[يقول الإمام زين العابدين (ع) في دعاء مكارم الأخلاق:]
"اللّهُمَّ اجْعَلْ ما أجْرى [الشيطانُ] على لساني مِنْ لفْظَةِ فُحْشٍ أوْ هُجْرٍ، أوْ شَتْمِ عِرضٍ، أو شهادَةِ باطِلٍ، أوْ اغتِيابِ مؤمِنٍ غَائِبٍ، أو سبٍّ حاضِرٍ وما أشْبَهَ ذلك، نُطْقاً بالحَمْدِ لَكَ، وإغراقاً في الثَّناءِ عليْكَ، وذَهاباً في تمجيدِكَ، وشُكْراً لِنعْمتِكَ، واعْتِرافاً بإحْسانِكَ، وإحصاءً لِمِنَنِكَ...".
اللّهم وقد يدخل الشّيطان إلى أجواء الكلمات التي تتحرّك في لساني، في الأسلوب التعبيري عن الأفكار والمشاعر والتطلّعات والمواقف والنّوازع الداخليّة والخارجيّة، فيقودني إلى الكلمات الفاحشة التي تخدش الحياء، وتجرح طهر السّمع، وتثير في الجوّ المحيط بها المشاعر الخبيثة الفاضحة، أو الكلمات اللاغية القبيحة المعبّرة عن السّوء، المتحركة في ما لا يجمل بالإنسان الحديث عنه أو الإكثار منه، أو الألفاظ الشّاتمة التي تتناول النّاس في أعراضهم وكراماتهم، مما يتّصل بأوضاعهم المعنويّة في مواقعهم الاجتماعيّة في أحسابهم وأنسابهم وما أشبه ذلك، أو الكلمات التي تقوّي الباطل وتضعف الحقّ، وذلك بالشّهادة بالباطل على حساب الحقّ، بالإخبار عن أمر لم يحدث، وعن حقّ لم يثبت، وعن حسنةٍ لم توجد، وعن ملكٍ لا أساس له، وعن موقفٍ لا واقع له، مما يدخل في نطاق توجيه الحكم إلى غير المواقع الحقيقيّة للأشياء، وإبعاده عن آفاق العدل، أو الكلمات الشرّيرة التي تتحدث عن عيوب الناس المؤمنين التي سترتها عليهم، مما يكتمونه من النقص الحاصل في أنسابهم وأقوالهم وأفعالهم وصفاتهم الجسديّة ومواقعهم الاجتماعيّة وما إلى ذلك، مما يراه النّاس عيباً في الإنسان، بحيث يسقط مقامه من خلاله، ولذلك، فإنّه يرفض أن يذكره النّاس به في أيّ مناسبة بقصد الذّمّ أو بأيّ قصدٍ آخر، أو بدون قصد شيءٍ معيَّن.
أو الكلمات التي توحي بالسبّ للمؤمنين، مما يثقلهم مواجهتهم به، لاشتماله على الصّفات التي تسيء إليهم في أنفسهم أو في مواقفهم وأفعالهم أو انتماءاتهم أو واقعهم ونحو ذلك.
اللّهُمَّ إنّي أعلم أنّك تريدني أن أكون عفَّ اللّسان، طاهر الكلمة، بحيث تتحوَّل الكلمة عندي إلى مسؤوليّة دينيّة اجتماعيّة إنسانيّة من خلال مضمونها وإيحاءاتها وتأثيرها وحركيّتها، لتكون عنصر خير بدلاً من أن تكون عنصر شرّ، ووسيلة حقّ لا وسيلة باطل، ووحي رحمة لا وحي قسوة، وأداة بناء للحياة والإنسان لا أداة هدم لهما، ومنطلق نفع لا ضرر، فقد أردت لعبادك أن يقولوا التي هي أحسن، وذلك في قولك - سبحانك -: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِين}[الإسراء: 53].
وقلت - سبحانك - في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيد}[الأحزاب: 70].
وقد رفضت لعبادك الفحش قولاً وعملاً، لأنّك لا تريد لهم أن يتنفّسوا التصوّر الفاحش في أفكارهم، أو عمل الفحشاء في ممارستهم، لما يمثّله ذلك من إساءة إلى طهر الفكر والرّوح والعمل، ويسيء - بالتّالي - إلى طهارة الإنسانيّة في الإنسان، ولم ترد لهم أن يحركوا السّوء واللّغو والفضول في حياتهم، فكلَّفتهم بإبعاد ذلك عن كلماتهم.
وهكذا أردت للإنسان المؤمن أن يكون مهذَّباً في كلماته مع الآخرين، فلا يطلق الألفاظ التي تجرح كراماتهم وتسيء إلى أوضاعهم، وتسقط حسّ الكرامة في إنسانيّتهم، فلم ترد له أن يستخدم الشّتم في هذا الاتجاه السيِّئ العدوانيّ الذي يعقّد النفوس، ويثقل القلوب، ويزرع العداوة بين النّاس.
