من بين أسرار الصَّوم، فيما جاء الحديث به عن أئمَّة أهل البيت (ع)، أنَّ الصَّوم يعطي بعض النَّاس الَّذين لا يعرفون الجوع، فرصةً للإحساس بالجوع، حتَّى يفهموا ما معنى الجوع، فإذا فهموه، أمكنهم أن يتحسَّسوا مشاعر الجائعين وأحاسيسهم، لأنَّ الكثيرين من النَّاس، ممن أعطاهم الله سعةً في المال، إذا حدَّثْتَهم عن الجوع والجائعين، لا يفهمون المسألة، لأنَّهم لم يعيشوا تجربته. ولذلك، أراد الله سبحانه وتعالى أن يعيشوا تجربة الجوع في هذا الشَّهر المبارك، حتَّى يفهموا قسوة الجوع على الجسد، ليتفاعلوا مع الجائعين عندما يفهمون سرَّ المشكلة.
ومن الطَّرافة أنَّ النَّاس يتحدَّثون دائماً عن ملكة فرنسا قبل الثَّورة الفرنسيَّة، عندما كان النَّاس يتظاهرون ويصرخون: الخبز الخبز، وقالت: ماذا يريدون؟ قالوا: إنّهم يريدون الخبز، فأجابت: فليأكلوا البسكويت، لأنّها لا تفهم معنى أن يفقد الإنسان الخبز ويجوع، ربما كانت تتصوَّر أنَّ الأفران قد أُغلِقت، فرأت أنَّ بإمكانهم أن يشتروا البسكويت.
وهذا ما قد نلاحظه في الكثير من المسؤولين الَّذين يملكون المال الكثير، ولا يعيشون أيَّ مشكلة اجتماعيَّة أو شخصيَّة، فيما تتحرَّك به الأزمات الاقتصاديَّة في الناس، فيتحدَّثون كما لو لم يكن هناك مشكلة في البلد، ولم يكن هناك جوع في البلد، ويقولون إنَّ البلد بخير، لأنهم لا يفهمون هذه المشكلة، لأنهم لا يعرفونها.
الغايةُ من الصَّوم
ونقرأ نصّاً للإمام الصَّادق (ع) في هذا المجال. عن هشام بن الحكم، أنَّه سأل أبا عبد الله (ع) عن علَّة الصِّيام، فقال: "إنَّما فرضَ اللهُ الصِّيامَ ليستويَ به الغنيُّ والفقيرُ، وذلكَ أنَّ الغنيَّ لم يكن ليجدَ مسَّ الجوعِ فيرحمَ الفقيرَ، لأنَّ الغنيَّ كلَّما أرادَ شيئاً قدرَ عليه، فأرادَ اللهُ تعالى أن يسوِّيَ بينَ خلقِهِ، وأن يذيقَ الغنيَّ مسَّ الجوعِ والألمِ، ليرقَّ على الضَّعيف ويرحمَ الجائع".
إذاً، الصَّوم بحسب طبيعته، كما أنّه يذكِّرنا بجوع يوم القيامة وعطشه، فإنِّه يذكِّرنا أيضاً بجوع النَّاس وعطشهم، من أجل أن يكون ذلك وسيلةً من وسائل تحسّس المشكلة، والانفتاح على ما أراده الله سبحانه وتعالى للنَّاس، بأن يتكافلوا فيما بينهم، وأن ينفقوا مما آتاهم الله من فضله، ولا سيَّما أنَّ القرآن يركِّز دائماً على أنَّك عندما تعطي، فإنَّك لا تعطي من مالك، وإنَّما تعطي من مال الله، وأنَّ الله جعلك وكيلاً على مالك، تنفق منه على نفسك وعيالك ما تحتاج إليه، مما يحقِّق لك حاجاتك، ويحفظ لك ماء وجهك، ولكنَّ الله فرض عليك أن تدفع للفقراء بعضاً من هذا المال، لا من موقع الإحسان الذَّاتيّ، ولكن من موقع الحقّ المفروض الواجب {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النّور: 33]، {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[الحديد: 7] يعني وكلاء فيه. وهكذا نقرأ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج: 24 – 25]، فاعتبرَه حقَّاً، ولم يعتبره مجرَّد شيء ذاتيّ يخرجه الإنسان، وفي أيّ آيةٍ أمر الله فيها بالصَّلاة، قرنها بالزَّكاة {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة: 110].
البخلُ بدفعِ الحقوق
ثمَّ يحدِّثنا الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء الَّذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله، ممن فرض الله عليهم الحقَّ الشَّرعيَّ للمحتاجين إليه، ممن ذكرهم الله في كتابه، وتحدَّث عنهم النَّبيّ (ص) في سنَّته.
يقول تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم - لا تعتبر أنّك إذا امتنعت عن دفع الحقِّ الشَّرعي الواجب عليك من الخمس أو الزكاة، أو امتنعت عن التصدّق بما يستحبّ الصَّدقة به، لا تعتبر أنَّك رابح، وأنَّك وفَّرت على نفسك، وذلك على لغة هؤلاء النَّاس الَّذين يقولون كما في سورة يس: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}[يس: 47]، فالله هو الَّذي خلقهم، وهو الّذي يتكفَّل بهم، كما يقول، فيعتبر أنّه إذا امتنع عن دفع الحقِّ الشَّرعيّ أو الصَّدقة، فهذا خير له، لأنّه يكون قد وفَّر لنفسه مالاً، ولكنَّ الله يقول - بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ - لأنَّهم بذلك يمكن أن يساهموا في أن يمنعهم الله من سعة الرزق عليهم - سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - فكما الطَّوق والقيد الَّذي يقيِّد عنقك، فالله يقول إنَّ هذا المال الَّذي منعته عمَّن يستحقُّه من الفقراء والمساكين، ستطوَّق به يوم القيامة بطوقٍ من نار - وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[آل عمران: 180]، كلّكم تموتون، ويرث الله السَّموات والأرض، وكلّ الأمور ترجع إلى الله.
عاقبةُ كنزِ المال
ويقول الله عن بعض النَّاس الَّذين يكنزون المال من دون أن ينفقوه في سبيل الله مما فرض الله عليهم في ذلك: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}[التَّوبة: 34 - 35]، إنَّ ما يكنزونه سوف يتحوَّل إلى نار تحرقهم وتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ - يقول: اللَّهمَّ ارزقني، وإذا رزقتني سوف أتصدّق وأعطي الفقراء - لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ - أراد الله أن يختبرهم - بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ – نتيجة الانحراف عن العهد الَّذي عاهدهم عليه - إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[التّوبة: 75 - 77].
وهكذا نجد أنَّ الله يقول لك أسرع وعجِّل في الإنفاق: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقنَـٰكُم مِّن قَبلِ أَن یَأتِیَ أَحَدَكُمُ ٱلمَوتُ فَیَقُولَ رَبِّ لَولَاۤ أَخَّرتَنِیۤ إِلَىٰۤ أَجَل قَرِیب فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّـالِحِینَ}[المنافقون: 10]، فعندما يأتي الموت، يبدأ باستعراض شريط حياته؛ هذه الأموال الَّتي اكتنزها سوف يخرج صفر اليدين منها، ولن يكون له منها إلَّا الكفن، وسيرثها قوم آخرون، قد يكونون أولاداً له، أو إخوة، وربما يتنعَّمون بها، فيكون لهم المهنأ وعليه الوزر، فيقول يا ربّ، لم أكن أعرف أنَّ القضيَّة بهذا الشَّكل، أمهلني شهراً أو شهرين حتَّى أتصدَّق وأخرج حقوقي وما إلى ذلك، فيجيبه الله في هذا المجال: {وَلَن یُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفسًا إِذَا جَاۤءَ أَجَلُهَا وَٱللَّهُ خَبِیرُ بِمَا تَعمَلُونَ}[المنافقون: 11].
الجانبُ الإيجابيُّ في الإنفاقِ
وعندما نتابع في هذا المقام، نجد أنَّ الله يقول إنَّ سرَّ الفلاح أن لا تكون بخيلاً، وخصوصاً على نفسك. يقول تعالى: {وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ - كلّ ما تنفقه من مالٍ هو خيرٌ لنفسك - وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[التَّغابن: 16]، أي أنَّ الَّذي يقيه الله وينقذه من البخل الَّذي يمنعه من العطاء، هو الَّذي يتَّخذ صفة الفلاح.
وعندما يحدِّثنا الله عن الجانب الإيجابي في الإنفاق، يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}[التّوبة: 103]، فالصَّدقة تزكِّي نفسك وتطهِّرها.
وقد حدَّثنا الله عن تضاعف الصَّدقة: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}[البقرة: 261].
دفعُ الزّكاةِ تحصينٌ للمال
وفي ضوء هذا، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ أن ندرس مسألة الحقوق الشَّرعيَّة، على أساس أنَّ مالك شراكة بينك وبين الفقراء والمساكين الَّذين يستحقّون هذا المال.
ففي الحديث عن الإمام الصَّادق (ع): "إنَّ الله عزَّ وجلَّ فرضَ للفقراءِ في أموالِ الأغنياءِ ما يسعُهم بهِ، ولوْ علمَ أنَّ ذلكَ لا يسعُهم لزادَهُم، إنَّهم لم يؤتوا مِنْ قِبَلِ فريضةِ اللهِ عزَّ وجلَّ – بمعنى أنَّ المسألة ليست أنَّ الله لم يفرض لهم شيئاً يستطيعون أن يكملوا به حياتهم - ولكنْ أوتوا مِنْ مَنْعِ مَنْ منعَهم حقَّهم - أي أنَّ مشكلةَ الفقراء ليسَتْ في أنَّه ليسَ هناك تشريعٌ إسلاميّ يضمن لهم حياتهم، ويحقِّق لهم نوعاً من الضَّمان الاجتماعي والتَّكافل الاجتماعيّ، ولكنَّ مشكلتهم إنَّما هي في منعِ مَنْ منعهم حقَّهم، لا مما فرض الله لهم - ولو أنَّ النَّاسَ أدّوا حقوقَهم، لكانوا عائشين بخير".
ويقول الإمام الباقر (ع) فيما روي عنه: "إنَّما وُضِعَتِ الزَّكاةُ قوتاً للفقراءِ، وتوفيراً لأموالِكم"، فأنت تعتبرُ أنَّ الزكاة تنقص مالك، ولكنَّ الله يعطيك البركة بما تخرجه من مالك، فيوفِّر لك هذا المال، لأنَّ الزّكاة تحصِّن مالك: "حصِّنوا أموالَكم بالزَّكاةِ"، فإذا أردتم أن تحصِّنوا هذه الأموال من الضَّياع، فزكّوها.
ويقول الإمام الصَّادق (ع): "إنَّما وُضِعَتِ الزّكاةُ اختباراً للأغنياءِ، ومعونةً للفقراءِ، ولوْ أنَّ النَّاسَ أدّوا زكاةَ أموالِهم، ما بقيَ مسلمٌ فقيراً محتاجاً، ولاستغنى بما فرضَ اللهُ عزَّ وجلَّ له، وإنَّ النَّاسَ ما افتقروا، ولا احتاجوا، ولا جاعوا، ولا عروا، إلَّا بذنوبِ الأغنياءِ، وحقيقٌ على اللهِ تباركَ وتعالى أن يمنعَ رحمتَهُ مَنْ منعَ حقَّ اللهِ في مالِهِ".
مانعُ الحقِّ الشَّرعيِّ غاصبٌ
هذه، أيُّها الأحبَّة، النصوص القرآنيَّة ونصوص السنَّة في هذه المسألة المهمَّة، وهي مسألة المشاركة الاجتماعيَّة بين الفقراء والأغنياء، بين الَّذين فُرِضَتْ عليهم الحقوقُ الشَّرعيَّة، وبين من يستحقّونها، وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل هناك ميزانيَّة احتياطيَّة للواقع الاجتماعيّ الإسلاميّ الَّذي ينطلق به النَّاس من أجل أن يوفِّروا كلَّ حاجاته، سواء كانت هذه الحاجات حاجات شخصيَّة للفقراء واليتامى والمساكين، بالطَّريقة الفرديَّة، أو كانت حاجات عامَّة، كالمشاريع الخيريَّة الَّتي تعمل على رعاية الفقراء والمساكين والمحرومين، فيما يسدّ حاجاتهم، وفيما يؤمِّن تربيتهم، وفيما يرفع مستواهم.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّ الَّذي يمنع حقَّ الله، يعتبر بالمنطق الشَّرعيّ غاصباً للمال. أنت الآن إذا لبسْتَ ثوباً في الصَّلاة وفيه حقّ الخمس، ولم تدفع خمسه، فصلاتك باطلة، لأنَّك صلَّيت في ثوب مغصوب، لأنَّ هذا الثَّوب الّذي يتعلَّق فيه الخمس، هو شراكة بينك وبين الفقراء، وإذا أحرمت بمالٍ لم تخمِّسه، بطلَ إحرامك، لأنَّ هذا المال قسم منه مغصوب من صاحبه... وهكذا، لا يجوز لك أن تتصرَّف بمالك الَّذي يتعلَّق به حقُّ الله سبحانَهُ وتعالى، إلَّا بعد أن تُخرِجَ خمسَهُ، لأنَّ المالَ الَّذي يتعلَّقُ به الخمسُ، أنت لك أربعة من خمسة منه، فهذا المال ليس كلُّه لك، هناك واحد من خمسة شركة بينك وبين الفقراء. بعض النَّاس يقول، مثلاً، أنا أعطي من مالي، ولكنَّ الله الَّذي أعطاك هذا المال، وسهَّل عليك طريق الوصول إليه، هو الَّذي جعلَ لك أربعةً من خمسةٍ منه، وجعل الخامس للفقير، وهكذا بالنِّسبة إلى الزكاة.
لهذا، أيُّها الأحبَّة، إنَّ الَّذي يمنع حقَّ الله في ماله، هو سارق وغاصب من الفقراء والمساكين وأبناء السَّبيل وفي سبيل الله، ويعامَل في الشَّريعة الإسلاميَّة معاملة كلِّ غاصبٍ ومعتدٍ على المال الَّذي ليس له.
دفعُ الحقوقِ.. وحرّيّةُ الموقفِ
ولذلك، فإنَّ علينا، أيُّها الأحبَّة في هذا الشَّهر المبارك، أن نعمل على أن نخرج حقوق الله سبحانه وتعالى من أموالنا، وعندَ ذلك، لن نحتاجَ إلى كثيرٍ من هذه المناسبات الاجتماعيَّة، وأن نجمع النَّاس بطريقةٍ وبأخرى في كلِّ عملٍ خيريّ، وكلّ مشروعٍ اجتماعيّ، لأنَّ النَّاس إذا أخرجوا الحقوق الشَّرعيَّة من أموالهم، وإذا صُرفَتْ هذه الحقوق الشّرعيَّة في مواردها، فلم يستغلَّها المستغلّون، فإنَّنا بذلك نكون قد أمّنّا للمجتمع الإسلاميِّ فائضاً من أموالنا، نملك فيه أن نحقِّق الكثيرَ من المشاريع للمجتمع، سواء على مستوى المشاريع التربويَّة أو الخيريَّة أو الاجتماعيَّة.
ولعلَّ بركة هذه الحقوق الشَّرعيَّة في مجتمعنا، ولا سيَّما المجتمع الإسلاميّ الشّيعي، أنَّ قيام المرجعيَّات والحوزات العلميَّة، وقيام كلِّ المشاريع الخيريَّة بشكل عام، كان من خلال الحقوق الشَّرعيَّة، يعني الآن لولا الحقوق الشّرعيَّة، لما كان هناك إمكانيَّة أن يكون عندنا حوزة علميَّة في النَّجف، أو حوزة علميَّة في قمّ، لأنَّ هؤلاء الطلَّاب متفرّغون، ولا بدَّ من رعايتهم ماليّاً من خلال القائمين على الحوزة، ومن خلال أهاليهم. وهكذا بالنِّسبة إلى المشاريع الخيريَّة، يعني الآن هذا المشروع الخيريّ هو حقوق شرعيَّة، وهذا المستشفى إلى جانبكم، هو حقوق شرعيَّة، المبرَّات أغلبها حقوق شرعيَّة، وهكذا المؤسَّسات الأخرى، وحتَّى عندما ينطلق خطُّ الجهاد في خطِّ المقاومة الإسلاميَّة، وكلّ مقاومة شرعيَّة، الغالب من هذا، إنَّما هو الحقوق الشَّرعيَّة.
إنَّ هناك نقطة نلاحظها بشكلٍ أساسيّ، وهي أنَّ سرَّ هذه الحريَّة في الكلمة، وفي الموقف، والحريَّة أمام الحاكمين، والحريَّة أمام الاستكبار العالميّ، سرّ هذه الحريَّة عند علماء المسلمين الشّيعة، هو أنَّهم تحرَّروا من الوظائف، وأنَّهم لا يحتاجون إلى الدَّولة، باعتبار ما يخرجه المؤمنون من الحقوق الشَّرعيَّة، وهذا الشَّيء يعترف به كلُّ علماء الطَّوائف الأخرى، فهم يقولون إنَّ الخمس عندكم، هو الَّذي يجعل العالم الدِّيني المجاهد المنفتح، يجعله حرّاً، لأنّه يستطيع أن يموِّل كلَّ الأعمال في الدَّعوة إلى الله، وفي العمل في سبيل الله، وفي الجهاد في سبيل الله، وفي كلِّ أعمال الخير والأعمال التربويَّة، من خلال هذه الحقوق الشَّرعيَّة، يعني من الصَّعب جدّاً أن تجد في لبنان كلِّه، في أيِّ موقع من مواقعه، حسينيَّةً أو جامعاً أو مدرسةً من المدارس الموجودة في صور وغيرها، لا يكون مصدر تمويلها هو الحقوق الشَّرعيَّة، حتَّى إنَّ علماءنا في السَّابق، وإن تغيّرت الأمور الآن، كانوا يهربون من الحكومة الَّتي تعطيهم المال.
أنا أعرف بعض العلماء في بغداد، عندما فرضت الحكومة عليهم أن يأخذوا معاشاً، رفضوا أخذ المعاش وتركوا المسجد، لأنَّه يريد أن يكون حرّاً، ويقول عندما آخذ معاشاً، فمعنى ذلك أنّي صرت تحت تأثير الدَّولة، ولن آخذ حريّتي في الكلام، وما إلى ذلك.
لذلك، علينا أن نفكِّر في هذه المسألة كتكليفٍ شرعيّ أوَّلاً، وعلى الإنسان أن يعرف أنَّ الحقّ الشَّرعيَّ في ماله، سواء في الخمس أو الزكاة، ليس له، فإذا منعه من أصحابه، كان غاصباً ومعتدياً وسارقاً، و{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ}[آل عمران: 180]، وكما قرأنا {فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ}[التَّوبة: 35]. وهذه نقطة ذاتيَّة، وهي نقطة حسابك مع الله.
وهناك نقطة اجتماعيَّة، وهي أنَّ علينا أن نحافظ على حريَّة مراجعنا وحريَّة علمائنا، ولا سيَّما العلماء الَّذين تحرَّروا من سيطرة الظَّالمين، ولم يعطوا بأيديهم إعطاء الذَّليل، والَّذين يعملون من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ومن أجل أن يستغنوا بمال الله سبحانه وتعالى عن مال المستكبرين والظَّالمين، لأنَّنا كلّنا نعرف أنَّ من يملك المال يملك القرار، فإذا كنت تطلب مالاً من الدَّولة، فعليك أن تخضع للدَّولة، وإذا كنت تطلب مالاً من الدّول الغنيَّة الموجودة في البلاد العربيَّة، فعليك أن تخضع لشروطهم السياسيَّة والأمنيَّة وغيرها.
ولذلك، أيُّها الأحبَّة، القضيَّة تتَّصل بالجانب الذاتي للإنسان، وتتَّصل بالجانب الاجتماعي لواقع الفقراء والمحرومين، وتتَّصل بالجانب السياسيّ في أن يكون هؤلاء النَّاس الَّذين يعملون لله، أحراراً في قراراتهم وفي مواقعهم.
البطَّالونَ المستغلّون
ومن الطبيعي أنَّنا عندما نتحدَّث عن ضرورة أن يدفع النَّاس حقوقهم الشَّرعيَّة، نتحدَّث أيضاً أن لا يستغلَّ الحقوق الشَّرعيَّة البطَّالون الَّذين لا شغل لهم إلَّا أن يأخذوا المال من هنا وهناك، دون أن يقدِّموا إلى المجتمع شيئاً، ودون أن يقدِّموا إلى الإسلام شيئاً. إنَّ شرعيَّة أن يأخذ أيّ إنسان متفرّغ مالاً من الحقوق الشَّرعيَّة، أن يعمل في سبيل الله، وأن يعتبر نفسه موظَّفاً عند الله وعند صاحب الزَّمان (عج) الَّذي هو إمامنا في هذا العصر، فمن لم يعمل ولم ينطلق، فليس له حقٌّ في ذلك.
هذه نقطة لا بدَّ أن نعيشها في هذا الشَّهر المبارك، أن يحاسب الإنسان نفسه الآن، قبل أن يقف في يوم لا مجال لأن يحاسب نفسه: "حاسِبوا أنْفُسَكُم قَبلَ أنْ تُحاسَبوا، وزِنوها قَبلَ أنْ تُوزَنوا".
الخطبة الثّانية
عباد الله، اتَّقوا الله في كلِّ ما يسألكم عنه غداً، سواء في أموالكم أو في أنفسكم أو في أهليكم أو في كلِّ الناس من حولكم، فإنَّ الله سيسأل الإنسان في يوم القيامة عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله مما اكتسبه، وفيما أنفقه، وسيسألنا الله سبحانه وتعالى عن كلِّ ما حمَّلنا من مسؤوليَّةٍ على مستوى الواقع الذّاتيّ والواقع الاجتماعيّ والواقع السياسيّ، بما يتَّصل بأمور الفرد والجماعة والأمَّة والمسلمين جميعاً.
لذلك، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، أن نُشغِلَ أنفسنا دائماً بالتَّفكير فيما كلَّفنا الله به، وفيما حمَّلنا مسؤوليَّته، فإنَّ مَنْ عَرَفَ ما هي مسؤوليَّتُهُ، وعملَ على أساسِ تنفيذِها، كان من المصلحين النَّاجحين عندَ الله. أمَّا من لم يعرف مسؤوليَّته جيِّداً، فقد يبتعد عن المسؤوليَّة، ويحاسبه الله غداً. إنَّ الحساب حسابٌ دقيقٌ دقيق، فليحضِّر كلُّ واحدٍ منَّا حساباته، وليكن دقيقاً في حساباته، حتَّى يكون موقفه موقفاً سهلاً سريعاً يوم القيامة، لأنَّ الَّذين لا يتقنون حساباتهم يوم القيامة، سوف يطول وقوفهم بين يدي الله، وسوف يطول جوعهم وعطشهم هناك.
لذلك، لا بدَّ لنا أن نتحسَّس مسؤوليَّاتنا في حياتنا في المجتمع الَّذي نحن جزء منه؛ كيف نعمل على صيانته من الاختلاف والتَّنازع والتَّحاقد والتَّباغض، كيف ننشر المحبَّة في هذا المجتمع، ليحبَّ النَّاس بعضهم بعضاً، فإنَّ الدّين، كما ورد عن الإمام الصَّادق (ع)، هو الحبّ، "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
علينا أن ندرس كلَّ نقاط الضّعف في مجتمعنا، حتَّى نستطيع أن نشارك في التَّخفّف منها، وفي تحويل نقاط الضّعف إلى قوَّة. وهكذا لا بدَّ لنا أن ندرس كلَّ واقع الأمَّة، حتَّى نعرف كيف نساهم فيما يمكن أن ينقذ الأمَّة.
ضغطٌ أمريكيٌّ على المنطقة
وهذا ما نتحدَّث عنه في الدَّائرة الفلسطينيَّة، فلا يزال وضع التَّسوية يراوح مكانه في مقدار الانسحاب الصّهيوني من الضفَّة الغربيَّة، وفي الشروط الصهيونية للتسوية، وفي الحديث الأمريكي عن ضرورة الحفاظ على أمن العدوّ من قبل الفلسطينيّين، وضرب المجاهدين من الإسلاميّين، وإسقاط بنيتهم التحتيَّة. هذا هو الَّذي تتحدَّث عنه أمريكا بالصَّوت العالي، وهذا هو ما تريده وتريد أن تفرضه على الفلسطينيين.
أمَّا على المستوى العربيّ، فهناك أكثر من زيارة لموفد أمريكيّ للمنطقة، بحجَّة إيجاد آفاق التسوية على المسار اللّبناني السوري، ولكنَّ الخضوع والعجز الأمريكيّ أمام التصلّب الصهيونيّ، هو الَّذي يعطّل كلّ شيء، ويصرخ في وجه العرب أنَّ الكرة باتت في ملعبهم، تعبيراً عن هذا المأزق السياسي الَّذي أصاب الموقف الأمريكيَّ في الوقت الحاضر.
إنَّ المشكلة هي أنَّ العرب يطالبون أمريكا بالضَّغط على إسرائيل لتقديم بعض التَّنازلات في مسألة التَّسوية، ولكنَّ أمريكا لا تريد ذلك، لأنَّ خيارها الوحيد هو الضَّغط على العرب لحساب المصلحة الإسرائيليَّة في الحصول على أكبر قدر من التنازلات العربيَّة في هذا الموضوع.
إنّ مشكلة العرب ومشكلة الكثيرين من المسلمين، أنَّهم لم يفهموا ما معنى أمريكا بالنِّسبة إلى إسرائيل؛ إنَّهم يطالبونها ويطالبونها، وهي لا تقدِّم أيَّ شيء، لأنَّ قضيَّة إسرائيل عندها، قد تكون أكثر من قضيَّة ولاية أمريكيَّة من الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، لأنَّ اليهود قد سيطروا على السياسة الأمريكيَّة في كلِّ قراراتها، ولا سيَّما في منطقة الشَّرق الأوسط.
الثَّباتُ الإيرانيُّ
إنَّ البلد الوحيد الَّذي فهم ما معنى أمريكا، وفهم صفة الشَّيطان الأكبر في أمريكا، هو الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، من خلال قائدها ورائدها ومفجِّر ثورتها الإمام الخميني (رض)، الَّذي حدَّق، وهو العارف بالله، بكلِّ واقع المستكبرين، ولا سيَّما في الاستكبار الأمريكيّ، فرأى أنَّ كلَّ سياستهم، وكلَّ حركتهم، وكلَّ علاقاتهم، وكلَّ أوضاعهم، هي الضَّغط على الشّعوب المستضعفة، ولا سيَّما الشعوب الإسلاميَّة. وهكذا رأى أنَّ أمريكا عملت بكلِّ ما عندها من طاقة، ومعها كلَّ المستكبرين في الأرض، عملت على زرع هذه الغدَّة السرطانيَّة في قلب الواقع العربيّ والإسلاميّ، ولذلك وقف هذا الإمام، ووقف كلُّ خلفائه ومَنْ بعدَه، الموقفَ الصَّلبَ ضدّ كلّ استغلال أمريكيّ لأيّ نقطة ضعف في هذه الدَّولة أو تلك، ووقفوا بصبر وثبات وعزيمة وقوَّة في مواجهة كلِّ هذا الحصار الاقتصادي والسياسي، واستطاعوا بفضل الله سبحانه وبعونه، ولأنَّ الله ينصر من ينصره، استطاعوا أن يعملوا على أساس أن يفشِّلوا هذا الحصار اقتصادياً وسياسياً.
وإذا كانت أمريكا تتحدَّث الآن عن أنَّ إيران سوف تزحف إليها، من خلال أنَّ هناك بعض التَّغييرات السياسيَّة في المواقف، فإنَّ أمريكا في الظَّاهر لا تفهم معنى الجمهوريَّة الإسلاميَّة، ولا تفهم معنى القرار فيها؛ إنَّه لا يملكها شخص، إنَّ القضيَّة أنَّ هناك هيئة بقيادة الوليّ الفقيه، تقف من أجل أن تخطِّط ليكون الجميع متعاونين على التَّنفيذ، ولكن قد تختلف اللّغة بين مسؤول وآخر، قد تكون هناك لغة في الدبلوماسيَّة، وقد تكون هناك لغة في المواجهة، ومهما اختلفت اللّغات، فإنَّ المسألة واحدة، كما قال ذلك الشَّاعر:
عباراتُنا شتَّى وحسنُكَ واحدٌ وكلٌّ إلى ذاكَ الجمالِ يشيرُ
إنَّنا نعتقد أنَّ الجمهوريَّة الإسلاميَّة، بما تحمله من مسؤوليَّة الإسلام في مواقعها، لا يمكن أن تعطي بيدها إعطاء الذَّليل، أو أن تقرَّ إقرارَ العبيد، إنَّها لا تريد أن تعادي العالم، ولكن تريد أن تكون علاقاتها، حتّى لو أريد للعلاقات أن تعود مع أمريكا، أريد لعلاقتها أن تكون علاقات مبنيَّة على أساس الاحترام المتبادل للمستضعفين، وعلى أساس المصالح المتبادلة، بأن تعطي أمريكا للشَّعب الإيرانيّ حقَّه، وللشّعوب المستضعفة حقَّها.
لذلك، ليست المسألة كما يصوِّرها الإعلام بين يومٍ وآخر، أو مسألة مقابلة تلفزيونيَّة توحي بتغيير السياسة؛ لن تتغيَّر السياسة، ولكن التَّكتيك تغيَّر.
محورٌ جديدٌ في المنطقة
وهكذا ننتقل إلى النّطاق التركي الإسرائيلي، فقد برز محور دوليٌّ جديد في المنطقة، تقوده أمريكا، وتقف الأرض الخاضعة للسياسة الأمريكيَّة على هامشه، من أجل الضَّغط على سوريا من جهة، والعراق وإيران من جهة أخرى، وقد تمثَّل ذلك في المناورات البحريَّة المشتركة بين الدّول الأربع، الَّتي قيل إنَّها تحمل بعداً إنسانيّاً من أجل إنقاذ الزَّوارق الضَّائعة في البحر والنَّاس التَّائهين فيه.. قيل ذلك، ولكنَّنا نعرف أنَّها غطاء للبعد العسكريّ السياسيّ الّذي عبَّرت عنه الأطراف المشاركة، لأنَّ العدوَّ المشترك لها، هو القوى الدَّاعمة للإرهاب الأصوليّ، كما تسمِّيه.
إنَّنا ندعو إلى قيام محور سياسيّ جديد في المنطقة، عبر تحالف عربيّ إسلاميّ، يكون ردّاً على ذلك، من أجل مواجهة هذا الخطر الجديد المترتّب على التحالف الصّهيوني التركي المدعوم من أمريكا، لأنَّ ذلك قد يؤسِّس لمرحلةٍ تحدَّث عنها مسؤولون أمريكيّون في السَّابق، وقالوا أن لا دور للعرب في أمن المنطقة، وإنَّ أمريكا، كما صرَّح أحد المسؤولين أثناء المناورات، تخاف من حصول محور في المنطقة في مقابل المحور التركي الإسرائيلي، ولذلك عبَّر مسؤولوها أنَّه ليس من المصلحة أن يكون هناك محور جديد، لأنَّها تخاف من هذا المحور العربيّ الإسلاميّ، بعد أن حصل التقارب بين إيران وبين الدَّول العربيَّة والدّول الإسلاميَّة في القمَّة الإسلاميَّة، إنَّها تخاف من هذا التَّقارب وهذا التعاون أن يتحوَّل إلى محور سياسيّ يُسقِط المحور التركي الإسرائيلي. ولذلك نحن ندعو العرب والمسلمين أن يعملوا، إذا أرادوا أن يتخفَّفوا من الخطر القادم الَّذي يراد له أن يطوِّقهم سياسيّاً وأمنيّاً وعسكريّاً، أن يعملوا على إيجاد هذا المحور.
القرارُ 425 غطاءٌ صهيونيّ
وفي الدَّائرة الجنوبيَّة للاحتلال الإسرائيليّ، يأتي الطَّرح الإسرائيليّ مترافقاً مع الحركة الأمريكيَّة الأخيرة في لبنان، عبر الموفدين الأمريكيّين، وهو تنفيذ القرار 425، الَّذي لم يكن سوى غطاء للشّروط الصّهيونيّة المعقَّدة في الترتيبات الأمنيَّة، وتوقيع معاهدة أمنيَّة بين إسرائيل ولبنان. وقد نلاحظ في هذا الإطار، أنَّ علينا وعلى كلِّ المعنيّين، أن ندرس القرار المذكور بأنَّه مربوط بالقرار 426 الَّذي قد يؤكِّد على الترتيبات الأمنيَّة أو شيء من هذا القبيل، ما يجعل من الحديث عن الانسحاب دون قيد أو شرط، كما يهلِّل به المتحدّثون عن القرار 425، مجرَّد حديث لا واقع له، حتَّى على مستوى القرار.
خطورةُ فصلِ المسارين
إنَّ هناك خطَّة جديدة تتحرَّك بها أمريكا بوسائلها الخاصَّة، لإزعاج سوريا ولبنان، ومحاولة الضَّغط عليهما، بالتَّلويح بفصل المسار اللّبناني عن المسار السوري الَّذي أريد لبعض الدّول الأوروبيَّة التحرّك في اتجاهه، وهذا مما يكمل الخطَّة الإسرائيليَّة في الاستفراد بلبنان في المفاوضات، لتفرض عليه شروطه الضَّاغطة من جهة، ولإضعاف الموقف السوري من جهة أخرى.
وعلى الجميع أن يعرف أنَّ قوَّة الموقف في جنوب لبنان، مرتبط عضوياً بقوَّة الموقف في الجولان، وأنَّ المسار الفلسطيني لن يكون في موقع قوَّة، إلَّا إذا ارتبط بالمسارين السوري واللّبناني.
الارتفاعُ إلى مستوى التَّحرير
وأخيراً، إنَّ الأزمات المتلاحقة الَّتي يعيشها الواقع السياسي والإعلامي في لبنان، والدوَّامة الَّتي يتخبَّط فيها، قد تبعد اللّبنانيّين عن الالتفاف على الاستحقاقات الكبرى في قضايا المنطقة، وفي مقدَّمها قضايا التحرير والتسوية. ولذلك، فإنَّ من مسؤوليَّتهم الارتفاع إلى مستوى التَّحرير، واعتبار التحرير عنواناً لكلِّ النشاطات السياسيَّة والشعبيَّة في المرحلة الحاضرة، لأنَّ أيَّ هروب من هذه التحدّيات المصيرية، يمثّل هروباً من الوطن كلِّه، ومن الأمَّة كلِّها.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 09/ 01/ 1998م.
من بين أسرار الصَّوم، فيما جاء الحديث به عن أئمَّة أهل البيت (ع)، أنَّ الصَّوم يعطي بعض النَّاس الَّذين لا يعرفون الجوع، فرصةً للإحساس بالجوع، حتَّى يفهموا ما معنى الجوع، فإذا فهموه، أمكنهم أن يتحسَّسوا مشاعر الجائعين وأحاسيسهم، لأنَّ الكثيرين من النَّاس، ممن أعطاهم الله سعةً في المال، إذا حدَّثْتَهم عن الجوع والجائعين، لا يفهمون المسألة، لأنَّهم لم يعيشوا تجربته. ولذلك، أراد الله سبحانه وتعالى أن يعيشوا تجربة الجوع في هذا الشَّهر المبارك، حتَّى يفهموا قسوة الجوع على الجسد، ليتفاعلوا مع الجائعين عندما يفهمون سرَّ المشكلة.
ومن الطَّرافة أنَّ النَّاس يتحدَّثون دائماً عن ملكة فرنسا قبل الثَّورة الفرنسيَّة، عندما كان النَّاس يتظاهرون ويصرخون: الخبز الخبز، وقالت: ماذا يريدون؟ قالوا: إنّهم يريدون الخبز، فأجابت: فليأكلوا البسكويت، لأنّها لا تفهم معنى أن يفقد الإنسان الخبز ويجوع، ربما كانت تتصوَّر أنَّ الأفران قد أُغلِقت، فرأت أنَّ بإمكانهم أن يشتروا البسكويت.
وهذا ما قد نلاحظه في الكثير من المسؤولين الَّذين يملكون المال الكثير، ولا يعيشون أيَّ مشكلة اجتماعيَّة أو شخصيَّة، فيما تتحرَّك به الأزمات الاقتصاديَّة في الناس، فيتحدَّثون كما لو لم يكن هناك مشكلة في البلد، ولم يكن هناك جوع في البلد، ويقولون إنَّ البلد بخير، لأنهم لا يفهمون هذه المشكلة، لأنهم لا يعرفونها.
الغايةُ من الصَّوم
ونقرأ نصّاً للإمام الصَّادق (ع) في هذا المجال. عن هشام بن الحكم، أنَّه سأل أبا عبد الله (ع) عن علَّة الصِّيام، فقال: "إنَّما فرضَ اللهُ الصِّيامَ ليستويَ به الغنيُّ والفقيرُ، وذلكَ أنَّ الغنيَّ لم يكن ليجدَ مسَّ الجوعِ فيرحمَ الفقيرَ، لأنَّ الغنيَّ كلَّما أرادَ شيئاً قدرَ عليه، فأرادَ اللهُ تعالى أن يسوِّيَ بينَ خلقِهِ، وأن يذيقَ الغنيَّ مسَّ الجوعِ والألمِ، ليرقَّ على الضَّعيف ويرحمَ الجائع".
إذاً، الصَّوم بحسب طبيعته، كما أنّه يذكِّرنا بجوع يوم القيامة وعطشه، فإنِّه يذكِّرنا أيضاً بجوع النَّاس وعطشهم، من أجل أن يكون ذلك وسيلةً من وسائل تحسّس المشكلة، والانفتاح على ما أراده الله سبحانه وتعالى للنَّاس، بأن يتكافلوا فيما بينهم، وأن ينفقوا مما آتاهم الله من فضله، ولا سيَّما أنَّ القرآن يركِّز دائماً على أنَّك عندما تعطي، فإنَّك لا تعطي من مالك، وإنَّما تعطي من مال الله، وأنَّ الله جعلك وكيلاً على مالك، تنفق منه على نفسك وعيالك ما تحتاج إليه، مما يحقِّق لك حاجاتك، ويحفظ لك ماء وجهك، ولكنَّ الله فرض عليك أن تدفع للفقراء بعضاً من هذا المال، لا من موقع الإحسان الذَّاتيّ، ولكن من موقع الحقّ المفروض الواجب {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النّور: 33]، {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[الحديد: 7] يعني وكلاء فيه. وهكذا نقرأ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج: 24 – 25]، فاعتبرَه حقَّاً، ولم يعتبره مجرَّد شيء ذاتيّ يخرجه الإنسان، وفي أيّ آيةٍ أمر الله فيها بالصَّلاة، قرنها بالزَّكاة {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة: 110].
البخلُ بدفعِ الحقوق
ثمَّ يحدِّثنا الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء الَّذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله، ممن فرض الله عليهم الحقَّ الشَّرعيَّ للمحتاجين إليه، ممن ذكرهم الله في كتابه، وتحدَّث عنهم النَّبيّ (ص) في سنَّته.
يقول تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم - لا تعتبر أنّك إذا امتنعت عن دفع الحقِّ الشَّرعي الواجب عليك من الخمس أو الزكاة، أو امتنعت عن التصدّق بما يستحبّ الصَّدقة به، لا تعتبر أنَّك رابح، وأنَّك وفَّرت على نفسك، وذلك على لغة هؤلاء النَّاس الَّذين يقولون كما في سورة يس: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}[يس: 47]، فالله هو الَّذي خلقهم، وهو الّذي يتكفَّل بهم، كما يقول، فيعتبر أنّه إذا امتنع عن دفع الحقِّ الشَّرعيّ أو الصَّدقة، فهذا خير له، لأنّه يكون قد وفَّر لنفسه مالاً، ولكنَّ الله يقول - بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ - لأنَّهم بذلك يمكن أن يساهموا في أن يمنعهم الله من سعة الرزق عليهم - سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - فكما الطَّوق والقيد الَّذي يقيِّد عنقك، فالله يقول إنَّ هذا المال الَّذي منعته عمَّن يستحقُّه من الفقراء والمساكين، ستطوَّق به يوم القيامة بطوقٍ من نار - وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[آل عمران: 180]، كلّكم تموتون، ويرث الله السَّموات والأرض، وكلّ الأمور ترجع إلى الله.
عاقبةُ كنزِ المال
ويقول الله عن بعض النَّاس الَّذين يكنزون المال من دون أن ينفقوه في سبيل الله مما فرض الله عليهم في ذلك: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}[التَّوبة: 34 - 35]، إنَّ ما يكنزونه سوف يتحوَّل إلى نار تحرقهم وتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ - يقول: اللَّهمَّ ارزقني، وإذا رزقتني سوف أتصدّق وأعطي الفقراء - لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ - أراد الله أن يختبرهم - بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ – نتيجة الانحراف عن العهد الَّذي عاهدهم عليه - إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[التّوبة: 75 - 77].
وهكذا نجد أنَّ الله يقول لك أسرع وعجِّل في الإنفاق: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقنَـٰكُم مِّن قَبلِ أَن یَأتِیَ أَحَدَكُمُ ٱلمَوتُ فَیَقُولَ رَبِّ لَولَاۤ أَخَّرتَنِیۤ إِلَىٰۤ أَجَل قَرِیب فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّـالِحِینَ}[المنافقون: 10]، فعندما يأتي الموت، يبدأ باستعراض شريط حياته؛ هذه الأموال الَّتي اكتنزها سوف يخرج صفر اليدين منها، ولن يكون له منها إلَّا الكفن، وسيرثها قوم آخرون، قد يكونون أولاداً له، أو إخوة، وربما يتنعَّمون بها، فيكون لهم المهنأ وعليه الوزر، فيقول يا ربّ، لم أكن أعرف أنَّ القضيَّة بهذا الشَّكل، أمهلني شهراً أو شهرين حتَّى أتصدَّق وأخرج حقوقي وما إلى ذلك، فيجيبه الله في هذا المجال: {وَلَن یُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفسًا إِذَا جَاۤءَ أَجَلُهَا وَٱللَّهُ خَبِیرُ بِمَا تَعمَلُونَ}[المنافقون: 11].
الجانبُ الإيجابيُّ في الإنفاقِ
وعندما نتابع في هذا المقام، نجد أنَّ الله يقول إنَّ سرَّ الفلاح أن لا تكون بخيلاً، وخصوصاً على نفسك. يقول تعالى: {وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ - كلّ ما تنفقه من مالٍ هو خيرٌ لنفسك - وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[التَّغابن: 16]، أي أنَّ الَّذي يقيه الله وينقذه من البخل الَّذي يمنعه من العطاء، هو الَّذي يتَّخذ صفة الفلاح.
وعندما يحدِّثنا الله عن الجانب الإيجابي في الإنفاق، يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}[التّوبة: 103]، فالصَّدقة تزكِّي نفسك وتطهِّرها.
وقد حدَّثنا الله عن تضاعف الصَّدقة: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}[البقرة: 261].
دفعُ الزّكاةِ تحصينٌ للمال
وفي ضوء هذا، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ أن ندرس مسألة الحقوق الشَّرعيَّة، على أساس أنَّ مالك شراكة بينك وبين الفقراء والمساكين الَّذين يستحقّون هذا المال.
ففي الحديث عن الإمام الصَّادق (ع): "إنَّ الله عزَّ وجلَّ فرضَ للفقراءِ في أموالِ الأغنياءِ ما يسعُهم بهِ، ولوْ علمَ أنَّ ذلكَ لا يسعُهم لزادَهُم، إنَّهم لم يؤتوا مِنْ قِبَلِ فريضةِ اللهِ عزَّ وجلَّ – بمعنى أنَّ المسألة ليست أنَّ الله لم يفرض لهم شيئاً يستطيعون أن يكملوا به حياتهم - ولكنْ أوتوا مِنْ مَنْعِ مَنْ منعَهم حقَّهم - أي أنَّ مشكلةَ الفقراء ليسَتْ في أنَّه ليسَ هناك تشريعٌ إسلاميّ يضمن لهم حياتهم، ويحقِّق لهم نوعاً من الضَّمان الاجتماعي والتَّكافل الاجتماعيّ، ولكنَّ مشكلتهم إنَّما هي في منعِ مَنْ منعهم حقَّهم، لا مما فرض الله لهم - ولو أنَّ النَّاسَ أدّوا حقوقَهم، لكانوا عائشين بخير".
ويقول الإمام الباقر (ع) فيما روي عنه: "إنَّما وُضِعَتِ الزَّكاةُ قوتاً للفقراءِ، وتوفيراً لأموالِكم"، فأنت تعتبرُ أنَّ الزكاة تنقص مالك، ولكنَّ الله يعطيك البركة بما تخرجه من مالك، فيوفِّر لك هذا المال، لأنَّ الزّكاة تحصِّن مالك: "حصِّنوا أموالَكم بالزَّكاةِ"، فإذا أردتم أن تحصِّنوا هذه الأموال من الضَّياع، فزكّوها.
ويقول الإمام الصَّادق (ع): "إنَّما وُضِعَتِ الزّكاةُ اختباراً للأغنياءِ، ومعونةً للفقراءِ، ولوْ أنَّ النَّاسَ أدّوا زكاةَ أموالِهم، ما بقيَ مسلمٌ فقيراً محتاجاً، ولاستغنى بما فرضَ اللهُ عزَّ وجلَّ له، وإنَّ النَّاسَ ما افتقروا، ولا احتاجوا، ولا جاعوا، ولا عروا، إلَّا بذنوبِ الأغنياءِ، وحقيقٌ على اللهِ تباركَ وتعالى أن يمنعَ رحمتَهُ مَنْ منعَ حقَّ اللهِ في مالِهِ".
مانعُ الحقِّ الشَّرعيِّ غاصبٌ
هذه، أيُّها الأحبَّة، النصوص القرآنيَّة ونصوص السنَّة في هذه المسألة المهمَّة، وهي مسألة المشاركة الاجتماعيَّة بين الفقراء والأغنياء، بين الَّذين فُرِضَتْ عليهم الحقوقُ الشَّرعيَّة، وبين من يستحقّونها، وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل هناك ميزانيَّة احتياطيَّة للواقع الاجتماعيّ الإسلاميّ الَّذي ينطلق به النَّاس من أجل أن يوفِّروا كلَّ حاجاته، سواء كانت هذه الحاجات حاجات شخصيَّة للفقراء واليتامى والمساكين، بالطَّريقة الفرديَّة، أو كانت حاجات عامَّة، كالمشاريع الخيريَّة الَّتي تعمل على رعاية الفقراء والمساكين والمحرومين، فيما يسدّ حاجاتهم، وفيما يؤمِّن تربيتهم، وفيما يرفع مستواهم.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّ الَّذي يمنع حقَّ الله، يعتبر بالمنطق الشَّرعيّ غاصباً للمال. أنت الآن إذا لبسْتَ ثوباً في الصَّلاة وفيه حقّ الخمس، ولم تدفع خمسه، فصلاتك باطلة، لأنَّك صلَّيت في ثوب مغصوب، لأنَّ هذا الثَّوب الّذي يتعلَّق فيه الخمس، هو شراكة بينك وبين الفقراء، وإذا أحرمت بمالٍ لم تخمِّسه، بطلَ إحرامك، لأنَّ هذا المال قسم منه مغصوب من صاحبه... وهكذا، لا يجوز لك أن تتصرَّف بمالك الَّذي يتعلَّق به حقُّ الله سبحانَهُ وتعالى، إلَّا بعد أن تُخرِجَ خمسَهُ، لأنَّ المالَ الَّذي يتعلَّقُ به الخمسُ، أنت لك أربعة من خمسة منه، فهذا المال ليس كلُّه لك، هناك واحد من خمسة شركة بينك وبين الفقراء. بعض النَّاس يقول، مثلاً، أنا أعطي من مالي، ولكنَّ الله الَّذي أعطاك هذا المال، وسهَّل عليك طريق الوصول إليه، هو الَّذي جعلَ لك أربعةً من خمسةٍ منه، وجعل الخامس للفقير، وهكذا بالنِّسبة إلى الزكاة.
لهذا، أيُّها الأحبَّة، إنَّ الَّذي يمنع حقَّ الله في ماله، هو سارق وغاصب من الفقراء والمساكين وأبناء السَّبيل وفي سبيل الله، ويعامَل في الشَّريعة الإسلاميَّة معاملة كلِّ غاصبٍ ومعتدٍ على المال الَّذي ليس له.
دفعُ الحقوقِ.. وحرّيّةُ الموقفِ
ولذلك، فإنَّ علينا، أيُّها الأحبَّة في هذا الشَّهر المبارك، أن نعمل على أن نخرج حقوق الله سبحانه وتعالى من أموالنا، وعندَ ذلك، لن نحتاجَ إلى كثيرٍ من هذه المناسبات الاجتماعيَّة، وأن نجمع النَّاس بطريقةٍ وبأخرى في كلِّ عملٍ خيريّ، وكلّ مشروعٍ اجتماعيّ، لأنَّ النَّاس إذا أخرجوا الحقوق الشَّرعيَّة من أموالهم، وإذا صُرفَتْ هذه الحقوق الشّرعيَّة في مواردها، فلم يستغلَّها المستغلّون، فإنَّنا بذلك نكون قد أمّنّا للمجتمع الإسلاميِّ فائضاً من أموالنا، نملك فيه أن نحقِّق الكثيرَ من المشاريع للمجتمع، سواء على مستوى المشاريع التربويَّة أو الخيريَّة أو الاجتماعيَّة.
ولعلَّ بركة هذه الحقوق الشَّرعيَّة في مجتمعنا، ولا سيَّما المجتمع الإسلاميّ الشّيعي، أنَّ قيام المرجعيَّات والحوزات العلميَّة، وقيام كلِّ المشاريع الخيريَّة بشكل عام، كان من خلال الحقوق الشَّرعيَّة، يعني الآن لولا الحقوق الشّرعيَّة، لما كان هناك إمكانيَّة أن يكون عندنا حوزة علميَّة في النَّجف، أو حوزة علميَّة في قمّ، لأنَّ هؤلاء الطلَّاب متفرّغون، ولا بدَّ من رعايتهم ماليّاً من خلال القائمين على الحوزة، ومن خلال أهاليهم. وهكذا بالنِّسبة إلى المشاريع الخيريَّة، يعني الآن هذا المشروع الخيريّ هو حقوق شرعيَّة، وهذا المستشفى إلى جانبكم، هو حقوق شرعيَّة، المبرَّات أغلبها حقوق شرعيَّة، وهكذا المؤسَّسات الأخرى، وحتَّى عندما ينطلق خطُّ الجهاد في خطِّ المقاومة الإسلاميَّة، وكلّ مقاومة شرعيَّة، الغالب من هذا، إنَّما هو الحقوق الشَّرعيَّة.
إنَّ هناك نقطة نلاحظها بشكلٍ أساسيّ، وهي أنَّ سرَّ هذه الحريَّة في الكلمة، وفي الموقف، والحريَّة أمام الحاكمين، والحريَّة أمام الاستكبار العالميّ، سرّ هذه الحريَّة عند علماء المسلمين الشّيعة، هو أنَّهم تحرَّروا من الوظائف، وأنَّهم لا يحتاجون إلى الدَّولة، باعتبار ما يخرجه المؤمنون من الحقوق الشَّرعيَّة، وهذا الشَّيء يعترف به كلُّ علماء الطَّوائف الأخرى، فهم يقولون إنَّ الخمس عندكم، هو الَّذي يجعل العالم الدِّيني المجاهد المنفتح، يجعله حرّاً، لأنّه يستطيع أن يموِّل كلَّ الأعمال في الدَّعوة إلى الله، وفي العمل في سبيل الله، وفي الجهاد في سبيل الله، وفي كلِّ أعمال الخير والأعمال التربويَّة، من خلال هذه الحقوق الشَّرعيَّة، يعني من الصَّعب جدّاً أن تجد في لبنان كلِّه، في أيِّ موقع من مواقعه، حسينيَّةً أو جامعاً أو مدرسةً من المدارس الموجودة في صور وغيرها، لا يكون مصدر تمويلها هو الحقوق الشَّرعيَّة، حتَّى إنَّ علماءنا في السَّابق، وإن تغيّرت الأمور الآن، كانوا يهربون من الحكومة الَّتي تعطيهم المال.
أنا أعرف بعض العلماء في بغداد، عندما فرضت الحكومة عليهم أن يأخذوا معاشاً، رفضوا أخذ المعاش وتركوا المسجد، لأنَّه يريد أن يكون حرّاً، ويقول عندما آخذ معاشاً، فمعنى ذلك أنّي صرت تحت تأثير الدَّولة، ولن آخذ حريّتي في الكلام، وما إلى ذلك.
لذلك، علينا أن نفكِّر في هذه المسألة كتكليفٍ شرعيّ أوَّلاً، وعلى الإنسان أن يعرف أنَّ الحقّ الشَّرعيَّ في ماله، سواء في الخمس أو الزكاة، ليس له، فإذا منعه من أصحابه، كان غاصباً ومعتدياً وسارقاً، و{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ}[آل عمران: 180]، وكما قرأنا {فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ}[التَّوبة: 35]. وهذه نقطة ذاتيَّة، وهي نقطة حسابك مع الله.
وهناك نقطة اجتماعيَّة، وهي أنَّ علينا أن نحافظ على حريَّة مراجعنا وحريَّة علمائنا، ولا سيَّما العلماء الَّذين تحرَّروا من سيطرة الظَّالمين، ولم يعطوا بأيديهم إعطاء الذَّليل، والَّذين يعملون من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ومن أجل أن يستغنوا بمال الله سبحانه وتعالى عن مال المستكبرين والظَّالمين، لأنَّنا كلّنا نعرف أنَّ من يملك المال يملك القرار، فإذا كنت تطلب مالاً من الدَّولة، فعليك أن تخضع للدَّولة، وإذا كنت تطلب مالاً من الدّول الغنيَّة الموجودة في البلاد العربيَّة، فعليك أن تخضع لشروطهم السياسيَّة والأمنيَّة وغيرها.
ولذلك، أيُّها الأحبَّة، القضيَّة تتَّصل بالجانب الذاتي للإنسان، وتتَّصل بالجانب الاجتماعي لواقع الفقراء والمحرومين، وتتَّصل بالجانب السياسيّ في أن يكون هؤلاء النَّاس الَّذين يعملون لله، أحراراً في قراراتهم وفي مواقعهم.
البطَّالونَ المستغلّون
ومن الطبيعي أنَّنا عندما نتحدَّث عن ضرورة أن يدفع النَّاس حقوقهم الشَّرعيَّة، نتحدَّث أيضاً أن لا يستغلَّ الحقوق الشَّرعيَّة البطَّالون الَّذين لا شغل لهم إلَّا أن يأخذوا المال من هنا وهناك، دون أن يقدِّموا إلى المجتمع شيئاً، ودون أن يقدِّموا إلى الإسلام شيئاً. إنَّ شرعيَّة أن يأخذ أيّ إنسان متفرّغ مالاً من الحقوق الشَّرعيَّة، أن يعمل في سبيل الله، وأن يعتبر نفسه موظَّفاً عند الله وعند صاحب الزَّمان (عج) الَّذي هو إمامنا في هذا العصر، فمن لم يعمل ولم ينطلق، فليس له حقٌّ في ذلك.
هذه نقطة لا بدَّ أن نعيشها في هذا الشَّهر المبارك، أن يحاسب الإنسان نفسه الآن، قبل أن يقف في يوم لا مجال لأن يحاسب نفسه: "حاسِبوا أنْفُسَكُم قَبلَ أنْ تُحاسَبوا، وزِنوها قَبلَ أنْ تُوزَنوا".
الخطبة الثّانية
عباد الله، اتَّقوا الله في كلِّ ما يسألكم عنه غداً، سواء في أموالكم أو في أنفسكم أو في أهليكم أو في كلِّ الناس من حولكم، فإنَّ الله سيسأل الإنسان في يوم القيامة عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله مما اكتسبه، وفيما أنفقه، وسيسألنا الله سبحانه وتعالى عن كلِّ ما حمَّلنا من مسؤوليَّةٍ على مستوى الواقع الذّاتيّ والواقع الاجتماعيّ والواقع السياسيّ، بما يتَّصل بأمور الفرد والجماعة والأمَّة والمسلمين جميعاً.
لذلك، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، أن نُشغِلَ أنفسنا دائماً بالتَّفكير فيما كلَّفنا الله به، وفيما حمَّلنا مسؤوليَّته، فإنَّ مَنْ عَرَفَ ما هي مسؤوليَّتُهُ، وعملَ على أساسِ تنفيذِها، كان من المصلحين النَّاجحين عندَ الله. أمَّا من لم يعرف مسؤوليَّته جيِّداً، فقد يبتعد عن المسؤوليَّة، ويحاسبه الله غداً. إنَّ الحساب حسابٌ دقيقٌ دقيق، فليحضِّر كلُّ واحدٍ منَّا حساباته، وليكن دقيقاً في حساباته، حتَّى يكون موقفه موقفاً سهلاً سريعاً يوم القيامة، لأنَّ الَّذين لا يتقنون حساباتهم يوم القيامة، سوف يطول وقوفهم بين يدي الله، وسوف يطول جوعهم وعطشهم هناك.
لذلك، لا بدَّ لنا أن نتحسَّس مسؤوليَّاتنا في حياتنا في المجتمع الَّذي نحن جزء منه؛ كيف نعمل على صيانته من الاختلاف والتَّنازع والتَّحاقد والتَّباغض، كيف ننشر المحبَّة في هذا المجتمع، ليحبَّ النَّاس بعضهم بعضاً، فإنَّ الدّين، كما ورد عن الإمام الصَّادق (ع)، هو الحبّ، "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
علينا أن ندرس كلَّ نقاط الضّعف في مجتمعنا، حتَّى نستطيع أن نشارك في التَّخفّف منها، وفي تحويل نقاط الضّعف إلى قوَّة. وهكذا لا بدَّ لنا أن ندرس كلَّ واقع الأمَّة، حتَّى نعرف كيف نساهم فيما يمكن أن ينقذ الأمَّة.
ضغطٌ أمريكيٌّ على المنطقة
وهذا ما نتحدَّث عنه في الدَّائرة الفلسطينيَّة، فلا يزال وضع التَّسوية يراوح مكانه في مقدار الانسحاب الصّهيوني من الضفَّة الغربيَّة، وفي الشروط الصهيونية للتسوية، وفي الحديث الأمريكي عن ضرورة الحفاظ على أمن العدوّ من قبل الفلسطينيّين، وضرب المجاهدين من الإسلاميّين، وإسقاط بنيتهم التحتيَّة. هذا هو الَّذي تتحدَّث عنه أمريكا بالصَّوت العالي، وهذا هو ما تريده وتريد أن تفرضه على الفلسطينيين.
أمَّا على المستوى العربيّ، فهناك أكثر من زيارة لموفد أمريكيّ للمنطقة، بحجَّة إيجاد آفاق التسوية على المسار اللّبناني السوري، ولكنَّ الخضوع والعجز الأمريكيّ أمام التصلّب الصهيونيّ، هو الَّذي يعطّل كلّ شيء، ويصرخ في وجه العرب أنَّ الكرة باتت في ملعبهم، تعبيراً عن هذا المأزق السياسي الَّذي أصاب الموقف الأمريكيَّ في الوقت الحاضر.
إنَّ المشكلة هي أنَّ العرب يطالبون أمريكا بالضَّغط على إسرائيل لتقديم بعض التَّنازلات في مسألة التَّسوية، ولكنَّ أمريكا لا تريد ذلك، لأنَّ خيارها الوحيد هو الضَّغط على العرب لحساب المصلحة الإسرائيليَّة في الحصول على أكبر قدر من التنازلات العربيَّة في هذا الموضوع.
إنّ مشكلة العرب ومشكلة الكثيرين من المسلمين، أنَّهم لم يفهموا ما معنى أمريكا بالنِّسبة إلى إسرائيل؛ إنَّهم يطالبونها ويطالبونها، وهي لا تقدِّم أيَّ شيء، لأنَّ قضيَّة إسرائيل عندها، قد تكون أكثر من قضيَّة ولاية أمريكيَّة من الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، لأنَّ اليهود قد سيطروا على السياسة الأمريكيَّة في كلِّ قراراتها، ولا سيَّما في منطقة الشَّرق الأوسط.
الثَّباتُ الإيرانيُّ
إنَّ البلد الوحيد الَّذي فهم ما معنى أمريكا، وفهم صفة الشَّيطان الأكبر في أمريكا، هو الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، من خلال قائدها ورائدها ومفجِّر ثورتها الإمام الخميني (رض)، الَّذي حدَّق، وهو العارف بالله، بكلِّ واقع المستكبرين، ولا سيَّما في الاستكبار الأمريكيّ، فرأى أنَّ كلَّ سياستهم، وكلَّ حركتهم، وكلَّ علاقاتهم، وكلَّ أوضاعهم، هي الضَّغط على الشّعوب المستضعفة، ولا سيَّما الشعوب الإسلاميَّة. وهكذا رأى أنَّ أمريكا عملت بكلِّ ما عندها من طاقة، ومعها كلَّ المستكبرين في الأرض، عملت على زرع هذه الغدَّة السرطانيَّة في قلب الواقع العربيّ والإسلاميّ، ولذلك وقف هذا الإمام، ووقف كلُّ خلفائه ومَنْ بعدَه، الموقفَ الصَّلبَ ضدّ كلّ استغلال أمريكيّ لأيّ نقطة ضعف في هذه الدَّولة أو تلك، ووقفوا بصبر وثبات وعزيمة وقوَّة في مواجهة كلِّ هذا الحصار الاقتصادي والسياسي، واستطاعوا بفضل الله سبحانه وبعونه، ولأنَّ الله ينصر من ينصره، استطاعوا أن يعملوا على أساس أن يفشِّلوا هذا الحصار اقتصادياً وسياسياً.
وإذا كانت أمريكا تتحدَّث الآن عن أنَّ إيران سوف تزحف إليها، من خلال أنَّ هناك بعض التَّغييرات السياسيَّة في المواقف، فإنَّ أمريكا في الظَّاهر لا تفهم معنى الجمهوريَّة الإسلاميَّة، ولا تفهم معنى القرار فيها؛ إنَّه لا يملكها شخص، إنَّ القضيَّة أنَّ هناك هيئة بقيادة الوليّ الفقيه، تقف من أجل أن تخطِّط ليكون الجميع متعاونين على التَّنفيذ، ولكن قد تختلف اللّغة بين مسؤول وآخر، قد تكون هناك لغة في الدبلوماسيَّة، وقد تكون هناك لغة في المواجهة، ومهما اختلفت اللّغات، فإنَّ المسألة واحدة، كما قال ذلك الشَّاعر:
عباراتُنا شتَّى وحسنُكَ واحدٌ وكلٌّ إلى ذاكَ الجمالِ يشيرُ
إنَّنا نعتقد أنَّ الجمهوريَّة الإسلاميَّة، بما تحمله من مسؤوليَّة الإسلام في مواقعها، لا يمكن أن تعطي بيدها إعطاء الذَّليل، أو أن تقرَّ إقرارَ العبيد، إنَّها لا تريد أن تعادي العالم، ولكن تريد أن تكون علاقاتها، حتّى لو أريد للعلاقات أن تعود مع أمريكا، أريد لعلاقتها أن تكون علاقات مبنيَّة على أساس الاحترام المتبادل للمستضعفين، وعلى أساس المصالح المتبادلة، بأن تعطي أمريكا للشَّعب الإيرانيّ حقَّه، وللشّعوب المستضعفة حقَّها.
لذلك، ليست المسألة كما يصوِّرها الإعلام بين يومٍ وآخر، أو مسألة مقابلة تلفزيونيَّة توحي بتغيير السياسة؛ لن تتغيَّر السياسة، ولكن التَّكتيك تغيَّر.
محورٌ جديدٌ في المنطقة
وهكذا ننتقل إلى النّطاق التركي الإسرائيلي، فقد برز محور دوليٌّ جديد في المنطقة، تقوده أمريكا، وتقف الأرض الخاضعة للسياسة الأمريكيَّة على هامشه، من أجل الضَّغط على سوريا من جهة، والعراق وإيران من جهة أخرى، وقد تمثَّل ذلك في المناورات البحريَّة المشتركة بين الدّول الأربع، الَّتي قيل إنَّها تحمل بعداً إنسانيّاً من أجل إنقاذ الزَّوارق الضَّائعة في البحر والنَّاس التَّائهين فيه.. قيل ذلك، ولكنَّنا نعرف أنَّها غطاء للبعد العسكريّ السياسيّ الّذي عبَّرت عنه الأطراف المشاركة، لأنَّ العدوَّ المشترك لها، هو القوى الدَّاعمة للإرهاب الأصوليّ، كما تسمِّيه.
إنَّنا ندعو إلى قيام محور سياسيّ جديد في المنطقة، عبر تحالف عربيّ إسلاميّ، يكون ردّاً على ذلك، من أجل مواجهة هذا الخطر الجديد المترتّب على التحالف الصّهيوني التركي المدعوم من أمريكا، لأنَّ ذلك قد يؤسِّس لمرحلةٍ تحدَّث عنها مسؤولون أمريكيّون في السَّابق، وقالوا أن لا دور للعرب في أمن المنطقة، وإنَّ أمريكا، كما صرَّح أحد المسؤولين أثناء المناورات، تخاف من حصول محور في المنطقة في مقابل المحور التركي الإسرائيلي، ولذلك عبَّر مسؤولوها أنَّه ليس من المصلحة أن يكون هناك محور جديد، لأنَّها تخاف من هذا المحور العربيّ الإسلاميّ، بعد أن حصل التقارب بين إيران وبين الدَّول العربيَّة والدّول الإسلاميَّة في القمَّة الإسلاميَّة، إنَّها تخاف من هذا التَّقارب وهذا التعاون أن يتحوَّل إلى محور سياسيّ يُسقِط المحور التركي الإسرائيلي. ولذلك نحن ندعو العرب والمسلمين أن يعملوا، إذا أرادوا أن يتخفَّفوا من الخطر القادم الَّذي يراد له أن يطوِّقهم سياسيّاً وأمنيّاً وعسكريّاً، أن يعملوا على إيجاد هذا المحور.
القرارُ 425 غطاءٌ صهيونيّ
وفي الدَّائرة الجنوبيَّة للاحتلال الإسرائيليّ، يأتي الطَّرح الإسرائيليّ مترافقاً مع الحركة الأمريكيَّة الأخيرة في لبنان، عبر الموفدين الأمريكيّين، وهو تنفيذ القرار 425، الَّذي لم يكن سوى غطاء للشّروط الصّهيونيّة المعقَّدة في الترتيبات الأمنيَّة، وتوقيع معاهدة أمنيَّة بين إسرائيل ولبنان. وقد نلاحظ في هذا الإطار، أنَّ علينا وعلى كلِّ المعنيّين، أن ندرس القرار المذكور بأنَّه مربوط بالقرار 426 الَّذي قد يؤكِّد على الترتيبات الأمنيَّة أو شيء من هذا القبيل، ما يجعل من الحديث عن الانسحاب دون قيد أو شرط، كما يهلِّل به المتحدّثون عن القرار 425، مجرَّد حديث لا واقع له، حتَّى على مستوى القرار.
خطورةُ فصلِ المسارين
إنَّ هناك خطَّة جديدة تتحرَّك بها أمريكا بوسائلها الخاصَّة، لإزعاج سوريا ولبنان، ومحاولة الضَّغط عليهما، بالتَّلويح بفصل المسار اللّبناني عن المسار السوري الَّذي أريد لبعض الدّول الأوروبيَّة التحرّك في اتجاهه، وهذا مما يكمل الخطَّة الإسرائيليَّة في الاستفراد بلبنان في المفاوضات، لتفرض عليه شروطه الضَّاغطة من جهة، ولإضعاف الموقف السوري من جهة أخرى.
وعلى الجميع أن يعرف أنَّ قوَّة الموقف في جنوب لبنان، مرتبط عضوياً بقوَّة الموقف في الجولان، وأنَّ المسار الفلسطيني لن يكون في موقع قوَّة، إلَّا إذا ارتبط بالمسارين السوري واللّبناني.
الارتفاعُ إلى مستوى التَّحرير
وأخيراً، إنَّ الأزمات المتلاحقة الَّتي يعيشها الواقع السياسي والإعلامي في لبنان، والدوَّامة الَّتي يتخبَّط فيها، قد تبعد اللّبنانيّين عن الالتفاف على الاستحقاقات الكبرى في قضايا المنطقة، وفي مقدَّمها قضايا التحرير والتسوية. ولذلك، فإنَّ من مسؤوليَّتهم الارتفاع إلى مستوى التَّحرير، واعتبار التحرير عنواناً لكلِّ النشاطات السياسيَّة والشعبيَّة في المرحلة الحاضرة، لأنَّ أيَّ هروب من هذه التحدّيات المصيرية، يمثّل هروباً من الوطن كلِّه، ومن الأمَّة كلِّها.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 09/ 01/ 1998م.