلام الجهل، "فهم في ذلك كالأنعام السّائمة والصّخور القاسية"[7].

الصَّلاة على النبيّ(ص)

وهناك نصّ آخر يدعو فيه الإمام عليّ(ع) اللّه تعالى بالصَّلاة على رسول اللّه(ص)، يقول فيه: "اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، على محمّد عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق" من الرّسالات، "والفاتح لما انغلق" من كلّ مواقع الوعي والبصيرة، "والمعلن الحقّ بالحقّ"، الّذي كان الحقّ عنده يمثّل الأسلوب والغاية معاً، بحيث عندما يدعو إلى الحقّ، فإنّه يدعو بوسائل الحقّ، ولا يدعو إلى الحقّ بالباطل. "والدّافع جيشات الأباطيل"، فعندما تجيش الأباطيل في المجتمع، بحيث يتحرّك الباطل من خلال ما يزرعه هنا وهناك من فتنٍ وأحنٍ في العقل والقلب، وفي أوضاع النَّاس ومواقعهم، فإنَّ الرّسول(ص)، وكلّ أتباع الرسالة الّذين يتأسّون به، لا بدَّ من أن يندفعوا لدحر جيش الأباطيل. "والدّامغ صولات الأضاليل". أي يدمغها بالقوّة، فإذا هي زاهقة، "كما حُمّل، فاضطلع قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك"، فهو يتحرّك بكلّ ما لديه من طاقة، "غير ناكرٍ عن قدم"، أي أنّه يتحرك في كلّ المواقع التي يُدعى إليها، "ولا واهٍ في عزم"، بل كانت عزماته قويَّة، "واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك"، فالنبيّ(ص) ليس مجرّد ناقلٍ للكلمة فقط، بل هو داعٍ لها، ولذلك، فإنّه عندما يطلقها، فإنّما يطلقها من خلال وعيه بكلّ معاني الكلمة، وهذا ما عبَّر عنه اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[8]، فالنّبيّ(ص) كان المعلّم، ولم يكن مجرّد ناقل، فهو يتلو أوّلاً، ويزكّي ثانياً، ويعلّم الكتاب والحكمة ثالثاً.

"حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك"، حتى ينفذه إلى الناس أجمعين، "حتى أوري قبس القابس"، والقابس هو طالب النّار، لأنّ الناس يومذاك كانوا يلاحقون النار وفي أيديهم أعواد يشعلونها بها، ليرجعوا إلى أهلهم ليوروا بها حطبهم. "وأضاء الطّريق للخابط" الّذي يتخبّط في الظّلماء، وكانت العرب تعبّر عن ذلك بالقول: "يخبط خبط عشواء".

"وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن، وأقام موضحات الأعلام ونيّرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك" الّذي يشهد على النّاس "يوم الدّين، وبعيثك بالحقّ، ورسولك إلى الخلق"، لأنّك أنت الّذي بعثته بالحقّ. "اللّهمّ افسح له مفسحاً في ظلّك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك"[9].

زهد النبيّ(ص)

ويتحدَّث عليّ(ع) في شهادة أخرى عن زهد النّبيّ المصطفى(ص)، فيقول: "قد حقّر الدنيا وصغّرها"، فلم ينفتح عليها انفتاح الإنسان الَّذي تبطره زخارفها، وتصرعه أحجامها، وتجرّه شهواتها وأهواؤها إليها، ذلك لأنَّ الدنيا لم تكن همّه كلّه، ولا مبلغ اهتمامه، ولأنّ الدنيا عنده مجرّد موقعٍ لرسالته، ينفتح من خلالها على اللّه، وليس لها قيمة ذاتيّة في كلّ طيّباتها ومتاعها، وليس معنى ذلك أنّه كان يحرّم ملذّات الدنيا، بل ينظر إليها بحجمها، بمعنى حركة الرساليّين في نظرتهم إلى الدّنيا المادّية، ليرتفعوا من خلال هذه النّظرة إلى آفاقها الروحيّة، وهذا هو الَّذي عبّر عنه تلميذه وأخوه وابن عمّه وصهره عليّ(ع)، عندما تحدَّث عن الدّنيا بقوله: "من أبصر بها بصَّرته..."، أي أنَّ من جعل الدّنيا عيناً يبصر بها حقيقتها، بصَّرته، وعرّفته، وكشفت له أنها إلى زوال، وأنَّ نعيمها غير دائم ولا مقيم، ولا يمثّل طموح الإنسان، وأنَّ الآخرة هي دار الحيوان، أي دار الإقامة والحياة الحقيقيّة الَّتي لا فناء بعدها.

"ومن أبصر إليها"، أي من يتوجَّه إليها ببصره، "أعمته"[10]، من خلال بهارجها وزخارفها. ولذلك، ينبغي أن تكون الدّنيا بالنّسبة إلينا عيناً نبصر بها حقيقتها، وليست منظراً نوجَّه إليه أبصارنا المنبهرة بصوره الحائلة الزائلة.

"وأهون بها وهوّنها، وعلم أنَّ اللّه زواها عنه اختياراً"، فلقد كان النبيّ(ص) الفقير واليتيم، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}[11]، فلقد كان يربط حجر المجاعة على بطنه، كما تروي سيرته في أثناء حفر الخندق. "وبسطها لغيره احتقاراً"، لأنّها لا تمثّل عند اللّه كرامةً لأوليائه، وهذا ما عبّر عنه اللّه سبحانه وتعالى في (سورة الفجر): {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[12]، فلا ذاك إكرام ولا هذا إهانة، وإنّما هي حكمة اللّه تعالى في أنه {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ}[13].

"فأعرض عن الدّنيا بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحبَّ أن تغيب زينتها عن عينه، كي لا يتّخذ منها رياشاً، أو يرجو فيها مقاماً. بلّغ عن ربّه معذّراً"، حتى يعذر إلى اللّه في تبليغ رسالته، "ونصح لأمَّته منذراً"، ينذرهم عذاب اللّه وسخطه، "ودعا إلى الجنَّة مبشّراً"[14]، ليبشّرهم برحمة من اللّه ورضوانٍ ونعيمٍ مقيم.

وقال(ع): "فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر(ص)، فإنّ فيه أسوةً لمن تأسّى، وعزاءً لمن تعزّى"، لمن قدّر عليه رزقه، ولمن حرم من بعض ما في الدّنيا من نعيم.

"وأحبّ العباد إلى اللّه المتأسّي بنبيّه، والمقتصّ لأثره"، أي السّائر على أثره، والمتتبّع لخطواته، وكأنَّ الإمام(ع) يشير إلى قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}[15].

"قضم الدّنيا قضماً، ولم يعرها طرفاً"، أي أكلها أكلاً سريعاً، ولم يتوقَّف عند ملذّاتها طويلاً، بحيث تستغرق نظره وهواه. "أهضم أهل الدّنيا كشحاً"، والهضم هو خمص البطن، ومعناه خلوّها، والكشح هو ما بين الخاصرة إلى الضّلع الخلفيّ، "وأخمصهم من الدّنيا بطناً"، فالنّبيّ(ص) كان بطنه خالياً، ولم يكن يأكل كثيراً، وهذا هو سبب ربط حجر المجاعة على بطنه. "عرضت عليه الدّنيا فأبى أن يقبلها"، فلقد قيل له: خذ الدّنيا كلّها، ولا ينقص من أجرك شيء، ولكنّه قال: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[16].

"وعلم أنَّ اللّه سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه"، فهو يبغض ما يبغضه اللّه في كلّ شيء، "وحقّر شيئاً فحقّره"، فكان يحقّر ما حقّره اللّه، "وصغّر شيئاً فصغّره"، أي لا يعطي الأشياء أحجاماً مبالغاً فيها، فهو يعطيها حجمها الّذي أعطاها اللّه إيّاه، "ولو لم يكن فينا"، أي أنّ المشكلة هي فينا نحن الَّذين جئنا بعده. ولا يتحدَّث عليّ(ع) هنا عن نفسه، ولكنّه يتحدّث عن المجتمع، لأنَّ عليّاً(ع) كان يحبّ اللّه ورسوله، وكان يحبّه اللّه ورسوله، ولأنَّ علياً(ع) طلّق الدّنيا ثلاثاً، فلقد كان يعيش رسول اللّه(ص) في كلّ معانيه وآفاقه، "إلاّ حبّنا ما أبغض اللّه ورسوله، وتعظيمنا ما صغَّر اللّه ورسوله"، فنحن نحبّ الأشياء التي يبغضها اللّه، لأننا لم نعش معنى حبّ اللّه وحبّ ما أحبّه اللّه، والله صغّر الكثير من الجبابرة والمستكبرين، ولكنّنا نعظّمهم، "لكفى به شقاقاً للّه، ومحادّةً عن أمر اللّه"[17]، أي تحدّياً لأوامره. والحيد هو الزّيع والميل عن الطَّريق.

ثم يقول في وصفٍ آخر لرسول اللّه(ص): "مستقرّه غير مستقر"، لأنّه كان في مكّة، ثم انتقل إلى المدينة، "ومنبته أشرف منبت"، فهو من هاشم بالمكان الأعلى، "في معادن الكرامة، ومعاهد السّلامة، قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار"، فتوجَّهت إليه لتهواه وتطيع أوامره، وتلبّي دعوته، "وثنيت إليه أزمَّة الأنصار"، الَّذين عرفوا رسالته وعظمته، "دفن اللّه به الضّغائن"، لأنّه عندما انطلق في رسالته، ألقى المحبّة في قلوب الناس، لتكون الجسر الّذي يربط بعضهم ببعض، وأخرج الحقد من نفوسهم، واللّه تعالى يقول: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}[18]، من خلال كلماته ورعايته لها، "وأطفأ به النوائر"؛ نيران الأحقاد والفتن. "ألّف به إخواناً، وفرّق به أقراناً"، ألّف بين الذين آمنوا به، وقد كانوا أعداء، وهو ما تحدّث اللّه سبحانه وتعالى عنه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا}[19].

"أعزّ به الذلّة"، فأصبح الّذين كانوا بالأمس أذلاّء أعزّاء بالإيمان، "وأذلّ العزّة"، فأصبح المشركون الّذين يمتلكون ظواهر العزّة، أذلاّء بكفرهم. "كلامه بيان، وصمته لسان"[20]، لأنَّ صمته يتحرّك في مواقع الفكر.

أصحاب الرّسول(ص)

ويحدّثنا عليّ(ع) عن أصحاب رسول اللّه(ص): "لقد رأيت أصحاب محمَّد(ص)، فما أرى أحداً يشبههم"، فلقد كان عليّ(ع) معهم، وكان يعرف العناصر الطيّبة والمجاهدة منهم، وعلينا أن نعيش مع هؤلاء الأصحاب، كظاهرة عامّة، ولا نطلق السلبيّات، بل نحاول أن نعيش إيجابيّتهم، لأنّ اللّه تحدّث عن هؤلاء بقوله {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}[21]. وتحدّث عن الّذين {تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[22]، وتحدَّث عن المهاجرين، وعن النماذج الإيجابيّة الّتي انتصر الإسلام بها، وهذا ما يدفعنا إلى التركيز على الصّحابة، الَّذين أرى أنّهم مُهمَلون في أحاديثنا. ولنسمع عليّاً(ع) كيف يصفهم:

"لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً"، في عالم العبادة والجهاد والإخلاص للّه، "وقد باتوا سجَّداً وقياماً"، كما تحدَّث اللّه عنهم، "يراوحون بين جباههم وخدودهم"، أي يعفّرونها بالتراب في أثناء السّجود والشّكر للّه، "ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم"، فكانوا إذا ذكروا الآخرة، فكأنَّ النّار تلتهب في أجسادهم، كما لو كانوا يسيرون على الجمر، إحساساً بخطورة ما قد يقبلون عليه إذا انحرفوا عن طريق اللّه سبحانه وتعالى.

"كأنَّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم"، بحيث ترى أثر ذلك واضحاً بين أعينهم، {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}[23]، "إذا ذكر اللّه، هملت أعينهم حتى تبتلّ جيوبهم"، {إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}[24]، "ومادوا كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف، خوفاً من العقاب، ورجاء الثّواب"[25].

