إنّ إرادة الله تعالى قد جعلت للحياة سنناً ثابتة ونواميس راسخة لا تختلف ولا
تتخلّف في جميع مراحل الحياة الإنسانية، وإن موافقة هذه السنن والنواميس والسير في
ضوئها تثمر ثمارها وتنتج نتائجها الإيجابية في حركة المجتمع، كما أن مخالفتها وعدم
السير في دائرة ضوئها تنتج العكس والسلبية، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج.
ومن هذه السنن: {إنَّ الله لا يُغَيّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيّرُوا مَا
بِأنفُسِهِم}.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بأنَّ الله لَم يَكُ مُغَيَّرا نّعِمةً أنعَمَهَا على قَومٍ
حَتّى يُغَيّرُمَا بِأنفُسِهِم}.
ويرتّب الله تعالى في ضوء هذه السنن والنواميس آثاراً ونتائج سلبية، إن ترك الناس
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتخلّوا عن أداء المسؤولية. ومن هذه الآثار
والنتائج:
أوّلاً: العقاب الإلهي:
حين يتخلّى الناس عن مسؤوليّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سيزداد الانحراف
لفقدان الموجّه والمرشد والرادع، فيفقد كلّ شيء استقامته، وتفقد الموازين سلامتها،
ولا يكون إلاّ العوج الذي لا يستقيم، وكل ذلك مدعاة إلى سلب الرحمة منهم، وإنزال
العقاب بالجميع، المنحرفين والمتقاعسين عن الدعوة والإصلاح معاً، والعقاب يمثل
الوخزة الموقظة التي تعيد الناس إلى الاستقامة.
قال رسول الله: «والذي نفس محمد بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو
ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنّه فلا يستجاب لكم».
ويكون العذاب شاملاً لا يختصّ بالمرتكبين للمنكر فقط، بل يعمّ غيرهم ممّن لم يرتكبه؛
لأنّهم سكتوا عن تغييره.
قال رسول الله: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يعذّب العامَّة بعمل الخاصّة، حتى يروا
المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك، عذّب
الله العامّة والخاصّة».
والعقاب الإلهي له مظاهر وألوان مختلفة، فقد يكون بنزع البركات، أو بالآفات
السماوية، أو إذاقة البعض بأس البعض الآخر.
قال تعالى: {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلى أن يَبعثَ عَليكُم عَذَابا مِّن فَوقِكُم أو
مِن تَحتِ أرجُلِكُم أو يَلبِسَكُم شِيعاً وَيُذِيقَ بَعضَكُم بَأس بَعضٍ}.
ثانياً: اللعنة الإلهية:
من آثار ونتائج التخلي عن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شمول الناس
اللّعنة الالهية. قال أمير المؤمنين: «وإنّ عندكم الأمثال من بأس الله وقوارعه،
وأيّامه ووقائعه، فلا تستبطئوا وعيده جهلاً بأخذه، وتهاوناً ببطشه، ويأساً من بأسه،
فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم، إلاّ لتركهم الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي...».
واللعنة إن نزلت على المجتمع، جعلته يعيش بعيداً عن اللطف والرأفة والرحمة، فلا
يؤيدهم الله تعالى، ولا يثبّتهم، ولا يؤنسهم، ويدعهم لوحدهم دون إسناد، ليواجهوا
مصيرهم بأنفسهم؛ حيث القلق والاضطراب والأزمات النفسية، بسبب الانحراف والظلم
والاعتداء وفقدان الطمأنينة.
ثالثاً: الهلاك:
إنّ تطبيق المنهج الإسلامي في الحياة هو إحياء للعقل والقلب والإرادة، قال تعالى: {يَا
أيُّها الَّذين آمَنُوا استَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُم لِما يُحيِيكُم...}.
والإحياء هو الفاعلية والنموّ والامتداد والبناء، والازدهار الحضاري، والتأثر
والتأثير في واقع الحياة، ونقيض الإحياء هو الهلاك المتجسد بالسلبية والخمود وإيثار
الراحة والبلادة التي تميت عناصر الحيوية في جميع مقوّمات الإنسان العقلية والروحية
والسلوكية، وخنق الطاقات والقابليات.
ولذا، فإنّ التخلي عن المسؤولية الهادفة إلى إحياء الإنسان في فكره وعاطفته وسلوكه،
يؤدّي إلى الهلاك بالخمود والجمود ثم الاضمحلال، كما اضمحلت الأمم والحضارات في
التاريخ.
رابعاً: الانقلاب:
إنّ التخلي عن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يؤدي إلى الانقلاب
والتراجع، حيث تنقلب المفاهيم والقيم، وتنقلب مقوّمات الشخصية الإنسانية، وينقلب كل
شيء في حياة الفرد والمجتمع. قال أمير المؤمنين(ع): «أوّل ما تغلبون عليه من الجهاد
الجهادُ بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفاً، ولم ينكر
منكراً، قُلب، فجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه» .
فيبدأ الانقلاب بالفكر، ثم العاطفة، ثم السلوك، فيعود الإنسان والمجتمع إلى حياة
الأوهام والخرافات، ويعيش أواصر الضلال والظلمات، ثم تنقلب عاطفته، فيوالي من أمره
الله تعالى بالتبري منهم، وفي السلوك، حيث يعيش الانحراف والانحطاط والرذيلة.
قال رسول الله: «كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم، ولم يأمروا بمعروفٍ ولم
ينهوا عن منكر؟»، فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: « نعم، وشرٌّ من ذلك،
فكيف بكم إذا آتيتم المنكر ونهيتم عن المعروف؟»، فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟
فقال: «نعم، وشرٌّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً، والمنكر معروفاً؟».
فتنقلب المفاهيم والقيم والموازين، ويكون هذا الانقلاب هو الحاكم على تقييم الأحداث
والمواقف والوجودات، وتقوم الحياة على أساسه، فلا يبقى مأمن من اضطراب الأهواء
واختلاف الأمزجة، وتصادم المصالح والمنافع.
خامساً: سيطرة الأشرار على مقاليد الأمور:
التخلي عن أداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يؤدي إلى ازدياد عدد المنحرفين
والأشرار، وانحسار عدد الصالحين والأخيار، ويؤدي إلى خلق الظروف الملائمة لتمادي
المنحرفين والأشرار في انحرافهم وشرّهم، إثر غياب الرادع لهم، والمتابع عليهم
زلاتهم وفسادهم، حيث يأمنون من عدم الاعتراض وعدم الملاحقة، فتنطلق إرادتهم الضعيفة
أمام الشهوات، وأنفسهم الشرّيرة من عقالها، فيعملون ما يحلو لهم، ثم يكون الأمر لهم
ليسيطروا على مقاليد الأمور، ويوجّهوا الناس حسبما يرون ويشاؤون، وتكون الكرّة لهم
لملاحقة ومطاردة الأخيار والصالحين في جميع ميادين الحياة، ولا يبقى للأخيار
والصالحين أيّ منفذٍ للنجاة أو النهوض بالأمر من جديد، فيعيشون الذلّ والامتهان،
إضافةً إلى الأذى والتعذيب، وأعظم من ذلك، تخلي الرعاية الإلهية عنهم، وعدم استجابة
الله تعالى لدعائهم.
قال رسول الله: «لتأمرنّ بالمعروف وتنهونَّ عن المنكر، أو ليسلّطنَّ الله عليكم
شراركم، فليسومُنّكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم»، «لتأمرن بالمعروف
ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليبعثنَّ الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقّر كبيركم».
وإذا تسلّط الأشرار، عمّ الظلم والجور والاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال،
والاعتداء على جميع الحرمات والمقدَّسات، وعمّ فساد الأخلاق وتحلّلها، وضعف
العلاقات الاجتماعية، وتفكّك كيان الأسرة التي هي نقطة البدء في إصلاح الجيل الناشئ،
والحفاظ على سلامته الروحية، وحينئذٍ سيُفتقد الأمان والاستقرار والطمأنينة.
*من كتاب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".