ينطلق هذا البحث من إشكاليّة نظريّة تدور حول علاقة النّشاط الثقافي بدوائر السّوق، وما تعانيه الملكيّة الفكريّة، وأزمة ضبط إنتاج الفكر وتداوله، في ظلّ دورة السوق الحديثة وتحكّم التكنولوجيا بهذه السّوق، وانعكاساتها على الملكيّة الفرديّة لجهة احترام حقوقها وخصوصيّاتها الفكريّة وما يتعلّق بها.
ويشير الباحث إلى أنّ الفكر سلعة ملموسة، وهو عصيّ على دخول سوق البيع، فأصل الثّقافة هو الّذي لا يباع، وأصل الملكيّة الفكريّة هو الّذي لا يسوّق، وإنّ لظهور الفرد، وتشريع حقوقه، وعدم تمكّن السّوق من حماية الملكيّة الفكريّة، أثراً في تحوّل هذه الملكية من ملكيّة فرديّة، إلى ملكيّة عامّة تخصّ الأفراد من حيث الإنتاج، والجمع من حيث الاستثمار، فالملكيّة تخصّ الأفراد، لأنّ إنتاجها فرديّ ومعنويّ، واستهلاكها لا يتمّ عبر آليّة السّوق، بل عبر انتشار ثقافيّ له فائدة جمعيّة، عكس الملكيّة العامّة الّتي تخصّ الدّولة، وهي ماديّة بحتة، وتحمل صفات الاستهلاك الجمعي نفسها، لكنّ الفرق بين الملكتين العامّتين، هو أنّ الّتي تخصّ الدّولة تنطلق من مبدأ مادّيّ بحت، بينما الّتي تخصّ الأفراد فيها المادّيّ بهدف الاستثمار الفرديّ، وفيها المعنويّ بهدف الاستثمار الجمعيّ الثّقافيّ.
ويلفت الباحث الاهتمام إلى" أن الفكر الدّينيّ حاكم لقوانين الملكيّة الفكريّة، باعتبارها أمراً اعتباريّاً عقلائيّاً يفرضه الواقع والنّظام الحاكم فيه"، كما يقول سماحة المرجع الإسلاميّ السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، بما أنّ الاقتصاد الاجتماعيّ يدرس المشاكل الاجتماعيّة بهدف إعادة إنتاج الحياة من أيّة جهة كانت.
يرى الباحث أنَّ الفقيه سماحة السيِّد محمد حسين فضل الله(رض)، ابتكر مفهوماً جديداً يقول: الملكيَّة هي اعتباريَّة عقلائيَّة، أي اعتبارها لجهة، وإذا كان اعتبارها في الأصل شيئاً ماديّاً، فتخضع لأحكام القانون المادّيّ، وإذا كان اعتبارها بالأصل جمعيّاً، فتخرج من سلطة القانون لتخضع لمبدأ العقلاء من بين النّاس، أي للمجتهد الشّرعيّ.
ومن هنا القول، كما يتابع البحث، إنَّ الملكيَّة بأحكامها تخضع للمواصفات الّتي تخرج منها، فلكلِّ ظرفٍ وضع يختلف عن وضع آخر، وهذه المواضيع مختلفة لجهة المكان والزّمان، ولجهة المواضعات[1] المعاشة لناحية التطوّر ومستلزماته، لكنّها تتعرّض بمجملها للتّشويه والإساءة من قبل النّظام الحاكم الغربيّ الّذي يعتبر أنّ استمراريّة نظامه تأتي من خرق النظم الأخرى وتخليعها.
ويعرض الباحث في نهاية دراسته مقابلةً مع سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، لتضيء أكثر على ما تقدَّم، بناءً على رأي الفقه بالنِّسبة إلى الملكيَّة الفكريَّة، حيث يوضح سماحته مسألة ملكيَّة الدَّولة، وهل إنَّ مال الدَّولة مجهول المالك، بدعوى أنَّ الدَّولة لا تملكه، ودور الحاكم الشَّرعي في التشريع في هذه المسألة. ويضرب سماحته مثلاً على ما جرى من وضع اليد على أملاك الدّولة وأجهزتها في العراق، باعتبار أن لا مالك لها، ويؤكد "بأنَّنا لا نوافق على ما جرى من وضع اليد على أملاكٍ وأجهزةٍ، والتي هي عبارة عن عمليّة عقلائيَّة اعتباريَّة، حيث تتحوّل قوانين الملكيّة إلى واقع اعتباريّ ، ويلتزم به النّاس، فيكون له الشرعيّة في هذا المجال، فيمكن اعتبار الملكيّة للجهة تماماً كما نعتبر الملكيّة لشخص في هذا المقام، لأنّ الملكيّة هي أمر اعتباريّ.
ويوضح السيّد: "وفي اجتهادي الفقهيّ، أجد أنّ مسألة الملكيّة هي أمر اعتباريّ عقلائيّ، فالعقلاء في تنظيمهم لأمورهم العامّة من قبل أن تولد القوانين في العالم، يحاولون تنظيم حياتهم بمواضعات معيّنة، ويخضع هذا التّنظيم للمصالح الّتي يفرضها الواقع والنّظام للمجتمع العام ... إنّني أعتبر أنّ الملكيّة هي كما لاحظنا عند الفقهاء، عمليّة اعتباريّة يَعتبر فيها العقلاء الشّيء ملكاً، فما يتأتى من اعتبار هذا الشّيء مالاً، إنما هو فيما إذا كان يختزن في خصوصيّاته وفي عناصره منافع معيّنة عامّة بهذا المعنى، ولذلك فكما نعتبر الدّار مالاً، ونعتبر البستان والأرض مالاً، أيضاً نعتبر الكتاب مالاً".
ويضيف سماحته: ونحن ، بحسب فتوانا ـ وهناك أيضاً بعض الفقهاء المتأخّرين قد يرون ذلك ـ نعتبر الملكيّة الفكريّة، في نطاق كلّ المجتمعات التي تعتبر الملكية الفكريّة، لأنّ هناك ربما بعض المجتمعات الموجودة في العالم الّتي لا تعتبر مجتمعاتها الملكيّة الفكريّة، بحيث تعتبر أنّ الإنتاج الفكريّ لا يكون مالاً عندها، ولذلك فلا اعتبار لها من ناحية ترتيب آثار الماليّة أو آثار الملكيّة، ولكن في كلّ المجتمعات الّتي أصبحت تعتبر، سواء على مستوى القانون الموضوع في الدّولة، أو على مستوى انقلاب هذا القانون في عرف النّاس، بحيث إنّ النّاس يتداولونه كشيء مقبول عندهم...
ويعرض سماحته للتخلّف وعناصره وأسبابه الموجودة في الواقع الإسلاميّ، وبأنّها ليست منطلقة من الإسلام، وإنما هي منطلقة من طبيعة التّراكمات التاريخيّة الّتي أحاطت بالواقع الإسلاميّ، وما يتعلّق بهذه التّراكمات ونتائجها على كلّ الصّعد.
بطاقة البحث : بحث لنيل شهادة الجدارة في معهد العلوم الاجتماعيّة ـ الفرع الأوّل / الجامعة اللّبنانيّة ـ تحت عنوان :الملكيّة الفكريّة في الاقتصاد الاجتماعيّ ـ إعداد: "حسين دياب"، إشراف "الدّكتور نظير جاهل"، العام الدراسي: 2006 - 2007 م
[1] المواضعة : مصطلح تجاري، اقتصادي .