النّاس فقراء إلى الله

النّاس فقراء إلى الله

[شرْحُ سماحةِ السيّد لفقرة من دعاء الإمام زين العابدين(ع) في طلب الحوائج، الوارد في الصّحيفة السّجادّيّة].

"... ويَا مَنْ يُرْغَبُ إليْهِ ولا يُرْغَبُ عنْهُ، ويَا مَنْ لا تُفْنِي خزائِنُهُ المسائِلُ، ويا مَن لا تُبَدِّلُ حِكْمتَهُ الوسائِلُ، ويا مَنْ لا تنْقطِعُ عنْهُ حوَائِجُ المحْتاجينَ، ويا مَنْ لا يعنِّيه دعاءُ الدّاع، تمَدَّحْتَ بِالغَناءِ عن خلْقِكَ وأنْتَ أهلُ الغنى عنْهُم، ونسَبْتَهُمْ إلى الفقْرِ وهُمْ أهْلُ الفقْرِ إليك، فمَنْ حاوَل سدَّ خلّتِهِ منْ عنْدِكَ، ورَامَ صَرْفَ الفقْرِ عنْ نفْسِهِ بِكَ، فقدْ طَلَبَ حاجَتَهُ في مظانّها، وأتى طَلِبَتَهُ مِنْ وَجْهِهِا، ومَنْ تَوَجَّهَ بحاجَتِهِ إلى أحدٍ من خلْقِكَ، أو جعَلَهُ سبَبَ نُجْحِها دُونكَ، فقَدْ تعرّضَ للْحِرْمَانِ، واستحقَّ مِنْ عنْدِكَ فوْتَ الإحسان...".

"ويا من يُرغب إليه"، لأنّ لديه كل مواقع الرغبات، "ولا يُرغب عنه"، لأنّ الخلق كلهم لا قيمة لهم بدونه، وهو وليّ العطاء والمنع، فكيف يرغب عنه الراغبون، ويغفل عن مدى قدرته وكرمه ورحمته الغافلون، "ويا من لا تُفني خزائنه المسائل"، لأنّ كلمات لا تفنى، ولأن نعمه لا تعدّ ولا تُحصى، فكلّما نقص شيء منها، خلق ـ من غامض علمه ـ الكثير الكثير.

"ويا من لا تُبدل حكمته الوسائل"، فقد أجرى الله الوجود كلّه من موقع حكمته، على أساس السنن الطبيعية، من كونية وإنسانية، وجعل ذلك قاعدةً للنظام العام الذي تقوم عليه الحياة، وهذا الذي جعل لها معنى الثبات من خلال ثبات المعطيات التي انطلقت بها حكمته.

فلو أنّ الناس ابتهلوا إليه، وقدّموا كلّ وسائل الاستعطاف بين يديه، وحاولوا أن يغيروا شيئاً من ذلك بكلّ جهدهم، لما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، لأنّ للنظام في مواقع حكمته دوراً مهماً في صلاح الوجود كله، ولا سيّما النوع الإنساني فيه، ما يجعله مرتبطاً بالمصلحة الإنسانية الشاملة بعيداً من أية حالةٍ جزئية.

لذلك، فإنّ الدعاء قد يجتذب الإجابة في نطاق الحكمة الإلهيّة، ومن خلال المصلحة الإنسانية، فلن يستجيب الله دعاء الإنسان إذا كان مضمونه متصلاً بما يجلب له أو للآخرين الضرر، أو بما يخرّب نظام الوجود، لأنَّ استجابة الدعاء تمثّل حركة الرحمة من الله لعباده، فكيف تكون الرّحمة في ما يضرّهم ويدمّر وجودهم.

وفي ضوء ذلك، نفهم دائرة إجابة الدعاء في نطاق ما يصلح به الوجود، وما ينتفع به الإنسان، ليكون الدعاء في سببيّته المعنوية للأشياء، سبباً في الخير لا سبباً في الشرّ، ولذلك، فإنّ عدم استجابة الله للإنسان دعاءه، لا يمثّل غضب الله عليه وإبعاده عن رحمته، بل قد يكون رحمةً له، باعتبار أنّ مضمون الدعاء كان في غير مصلحته، تماماً كما هو الطفل المحبوب لأبويه عندما يسألهما شيئاً يضرّ بصحته، فهل يكون رفضهما لسؤاله خروجاً عن معنى المحبّة له؟!

"ويا من لا تنقطع عنه حوائج المحتاجين"، فهي تتجدّد باستمرار وجودهم، الذي يحتاج في كلّ تفاصيله إلى الله في كلّ لحظة، لارتباط كل شيء به، ولولا رعايته الدائمة للكون كلّه وما فيه، لسقط الوجود وانتهت الحياة.

"ويا من لا يعنّيه دعاء الداعين"، فلا يثقله ولا يضايقه شيء من ذلك، لأنّ ملكه يتّسع لكل معاني دعائهم، كما أن قدرته شملت كلّ طلباتهم، ورحمته وسعت كلّ حاجاتهم، فلا مشكلة هناك في أي مجالٍ، وفي أي أمر، كما هي المشكلة التي تعرض للمخلوقين عندما تزدحم عليهم المطالب، وتضيق بهم الإمكانات.

"تمدّحت بالغناء عن خلقك وأنت أهل الغنى عنهم"، لأنّك الغنيّ بذاتك لا بجهة أخرى، "ونسبتهم إلى الفقر وهم أهل الفقر إليك"، لأنهم الفقراء إليك بطبيعة وجودهم الذي استمدّوه منك كما استمدّوا منك كلّ خصائصه، وتلك هي الحقيقة الوجودية التي عبَّرت عنها في كتابك بقولك سبحانك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [فاطر: 15].

"فمن حاول سدّ خلّته من عندك" ثقةً بك وبقدرتك على ذلك، "ورام صرف الفقر عن نفسه بك"، طمعاً بغناك وكرمك، "فقد طلب حاجته في مظانّها وأتى طلبته من وجهها"، لأنّك الرب الكريم الذي لا يمنع أحداً فضله، ولا يطرد أحداً عن بابه، ويجتذب الناس إلى دعائه ليستجيب لهم، وإلى سؤاله ليعطيهم.

ولأنَّ وجهك هو الوجه الذي يتوجَّه إليه العباد {فأينَما تولّوا فَثَمَّ وجهُ الله} [البقرة: 115]، فمن اتجه إليك في طلباته، فقد أتاها من الوجهة التي تُقضى فيها ويحصل منها عليها، "ومن توجَّه بحاجته إلى أحد من خلقك"، غفلةً عنك وعن مدى قدرتك، "أو جعله سبب نُجحها دونك"، جهلاً منه بأنّه مخلوق ومحتاج إليك، وأنّ كلّ جهده راجع إليك، وأنهم لا يملكون إلا ما ملّكتهم، ولا يعطون إلا مما أعطيتهم، ولا يقدرون على إنجاح شيء أو إفشاله إلا بإذنك، إنّ هذا المخلوق الغافل الجاهل الذي استغرقته مظاهر المخلوقين في قوّتهم الظاهرة المحدودة، ولم ينفتح على الخالق في سيطرته المطلقة، ولم يفهم معنى الوجود في ما هو الفارق بين الخالق والمخلوق، إنّ هذا المخلوق "قد عرّض نفسه للحرمان، لأنّه وقف بباب الفقير العاجز، ولم يقف بباب الغنيّ القادر، "واستحقّ من عندك فوت الإحسان"، عقاباً له على انحرافه عن خطّ الإيمان، وعن توحيد الرّحمن، وتلك هي ـ يا ربّ ـ مسألة الغفلة لدى الإنسان، وقضيّة البعد عن آفاق القدرة في ذاتك، وعظمة القوّة في ملكك.

*من كتاب "آفاق الروح"، ج1.

[شرْحُ سماحةِ السيّد لفقرة من دعاء الإمام زين العابدين(ع) في طلب الحوائج، الوارد في الصّحيفة السّجادّيّة].

"... ويَا مَنْ يُرْغَبُ إليْهِ ولا يُرْغَبُ عنْهُ، ويَا مَنْ لا تُفْنِي خزائِنُهُ المسائِلُ، ويا مَن لا تُبَدِّلُ حِكْمتَهُ الوسائِلُ، ويا مَنْ لا تنْقطِعُ عنْهُ حوَائِجُ المحْتاجينَ، ويا مَنْ لا يعنِّيه دعاءُ الدّاع، تمَدَّحْتَ بِالغَناءِ عن خلْقِكَ وأنْتَ أهلُ الغنى عنْهُم، ونسَبْتَهُمْ إلى الفقْرِ وهُمْ أهْلُ الفقْرِ إليك، فمَنْ حاوَل سدَّ خلّتِهِ منْ عنْدِكَ، ورَامَ صَرْفَ الفقْرِ عنْ نفْسِهِ بِكَ، فقدْ طَلَبَ حاجَتَهُ في مظانّها، وأتى طَلِبَتَهُ مِنْ وَجْهِهِا، ومَنْ تَوَجَّهَ بحاجَتِهِ إلى أحدٍ من خلْقِكَ، أو جعَلَهُ سبَبَ نُجْحِها دُونكَ، فقَدْ تعرّضَ للْحِرْمَانِ، واستحقَّ مِنْ عنْدِكَ فوْتَ الإحسان...".

"ويا من يُرغب إليه"، لأنّ لديه كل مواقع الرغبات، "ولا يُرغب عنه"، لأنّ الخلق كلهم لا قيمة لهم بدونه، وهو وليّ العطاء والمنع، فكيف يرغب عنه الراغبون، ويغفل عن مدى قدرته وكرمه ورحمته الغافلون، "ويا من لا تُفني خزائنه المسائل"، لأنّ كلمات لا تفنى، ولأن نعمه لا تعدّ ولا تُحصى، فكلّما نقص شيء منها، خلق ـ من غامض علمه ـ الكثير الكثير.

"ويا من لا تُبدل حكمته الوسائل"، فقد أجرى الله الوجود كلّه من موقع حكمته، على أساس السنن الطبيعية، من كونية وإنسانية، وجعل ذلك قاعدةً للنظام العام الذي تقوم عليه الحياة، وهذا الذي جعل لها معنى الثبات من خلال ثبات المعطيات التي انطلقت بها حكمته.

فلو أنّ الناس ابتهلوا إليه، وقدّموا كلّ وسائل الاستعطاف بين يديه، وحاولوا أن يغيروا شيئاً من ذلك بكلّ جهدهم، لما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، لأنّ للنظام في مواقع حكمته دوراً مهماً في صلاح الوجود كله، ولا سيّما النوع الإنساني فيه، ما يجعله مرتبطاً بالمصلحة الإنسانية الشاملة بعيداً من أية حالةٍ جزئية.

لذلك، فإنّ الدعاء قد يجتذب الإجابة في نطاق الحكمة الإلهيّة، ومن خلال المصلحة الإنسانية، فلن يستجيب الله دعاء الإنسان إذا كان مضمونه متصلاً بما يجلب له أو للآخرين الضرر، أو بما يخرّب نظام الوجود، لأنَّ استجابة الدعاء تمثّل حركة الرحمة من الله لعباده، فكيف تكون الرّحمة في ما يضرّهم ويدمّر وجودهم.

وفي ضوء ذلك، نفهم دائرة إجابة الدعاء في نطاق ما يصلح به الوجود، وما ينتفع به الإنسان، ليكون الدعاء في سببيّته المعنوية للأشياء، سبباً في الخير لا سبباً في الشرّ، ولذلك، فإنّ عدم استجابة الله للإنسان دعاءه، لا يمثّل غضب الله عليه وإبعاده عن رحمته، بل قد يكون رحمةً له، باعتبار أنّ مضمون الدعاء كان في غير مصلحته، تماماً كما هو الطفل المحبوب لأبويه عندما يسألهما شيئاً يضرّ بصحته، فهل يكون رفضهما لسؤاله خروجاً عن معنى المحبّة له؟!

"ويا من لا تنقطع عنه حوائج المحتاجين"، فهي تتجدّد باستمرار وجودهم، الذي يحتاج في كلّ تفاصيله إلى الله في كلّ لحظة، لارتباط كل شيء به، ولولا رعايته الدائمة للكون كلّه وما فيه، لسقط الوجود وانتهت الحياة.

"ويا من لا يعنّيه دعاء الداعين"، فلا يثقله ولا يضايقه شيء من ذلك، لأنّ ملكه يتّسع لكل معاني دعائهم، كما أن قدرته شملت كلّ طلباتهم، ورحمته وسعت كلّ حاجاتهم، فلا مشكلة هناك في أي مجالٍ، وفي أي أمر، كما هي المشكلة التي تعرض للمخلوقين عندما تزدحم عليهم المطالب، وتضيق بهم الإمكانات.

"تمدّحت بالغناء عن خلقك وأنت أهل الغنى عنهم"، لأنّك الغنيّ بذاتك لا بجهة أخرى، "ونسبتهم إلى الفقر وهم أهل الفقر إليك"، لأنهم الفقراء إليك بطبيعة وجودهم الذي استمدّوه منك كما استمدّوا منك كلّ خصائصه، وتلك هي الحقيقة الوجودية التي عبَّرت عنها في كتابك بقولك سبحانك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [فاطر: 15].

"فمن حاول سدّ خلّته من عندك" ثقةً بك وبقدرتك على ذلك، "ورام صرف الفقر عن نفسه بك"، طمعاً بغناك وكرمك، "فقد طلب حاجته في مظانّها وأتى طلبته من وجهها"، لأنّك الرب الكريم الذي لا يمنع أحداً فضله، ولا يطرد أحداً عن بابه، ويجتذب الناس إلى دعائه ليستجيب لهم، وإلى سؤاله ليعطيهم.

ولأنَّ وجهك هو الوجه الذي يتوجَّه إليه العباد {فأينَما تولّوا فَثَمَّ وجهُ الله} [البقرة: 115]، فمن اتجه إليك في طلباته، فقد أتاها من الوجهة التي تُقضى فيها ويحصل منها عليها، "ومن توجَّه بحاجته إلى أحد من خلقك"، غفلةً عنك وعن مدى قدرتك، "أو جعله سبب نُجحها دونك"، جهلاً منه بأنّه مخلوق ومحتاج إليك، وأنّ كلّ جهده راجع إليك، وأنهم لا يملكون إلا ما ملّكتهم، ولا يعطون إلا مما أعطيتهم، ولا يقدرون على إنجاح شيء أو إفشاله إلا بإذنك، إنّ هذا المخلوق الغافل الجاهل الذي استغرقته مظاهر المخلوقين في قوّتهم الظاهرة المحدودة، ولم ينفتح على الخالق في سيطرته المطلقة، ولم يفهم معنى الوجود في ما هو الفارق بين الخالق والمخلوق، إنّ هذا المخلوق "قد عرّض نفسه للحرمان، لأنّه وقف بباب الفقير العاجز، ولم يقف بباب الغنيّ القادر، "واستحقّ من عندك فوت الإحسان"، عقاباً له على انحرافه عن خطّ الإيمان، وعن توحيد الرّحمن، وتلك هي ـ يا ربّ ـ مسألة الغفلة لدى الإنسان، وقضيّة البعد عن آفاق القدرة في ذاتك، وعظمة القوّة في ملكك.

*من كتاب "آفاق الروح"، ج1.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية