كثيرة هي المواعظ والوصايا التي تركها لنا أئمة أهل البيت(ع)، حتى نستضيء بهديها،
ونتمثل دروسها في واقعنا. ومنها، ما خلّفه الإمام الثاني من أئمة أهل البيت(ع)، سبط
رسول الله(ص)، الحسن المجتبى(ع)، فقد لفت إلى أهمية التسليم لله تعالى وطاعته بكلّ
انقياد وإخلاص وتسليم، داعياً في موعظة أخرى إلى أهمية ذكر الموت والاستعداد له
بالعمل الصالح، وقد نهى(ع) عن كلّ آفة أخلاقية تشوّش الإيمان وتخدشه وتبعد المرء عن
طاعة ربّه، ومن ذلك، الكبر والحرص والحسد، مشيراً إلى التحلي بالخلق والتأدب
والتعقل، ومن تجليات ذلك، تجنب محارم الله تعالى، وتقواه وخشيته، منبّهاً من حبّ
الدنيا والانغماس فيها.
وهذه جملة من مواعظه المباركة:
الموعظة الأولى: في التسليم إلى الله
قال الإمام الحسن(ع): "مَن لا يُؤمِن بالله وقضائه وقدره فقد كَفَر، ومن حمل ذنبه
على ربّه فقد فجر .
إنَّ الله لا يُطاع استكراهاً، ولا يعطي لغلَبة، لأنه المليك لما ملَّكهم، والقادر
على ما أقدرهم .
فإن عملوا بالطاعة لم يَحُلْ بينهم وبين ما فعلوا، فإذا لم يفعلوا، فليس هو الذي
يجبرهم على ذلك .
فلو أجبر الله الخلق على الطاعة، لأسقط عنهم الثواب، ولو أجبرهم على المعاصي لأسقط
عنهم العقاب، ولو أنّه أهملهم لكان عجزاً في القدرة .
ولكنْ له فيهم المشيئة التي غيَّبها عنهم، فإن عملوا بالطاعات، كانت له المِنَّة
عليهم، وإن عملوا بالمعصية، كانت له الحُجَّة عليهم".
الموعظة الثانية: في ذكر الموت
قال(ع) لجنادة - أحد أصحابه – "يا جنادة، استعدَّ لِسَفَرك، وحصِّل زادك قبل حلول
أجلك، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك .
ولا تحمل هَمَّ يومك الذي لم يأتِ على يومك الذي أنتَ فِيه، واعلمْ أنك لا تكسب من
المال شيئاً فوق قوتك، إلاَّ كنت فيه خازناً لغيرك .
واعلم أنَّ الدنيا في حلالها حساب، وفي حَرامها عقاب، وفي الشُّبُهات عِتاب .
فَأَنزِلِ الدنيا بمنزلة الميتة، خُذْ منها ما يكفيك، فإن كان حلالاً كنتَ قد زهدْتَ
فيه، وإن كان حراماً لم يكن فيه وِزْر، فأخذت منه كما أخذت من الميتة، وإن كان
العقاب فالعقاب يسير .
واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً .
وإذا أردت عِزّاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذُلِّ معصية الله إلى عِزِّ
طاعة الله عزَّ وجلَّ .
وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة، فاصحب مَن إذا صحبتَهُ زَانَك، وإذا أخذتَ منه
صانَك، وإذا أردت منه مَعونة أعَانَك، وإن قلتَ صَدَّقك، وإن صلتَ شَدَّ صَولتَك،
وإن مَدَدت يدك بفضلٍ مَدَّها، وإن بَدَتْ منك ثلمَة سَدَّها، وإن رأى منك حَسَنة
عَدَّها، وإن سألته أعطاك، وإن سَكَتَّ عنه ابْتَداك، وإن نزلتْ بك إحدى الملمَّات
وَاسَاك .
مَن لا تأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليك منه الطَّرائِق، ولا يخذلُك عند الحقائق،
وإنْ تَنازَعْتُما منقسماً آثَرَكَ".
الموعظة الثالثة: في مُهلِكات المرء
قال(ع): "هَلاكُ المَرءِ في ثلاث، الكِبَر، والحِرْص، والحَسَد، فالكِبَر هلاك
الدين، وبه لُعِن إبليس، والحِرْص عَدوُّ النفس، وبه أُخرِجَ آدم من الجنّة،
والحَسَد رائد السوء، ومِنهُ قَتَلَ قَابيل هَابيلَ".
الموعظة الرابعة: في الأخلاق
قال(ع): "لا أدَبَ لِمن لا عقل له، ولا مُرُوءة لِمَنْ لا هِمَّة له، ولا حَياءَ
لِمَن لا دين له، ورأسُ العقل مُعَاشَرَة الناس بالجميل، وبالعقل تُدرَكُ الداران
جميعاً، وَمَنْ حُرِم العقلُ حُرِمَهُمَا جَميعاً ."
الموعظة الخامسة: في جوامع الموعظة
قال(ع): "يا بن آدم، عفَّ عن محارم الله تَكُنْ عابداً، وارضَ بما قسم الله تكن
غَنيّاً، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً، وصاحب النّاس بمثل ما تحبَّ أن يصاحبوك
به تكن عادلاً .
إنّه كان بين يديكم أقوام يجمعون كثيراً، ويبنون مشيداً، ويأملون بعيداً، أصبح
جمعهم بوراً، وعَملهُم غُروراً، ومَسَاكنهم قُبوراً .
يا بن آدم، لم تَزَلْ في هَدم عمرك منذ سقطتَ من بَطنِ أمِّك، فَخُذ مما في يديك
لما بين يديك، فإنَّ المؤمنَ يتزوَّد، والكافرَ يتمتَّع".
الموعظة السادسة: في الاستجابة إلى الله
قال(ع): "أيَّها الناس، إنَّه من نصحَ لله وأخذ قوله دليلاً، هُدِيَ للّتي هي
أقْوَم، وَوَفَّقه الله للرّشاد، وسَدَّده للحسنى .
فإنَّ جار الله آمِنٌ محفوظ، وعَدوُّه خائف مخذول، فاحترسوا من الله بكثرة الذكر،
واخشوا الله بالتقوى، وتقرَّبوا إلى الله بالطاعة، فإنه قريب مجيب .
قال الله تبارك وتعالى، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: 186].
فاستجيبُوا لله وآمِنوا به، فإنَّه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعاظم، فإنَّ
رِفْعَةَ الذين يعلمون عظمة الله أن يتواضعوا، وَ[عِزَّ] الذين يعرفون الله أن
يتذلَّلوا [لَهُ]، وسلامةَ الذين يعلمون ما قدرة الله أن يستسلموا لَهُ، ولا ينكروا
أنفسَهم بَعدَ المَعرِفَة، ولا يَضلُّوا بعد الهدى.
الموعظة السابعة: في التقوى
قال(ع): "اِعلَموا أنَّ الله لم يخلقكم عَبَثاً، وليس بتاركِكُم سُدًى، كَتَب
آجالُكم، وقسَّم بينكم معائشكم، لِيَعرف كلّ ذي لُبٍّ منزلته .
وأنَّ ما قُدِّر له أصابَه، وما صُرِف عنه فلن يُصيبُه، قَد كفاكم مَؤُونة الدنيا،
وفرَّغكم لعبادته، وحثَّكم على الشّكر، وافترض عليكم الذِّكر، وأوصاكم بالتقوى،
منتهى رضاه، والتقوى باب كلِّ توبة، ورأس كلِّ حكمة .
وشَرَفُ كلِّ عملٍ بالتقوى، فاز من فاز من المتِّقين .قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ مَفَازً}[النبأ: 31] .
وقال: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ
السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[الزمر: 61].
فاتَّقوا الله عباد الله، واعلموا أنه من يَتَّقِ اللهَ يجعل له مخرجاً من الفتن،
ويسدِّدُه في أمره، ويهيِّئ له رشده، ويفلحه بحجّته، ويبيّض وجهه، ويعطه رغبته، مع
الّذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدِّيقين، والشّهداء والصالحين، وحَسُنَ
أولئك رَفيقاً".
الموعظة الثّامنة: في أهل النار
قال(ع): "إنَّ الله تعالى لم يجعل الأغلال في أعناق أهل النّار لأنهم أعجزوه، ولكن
إذا أطفىء بهم اللَّهَب أرسبهم في قعرها.
ثم غشي عليه(ع)، فلما أفاقَ من غشوته قال: "يا بن آدم، نَفْسَك نَفْسَك، فإنَّما هي
نفس واحدة، إن نَجَتْ نَجوتَ، وإن هَلَكَتْ لم ينفعك نَجَاةُ مَن نَجا" .
الموعظة التّاسعة: في المبادرة إلى العمل
قال(ع): "اتَّقوا الله عباد الله، وجِدُّوا في الطلب وتجاه الهرب، وبادروا العمل
قبل مقطعات النّقمات، وهادم اللَّذات، فإنَّ الدنيا لا يدوم نعيمها، ولا يؤمن
فجيعها، ولا تتوقَّى مساويها، غرور حائل، وسناد مائل، فاتَّعظوا عباد الله بالعبر،
واعتبروا بأثر، وازدجروا بالنعيم، وانتفعوا بالمواعظ .
فكفى بالله معصتماً ونصيراً، وكفى بالكتاب حَجِيجاً وخَصيماً، وكفى بالجنَّةِ ثواباً،
وكفى بالنار عقاباً ووبالاً" .
الموعظة العاشرة: في ذمِّ حُبِّ الدني
قال(ع): "مَنْ أحبِّ الدنيا، ذهب خوف الآخرة من قلبه، ومن ازداد حِرصاً على الدنيا،
لم يزدَدْ منها إلا بعداً، وازداد هو من الله بغضاً .
والحريص الجاهد، والزّاهد القانع، كلاهما مستوفٍ أكله، غير منقوصٍ من رِزقِه شيئاً،
فعلام التّهافت في النّار؟! والخير كُلّه في صَبر ساعةٍ واحدةٍ، تُورِثٍ راحةً
طويلةً، وسعادةً كثيرةً.
والناس طالبان؛ طَالبٌ يطلب الدنيا حتى إذا أدركها هَلَك، وطَالِبٌ يطلب الآخرة حتى
إذا أدركها فهو ناجٍ فائز .
واعلم أيّها الرّجل، أنه لا يضرُّك ما فاتك من الدنيا، وأصابك من شدائدها، إذا ظفرت
بالآخرة، وما ينفعك ما أصبت من الدنيا، إذا حُرِمت الآخرة .
الناس في دار سهوٍ وغفلة، يعملون ولا يعلمون، فإذا صاروا إلى دار يقينٍ، يعلمون ولا
يعملون".
إننا أمام مواعظ تستثير فينا كلّ مشاعر وكلّ تعقّل، حتى نعكف على ما فيها من دروس
تستنهض هممنا، كي نتحسّس مسؤولياتنا الأخلاقية والإيمانية، وننطلق كي نغيّر كثيراً
من أوضاعنا التي تحتاج إلى أناس متسلّحين بالوعي والإيمان، وعاملين بكلّ خلق وكلّ
أمانة وكلّ ابتعاد عن الدنيا، آملين فقط لطف الله ورحمته، ساعين إلى تقواه ونيل
رضاه.
أن نوالي الإمام الحسن(ع)، يعني ذلك أن نتفاعل مع كلامه ووصاياه، لأن كلامه هو
الكلام الذي ينطق عن إخلاص وفهم لروح الدين ولمعنى الحياة والمسوؤليّات الملقاة على
الإنسان. لذا أرادنا الإمام من المتعظين المتيقّظين الذين يسمعون القول فيتبعون
أحسنه، بكلّ ما يملكون من قوّة وإرادة، وأرادنا من المتّقين الذين يتورّعون عن
محارم الله، ومن الملتزمين بالحقّ وحدود الله، ومن القائمين بالعدل، ومن الثّابتين
على طريق الاستقامة، لا تهزمهم المظاهر والنزوات والشّهوات المنحرفة، بل هم من
يصرفون العمر والجهد لقاء وجه الله وحسن العاقبة.