وحذّرت المؤمنين من قول الزّور والشّهادة بالباطل، وكتمان الحقّ، لأنَّ ذلك يؤدّي إلى تضييع الحقوق، وانتشار الظّلم وغياب العدل، وحرَّمت الغيبة، وجعلت مثلها مثَلَ أكل لحم المؤمن ميتاً، لأنَّ حرمة عرضه كحرمة دمه، لأنّها تمثّل عدواناً على الإنسان بإسقاط حرمته بين النّاس، من خلال إظهار عيوبه التي يكتمها عنهم، واعتبرتها من الكبائر التي لا تغفرها حتى يغفرها صاحبها، لارتباطها بحقوق النّاس كارتباطها بحقّك، وأردت للنّاس رفض الاستماع إليها إلّا من أجل الدّفاع عن صاحبها بردّ غيبته، حتّى لا يتشجّع النّاس على هذا الأسلوب.
وأردت للنّاس أن لا يسبّوا المؤمنين، لأنَّ سبابهم فسوق وانحراف عن الخطّ الشّرعيّ الإسلاميّ الذي يؤكِّد احترام المؤمنين بعضهم لبعض، وترك الإساءة والتعدّي على كراماتهم، ثم ربّيتهم على أن لا يسبّوا الّذين يدعون غير الله، لا لأنَّ هؤلاء يملكون الاحترام لذواتهم أو لانتماءاتهم، بل ليبتعدوا عن ردّ الفعل الذّاتي الناشئ من نوازعهم الذاتيّة المنطبعة على حبّ أعمالهم، وتقديس مقدَّساتهم، فيتحوَّل الموضوع إلى أن يبادروا إلى سبّ الله بغير علم، كما جاء في كتابك - سبحانك -: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}[الأنعام: 108].
لقد تعلّمنا منك ومن رسلك وأوليائك، أنَّ أسلوب السبّ ليس الأسلوب الأمثل للمواجهة في ساحات الصّراع، لأنّه لن يؤدّي إلى نتيجةٍ في الإقناع، ولن يحقّق أيّ إيجابيّة في إيمان الناس بالحقّ، بل ربما يزيد المسألة تعقيداً، ويبتعد بالمشكلة عن نطاق الحلّ، ويعطي النّاس صورةً عكسيّةً عن الموقف الحقّ، ويؤدّي إلى إضعاف أصحابه، وتقوية القوى المضادَّة التي قد تحصل على بعض العطف من خلال الرّفض الاجتماعيّ لهذا الأسلوب في خطّ المواجهة، وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ (ع) عندما سمع بعضاً من أصحابه من أهل العراق يسبّون أهل الشّام [أيّام حربه بصفّين]، فقال لهم: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابينَ، ولكنّكم لو وصفتم أعمالَهم، وذكرتم حالَهم، كان أصوبَ في القول، وأبلغَ في العذر، وقلتم مكانَ سبّكم إيّاهم: اللّهمّ احقنْ دماءَنا ودماءَهم، وأصلح ذات بيِننا وبينهم، واهدهم من ضلالتِهِمْ، حتى يعرفَ الحقَّ من جهلَه، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به" .
اللّهمّ اجعلنا ممن يحملون مسؤوليّة الكلمة، ويعتبرونها وسيلةً من وسائل الارتفاع إلى مستوى الكمال والرفعة الروحيّة، والثبات في ساحات الاهتزاز، والانطلاق نحو التّغيير للأفضل، ووفّقنا لتبديل كلمات السّوء إلى الكلمات الأحسن، لتكون كلماتنا في كلّ مجالاتنا نطقاً بالحمد لك، فأحمدك بما أنت أهله من صفات الحمد، حتى يتحوّل الحمد لديّ إلى وعي شامل لكلّ مواقعه في ذاتك التي تجمع كلّ معانيه، فلا حمد إلّا وهو مستمدّ منك، في ما يتّصف به خلقك، وإغراقاً في الثّناء عليك، فأستغرق في كلمات الثناء في ليلي ونهاري، حتى تكون حياتي انفتاحاً على كلّ مواقعه، فأعيش معك في ذلك كلّه، في آفاق المعرفة بك والإعظام لك، فيكون ذلك تعبيراً عن عمق الإخلاص الّذي يتعبّد لك في وحي الكلمات كما يتعبّد لك في وحي الأعمال، وحركةً في خطّ الانفتاح على رحاب المجد في ألوهيّتك التي أعطت المجد للكون والحياة والإنسان، فكان المجد صفتك وعطاءك في ما منحته للوجود من أسبابه.
لتكن كلماتي - يا ربّ - تعبيراً عن إحساس الكيان في ذاتي بعظمتك وحمدك ومجدك، ليتصاغر في نفسي - أمام ذلك كلّه - كلّ الّذين يمنحون أنفسهم درجات العظمة، ويتحدّث النّاس عنهم بكلمات الحمد والمجد.
*من كتاب "في رحاب دعاء مكارم الأخلاق".