ويقول(ع) في خطبةٍ أخرى، وهو يتحدَّث عن مجتمع الأنصار والمهاجرين، ليصف لنا كيف كان أصحاب رسول اللّه(ص) مع قائدهم ونبيّهم: "ولقد كنّا مع رسول اللّه(ص)، نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً"، فلا قرابة والقضيَّة هي قضيّة اللّه، ولا نسب والقضيّة هي قضيّة الإسلام، "ومضياً على اللّقم"، وهو الطريق الواضح، "وصبراً على مضض الألم، وجدّاً في جهاد العدوّ، ولقد كان الرّجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما"، أي ينتهز كلٌّ الفرصة من الآخر حتى يقتله، "أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرّةً لنا ومرّةً لعدوّنا منا، فلّما رأى اللّه صدقنا، أنزل بعدوّنا الكبت، وأنزل علينا النصر،" لأنّه {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[26]، {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[27]. "حتى استقرّ الإسلام ملقياً جرانه"، والجران هو مقدَّم عنق البعير، فعندما يذبح البعير، يقع ويلقي عنقه على الأرض، ومعنى ألقى الإسلام جرانه، أي ثبت على الأرض، واستتبّ له الأمر، "ومتبوّئاً أوطانه. ولعمري، لو كنّا نأتي ما أتيتم" من الخلافات، والنّزاعات، والعصبيّات، والأحقاد، والضّغائن، وعدم الانفتاح على اللّه وعلى رسوله، والسَّعي وراء شهواتكم وملذّاتكم، "ما قام للدّين عمود، ولا اخضرّ للإيمان عود. وأيم اللّه، لتحتلبنّها دماً"، من خلال الواقع السّلبي الَّذي تعيشونه، البعيد عمَّا يريده اللّه، "ولتتبعنّها ندماً"[28].

من هم آل محمّد(ص)؟

وفي نهاية المطاف، يتحدَّث الإمام عليّ(ع) عن آل محمّد(ص)، في حديثٍ طويل يقول فيه: "ألا إنَّ مثل آل محمد(ص) كمثل نجوم السّماء، إذا خوى نجم"، أي مال إلى المغيب، "طلع نجم، فكأنّكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصَّنائع، وأراكم ما كنتم تأملون"[29].

أيّها الأحبّة، هذا هو بعض حديث عليّ(ع) عن رسول اللّه(ص)، ولم نأخذ منه إلا القليل. وقد ذكرنا في البداية، أنَّ عليّاً(ع) عاش رسول اللّه(ص) بكلّه، وكان يقضي ليله ونهاره معه، فلقد كان في بيته قبل أن يتزوّج ابنته الصّدّيقة الطّاهرة فاطمة الزّهراء(ع)، وكان رسول اللّه(ص) في بيت عليّ(ع) بعد أن تزوَّج ابنته، ولذلك، لم يفترق رسول اللّه(ص) عن عليّ(ع)، ولم يفترق(ع) عن رسول اللّه(ص) في حياته، وكان عليّ(ع) يتطلّع إلى عيني رسول اللّه(ص)، ليرى كيف تلمعان، ليعرف ما يريد أن يقوله الرّسول قبل أن يقول كلمته، وكان ينفتح على كلّ خطواته ليعرف خطّ السير.

ومن هنا، كان عليّ(ع) وحده، ولا أحد غيره، المؤهَّل لأن يكون الوليّ بعد رسول اللّه(ص)، مهما كان للآخرين، مما يتحدَّث به الآخرون، من فضل؛ فعليّ(ع) الأفضل في كلّ شيء، وكما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي عندما سئل: لم فضّلت عليّاً(ع) على غيره؟ قال: "احتياج الكلّ إليه، واستغناؤه عن الكلّ، دليل على أنّه إمام الكل"، لأنه كان الإسلام كلّه، ولذلك، كانت إمامة المسلمين حقّه، من خلال عقله وقلبه وطاقاته وعلمه وجهاده، ولذلك، فنحن عندما نذكر رسول اللّه(ص)، فإنَّنا لا نملك إلا أن نذكر عليّاً(ع) معه، ولا نذكر عليّاً(ع)، إلا ونذكر رسول اللّه(ص) معه.

أيّها الأحبّة، من كان مع رسول اللّه(ص)، لا بدَّ من أن يكون مع عليّ(ع)، ومن كان مع عليّ(ع)، لا بدَّ من أن يخشع لرسول اللّه(ص) رسالةً وسيرةً. {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافِسُونَ}[30].

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 108.

[2]  تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 431.

[3]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 10، ص 432.

[4]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 159.

[5]  [آل عمران: 164].

[6]  نهج البلاغة، ج 1، ص 187.

[7]  المصدر نفسه، ج 1، ص 208.

[8]  [الجمعة: 2].

[9]  نهج البلاغة، ج 1، ص 122.

[10]  المصدر نفسه، ج 1، ص 132.

[11]  [الضّحى: 6 ـ 8].

[12]  [الفجر: 15، 16].

[13]  [الرّعد: 26].

[14]  نهج البلاغة، ج 1، ص 215.

[15]  [الأحزاب: 21].

[16]  [القصص: 60].

[17]  نهج البلاغة، ج 2، ص 59، 60.

[18]  [الأنفال: 63].

[19]  [آل عمران: 103)].

[20]  شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 7، ص 68.

[21]  [الفتح: 29].

[22]  [الحشر: 9].

[23]  [الفتح: 29].

[24]  [الأنفال: 2].

[25]  نهج البلاغة، ج 1، ص 190.

[26]  [الحج: 40].

[27]  [محمد: 7].

[28]  نهج البلاغة، ج 1، ص 105.

[29]  المصدر نفسه، ج 1، ص 195.

[30]  [المطفّفين: 26].


في ذكرى مولد الرَّسول(ص)، لا بدَّ لنا من أن نعيش آفاقه كلّها، قبل أن يبعثه اللّه بالرّسالة، وبعد أن بعثه بها، وذلك من خلال شاهدٍ ليس كمثله شاهد في عظمته بعد رسول اللّه(ص)، من حيث عناصر الشّخصيَّة، ما عدا النبوّة؛ عنيت به علياً(ع)، الذي عاش مع رسول الله(ص) في عمق ذاته، وفي حركة حياته، وفي كلّ امتدادات شخصيّته. فمن أولى بأن يتحدَّث عن رسول اللّه(ص) من عليّ(ع)؟! ولذلك، فنحن في هذا اللّقاء، نحاول أن نلتقط من كلمات عليّ(ع) في (نهج البلاغة)، بعض ما تحدّث به عن رسول اللّه(ص)، وعن أصحابه، وعن أهل بيته(ع).

تجربة الطّفولة الأولى

فها هو أوَّلاً يتحدَّث عن تجربته مع رسول اللّه(ص) في طفولته الأولى، وهو يعيش بين أحضانه. يقول(ع): "أنا وضعت في الصّغر بكلاكل العرب"، و(كلاكل العرب) يعني الَّذين لهم الصَّدارة من أكابر العرب، "وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر"، و(نواجم القرون)، يعني القرون الظّاهرة الرّفيعة، وهي كناية عن أشراف القبائل، "وقد علمتم موضعي من رسول اللّه(ص) بالقرابة القريبة"، فهو ابن عمّه، وأخوه في الرّوح، وصهره، "والمنزلة الخصيصة"، حيث قال رسول اللّه(ص) بحقّه: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي"[1]، وقال أيضاً: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"[2]، وقال كذلك: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ"[3].

"وضعني في حجره"، والإمام آنذاك طفل، "وأنا ولد، يضمّني إلى صدره"، كما تضمّ الأمّ ولدها، بحيث كان رسول اللّه(ص) يختزن في شخصيَّته مع عليّ(ع) حنان الأمّ وعطف الأب في حياة أمّه وأبيه، لأنّه كان يعيش معه، ولم يعش في أحضان أمّه وأبيه، فكان بحقّ ربيب رسول اللّه(ص) وتلميذه منذ نعومة أظفاره.

"يضمّني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه"، أي ينام معه، "ويمسّني جسده"، لأنَّه كان يحتضنه وينام إلى جانبه، "ويشمّني عرفه"، و(العرف) هو الرّائحة الذكيّة الَّتي تفوح من رسول اللّه(ص)، "وكان يمضغ الشَّيء ثم يلقمنيه"، لأنَّه ربما لم تكن بعدُ قد نبتت أسنان عليّ(ع)، ولذلك، كان يمضغ اللّقمة حتى ترقّ، ثم يلقمها له.

"وما وجد لي كذبةً في قول"، فقد عشت معه منذ طفولتي، وتعلّمت الصّدق منه، ومن خلال لطف اللّه بي، لم يجد لي كذبةً في أيّ قول من أقوالي. "ولا خطلةً في فعل" و(الخطلة) هي الخطأ الّذي ينشأ من عدم الرّؤية والرويّة. وهذه الكلمة تعطي فكرة عن أنّ عليّاً(ع) كان معصوماً في كلامه وفي فعله منذ طفولته الأولى. وهذه التجربة الشخصيّة مع رسول اللّه(ص) توحي لنا بتدفّق ينابيع العاطفة الّتي كانت تتفجّر من قلب رسول اللّه(ص)، وتنساب في كلّ كيان عليّ(ع) وشخصيّته، بحيث كانت ينابيع روحانيّة الرّسول وأخلاقه وكلّ حركيّته، تتفجّر في شخصيّة عليّ(ع)، فعقله ينساب في عقل عليّ، وقلبه ينبض في قلب عليّ، وحركته تنطلق في حركة عليّ(ع).

الرّسول(ص) قبل البعثة

ثم يحدّثنا(ع) عن لطف اللّه برسوله(ص) قبل أن يبعثه بالرّسالة، فيقول: "ولقد قرن اللّه به(ص) من لدن أن كان فطيماً"، فكما أنّ عليّاً(ع) منذ أن كان فطيماً، أو بعد الفطام بقليل، اختصّه رسول اللّه(ص) بحضانته ورعايته، فكذلك الرّسول(ص)، منذ أن كان فطيماً، أعطاه اللّه رعايته بشكلٍ غير مألوف، "ولقد قرن اللّه به(ص) من لدن أن كان فطيماً، أعظم ملكٍ من ملائكته"، ولم يشر إلى شخصيَّة الملك، هل هو جبرائيل أو غيره، ولكن عندما يقول إنَّه قرن به أعظم ملك، فمعنى ذلك أنَّ هذا الملك الذي أراد اللّه له أن يربّي رسول اللّه(ص) بعين اللّه، بلغ من كلّ الصّفات ما لم يقترب إليها ملك، لأنَّ أعظم الأنبياء يحتاج إلى أعظم الملائكة، فالمعادلة تفرض هذا الشَّيء.

"يسلك به طريق المكارم"، ليدلّه على كلّ المكارم الإنسانيَّة بكلّ عناصرها الروحيَّة، "ومحاسن أخلاق العالم"، بحيث يجمع له أفضل المحاسن الَّتي يتميَّز بها العالم بأسره، أو كلّها، بحيث تتمثَّل في أخلاقه كلّ الأخلاق الَّتي يتمثّل بها العالم، فيما يتمثّلون به من محاسن الأخلاق، ليكون النّموذج الأكمل الَّذي إذا تمثّله العالم كلّه، رأى فيه النّموذج الذي يقتدي به. "ليله ونهاره"، بحيث كان هذا الملك لا يفارقه في اللّيل والنّهار.

"ولقد كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه"، فكما أنَّ ولد النّاقة يتبعها عندما تمشي، بحيث تتحوّل كلّ خطوة من خطواتها إلى خطوةٍ من خطواته، كذلك كان عليّ(ع) مع رسول اللّه(ص). ومن هنا، نعرف كيف أنَّ الإمام(ع)، كان وهو في تلك السّنّ، وهي سنّ ما قبل العاشرة، يعيش صورة رسول اللّه(ص) في أخلاقه كلّها، وفي كمالاته كلّها.

رفع لي في كلّ يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به"، أي أنّه يقول لي: اعمل كذا واعمل كذا، وسر في هذا الطريق، وتكلّم بهذه الطّريقة، ما يعني أنَّ النّبيّ(ص) كان يعدّه ليكون أخاه ونفسه ووزيره، "ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء (غار حراء)، فأراه ولا يراه غيري"، لأنَّ النّبيّ(ص) عندما كان يجاور بحراء، كان لا يسمح لأحدٍ بأن يزوره، ولا يلتقي أحداً هناك، بل كان في عزلته التأمّليّة الَّتي يناجي فيها ربّه، ويعيش فيها كلَّ روحانيّته وعبادته مع اللّه. "ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام"، عندما بعث النّبي(ص) بالإسلام، "غير رسول اللّه(ص) وخديجة وأنا ثالثهما"، بحيث كان عليّ(ع) عندما أتى النبيّ(ص) بالرّسالة، يعيش في البيت الإسلاميّ الأوّل الذي كان يضمّ رسول اللّه(ص) وخديجة(رض)، وهو الثالث. "أرى نور الوحي والرّسالة"، عندما يشرق على رسول اللّه(ص)، "وأشمّ ريح النبوّة"؛ ريحها المعنويّة والروح والأخلاق، وكلّ ما يتميَّز به رسول اللّه(ص) من نفحات النبوّة وعطر الرّسالة.

ثم يعبّر عن التّجربة الَّتي لم يعشها مسلم منذ كان الإسلام، وإلى أن قُبض رسول اللّه(ص) إلى رحاب ربّه: "ولقد سمعت رنّة الشَّيطان حين نزل الوحي عليه(ص)"، فهو ينقل لنا كيف عاش الشّيطان في حالة طوارئ، والرنّة هنا كناية عن الصّرخة، "فقلت يا رسول اللّه: ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشَّيطان أيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنّك لست بنبيّ، ولكنّك وزير، وإنّك لعلى خير".

إنَّ هذا النّصّ العلويّ الَّذي هو النّص المعصوم الَّذي لا يقترب الباطل إليه، يدلّنا على أنَّ النبيّ(ص) كان يعدّ عليّاً(ع) للوزارة، الَّتي هي الوصاية والخلافة، منذ كان(ع) في بداية شبابه.

من معجزات النّبيّ(ص)

"ولقد كنت معه". وهنا، يعطينا التّجربة كيف أنَّ قريش كانت تطالب رسول اللّه(ص) بأن يقدّم لها المعجزة. وهذا نصّ يمكن أن تختلف الأخبار وبعض الروايات بشأنه، ولكنَّنا نعتدّ بوثاقته، لأنّ عليّاً(ع) هو الشّاهد النّاقل للمعجزة: "ولقد كنت معه ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ لمّا أتاه الملأ من قريش، فقالوا له: يا محمَّد، إنّك قد ادّعيت عظيماً لم يدّعه آباؤك، ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه، علمنا أنّك نبيّ ورسول، وإن لم تفعل، علمنا أنّك ساحر كذّاب"، تحاول أن تسحر عيون النّاس بسحرك. "فقال ـ صلى اللّه عليه وآله ـ وما تسألون؟"، أي ما هو طلبكم؟ "قالوا: تدعو لنا هذه الشّجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك، فقال(ص): إنَّ اللّه على كلّ شيء قدير"، فليست قدرتي الّتي تقتلع الشَّجرة، وإنمّا هي قدرة اللّه، "فإن فعل اللّه لكم ذلك، أتؤمنون وتشهدون بالحقّ؟ قالوا: نعم، قال: فإنِّي سأريكم ما تطلبون، وإنِّي لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير"، فهذا تحدٍّ، ولكنَّني سأكون في مستواه بإذن اللّه، "وإنَّ فيكم من يطرح في القليب (في معركة بدر)، ومن يحزّب الأحزاب"، لقد عرَّفني اللّه مَنْ آباؤكم. "ثم قال(ص): يا أيّتها الشّجرة، إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر"، طبعاً الإيمان بوجودها، لا الإيمان بعقلها، باعتبار أنَّ كلَّ موجود يتجسّد فيه الإيمان من خلال طبيعة ما ركّب اللّه فيه من أسرار الخلق، "إن كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر، وتعلمين أنّي رسول اللّه، فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديَّ بإذن اللّه".

ثم ينقل الإمام(ع) ما شاهده، فيقول: "فوالّذي بعثه بالحقّ، لانقلعت بعروقها، وجاءت ولها دويّ شديد، وقصف كقصف أجنحة الطّير، حتى وقفت بين يدي رسول اللّه(ص) مرفرفةً، وألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه(ص)، وببعض أغصانها على منكبي، وكنت عن يمينه(ص)، فلمّا نظر القوم إلى ذلك، قالوا علوّاً واستكباراً: فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها، فأمرها بذلك، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دويّاً، فكادت تلتفّ برسول اللّه(ص)، فقالوا كفراً وعتوّاً: فمر هذا النّصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره فرجع، فقلت أنا: لا إله إلا اللّه، فإنّي أوَّل مؤمن بك يا رسول اللّه، وأوَّل من أقرَّ بأنَّ الشَّجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تعالى، تصديقاً بنبوَّتك، وإجلالاً لكلمتك، فقال القوم كلّهم: بل ساحر كذَّاب، عجيب السّحر، خفيف فيه، وهل يصدِّقك في أمرك إلا مثل هذا؟ (يعنونني).

ثم يقول: "وإنّي لمن قومٍ لا تأخذهم في اللّه لوم لائم" من أهل البيت(ع)، "سيماهم سيما الصّدّيقين، وكلامهم كلام الأبرار، عمّار اللّيل ومنار النّهار، متمسّكون بحبل القرآن، يحيون سنن اللّه وسنن رسوله، لا يستكبرون، ولا يعلون، ولا يغلّون"، لا يحقدون، "ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل"[4].

هذه هي إحدى الكلمات التي تحدّث بها عليّ(ع) عن حياته الأولى مع رسول اللّه(ص)، وعن بعض التَّجارب الَّتي عاشها معه.

في بعثة النبيّ(ص)

ونحاول أن نلتقط بعض كلماته عن بعثة النّبيّ(ص)، حيث يقول: "بعثه والنّاس ضلاّل في حيرة"، {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}[5]. "وخابطون في فتنة"، فهو يصوّر الفتنة كما لو أنّ الناس يأخذون الحطب الكثير ليشعلوا به النّار أو ليلقوه على النّار، "قد استهوتهم الأهواء"، وعاشوا مع أهوائهم الّتي لا ترتكز على أيّة قاعدة، أو على أيّ أساس، "واستزلّتهم الكبرياء"، مما كانوا يأخذون به من الكبر، انطلاقاً من شعورهم بضخامة شخصيَّتهم، "واستخفّتهم الجاهليّة الجهلاء"، أي جعلتهم خفافاً في عقولهم ومواقعهم، "حيارى"، لأنّهم لا يبصرون طريق الهدى، "في زلزالٍ من الأمر"، لأنَّ الإنسان الّذي لا يرتكز على قاعدة، يبقى في زلزالٍ من أمره، "وبلاءٍ من الجهل، فبالغ صلّى اللّه عليه وآله في النَّصيحة"، حيث بذل كلّ جهده، وألقى كلّ كلماته، وحرّك كلَّ طاقاته من أجل أن ينصحهم بما أعطاه اللّه من حكمة، وبما أنزل عليه من وحي، "ومضى على الطّريقة" الَّتي خطّطها اللّه له، "ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة"[6].

الدّاعية الدّائب الحركة

ثم يصوّر لنا كيف كان رسول اللّه(ص) يتحرّك في المجتمع، فلا يجمد في بيته، بحيث ينتظر الناس ليأتوا إليه، كما يفعل الكثيرون من الّذين لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن التحرّك مع النّاس، بل يبقون في بيوتهم ليقصدهم النَّاس، فإذا سألوهم أجابوا، وإذا لم يسألوهم، رأوا أنفسهم في حلّ. "طبيب دوّار بطبّه"، فلا يجلس في العيادة في انتظار مرضاه، فعندما ينتشر الوباء، فإنّ الأطبّاء يمسكون مفارق الطّرق، كلٌّ يقف في مفرق طريق لمداواة القادمين والخارجين، حتى يمنعوا من تفشّيه، ولكنّ رسول اللّه(ص) طبيب العقول والقلوب، لا طبيب الأبدان، فانظروا كيف يصوّر الإمام(ع) المسألة: "طبيب دوّار بطبّه، قد أحكم مراهمه" لجرحى العقول والقلوب، وجرحى الأخلاق والآداب، وجرحى القيم والمثل، وجرحى الجهل والتخلّف، فالمرهم يوضع على الجراح ليدملها، "وأحمى مواسمه"، والمواسم هنا جمع ميسم، وهو المكواة، باعتبار أنَّ آخر الدّواء الكيّ، فقد لا ينفع المرهم الّذي يمثِّل الدّواء، فلا يكون أمام الطّبيب سوى الكيّ، "يضع من ذلك حيث الحاجة إليه"، يضع المرهم لعلاج مرضٍ هنا، ويكوي مرضاً هناك، "من قلوبٍ عميٍ"، يعالجها حتَّى تنفتح، "وآذان صمّ"، يعالجها حتى تستمع بعد وقر، "وألسنةٍ بكم"، يداويها حتى تنطق بعد بكم، "متتبّع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة"، فهو يتحرك مع الناس الغافلين الذين لم ينفتحوا على أفق الوعي، بل كانوا في ظلمة الغفلة يتقلّبون، ليعيدهم إلى وعيهم ورشدهم، فهو كما الطّبيب الّذي يتتبّع مواقع المرض الموجودة هنا وهناك، ويحاول أن يدرس كلَّ مظاهره، وكلّ أوضاع المرضى، "لم يستضيئوا بأضواء الحكمة، ولم يقدحوا بزناد العلوم الثّاقبة"، ومعنى أن يقدح الزّناد، أن يخرج النّور من خلاله، وكأنّ الإنسان عندما ينفتح على العلم، فإنّه يضيء له النّور الّذي يبدِّد ظلام الجهل، "فهم في ذلك كالأنعام السّائمة والصّخور القاسية"[7].

الصَّلاة على النبيّ(ص)

وهناك نصّ آخر يدعو فيه الإمام عليّ(ع) اللّه تعالى بالصَّلاة على رسول اللّه(ص)، يقول فيه: "اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، على محمّد عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق" من الرّسالات، "والفاتح لما انغلق" من كلّ مواقع الوعي والبصيرة، "والمعلن الحقّ بالحقّ"، الّذي كان الحقّ عنده يمثّل الأسلوب والغاية معاً، بحيث عندما يدعو إلى الحقّ، فإنّه يدعو بوسائل الحقّ، ولا يدعو إلى الحقّ بالباطل. "والدّافع جيشات الأباطيل"، فعندما تجيش الأباطيل في المجتمع، بحيث يتحرّك الباطل من خلال ما يزرعه هنا وهناك من فتنٍ وأحنٍ في العقل والقلب، وفي أوضاع النَّاس ومواقعهم، فإنَّ الرّسول(ص)، وكلّ أتباع الرسالة الّذين يتأسّون به، لا بدَّ من أن يندفعوا لدحر جيش الأباطيل. "والدّامغ صولات الأضاليل". أي يدمغها بالقوّة، فإذا هي زاهقة، "كما حُمّل، فاضطلع قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك"، فهو يتحرّك بكلّ ما لديه من طاقة، "غير ناكرٍ عن قدم"، أي أنّه يتحرك في كلّ المواقع التي يُدعى إليها، "ولا واهٍ في عزم"، بل كانت عزماته قويَّة، "واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك"، فالنبيّ(ص) ليس مجرّد ناقلٍ للكلمة فقط، بل هو داعٍ لها، ولذلك، فإنّه عندما يطلقها، فإنّما يطلقها من خلال وعيه بكلّ معاني الكلمة، وهذا ما عبَّر عنه اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[8]، فالنّبيّ(ص) كان المعلّم، ولم يكن مجرّد ناقل، فهو يتلو أوّلاً، ويزكّي ثانياً، ويعلّم الكتاب والحكمة ثالثاً.

"حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك"، حتى ينفذه إلى الناس أجمعين، "حتى أوري قبس القابس"، والقابس هو طالب النّار، لأنّ الناس يومذاك كانوا يلاحقون النار وفي أيديهم أعواد يشعلونها بها، ليرجعوا إلى أهلهم ليوروا بها حطبهم. "وأضاء الطّريق للخابط" الّذي يتخبّط في الظّلماء، وكانت العرب تعبّر عن ذلك بالقول: "يخبط خبط عشواء".

"وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن، وأقام موضحات الأعلام ونيّرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك" الّذي يشهد على النّاس "يوم الدّين، وبعيثك بالحقّ، ورسولك إلى الخلق"، لأنّك أنت الّذي بعثته بالحقّ. "اللّهمّ افسح له مفسحاً في ظلّك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك"[9].

زهد النبيّ(ص)

ويتحدَّث عليّ(ع) في شهادة أخرى عن زهد النّبيّ المصطفى(ص)، فيقول: "قد حقّر الدنيا وصغّرها"، فلم ينفتح عليها انفتاح الإنسان الَّذي تبطره زخارفها، وتصرعه أحجامها، وتجرّه شهواتها وأهواؤها إليها، ذلك لأنَّ الدنيا لم تكن همّه كلّه، ولا مبلغ اهتمامه، ولأنّ الدنيا عنده مجرّد موقعٍ لرسالته، ينفتح من خلالها على اللّه، وليس لها قيمة ذاتيّة في كلّ طيّباتها ومتاعها، وليس معنى ذلك أنّه كان يحرّم ملذّات الدنيا، بل ينظر إليها بحجمها، بمعنى حركة الرساليّين في نظرتهم إلى الدّنيا المادّية، ليرتفعوا من خلال هذه النّظرة إلى آفاقها الروحيّة، وهذا هو الَّذي عبّر عنه تلميذه وأخوه وابن عمّه وصهره عليّ(ع)، عندما تحدَّث عن الدّنيا بقوله: "من أبصر بها بصَّرته..."، أي أنَّ من جعل الدّنيا عيناً يبصر بها حقيقتها، بصَّرته، وعرّفته، وكشفت له أنها إلى زوال، وأنَّ نعيمها غير دائم ولا مقيم، ولا يمثّل طموح الإنسان، وأنَّ الآخرة هي دار الحيوان، أي دار الإقامة والحياة الحقيقيّة الَّتي لا فناء بعدها.

"ومن أبصر إليها"، أي من يتوجَّه إليها ببصره، "أعمته"[10]، من خلال بهارجها وزخارفها. ولذلك، ينبغي أن تكون الدّنيا بالنّسبة إلينا عيناً نبصر بها حقيقتها، وليست منظراً نوجَّه إليه أبصارنا المنبهرة بصوره الحائلة الزائلة.

"وأهون بها وهوّنها، وعلم أنَّ اللّه زواها عنه اختياراً"، فلقد كان النبيّ(ص) الفقير واليتيم، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}[11]، فلقد كان يربط حجر المجاعة على بطنه، كما تروي سيرته في أثناء حفر الخندق. "وبسطها لغيره احتقاراً"، لأنّها لا تمثّل عند اللّه كرامةً لأوليائه، وهذا ما عبّر عنه اللّه سبحانه وتعالى في (سورة الفجر): {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[12]، فلا ذاك إكرام ولا هذا إهانة، وإنّما هي حكمة اللّه تعالى في أنه {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ}[13].

"فأعرض عن الدّنيا بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحبَّ أن تغيب زينتها عن عينه، كي لا يتّخذ منها رياشاً، أو يرجو فيها مقاماً. بلّغ عن ربّه معذّراً"، حتى يعذر إلى اللّه في تبليغ رسالته، "ونصح لأمَّته منذراً"، ينذرهم عذاب اللّه وسخطه، "ودعا إلى الجنَّة مبشّراً"[14]، ليبشّرهم برحمة من اللّه ورضوانٍ ونعيمٍ مقيم.

وقال(ع): "فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر(ص)، فإنّ فيه أسوةً لمن تأسّى، وعزاءً لمن تعزّى"، لمن قدّر عليه رزقه، ولمن حرم من بعض ما في الدّنيا من نعيم.

"وأحبّ العباد إلى اللّه المتأسّي بنبيّه، والمقتصّ لأثره"، أي السّائر على أثره، والمتتبّع لخطواته، وكأنَّ الإمام(ع) يشير إلى قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}[15].

"قضم الدّنيا قضماً، ولم يعرها طرفاً"، أي أكلها أكلاً سريعاً، ولم يتوقَّف عند ملذّاتها طويلاً، بحيث تستغرق نظره وهواه. "أهضم أهل الدّنيا كشحاً"، والهضم هو خمص البطن، ومعناه خلوّها، والكشح هو ما بين الخاصرة إلى الضّلع الخلفيّ، "وأخمصهم من الدّنيا بطناً"، فالنّبيّ(ص) كان بطنه خالياً، ولم يكن يأكل كثيراً، وهذا هو سبب ربط حجر المجاعة على بطنه. "عرضت عليه الدّنيا فأبى أن يقبلها"، فلقد قيل له: خذ الدّنيا كلّها، ولا ينقص من أجرك شيء، ولكنّه قال: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[16].

"وعلم أنَّ اللّه سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه"، فهو يبغض ما يبغضه اللّه في كلّ شيء، "وحقّر شيئاً فحقّره"، فكان يحقّر ما حقّره اللّه، "وصغّر شيئاً فصغّره"، أي لا يعطي الأشياء أحجاماً مبالغاً فيها، فهو يعطيها حجمها الّذي أعطاها اللّه إيّاه، "ولو لم يكن فينا"، أي أنّ المشكلة هي فينا نحن الَّذين جئنا بعده. ولا يتحدَّث عليّ(ع) هنا عن نفسه، ولكنّه يتحدّث عن المجتمع، لأنَّ عليّاً(ع) كان يحبّ اللّه ورسوله، وكان يحبّه اللّه ورسوله، ولأنَّ علياً(ع) طلّق الدّنيا ثلاثاً، فلقد كان يعيش رسول اللّه(ص) في كلّ معانيه وآفاقه، "إلاّ حبّنا ما أبغض اللّه ورسوله، وتعظيمنا ما صغَّر اللّه ورسوله"، فنحن نحبّ الأشياء التي يبغضها اللّه، لأننا لم نعش معنى حبّ اللّه وحبّ ما أحبّه اللّه، والله صغّر الكثير من الجبابرة والمستكبرين، ولكنّنا نعظّمهم، "لكفى به شقاقاً للّه، ومحادّةً عن أمر اللّه"[17]، أي تحدّياً لأوامره. والحيد هو الزّيع والميل عن الطَّريق.

ثم يقول في وصفٍ آخر لرسول اللّه(ص): "مستقرّه غير مستقر"، لأنّه كان في مكّة، ثم انتقل إلى المدينة، "ومنبته أشرف منبت"، فهو من هاشم بالمكان الأعلى، "في معادن الكرامة، ومعاهد السّلامة، قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار"، فتوجَّهت إليه لتهواه وتطيع أوامره، وتلبّي دعوته، "وثنيت إليه أزمَّة الأنصار"، الَّذين عرفوا رسالته وعظمته، "دفن اللّه به الضّغائن"، لأنّه عندما انطلق في رسالته، ألقى المحبّة في قلوب الناس، لتكون الجسر الّذي يربط بعضهم ببعض، وأخرج الحقد من نفوسهم، واللّه تعالى يقول: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}[18]، من خلال كلماته ورعايته لها، "وأطفأ به النوائر"؛ نيران الأحقاد والفتن. "ألّف به إخواناً، وفرّق به أقراناً"، ألّف بين الذين آمنوا به، وقد كانوا أعداء، وهو ما تحدّث اللّه سبحانه وتعالى عنه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا}[19].

"أعزّ به الذلّة"، فأصبح الّذين كانوا بالأمس أذلاّء أعزّاء بالإيمان، "وأذلّ العزّة"، فأصبح المشركون الّذين يمتلكون ظواهر العزّة، أذلاّء بكفرهم. "كلامه بيان، وصمته لسان"[20]، لأنَّ صمته يتحرّك في مواقع الفكر.

أصحاب الرّسول(ص)

ويحدّثنا عليّ(ع) عن أصحاب رسول اللّه(ص): "لقد رأيت أصحاب محمَّد(ص)، فما أرى أحداً يشبههم"، فلقد كان عليّ(ع) معهم، وكان يعرف العناصر الطيّبة والمجاهدة منهم، وعلينا أن نعيش مع هؤلاء الأصحاب، كظاهرة عامّة، ولا نطلق السلبيّات، بل نحاول أن نعيش إيجابيّتهم، لأنّ اللّه تحدّث عن هؤلاء بقوله {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}[21]. وتحدّث عن الّذين {تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[22]، وتحدَّث عن المهاجرين، وعن النماذج الإيجابيّة الّتي انتصر الإسلام بها، وهذا ما يدفعنا إلى التركيز على الصّحابة، الَّذين أرى أنّهم مُهمَلون في أحاديثنا. ولنسمع عليّاً(ع) كيف يصفهم:

"لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً"، في عالم العبادة والجهاد والإخلاص للّه، "وقد باتوا سجَّداً وقياماً"، كما تحدَّث اللّه عنهم، "يراوحون بين جباههم وخدودهم"، أي يعفّرونها بالتراب في أثناء السّجود والشّكر للّه، "ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم"، فكانوا إذا ذكروا الآخرة، فكأنَّ النّار تلتهب في أجسادهم، كما لو كانوا يسيرون على الجمر، إحساساً بخطورة ما قد يقبلون عليه إذا انحرفوا عن طريق اللّه سبحانه وتعالى.

"كأنَّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم"، بحيث ترى أثر ذلك واضحاً بين أعينهم، {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}[23]، "إذا ذكر اللّه، هملت أعينهم حتى تبتلّ جيوبهم"، {إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}[24]، "ومادوا كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف، خوفاً من العقاب، ورجاء الثّواب"[25].

ويقول(ع) في خطبةٍ أخرى، وهو يتحدَّث عن مجتمع الأنصار والمهاجرين، ليصف لنا كيف كان أصحاب رسول اللّه(ص) مع قائدهم ونبيّهم: "ولقد كنّا مع رسول اللّه(ص)، نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً"، فلا قرابة والقضيَّة هي قضيّة اللّه، ولا نسب والقضيّة هي قضيّة الإسلام، "ومضياً على اللّقم"، وهو الطريق الواضح، "وصبراً على مضض الألم، وجدّاً في جهاد العدوّ، ولقد كان الرّجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما"، أي ينتهز كلٌّ الفرصة من الآخر حتى يقتله، "أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرّةً لنا ومرّةً لعدوّنا منا، فلّما رأى اللّه صدقنا، أنزل بعدوّنا الكبت، وأنزل علينا النصر،" لأنّه {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[26]، {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[27]. "حتى استقرّ الإسلام ملقياً جرانه"، والجران هو مقدَّم عنق البعير، فعندما يذبح البعير، يقع ويلقي عنقه على الأرض، ومعنى ألقى الإسلام جرانه، أي ثبت على الأرض، واستتبّ له الأمر، "ومتبوّئاً أوطانه. ولعمري، لو كنّا نأتي ما أتيتم" من الخلافات، والنّزاعات، والعصبيّات، والأحقاد، والضّغائن، وعدم الانفتاح على اللّه وعلى رسوله، والسَّعي وراء شهواتكم وملذّاتكم، "ما قام للدّين عمود، ولا اخضرّ للإيمان عود. وأيم اللّه، لتحتلبنّها دماً"، من خلال الواقع السّلبي الَّذي تعيشونه، البعيد عمَّا يريده اللّه، "ولتتبعنّها ندماً"[28].

من هم آل محمّد(ص)؟

وفي نهاية المطاف، يتحدَّث الإمام عليّ(ع) عن آل محمّد(ص)، في حديثٍ طويل يقول فيه: "ألا إنَّ مثل آل محمد(ص) كمثل نجوم السّماء، إذا خوى نجم"، أي مال إلى المغيب، "طلع نجم، فكأنّكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصَّنائع، وأراكم ما كنتم تأملون"[29].

أيّها الأحبّة، هذا هو بعض حديث عليّ(ع) عن رسول اللّه(ص)، ولم نأخذ منه إلا القليل. وقد ذكرنا في البداية، أنَّ عليّاً(ع) عاش رسول اللّه(ص) بكلّه، وكان يقضي ليله ونهاره معه، فلقد كان في بيته قبل أن يتزوّج ابنته الصّدّيقة الطّاهرة فاطمة الزّهراء(ع)، وكان رسول اللّه(ص) في بيت عليّ(ع) بعد أن تزوَّج ابنته، ولذلك، لم يفترق رسول اللّه(ص) عن عليّ(ع)، ولم يفترق(ع) عن رسول اللّه(ص) في حياته، وكان عليّ(ع) يتطلّع إلى عيني رسول اللّه(ص)، ليرى كيف تلمعان، ليعرف ما يريد أن يقوله الرّسول قبل أن يقول كلمته، وكان ينفتح على كلّ خطواته ليعرف خطّ السير.

ومن هنا، كان عليّ(ع) وحده، ولا أحد غيره، المؤهَّل لأن يكون الوليّ بعد رسول اللّه(ص)، مهما كان للآخرين، مما يتحدَّث به الآخرون، من فضل؛ فعليّ(ع) الأفضل في كلّ شيء، وكما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي عندما سئل: لم فضّلت عليّاً(ع) على غيره؟ قال: "احتياج الكلّ إليه، واستغناؤه عن الكلّ، دليل على أنّه إمام الكل"، لأنه كان الإسلام كلّه، ولذلك، كانت إمامة المسلمين حقّه، من خلال عقله وقلبه وطاقاته وعلمه وجهاده، ولذلك، فنحن عندما نذكر رسول اللّه(ص)، فإنَّنا لا نملك إلا أن نذكر عليّاً(ع) معه، ولا نذكر عليّاً(ع)، إلا ونذكر رسول اللّه(ص) معه.

أيّها الأحبّة، من كان مع رسول اللّه(ص)، لا بدَّ من أن يكون مع عليّ(ع)، ومن كان مع عليّ(ع)، لا بدَّ من أن يخشع لرسول اللّه(ص) رسالةً وسيرةً. {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافِسُونَ}[30].

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 108.

[2]  تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 431.

[3]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 10، ص 432.

[4]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 159.

[5]  [آل عمران: 164].

[6]  نهج البلاغة، ج 1، ص 187.

[7]  المصدر نفسه، ج 1، ص 208.

[8]  [الجمعة: 2].

[9]  نهج البلاغة، ج 1، ص 122.

[10]  المصدر نفسه، ج 1، ص 132.

[11]  [الضّحى: 6 ـ 8].

[12]  [الفجر: 15، 16].

[13]  [الرّعد: 26].

[14]  نهج البلاغة، ج 1، ص 215.

[15]  [الأحزاب: 21].

[16]  [القصص: 60].

[17]  نهج البلاغة، ج 2، ص 59، 60.

[18]  [الأنفال: 63].

[19]  [آل عمران: 103)].

[20]  شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 7، ص 68.

[21]  [الفتح: 29].

[22]  [الحشر: 9].

[23]  [الفتح: 29].

[24]  [الأنفال: 2].

[25]  نهج البلاغة، ج 1، ص 190.

[26]  [الحج: 40].

[27]  [محمد: 7].

[28]  نهج البلاغة، ج 1، ص 105.

[29]  المصدر نفسه، ج 1، ص 195.

[30]  [المطفّفين: 26].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية