يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادقينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[المائدة: 119].
ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذي جَاءَ بِالصّدق وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذي كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الزّمر: 33-35].
درجةُ الصَّادقِ عندَ الله
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، يحدّثنا الله سبحانه عن نتائج الصّدق في الدَّرجات الَّتي يحصل عليها الصَّادقون في الحياة الدنيا عندما تكون حياتهم صدقاً كلّها، بحيث إذا تكلَّموا صدقوا فلا يكذبون فيما يحدّثون به، وإذا وعدوا صدقوا فلا يخلفون وعدهم، وإذا عاهدوا صدقوا فلا ينقضون عهدهم، وإذا آمنوا صدقوا وتمثّل الصّدق في حياتهم، لأنَّ الصّدق هو أن يكون موقفك فيما تلتزمه من كلام أو إيمان، هو موقفك فيما تعمله، أن لا تكون هناك مسافة بين كلامك وفعلك: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[الصّفّ: 2 -3]، أن تكون كلمتك موقفك، بحيث يكون موقفك تجسيداً لكلمتك، وأن تكون كلمتك معبّرة عن الواقع الَّذي تتحدَّث عنه، فلا تزيد شيئاً عن الواقع، ولا تنقص شيئاً منه.
ونحن نعرف من كلام الله، أنَّ الصّدق هو علامة الإيمان، وأنَّ الكذب هو من علامات عدم الإيمان، لأنَّ الكذب يمثّل الالتزام بغير الواقع؛ فأن تكذب في كلامك، يعني أن تكون الحقيقة شيئاً وكلامك شيئاً آخر، أن تكذب في عهدك، يعني أن تعاهد وتعطي الميثاق على شيء، ويكون تصرّفك عندما تنكر ميثاقك وعهدك شيئاً آخر.
أنواعُ الصّدق
والصّدق على أقسام: أن تصدق مع نفسك، بحيث تعيش مع نفسك من أجل أن تخلص لها، في أن تحركها في الاتجاه الَّذي يحقّق لها صلاحها في الدنيا والآخرة.
وأن تصدق مع ربّك، بمعنى أن تخلص لربّك في عقلك وفي قلبك وفي حياتك، بحيث يكون إيمانك بربّك هو الَّذي يحكم علاقتك الشعوريَّة والعمليَّة به.
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، هناك الصّدق في الموقف، فإذا التزمت شيئاً، التزمت ديناً، التزمت عهداً، فإنَّ عليك أن تؤكّد ذلك في موقفك، وهذا ما أشار الله إليه في كتابه عندما تحدَّث عن الصَّادقين في مواقفهم: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ - عندما عاهدوا الله على الدَّعوة إليه، وعلى التَّضحية في سبيله، وعلى الوقوف مع رسوله وأوليائه - فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب: 23]، بل بقوا على عهدهم، حتَّى عندما واجهتهم المشاكل والضّغوط من هنا وهناك، لم يبدّلوا كلمةً، ولم يبدلّوا موقفاً.
وهكذا، يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن المهاجرين كيف صدقوا في موقفهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادقونَ}[الحشر: 8]، لأنَّهم صدقوا الله في الموقف، وصدقوا الله في الالتزام بخطّ نصرته ونصرة رسوله، وصدقوا الله في الإخلاص لعهدهم، بالرّغم من اضطرارهم إلى أن يخرجوا من ديارهم تحت ضغط الشّرك والمشركين.
وفي ضوء هذا، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، أن نعمل على أن نكون المجتمع الصَّادق الَّذي يصدق الإنسان فيه مع نفسه، ومع ربّه، ومع النَّاس، ويصدق فيه مع عهده وميثاقه والتزاماته الإيمانيَّة، لأنَّ الله قال وهو يشير إلى يوم القيامة: {هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادقينَ صِدْقُهُمْ}[المائدة: 119].
قد تتعب في صدقك، قد تخسر بعض الأشياء في صدقك، ولكنَّك ستنال النفع العظيم من الله في ذلك كلّه.
وقد أرادنا الله سبحانه وتعالى لا أن نبقى صادقين فحسب، بل أن نكون مع الصَّادقين: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادقينَ}[التّوبة: 119]،كونوا مع الَّذين يعيشون الحياة صدقاً في موقع المسؤوليَّة، وفي موقع القيادة، وفي موقع الحركة في كلّ مجالات الواقع.
أحاديث في الصّدق
فإذا جئنا إلى كلمات النبيّ (ص) وأهل بيته، فنقرأ في كلام رسول الله (ص) المرويّ عنه: "الجَمالُ صَوَابُ القَوْلِ بالحَقِّ، والكَمالُ حُسْنُ الفِعالِ بالصِّدْقِ".
ونقرأ عنه (ص) أيضاً: "الصِّدْقُ مُبَارَكٌ، وَالكَذِبُ مَشْؤومٌ".
ونقرأ عن عليّ (ع): "الصّدْقُ يُنْجِيْكَ وَإِنْ خِفْتَهُ – وإن حصل لك الخوف من نتائجه - وَالْكَذِبُ يُرْدِيكَ وَإِنْ أَمِنْتَهُ".
ويقول رسول الله (ص) فيما يتحدَّث به: "أَقْرَبُكُمْ مِنّي غَداً في المَوْقِفِ، أَصْدَقُكُمْ في الحَديثِ".
كلَّما كنت أصدق في حديثك مع النَّاس، كنت أقرب إلى رسول الله غداً في الموقف يوم القيامة. وأيّ شرف أعظم من أن تكون إلى جانب رسول الله (ص) في موقف واحد في يوم القيامة؟! أيّ موقف أشرف من هذا الموقف؟! هذا يكلّفك أن تجاهد نفسك، فلا تكذب في حديثك مع النَّاس، مهما كانت الظّروف.
وعن الإمام الباقر (ع): "أَلَا فَاصْدقُوا، فَإنَّ اللهَ مَعَ مَنْ صَدَقَ".
وهكذا في الأحاديث الكريمة الَّتي وردت في تحديد الصّدق على أساس أنَّه مظهر الإيمان، يقول عليّ (ع) في "نهج البلاغة": "الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْثِرَ اَلصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ، عَلَى اَلْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ"، يعني إذا وقفت بين موقفين، وكان الكذب نافعاً لك من دون ضرورة، ولكنَّ الصّدق قد يضرّك أيضاً من دون اضطرار، فإنَّ علامة أن تكون مؤمناً، هو أن تؤثر الصّدق حتَّى لو أضرَّك، على الكذب حتَّى لو نفعك.
وعن الإمام عليّ (ع): "الصَّادِقُ عَلى شَفا مَنْجاةٍ وَكَرامَةٍ - يعني يقف على حافة النجاة والكرامة - وَالْكاذِبُ عَلى شُرُفِ مَهْواةٍ وَمَهانَةٍ".
معيارُ الثّقةِ بالآخرين
وهكذا ورد عن الإمام جعفر الصَّادق (ع): "إِنَّ الصّادِقَ أَوَّلُ مَنْ يُصَدِّقُهُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ صادِقٌ - فإذا اطَّلع الله عليك وأنت تتكلّم، ورآك تتحدَّث عن الحقيقة، لا تزيد فيها حرفاً، ولا تنقص منها حرفاً، فإنَّ الله يصدّقك - وَتُصَدِّقُهُ نَفْسُهُ تَعْلَمُ أَنَّهُ صادِقٌ".
وإذا أردت أن تختبر إنساناً؛ تريد، مثلاً، أن تشاركه، أو تزوّجه، أو تؤيّده، أو ما إلى ذلك، فهل يكفي أن تراه في المجلس يصلّي من الصّبح إلى اللّيل، ويؤدّي النَّوافل ويدعو، وما أشبه ذلك؟ هل تخرج من المجلس وتقول إنَّ فلاناً محلّ ثقة لأنَّه لا يترك صلاة اللّيل، ولا يترك النَّوافل، وهو دائماً راكع ساجد، وما إلى ذلك؟ هل هذا هو طريق معرفة الشَّخصيّة والثّقة بها؟! هذا جيّد، ولكنَّه ليس أساس الثّقة بالشّخصيّة.
اسمعوا هذا الحديث. يقول الإمام الصَّادق (ع): "لا تَغْتَرّوا بِصَلاتِهِمْ وَلا بِصيامِهِمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ رُبَما لَهِجَ بِالصَّلاةِ وَالصَّوْمِ حَتّى لَوْ تَرَكَهُ اسْتَوْحَشَ - بعض النَّاس قد يكون معتاداً على الصّلاة والصّوم، بحيث يصبح الأمر بالنّسبة إليه عادةً وليس إيماناً، فصلاته ربما تكون عن إخلاص وإيمان، وربما تكون نتيجة شيء تقليديّ اعتاد عليه. لذلك، يقول الإمام (ع)، لمجرّد أنّ هذا الشّخص يصلّي، لا يدلّ على أنَّه مؤمن. إذاً، كيف نختبره ونعرف إذا كان مؤمناً أو لا، أو أنّه موضع ثقة أو لا؟ - وَلكِنِ اخْتَبِروهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَديثِ وَأداءُ الأمانَةِ". إذا أردت اختباره، عامله، فإذا رأيته يصدق في حديثه، حتَّى لو كان الكذب مصلحة له، ورأيته يؤدّي أمانته، حتَّى لو لم يكن عليه وثيقة ولا سند، أو كانت عنده شهادة معيّنة تفيدك وقد تضرّه في هذا المجال، ومع ذلك يشهد بالحقيقة، فاحكم عليه بأنّه إنسان صادق وأهل للثّقة، وهذه علامة الإيمان، فإذا أردت أن تعرف إنساناً إذا كان مؤمناً أو لا، اعرفه بصدق الحديث وأداء الأمانة.
هناك بعض النّاس قد يذهب إلى الحجّ كلّ عام، ويعتمر ويزور، ويصوم ويصلّي في الصَّفّ الأوّل، ومع ذلك، إذا كان لك عليه حقّ، وليس من سند عليه أو ما يثبت حقّك عنده، ينكره عليك، فهو يخون الأمانة ويكذب في الحديث.
الحديث الثّاني يقول: "لا تَنْظُرُوا إِلَى كثْرةِ صَلَاتِهِمْ وَصَوْمِهِمْ، وَكَثْرَةِ الحَجِّ والمـَعْرُوفِ، وَطَنْطَنَتِهِمْ بِاللَّيْلِ، وَلَكِنْ انْظُرُوا إِلَى صِدْقِ الحَدِيْثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ".
هذا هو الأساس في اختبار الإنسان في هذا المجال.
وورد عن الإمام الصَّادق (ع) أنَّه قال: "إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لم يَبْعَثْ نَبِيّاً إِلَّا بِصِدْقِ الحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ إِلَى البرِّ وَالفَاجِرِ". أيّاً كان الشّخص الّذي ائتمنك، سواء كان مؤمناً أو بعيداً من خطِّ الإيمان، فعليك أن تؤدّي إليه الأمانة.
وقد ورد عن الإمام زين العابدين (ع): "لَوْ أَنَّ قَاتِلَ أبِي الحُسَينِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) ائْتَمَنَني عَلَى السَّيْفِ الَّذي قَتَلَهُ بِهِ لأدَّيْتُهُ إِلَيْهِ"، قد لا أقبل هذه الأمانة، ولكن في حال قبلتها، أدّيتها إليه، لأنَّ قضيّة الأمانة قضيَّة أساسيَّة، وهي، كما قلنا، عمق الإيمان.
خطرُ شهادةِ الزّور
ومن أشدّ الحالات الّتي تتطلَّب الصّدق، أيُّها الأحبَّة، الصِّدق في مقام الشَّهادة، فقد تكذب في حياتك اليوميّة كذبةً وأنت تتكلَّم مع أحد عن قصَّة ما، أو في موضوع شخصيّ، وهذا غير جائز، ولكن قد لا يكون فيها خطر كبير، ولكن أن تذهب إلى المحكمة، سواء محكمة شرعيَّة أو مدنيَّة، وتشهد شهادة كاذبة، فهذا من قول الزّور، والله يحذّرنا: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}[الحجّ: 30]، أي قول الباطل.
وقد وردَ في الحديث: "إنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ تَدَعُ الدّيَارَ بَلَاقِعَ"، يعني خالية. فقد يأتي صاحبك أو قريبك، ويقول لك إنَّ الصَّديق وقت الضّيق، وأريدك أن تشهد معي، وتكون الشّهادة باطلة، وأنت تقول هذا صديقي أو قريبي وأريد أن أخدمه، وأنت تقسم في شهادتك وتقول: والله العظيم أقول الحقّ، فهل تعرف معنى ذلك؟ معنى ذلك أنَّك جعلت الله شاهدَ زور، وهذا معنى اليمين الكاذبة، لأنَّك عندما تقسم بأحد، كأنَّك تقول إنّه الشَّاهد عليك. فأيّ جريمة أكبر من أن تأتي بالله شاهدَ زورٍ معَكَ في المحكمة؟! ولذا، فإنَّ اليمين الكاذبة "تَدَعُ الدّيَارَ بَلَاقِعَ".
ثمَّ من النَّاحية الشَّرعيَّة، أيُّها الأحبَّة، عندما تشهد شهادة زور، فمعنى ذلك أنَّ كلّ ما سيترتّب على هذه الشَّهادة من نتائج وخسائر لمن شهدت عليه زوراً، تكون أنت مسؤولاً عنها، وتتحمَّلها في مالك وفي حياتك. ولذا، عندما يأتي أصدقاؤك، ويقولون لك تعال اشهد معنا، أنت صديق، والصَّديق وقت الضّيق، قل أنا مستعدّ أن أخدمكم في حياتكم بما ييسّر أموركم، ولكن لا يمكن أن أشهد شهادة زور، لأنَّ القضيَّة قضيَّة الله سبحانه وتعالى.
الصّدقُ المحرَّم
فإذاً، الأصل هو الصّدق؛ أن نكون صادقين في كلامنا، وفي مواعيدنا، وفي عهودنا والتزاماتنا ومواقفنا، هذا هو الأساس، أن تكون مع الحقّ في كلّ المجالات العمليّة. ولكن هناك بعض الحالات الَّتي يكون الصّدق فيها محرَّماً، كما في الحالات الَّتي تكون فيها عند العدوّ، ويطلب منك أن تحدّثه عن أسرار المجاهدين، أو عن أسرار أمَّتك العسكريَّة أو السياسيَّة أو الاقتصاديَّة، أو عن أسرار وطنك. هنا، في هذه الصّورة، يحرم عليك الصّدق، بل يجب عليك أن تكذب، لأنَّك إذا صدقت، فضحت أسرار أمَّتك، وكانت النَّتائج السلبيَّة للصّدق أكبر من النَّتائج الإيجابيَّة له، لأنَّ الله فرض علينا الصّدق من أجل مصلحتنا العامَّة والخاصَّة، فلا يجوز لنا أن نصدق في المجالات الَّتي يكون فيها الصّدق مشكلة عامّة ربما تهدم أسس الوطن أو النَّاس.
وهكذا ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "ثَلَاثٌ يَقبُحُ فيهِنَّ الصِّدقُ: النَّميمَةُ – بحيث تسمع كلاماً من أحد بحقّ إنسان، ويكون صحيحاً، ولكن إذا نقلته إلى الشَّخص الآخر، وقلت له إنَّ فلاناً يتكلَّم عليك، قد يخلق ذلك مشكلة كبيرة بينهما، هنا عليك أن لا تصدق، لأنَّ الصّدق ربما يؤدّي إلى مشاكل وفتنة على مستوى الواقع الاجتماعيّ.
- وإخبارُكَ الرَّجُلَ عن أهلِهِ بما يَكرَهُهُ – أنت اطّلعت، مثلاً، على وضع معيّن لزوجة أحد، أو لأحد إخوانه، وكان يكره هذا الأمر، بحيث إذا أخبرته قد يطلّق زوجته، أو قد يخلق مشكلة في البيت، فهنا يقبح عليك أن تصدق - وَتَكذيِبُكَ الرَّجُلَ عنِ الخَبَرِ".
وفي الحديث عن الإمام الصّادق (ع): "أيُّما مُسْلِمٍ سُئِلَ عَنْ مُسْلِمٍ فَصَدَقَ، فَأَدْخَلَ عَلَى ذَلكَ المسْلِمِ مَضَرَّةً، كُتِبَ مِنَ الكَاذبينَ، وَمَنْ سُئِلَ عَنْ مُسْلِمٍ فَكَذَبَ، فَأَدْخَلَ عَلَى ذَلكَ المسْلِمِ مَنْفَعَةً، كُتِبَ عِنْدَ اللهِ مِنَ الصَّادِقينَ".
فالقضيَّة هي أن لا يكون صدقك مضرّة للمسلمين وللأمَّة وللإسلام وللوطن كلّه، عليك أن تدرس كلماتك بالطَّريقة الّتي تكون فيها كلمتك خيراً للنَّاس حتَّى لو كانت كذباً، ولا تكون شراً للناس حتى لو كانت صدقاً. المسألة هي أن يعيش الإنسان الصّدق في مدى مصلحة الأمَّة ومصلحة الإسلام، وهكذا ينظر إلى الكذب. هذه هي صفة المسلم في نفسه.
ولذلك، لا بدَّ لنا أن نكون مع الصَّادقين مع ربّهم، ومع أنفسهم، ومع النَّاس، لأنَّ مسؤوليَّة الإنسان أن يكون مع الصَّادقين، ليرتفع مجتمع الصّدق في كلّ القضايا الَّتي تنفع الإنسان في أوضاعه السياسيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة وما إلى ذلك.
الخطبة الثّانية
عباد الله، اتَّقوا الله فيما تواجهونه في كلّ الواقع الإسلاميّ، من تحدّيات الكفر كلّه والاستكبار كلّه، لأنَّ الله سبحانه وتعالى قد جعل كلّ طاقاتكم، سواء كانت طاقات فكريَّة أو طاقات اجتماعيَّة أو سياسيَّة أو ماديَّة أو ما إلى ذلك، جعلها أمانة عندكم، بحيث تسخّرونها فيما ينفع البلاد والعباد، وتواجهون بها كلَّ ما يريد أن يفرضه الاستكبار على العالم، ولا سيَّما العالم الإسلاميّ والعالم المستضعف، ولتحاربوا بها كلَّ الَّذين يعملون على إسقاط قضاياكم السياسيَّة والاجتماعيَّة والإيمانيَّة، من كلّ موقع ومن كلّ مكان. إنَّ الله يريد للمسلمين أن يكونوا أمَّة تتكامل في كلّ طاقاتها، وتتعاون في كلّ مواقعها، وتكون صفّاً واحداً أمام كلّ التحدّيات الكبرى.
ونحن، أيُّها الأحبَّة، نعيش في مرحلة من الزَّمن ينطلق فيها الاستكبار العالميّ، ولا سيَّما الاستكبار الأمريكيّ، من أجل أن يضغط على كلّ مواقعنا الإسلاميَّة، سواء كانت مواقع سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو أمنيَّة، إنَّه يريد لنا أن يحوّلنا إلى هامش من هوامش سياسته واقتصاده وأمنه. وعلى الأمَّة أن تستنفر كلَّ طاقاتها، فتجمِّد كلَّ خلافاتها، سواء كانت خلافات مذهبيَّة أو عرقيَّة أو إقليميَّة هنا وهناك، أن نجمّد كلَّ ذلك من خلال توعية الأمَّة لكلّ ما يخطَّط لها ويدبَّر لها من أجهزة المخابرات الدوليَّة أو الصهيونيَّة أو ما إلى ذلك.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ من شروط قوَّة الأمَّة أن تكون واعية لما يخطَّط لها، وإنَّ أخطر شيء في الأمَّة أن تكون ساذجةً وبسيطة. علينا أن نفهم خلفيَّات الأمور وخلفيَّات الخطط، وكيف يدبّر العدوُّ لنا مكائده.
وفي ضوء ذلك، لا بدَّ لنا أن ندقّق فيما نسمع وفيما نرى. لا تكونوا مجرَّد مستهلكين لما تسمعونه من الأخبار في الراديو أو التلفزيون أو الصّحيفة، بل حاولوا أن تعرفوا في كلّ خبر فيه بعض التحدّي أو بعض إثارة المشكلة للمسلمين، أن تعرفوا كيف انطلقت القضيَّة الَّتي يتحدَّث عنها هذا الخبر، وما هي امتداداتها.
علينا أن نتعرَّف الآن في هذا الأسبوع، كيف نواجه في عالمنا الإسلاميّ بعض القضايا.
حربٌ بينَ إيرانَ وطالبان؟!
لا تزال قضيَّة أفغانستان تشغلُ العالم الإسلاميّ، من خلال التطوّرات الحادَّة الَّتي تهدّد بحدوث حرب عسكريَّة بين إيران وحركة طالبان المدعومة من أكثر من دولة خارجيَّة وإقليميَّة عسكريّاً وسياسيّاً وماليّاً. ونحن نلاحظ أنَّ موقف إيران الإسلام يتميَّز بالقوَّة والاستعداد لكلّ تطوّر جديد، وبالتعقّل والحكمة في مواجهة المشكلة الخطيرة، لأنَّه يدرس الأمور من خلال مصلحة المسلمين والحفاظ على الوحدة الإسلاميَّة، باعتبار مسؤوليَّة الجمهوريَّة الإسلاميَّة في منظَّمة المؤتمر الإسلامي وفي الواقع الإسلامي كلّه، وفي استراتيجيَّتها السياسيَّة الإسلاميَّة، في إعطاء كلّ الفرص للحلول الدبلوماسيَّة، من دون أن يؤثّر ذلك في مصالحها الحيويَّة وعنفوانها الإسلاميّ، بما في ذلك حقّها في الردّ على العدوان الطالباني عليها بقتل دبلوماسيّيها بشكل وحشيّ، والقيام بمجازر وحشيَّة ضدّ المسلمين الشّيعة المدنيّين، تحت تأثير ذهنيَّة متخلّفة عنصريَّة في النَّظرة إلى الشّيعة الَّذين كان لهم الفضل الكبير في تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي.
إنَّنا نراقب التَّطوّرات في المسألة الأفغانيَّة، من خلال هذه الحركة الدَّوليَّة الَّتي تقودها أمريكا لإنقاد حركة طالبان، في الاجتماع المرتقب لبحث المسألة الأفغانيَّة في واشنطن من قبل الدّول المحيطة بأفغانستان، بحضور وزير خارجيَّة أمريكا، من دون أيّ مباردة للوقوف مع إيران في دفاعها عن نفسها واستنكار العدوان عليها، ولا سيَّما باكستان الَّتي تحاول تبرئة نفسها من الأحداث، في الوقت الَّذي يعرف الجميع أنَّها شاركت وتشارك في الحرب الأفغانيَّة الدَّاخليَّة بكلّ قوَّة لمصلحة طالبان.
ونريد أن نؤكّد في هذا الجوّ المتوتّر على جميع المستويات، ضرورة الوعي حيال المخابرات الأمريكيَّة السَّاعية لإثارة الموضوع على مستوى الحساسيات المذهبيَّة في الواقع الإسلاميّ، وتصوير الأحداث على أنَّها مظهر من مظاهر حرب شيعيَّة سنيَّة. إنَّنا ندعو إلى المزيد من الحذر من هذا الإعلام السياسيّ المشبوه، لأنَّ الحرب في أفغانستان هي حرب يتحرَّك فيها الشّيعة إلى جانب السنَّة في النّزاع الدَّاخلي هناك، فإنَّ حزب الوحدة يمثّل فريقاً من جبهة المعارضة لحركة طالبان الَّتي يتحرَّك فيها الشّيعة إلى جانب السنَّة. وإذا كان هناك من موقف، فيجب أن يكون ضدَّ حركة طالبان الَّتي تتبنَّى موقفاً سلبيّاً عنصريّاً متخلّفاً ضدَّ الوحدة الإسلاميَّة إلى جانب بعض المواقع المتعصّبة في العالم الإسلاميّ.
إنَّنا، أيُّها الأحبَّة، نقف مع الشَّعب الإيراني المسلم وهو يشيِّع شهداءه في هذا اليوم، وفي احتجاجه على المجازر الوحشيَّة الَّتي وقعت في أفغانستان، وندعو المسلمين جميعاً، وكلَّ أحرار العالم، إلى دعم هذا الموقف بكلّ قوَّة وإصرار.
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا نرى في دعم الجمهوريَّة الإسلاميَّة الَّتي هي قاعدة الحركة الإسلاميَّة في العالم، دعماً للإسلام الأصيل، ودعماً لحركة التَّحرّر في العالم، ولحركة المواجهة ضدَّ الصّهيونيَّة بكلّ امتداداتها.
تهديدٌ إسرائيليٌّ للمنطقة
وإلى جانب ذلك، نواجه التَّهديد الإسرائيليَّ من خلال إقامة إسرائيل شبكةً من العلاقات الاقتصاديَّة والأمنيَّة مع دول آسيا الوسطى، فيما يشبه الخطَّة المرسومة لمحاولة تطويق إيران والضَّغط عليها، ويتجلَّى في هذه الأيَّام في العلاقات بين العدوّ الصهيونيّ وأوزباكستان، بعد استقبال رئيس وزراء العدوّ للرَّئيس الأوزباكيّ، واقتراح نتنياهو إقامة جبهة عالميَّة - هكذا قال - ضدّ ايران والأصوليَّة، وإلى السَّير معاً لتجنّب الضَّرر الَّذي قد تسبّبه وحشيَّة هذه الأنظمة، كما يقول. ونحن نعرف أنَّ الوحشيَّة تتمثَّل بكلّ قوَّتها في النظام الصّهيونيّ، وأنَّ الإسلام في كلّ مواقعه، ولا سيَّما في إيران، ينفتح على كلّ المستضعفين في العالم بكلّ وداعة وأمانة وصدق، ولكنّه يواجه المستكبرين بكلّ قوَّة.
كما أنَّنا نلاحظ حركة الحلف الاستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي في مواجهة الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة، في هذا التَّحرّك السياسيّ والاقتصاديّ في هذه المنطقة، إضافةً إلى الحلف التركيّ الإسرائيليّ الموجَّه ضدَّ إيران وسوريا بشكل مباشر، وضدَّ العالم العربيّ والإسلاميّ بشكل عام.
وفي هذه المناسبة، فإنَّ قرار الجامعة العربيَّة في هذا الموضوع – موضوع التّحالف التّركي الإسرائيلي - لم يكن بالمستوى الَّذي يمثّله خطر هذا التّحالف العسكريّ العدوانيّ، كما أنَّه لم يتحرَّك بمبادرات واقعيَّة فاعلة في مواجهة العدوان الإسرائيلي المستمرّ ضدَّ الفلسطينيّين واللّبنانيّين والواقع العربيّ في أكثر من موقع، كلّ ذلك بفعل الضّغوط الأمريكيَّة على كثير من المسؤولين العرب الَّذين تتحرَّك قراراتهم حتَّى في داخل الجامعة العربيَّة، وحتَّى في داخل المؤتمر الإسلاميّ، من خلال التَّعليمات الموجَّهة إليهم من قبل الاستكبار الأمريكيّ.
انسحابٌ تحتَ ضغطِ المقاومة
وفي هذا الجوّ، فإنَّنا نراقب الانسحابات الإسرائيليَّة من بعض مواقع الاحتلال في المنطقة المحتلَّة تومات نيحا، والَّتي تدلُّ على مدى الضّغط الَّذي استطاع المجاهدون في المقاومة الإسلاميَّة أن يضغطوا به على العدوّ، ما يفرض على جميع اللُّبنانيّين والعرب والمسلمين، أن يقفوا مع المجاهدين في حربهم على الاحتلال، من أجل استكمال محاصرة العدوّ، ومضاعفة مأزقه العسكريّ والسياسيّ في احتلاله، كوسيلة وحيدة للتَّحرير، وانسحابه من دون قيدٍ أو شرط.
كلّ ذلك بعيداً من أيّ إثارة لبعض القضايا التَّفصيليَّة الَّتي قد تؤدّي إلى إرباك المقاومة لا إرباك العدوّ، كما في إثارة قضيَّة جزّين الَّتي هي جزء من قضيَّة الجنوب اللّبنانيّ كلّه، فلا يمكن أن تُحَلَّ إلَّا من خلال حلّ المشكلة كلّها. لذلك، لا يجوز إثارتها من أجل إرباك المقاومة، كما لو كانت المقاومة متَّهمة في أنَّها هي الَّتي تصنع المشكلة لأهل جزّين وليس العدوّ. إنَّ المشكلة الَّتي يعيشها النَّاس في الجنوب والبقاع الغربيّ، من خلال بعض الأضرار الَّتي تصيبهم، إنَّما انطلقت من خلال الَّذين احتلّوا الأرض، لا من خلال الَّذين يحرّرون الأرض.
ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا
وفي هذه الأجواء، تمرُّ علينا في هذه الأيَّام ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، في وقت تستمرّ المجازر ضدّ الفلسطينيّين واللّبنانيّين من قبل العدوّ الصهيونيّ، من دون أيّ موقف دوليّ أو عربيّ فاعل، لأنَّ الخطَّة الَّتي يتكامل الجميع في تنفيذها، هي تصفية القضيَّة الفلسطينيَّة والعربيَّة بدم بارد، خضوعاً للاستكبار الأمريكيّ في المنطقة.
لبنان: الأزماتُ المتفاقمة
أخيراً، إنَّ الشَّعب اللبنانيَّ لا يزال غارقاً في مشاكله الاقتصادية الَّتي تتعاظم بين وقت وآخر من دون حلّ، ولا سيَّما في هذه الأيّام الَّتي ينطلق فيها النَّاس من أجل إدخال أولادهم إلى المدارس، وهم لا يجدون الفرصة لذلك بسبب أوضاعهم المادّية الصَّعبة، ليبقى ما يسمَّى بمسألة الاستحقاق الرئاسي في مسار المشاورات والمداخلات، من دون أن يعرف النَّاس شيئاً، لأنَّ المطلوب أن تتمَّ المسألة في ظروف بعيدة عن اختيار الرأي العام الَّذي ينتظر الدّخان الأبيض أو الأسود، لتستمرَّ المرحلة في سياسة الوقت الضَّائع من دون تغيير، ولكن راوح مكانك.
إنَّ هذا ليس قدر لبنان فيما هو القضاء والقدر، ولكنَّه قدر اللّبنانيّين في ما اختاروه لأنفسهم، من أنهم لا يؤكّدون إرادتهم في مصلحة بلادهم، تلك هي المشكلة {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرّعد: 11].
والحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريح: 18/09/1998م.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادقينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[المائدة: 119].
ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذي جَاءَ بِالصّدق وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذي كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الزّمر: 33-35].
درجةُ الصَّادقِ عندَ الله
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، يحدّثنا الله سبحانه عن نتائج الصّدق في الدَّرجات الَّتي يحصل عليها الصَّادقون في الحياة الدنيا عندما تكون حياتهم صدقاً كلّها، بحيث إذا تكلَّموا صدقوا فلا يكذبون فيما يحدّثون به، وإذا وعدوا صدقوا فلا يخلفون وعدهم، وإذا عاهدوا صدقوا فلا ينقضون عهدهم، وإذا آمنوا صدقوا وتمثّل الصّدق في حياتهم، لأنَّ الصّدق هو أن يكون موقفك فيما تلتزمه من كلام أو إيمان، هو موقفك فيما تعمله، أن لا تكون هناك مسافة بين كلامك وفعلك: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[الصّفّ: 2 -3]، أن تكون كلمتك موقفك، بحيث يكون موقفك تجسيداً لكلمتك، وأن تكون كلمتك معبّرة عن الواقع الَّذي تتحدَّث عنه، فلا تزيد شيئاً عن الواقع، ولا تنقص شيئاً منه.
ونحن نعرف من كلام الله، أنَّ الصّدق هو علامة الإيمان، وأنَّ الكذب هو من علامات عدم الإيمان، لأنَّ الكذب يمثّل الالتزام بغير الواقع؛ فأن تكذب في كلامك، يعني أن تكون الحقيقة شيئاً وكلامك شيئاً آخر، أن تكذب في عهدك، يعني أن تعاهد وتعطي الميثاق على شيء، ويكون تصرّفك عندما تنكر ميثاقك وعهدك شيئاً آخر.
أنواعُ الصّدق
والصّدق على أقسام: أن تصدق مع نفسك، بحيث تعيش مع نفسك من أجل أن تخلص لها، في أن تحركها في الاتجاه الَّذي يحقّق لها صلاحها في الدنيا والآخرة.
وأن تصدق مع ربّك، بمعنى أن تخلص لربّك في عقلك وفي قلبك وفي حياتك، بحيث يكون إيمانك بربّك هو الَّذي يحكم علاقتك الشعوريَّة والعمليَّة به.
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، هناك الصّدق في الموقف، فإذا التزمت شيئاً، التزمت ديناً، التزمت عهداً، فإنَّ عليك أن تؤكّد ذلك في موقفك، وهذا ما أشار الله إليه في كتابه عندما تحدَّث عن الصَّادقين في مواقفهم: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ - عندما عاهدوا الله على الدَّعوة إليه، وعلى التَّضحية في سبيله، وعلى الوقوف مع رسوله وأوليائه - فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب: 23]، بل بقوا على عهدهم، حتَّى عندما واجهتهم المشاكل والضّغوط من هنا وهناك، لم يبدّلوا كلمةً، ولم يبدلّوا موقفاً.
وهكذا، يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن المهاجرين كيف صدقوا في موقفهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادقونَ}[الحشر: 8]، لأنَّهم صدقوا الله في الموقف، وصدقوا الله في الالتزام بخطّ نصرته ونصرة رسوله، وصدقوا الله في الإخلاص لعهدهم، بالرّغم من اضطرارهم إلى أن يخرجوا من ديارهم تحت ضغط الشّرك والمشركين.
وفي ضوء هذا، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، أن نعمل على أن نكون المجتمع الصَّادق الَّذي يصدق الإنسان فيه مع نفسه، ومع ربّه، ومع النَّاس، ويصدق فيه مع عهده وميثاقه والتزاماته الإيمانيَّة، لأنَّ الله قال وهو يشير إلى يوم القيامة: {هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادقينَ صِدْقُهُمْ}[المائدة: 119].
قد تتعب في صدقك، قد تخسر بعض الأشياء في صدقك، ولكنَّك ستنال النفع العظيم من الله في ذلك كلّه.
وقد أرادنا الله سبحانه وتعالى لا أن نبقى صادقين فحسب، بل أن نكون مع الصَّادقين: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادقينَ}[التّوبة: 119]،كونوا مع الَّذين يعيشون الحياة صدقاً في موقع المسؤوليَّة، وفي موقع القيادة، وفي موقع الحركة في كلّ مجالات الواقع.
أحاديث في الصّدق
فإذا جئنا إلى كلمات النبيّ (ص) وأهل بيته، فنقرأ في كلام رسول الله (ص) المرويّ عنه: "الجَمالُ صَوَابُ القَوْلِ بالحَقِّ، والكَمالُ حُسْنُ الفِعالِ بالصِّدْقِ".
ونقرأ عنه (ص) أيضاً: "الصِّدْقُ مُبَارَكٌ، وَالكَذِبُ مَشْؤومٌ".
ونقرأ عن عليّ (ع): "الصّدْقُ يُنْجِيْكَ وَإِنْ خِفْتَهُ – وإن حصل لك الخوف من نتائجه - وَالْكَذِبُ يُرْدِيكَ وَإِنْ أَمِنْتَهُ".
ويقول رسول الله (ص) فيما يتحدَّث به: "أَقْرَبُكُمْ مِنّي غَداً في المَوْقِفِ، أَصْدَقُكُمْ في الحَديثِ".
كلَّما كنت أصدق في حديثك مع النَّاس، كنت أقرب إلى رسول الله غداً في الموقف يوم القيامة. وأيّ شرف أعظم من أن تكون إلى جانب رسول الله (ص) في موقف واحد في يوم القيامة؟! أيّ موقف أشرف من هذا الموقف؟! هذا يكلّفك أن تجاهد نفسك، فلا تكذب في حديثك مع النَّاس، مهما كانت الظّروف.
وعن الإمام الباقر (ع): "أَلَا فَاصْدقُوا، فَإنَّ اللهَ مَعَ مَنْ صَدَقَ".
وهكذا في الأحاديث الكريمة الَّتي وردت في تحديد الصّدق على أساس أنَّه مظهر الإيمان، يقول عليّ (ع) في "نهج البلاغة": "الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْثِرَ اَلصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ، عَلَى اَلْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ"، يعني إذا وقفت بين موقفين، وكان الكذب نافعاً لك من دون ضرورة، ولكنَّ الصّدق قد يضرّك أيضاً من دون اضطرار، فإنَّ علامة أن تكون مؤمناً، هو أن تؤثر الصّدق حتَّى لو أضرَّك، على الكذب حتَّى لو نفعك.
وعن الإمام عليّ (ع): "الصَّادِقُ عَلى شَفا مَنْجاةٍ وَكَرامَةٍ - يعني يقف على حافة النجاة والكرامة - وَالْكاذِبُ عَلى شُرُفِ مَهْواةٍ وَمَهانَةٍ".
معيارُ الثّقةِ بالآخرين
وهكذا ورد عن الإمام جعفر الصَّادق (ع): "إِنَّ الصّادِقَ أَوَّلُ مَنْ يُصَدِّقُهُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ صادِقٌ - فإذا اطَّلع الله عليك وأنت تتكلّم، ورآك تتحدَّث عن الحقيقة، لا تزيد فيها حرفاً، ولا تنقص منها حرفاً، فإنَّ الله يصدّقك - وَتُصَدِّقُهُ نَفْسُهُ تَعْلَمُ أَنَّهُ صادِقٌ".
وإذا أردت أن تختبر إنساناً؛ تريد، مثلاً، أن تشاركه، أو تزوّجه، أو تؤيّده، أو ما إلى ذلك، فهل يكفي أن تراه في المجلس يصلّي من الصّبح إلى اللّيل، ويؤدّي النَّوافل ويدعو، وما أشبه ذلك؟ هل تخرج من المجلس وتقول إنَّ فلاناً محلّ ثقة لأنَّه لا يترك صلاة اللّيل، ولا يترك النَّوافل، وهو دائماً راكع ساجد، وما إلى ذلك؟ هل هذا هو طريق معرفة الشَّخصيّة والثّقة بها؟! هذا جيّد، ولكنَّه ليس أساس الثّقة بالشّخصيّة.
اسمعوا هذا الحديث. يقول الإمام الصَّادق (ع): "لا تَغْتَرّوا بِصَلاتِهِمْ وَلا بِصيامِهِمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ رُبَما لَهِجَ بِالصَّلاةِ وَالصَّوْمِ حَتّى لَوْ تَرَكَهُ اسْتَوْحَشَ - بعض النَّاس قد يكون معتاداً على الصّلاة والصّوم، بحيث يصبح الأمر بالنّسبة إليه عادةً وليس إيماناً، فصلاته ربما تكون عن إخلاص وإيمان، وربما تكون نتيجة شيء تقليديّ اعتاد عليه. لذلك، يقول الإمام (ع)، لمجرّد أنّ هذا الشّخص يصلّي، لا يدلّ على أنَّه مؤمن. إذاً، كيف نختبره ونعرف إذا كان مؤمناً أو لا، أو أنّه موضع ثقة أو لا؟ - وَلكِنِ اخْتَبِروهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَديثِ وَأداءُ الأمانَةِ". إذا أردت اختباره، عامله، فإذا رأيته يصدق في حديثه، حتَّى لو كان الكذب مصلحة له، ورأيته يؤدّي أمانته، حتَّى لو لم يكن عليه وثيقة ولا سند، أو كانت عنده شهادة معيّنة تفيدك وقد تضرّه في هذا المجال، ومع ذلك يشهد بالحقيقة، فاحكم عليه بأنّه إنسان صادق وأهل للثّقة، وهذه علامة الإيمان، فإذا أردت أن تعرف إنساناً إذا كان مؤمناً أو لا، اعرفه بصدق الحديث وأداء الأمانة.
هناك بعض النّاس قد يذهب إلى الحجّ كلّ عام، ويعتمر ويزور، ويصوم ويصلّي في الصَّفّ الأوّل، ومع ذلك، إذا كان لك عليه حقّ، وليس من سند عليه أو ما يثبت حقّك عنده، ينكره عليك، فهو يخون الأمانة ويكذب في الحديث.
الحديث الثّاني يقول: "لا تَنْظُرُوا إِلَى كثْرةِ صَلَاتِهِمْ وَصَوْمِهِمْ، وَكَثْرَةِ الحَجِّ والمـَعْرُوفِ، وَطَنْطَنَتِهِمْ بِاللَّيْلِ، وَلَكِنْ انْظُرُوا إِلَى صِدْقِ الحَدِيْثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ".
هذا هو الأساس في اختبار الإنسان في هذا المجال.
وورد عن الإمام الصَّادق (ع) أنَّه قال: "إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لم يَبْعَثْ نَبِيّاً إِلَّا بِصِدْقِ الحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ إِلَى البرِّ وَالفَاجِرِ". أيّاً كان الشّخص الّذي ائتمنك، سواء كان مؤمناً أو بعيداً من خطِّ الإيمان، فعليك أن تؤدّي إليه الأمانة.
وقد ورد عن الإمام زين العابدين (ع): "لَوْ أَنَّ قَاتِلَ أبِي الحُسَينِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) ائْتَمَنَني عَلَى السَّيْفِ الَّذي قَتَلَهُ بِهِ لأدَّيْتُهُ إِلَيْهِ"، قد لا أقبل هذه الأمانة، ولكن في حال قبلتها، أدّيتها إليه، لأنَّ قضيّة الأمانة قضيَّة أساسيَّة، وهي، كما قلنا، عمق الإيمان.
خطرُ شهادةِ الزّور
ومن أشدّ الحالات الّتي تتطلَّب الصّدق، أيُّها الأحبَّة، الصِّدق في مقام الشَّهادة، فقد تكذب في حياتك اليوميّة كذبةً وأنت تتكلَّم مع أحد عن قصَّة ما، أو في موضوع شخصيّ، وهذا غير جائز، ولكن قد لا يكون فيها خطر كبير، ولكن أن تذهب إلى المحكمة، سواء محكمة شرعيَّة أو مدنيَّة، وتشهد شهادة كاذبة، فهذا من قول الزّور، والله يحذّرنا: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}[الحجّ: 30]، أي قول الباطل.
وقد وردَ في الحديث: "إنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ تَدَعُ الدّيَارَ بَلَاقِعَ"، يعني خالية. فقد يأتي صاحبك أو قريبك، ويقول لك إنَّ الصَّديق وقت الضّيق، وأريدك أن تشهد معي، وتكون الشّهادة باطلة، وأنت تقول هذا صديقي أو قريبي وأريد أن أخدمه، وأنت تقسم في شهادتك وتقول: والله العظيم أقول الحقّ، فهل تعرف معنى ذلك؟ معنى ذلك أنَّك جعلت الله شاهدَ زور، وهذا معنى اليمين الكاذبة، لأنَّك عندما تقسم بأحد، كأنَّك تقول إنّه الشَّاهد عليك. فأيّ جريمة أكبر من أن تأتي بالله شاهدَ زورٍ معَكَ في المحكمة؟! ولذا، فإنَّ اليمين الكاذبة "تَدَعُ الدّيَارَ بَلَاقِعَ".
ثمَّ من النَّاحية الشَّرعيَّة، أيُّها الأحبَّة، عندما تشهد شهادة زور، فمعنى ذلك أنَّ كلّ ما سيترتّب على هذه الشَّهادة من نتائج وخسائر لمن شهدت عليه زوراً، تكون أنت مسؤولاً عنها، وتتحمَّلها في مالك وفي حياتك. ولذا، عندما يأتي أصدقاؤك، ويقولون لك تعال اشهد معنا، أنت صديق، والصَّديق وقت الضّيق، قل أنا مستعدّ أن أخدمكم في حياتكم بما ييسّر أموركم، ولكن لا يمكن أن أشهد شهادة زور، لأنَّ القضيَّة قضيَّة الله سبحانه وتعالى.
الصّدقُ المحرَّم
فإذاً، الأصل هو الصّدق؛ أن نكون صادقين في كلامنا، وفي مواعيدنا، وفي عهودنا والتزاماتنا ومواقفنا، هذا هو الأساس، أن تكون مع الحقّ في كلّ المجالات العمليّة. ولكن هناك بعض الحالات الَّتي يكون الصّدق فيها محرَّماً، كما في الحالات الَّتي تكون فيها عند العدوّ، ويطلب منك أن تحدّثه عن أسرار المجاهدين، أو عن أسرار أمَّتك العسكريَّة أو السياسيَّة أو الاقتصاديَّة، أو عن أسرار وطنك. هنا، في هذه الصّورة، يحرم عليك الصّدق، بل يجب عليك أن تكذب، لأنَّك إذا صدقت، فضحت أسرار أمَّتك، وكانت النَّتائج السلبيَّة للصّدق أكبر من النَّتائج الإيجابيَّة له، لأنَّ الله فرض علينا الصّدق من أجل مصلحتنا العامَّة والخاصَّة، فلا يجوز لنا أن نصدق في المجالات الَّتي يكون فيها الصّدق مشكلة عامّة ربما تهدم أسس الوطن أو النَّاس.
وهكذا ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "ثَلَاثٌ يَقبُحُ فيهِنَّ الصِّدقُ: النَّميمَةُ – بحيث تسمع كلاماً من أحد بحقّ إنسان، ويكون صحيحاً، ولكن إذا نقلته إلى الشَّخص الآخر، وقلت له إنَّ فلاناً يتكلَّم عليك، قد يخلق ذلك مشكلة كبيرة بينهما، هنا عليك أن لا تصدق، لأنَّ الصّدق ربما يؤدّي إلى مشاكل وفتنة على مستوى الواقع الاجتماعيّ.
- وإخبارُكَ الرَّجُلَ عن أهلِهِ بما يَكرَهُهُ – أنت اطّلعت، مثلاً، على وضع معيّن لزوجة أحد، أو لأحد إخوانه، وكان يكره هذا الأمر، بحيث إذا أخبرته قد يطلّق زوجته، أو قد يخلق مشكلة في البيت، فهنا يقبح عليك أن تصدق - وَتَكذيِبُكَ الرَّجُلَ عنِ الخَبَرِ".
وفي الحديث عن الإمام الصّادق (ع): "أيُّما مُسْلِمٍ سُئِلَ عَنْ مُسْلِمٍ فَصَدَقَ، فَأَدْخَلَ عَلَى ذَلكَ المسْلِمِ مَضَرَّةً، كُتِبَ مِنَ الكَاذبينَ، وَمَنْ سُئِلَ عَنْ مُسْلِمٍ فَكَذَبَ، فَأَدْخَلَ عَلَى ذَلكَ المسْلِمِ مَنْفَعَةً، كُتِبَ عِنْدَ اللهِ مِنَ الصَّادِقينَ".
فالقضيَّة هي أن لا يكون صدقك مضرّة للمسلمين وللأمَّة وللإسلام وللوطن كلّه، عليك أن تدرس كلماتك بالطَّريقة الّتي تكون فيها كلمتك خيراً للنَّاس حتَّى لو كانت كذباً، ولا تكون شراً للناس حتى لو كانت صدقاً. المسألة هي أن يعيش الإنسان الصّدق في مدى مصلحة الأمَّة ومصلحة الإسلام، وهكذا ينظر إلى الكذب. هذه هي صفة المسلم في نفسه.
ولذلك، لا بدَّ لنا أن نكون مع الصَّادقين مع ربّهم، ومع أنفسهم، ومع النَّاس، لأنَّ مسؤوليَّة الإنسان أن يكون مع الصَّادقين، ليرتفع مجتمع الصّدق في كلّ القضايا الَّتي تنفع الإنسان في أوضاعه السياسيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة وما إلى ذلك.
الخطبة الثّانية
عباد الله، اتَّقوا الله فيما تواجهونه في كلّ الواقع الإسلاميّ، من تحدّيات الكفر كلّه والاستكبار كلّه، لأنَّ الله سبحانه وتعالى قد جعل كلّ طاقاتكم، سواء كانت طاقات فكريَّة أو طاقات اجتماعيَّة أو سياسيَّة أو ماديَّة أو ما إلى ذلك، جعلها أمانة عندكم، بحيث تسخّرونها فيما ينفع البلاد والعباد، وتواجهون بها كلَّ ما يريد أن يفرضه الاستكبار على العالم، ولا سيَّما العالم الإسلاميّ والعالم المستضعف، ولتحاربوا بها كلَّ الَّذين يعملون على إسقاط قضاياكم السياسيَّة والاجتماعيَّة والإيمانيَّة، من كلّ موقع ومن كلّ مكان. إنَّ الله يريد للمسلمين أن يكونوا أمَّة تتكامل في كلّ طاقاتها، وتتعاون في كلّ مواقعها، وتكون صفّاً واحداً أمام كلّ التحدّيات الكبرى.
ونحن، أيُّها الأحبَّة، نعيش في مرحلة من الزَّمن ينطلق فيها الاستكبار العالميّ، ولا سيَّما الاستكبار الأمريكيّ، من أجل أن يضغط على كلّ مواقعنا الإسلاميَّة، سواء كانت مواقع سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو أمنيَّة، إنَّه يريد لنا أن يحوّلنا إلى هامش من هوامش سياسته واقتصاده وأمنه. وعلى الأمَّة أن تستنفر كلَّ طاقاتها، فتجمِّد كلَّ خلافاتها، سواء كانت خلافات مذهبيَّة أو عرقيَّة أو إقليميَّة هنا وهناك، أن نجمّد كلَّ ذلك من خلال توعية الأمَّة لكلّ ما يخطَّط لها ويدبَّر لها من أجهزة المخابرات الدوليَّة أو الصهيونيَّة أو ما إلى ذلك.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ من شروط قوَّة الأمَّة أن تكون واعية لما يخطَّط لها، وإنَّ أخطر شيء في الأمَّة أن تكون ساذجةً وبسيطة. علينا أن نفهم خلفيَّات الأمور وخلفيَّات الخطط، وكيف يدبّر العدوُّ لنا مكائده.
وفي ضوء ذلك، لا بدَّ لنا أن ندقّق فيما نسمع وفيما نرى. لا تكونوا مجرَّد مستهلكين لما تسمعونه من الأخبار في الراديو أو التلفزيون أو الصّحيفة، بل حاولوا أن تعرفوا في كلّ خبر فيه بعض التحدّي أو بعض إثارة المشكلة للمسلمين، أن تعرفوا كيف انطلقت القضيَّة الَّتي يتحدَّث عنها هذا الخبر، وما هي امتداداتها.
علينا أن نتعرَّف الآن في هذا الأسبوع، كيف نواجه في عالمنا الإسلاميّ بعض القضايا.
حربٌ بينَ إيرانَ وطالبان؟!
لا تزال قضيَّة أفغانستان تشغلُ العالم الإسلاميّ، من خلال التطوّرات الحادَّة الَّتي تهدّد بحدوث حرب عسكريَّة بين إيران وحركة طالبان المدعومة من أكثر من دولة خارجيَّة وإقليميَّة عسكريّاً وسياسيّاً وماليّاً. ونحن نلاحظ أنَّ موقف إيران الإسلام يتميَّز بالقوَّة والاستعداد لكلّ تطوّر جديد، وبالتعقّل والحكمة في مواجهة المشكلة الخطيرة، لأنَّه يدرس الأمور من خلال مصلحة المسلمين والحفاظ على الوحدة الإسلاميَّة، باعتبار مسؤوليَّة الجمهوريَّة الإسلاميَّة في منظَّمة المؤتمر الإسلامي وفي الواقع الإسلامي كلّه، وفي استراتيجيَّتها السياسيَّة الإسلاميَّة، في إعطاء كلّ الفرص للحلول الدبلوماسيَّة، من دون أن يؤثّر ذلك في مصالحها الحيويَّة وعنفوانها الإسلاميّ، بما في ذلك حقّها في الردّ على العدوان الطالباني عليها بقتل دبلوماسيّيها بشكل وحشيّ، والقيام بمجازر وحشيَّة ضدّ المسلمين الشّيعة المدنيّين، تحت تأثير ذهنيَّة متخلّفة عنصريَّة في النَّظرة إلى الشّيعة الَّذين كان لهم الفضل الكبير في تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي.
إنَّنا نراقب التَّطوّرات في المسألة الأفغانيَّة، من خلال هذه الحركة الدَّوليَّة الَّتي تقودها أمريكا لإنقاد حركة طالبان، في الاجتماع المرتقب لبحث المسألة الأفغانيَّة في واشنطن من قبل الدّول المحيطة بأفغانستان، بحضور وزير خارجيَّة أمريكا، من دون أيّ مباردة للوقوف مع إيران في دفاعها عن نفسها واستنكار العدوان عليها، ولا سيَّما باكستان الَّتي تحاول تبرئة نفسها من الأحداث، في الوقت الَّذي يعرف الجميع أنَّها شاركت وتشارك في الحرب الأفغانيَّة الدَّاخليَّة بكلّ قوَّة لمصلحة طالبان.
ونريد أن نؤكّد في هذا الجوّ المتوتّر على جميع المستويات، ضرورة الوعي حيال المخابرات الأمريكيَّة السَّاعية لإثارة الموضوع على مستوى الحساسيات المذهبيَّة في الواقع الإسلاميّ، وتصوير الأحداث على أنَّها مظهر من مظاهر حرب شيعيَّة سنيَّة. إنَّنا ندعو إلى المزيد من الحذر من هذا الإعلام السياسيّ المشبوه، لأنَّ الحرب في أفغانستان هي حرب يتحرَّك فيها الشّيعة إلى جانب السنَّة في النّزاع الدَّاخلي هناك، فإنَّ حزب الوحدة يمثّل فريقاً من جبهة المعارضة لحركة طالبان الَّتي يتحرَّك فيها الشّيعة إلى جانب السنَّة. وإذا كان هناك من موقف، فيجب أن يكون ضدَّ حركة طالبان الَّتي تتبنَّى موقفاً سلبيّاً عنصريّاً متخلّفاً ضدَّ الوحدة الإسلاميَّة إلى جانب بعض المواقع المتعصّبة في العالم الإسلاميّ.
إنَّنا، أيُّها الأحبَّة، نقف مع الشَّعب الإيراني المسلم وهو يشيِّع شهداءه في هذا اليوم، وفي احتجاجه على المجازر الوحشيَّة الَّتي وقعت في أفغانستان، وندعو المسلمين جميعاً، وكلَّ أحرار العالم، إلى دعم هذا الموقف بكلّ قوَّة وإصرار.
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا نرى في دعم الجمهوريَّة الإسلاميَّة الَّتي هي قاعدة الحركة الإسلاميَّة في العالم، دعماً للإسلام الأصيل، ودعماً لحركة التَّحرّر في العالم، ولحركة المواجهة ضدَّ الصّهيونيَّة بكلّ امتداداتها.
تهديدٌ إسرائيليٌّ للمنطقة
وإلى جانب ذلك، نواجه التَّهديد الإسرائيليَّ من خلال إقامة إسرائيل شبكةً من العلاقات الاقتصاديَّة والأمنيَّة مع دول آسيا الوسطى، فيما يشبه الخطَّة المرسومة لمحاولة تطويق إيران والضَّغط عليها، ويتجلَّى في هذه الأيَّام في العلاقات بين العدوّ الصهيونيّ وأوزباكستان، بعد استقبال رئيس وزراء العدوّ للرَّئيس الأوزباكيّ، واقتراح نتنياهو إقامة جبهة عالميَّة - هكذا قال - ضدّ ايران والأصوليَّة، وإلى السَّير معاً لتجنّب الضَّرر الَّذي قد تسبّبه وحشيَّة هذه الأنظمة، كما يقول. ونحن نعرف أنَّ الوحشيَّة تتمثَّل بكلّ قوَّتها في النظام الصّهيونيّ، وأنَّ الإسلام في كلّ مواقعه، ولا سيَّما في إيران، ينفتح على كلّ المستضعفين في العالم بكلّ وداعة وأمانة وصدق، ولكنّه يواجه المستكبرين بكلّ قوَّة.
كما أنَّنا نلاحظ حركة الحلف الاستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي في مواجهة الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة، في هذا التَّحرّك السياسيّ والاقتصاديّ في هذه المنطقة، إضافةً إلى الحلف التركيّ الإسرائيليّ الموجَّه ضدَّ إيران وسوريا بشكل مباشر، وضدَّ العالم العربيّ والإسلاميّ بشكل عام.
وفي هذه المناسبة، فإنَّ قرار الجامعة العربيَّة في هذا الموضوع – موضوع التّحالف التّركي الإسرائيلي - لم يكن بالمستوى الَّذي يمثّله خطر هذا التّحالف العسكريّ العدوانيّ، كما أنَّه لم يتحرَّك بمبادرات واقعيَّة فاعلة في مواجهة العدوان الإسرائيلي المستمرّ ضدَّ الفلسطينيّين واللّبنانيّين والواقع العربيّ في أكثر من موقع، كلّ ذلك بفعل الضّغوط الأمريكيَّة على كثير من المسؤولين العرب الَّذين تتحرَّك قراراتهم حتَّى في داخل الجامعة العربيَّة، وحتَّى في داخل المؤتمر الإسلاميّ، من خلال التَّعليمات الموجَّهة إليهم من قبل الاستكبار الأمريكيّ.
انسحابٌ تحتَ ضغطِ المقاومة
وفي هذا الجوّ، فإنَّنا نراقب الانسحابات الإسرائيليَّة من بعض مواقع الاحتلال في المنطقة المحتلَّة تومات نيحا، والَّتي تدلُّ على مدى الضّغط الَّذي استطاع المجاهدون في المقاومة الإسلاميَّة أن يضغطوا به على العدوّ، ما يفرض على جميع اللُّبنانيّين والعرب والمسلمين، أن يقفوا مع المجاهدين في حربهم على الاحتلال، من أجل استكمال محاصرة العدوّ، ومضاعفة مأزقه العسكريّ والسياسيّ في احتلاله، كوسيلة وحيدة للتَّحرير، وانسحابه من دون قيدٍ أو شرط.
كلّ ذلك بعيداً من أيّ إثارة لبعض القضايا التَّفصيليَّة الَّتي قد تؤدّي إلى إرباك المقاومة لا إرباك العدوّ، كما في إثارة قضيَّة جزّين الَّتي هي جزء من قضيَّة الجنوب اللّبنانيّ كلّه، فلا يمكن أن تُحَلَّ إلَّا من خلال حلّ المشكلة كلّها. لذلك، لا يجوز إثارتها من أجل إرباك المقاومة، كما لو كانت المقاومة متَّهمة في أنَّها هي الَّتي تصنع المشكلة لأهل جزّين وليس العدوّ. إنَّ المشكلة الَّتي يعيشها النَّاس في الجنوب والبقاع الغربيّ، من خلال بعض الأضرار الَّتي تصيبهم، إنَّما انطلقت من خلال الَّذين احتلّوا الأرض، لا من خلال الَّذين يحرّرون الأرض.
ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا
وفي هذه الأجواء، تمرُّ علينا في هذه الأيَّام ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، في وقت تستمرّ المجازر ضدّ الفلسطينيّين واللّبنانيّين من قبل العدوّ الصهيونيّ، من دون أيّ موقف دوليّ أو عربيّ فاعل، لأنَّ الخطَّة الَّتي يتكامل الجميع في تنفيذها، هي تصفية القضيَّة الفلسطينيَّة والعربيَّة بدم بارد، خضوعاً للاستكبار الأمريكيّ في المنطقة.
لبنان: الأزماتُ المتفاقمة
أخيراً، إنَّ الشَّعب اللبنانيَّ لا يزال غارقاً في مشاكله الاقتصادية الَّتي تتعاظم بين وقت وآخر من دون حلّ، ولا سيَّما في هذه الأيّام الَّتي ينطلق فيها النَّاس من أجل إدخال أولادهم إلى المدارس، وهم لا يجدون الفرصة لذلك بسبب أوضاعهم المادّية الصَّعبة، ليبقى ما يسمَّى بمسألة الاستحقاق الرئاسي في مسار المشاورات والمداخلات، من دون أن يعرف النَّاس شيئاً، لأنَّ المطلوب أن تتمَّ المسألة في ظروف بعيدة عن اختيار الرأي العام الَّذي ينتظر الدّخان الأبيض أو الأسود، لتستمرَّ المرحلة في سياسة الوقت الضَّائع من دون تغيير، ولكن راوح مكانك.
إنَّ هذا ليس قدر لبنان فيما هو القضاء والقدر، ولكنَّه قدر اللّبنانيّين في ما اختاروه لأنفسهم، من أنهم لا يؤكّدون إرادتهم في مصلحة بلادهم، تلك هي المشكلة {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرّعد: 11].
والحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريح: 18/09/1998م.