دراسات
18/07/2013

المنهج الفكري والثقافي عند المرجع فضل الله

المنهج الفكري والثقافي عند المرجع فضل الله

ترك السيد فضل الله ما يزيد عن مائة وعشرين كتاباً مطبوعاً؛ تمثّل معالم المنهج الفكري والمشروع الحضاري للإسلام، كما يراه سماحته .ولم يكن هَمُّه في ما كتب هو التّرف الفكري، بل كان همّه وضع لَبِنَات في البناء الفكري والحضاري للأمّة؛ ما جعل تلك المؤلّفات بمثابة كتيبة جهاد فكري للسيّد فضل الله؛ فقد أتت متنوعة لتشمل ما يشغل الأمّة في الداخل والخارج، حاضراً ومستقبلاً.

وتوزّعت إسهاماته الفكرية على العديد من أبواب المعرفة، وكان له فيها إضافات ومبادرات، استطاع أن يفتح من خلالها أبواباً جديدة؛ فهماً وصياغة ومراجعة، وحاول(قده) أن يثير الاهتمام والسؤال عن المتوارث والمنقول، وضرورة تقييم كل ذلك بميزان العقل، فالسيّد محمد حسين فضل الله(قده) مدرسة حاولت أن تشقّ لها طريقاً مغايراً خارج المألوف، ولم يكن ذلك أمراً يسيراً، فقد واجه حملات مضادة، ومعارك امتدّت إلى أكثر من ساحة، لمجرّد رأي في حدث أو إثارة سؤال.

1ـ الواقعيّة الرساليّة

والواقع الرسالي بالنسبة إلى السيد فضل الله(قده)، هو الوسط الذي يتفاعل معه، بحيث يأخذ منه ويعطيه، فلم يكن يأخذ في معالجاته الفكرية والمعرفية الشكل التجريدي الحالم، بل كان واقعياً وموضوعياً في المعالجة والفهم والتصور.

ولا تختلف هذه الرؤية الواقعية حتى في تفسيره "من وحي القرآن"، فهو: " تفسير تربوي اجتماعي شامل، ويعدّ من أروع التفاسير الجامعة، النابعة من روح حركية نابضة بالحيوية الإسلامية العريقة. انطلق فيه المؤلف في إحياء الجو القرآني في كل مجالات الحياة المادية والمعنوية..."[1].

وكذلك هو الحال على مستوى تعامله مع قراءته لشخصيّة الرسول(ص) في خطّ رسالته، حيث لا مجال لمعرفته إلا من خلال ما يوحي به الله في كتابه، وما يلهمه أو يبيّنه لرسوله الذي يعبّر عنه في سنّته. ومن هنا، لا بدّ للمسلمين من أن يستغرقوا في دراسة هذه القضيّة من خلال القرآن في ظواهره، من حيث يريد الله للناس أن يفهموه ويعتقدوه ويعيشوه، ولا سيما في عهد الرسالة الأول؛ حيث كان النبي(ص) يعيش مع أتباعه (المسلمين) وخصومه (المشركين) في آن واحد، الأمر الذي كان يثير الكثير من المشاكل والتعقيدات وعلامات الاستفهام، باعتبار أنّ الوحي كان ينطلق من الفكرة العامة على مستوى النظرية، ومن حركة التجربة الواقعية على مستوى التطبيق، فكان الناس يرون النبي(ص) في مضمون الآيات، ويحدّقون به في حركة الواقع، فيجدون وحدة الخطّ الفكري مع التجسيد الإنساني الواقعي، وفي سلوكه العملي مع الناس؛ لأنّه ليس من الطبيعي أن تكون الصورة النبوية في الوجدان الإسلامي في تلك المرحلة ـ التي تؤسّس للمراحل القادمة ـ بعيدة عن الصّورة الواقعيّة[2].

ولا تغيب هذه الواقعيّة الرساليّة في تناوله بالدراسة والتحليل لأدوار أئمة أهل البيت؛ بل وفي كلّ دراساته للتاريخ الإسلامي وأحداثه[3].

2ـ  حركيّة الإسلام

يؤمن السيّد محمد حسين فضل الله(قده) بحركيّة الإسلام وعدم جموده، والحركيّة  ـ عنده ـ تعني :

-  القدرة على التّطبيق .

-  القابلية على التّنفيذ.

-  المرونة في التعاطي مع الأحداث والوقائع.

-  الاستيعاب للمتغيّرات.

فالإسلام يختزن في داخله الدّعوة إلى تطوير الواقع على أساس، "اعتبار العقل مسؤوليّة الإنسان العاقل، واعتبار الحواسّ مسؤوليّة الإنسان الذي يملكها ليستخدمها في خطّ التجربة، ويحثّ الإنسان على أن يدخل في كل يوم جديد في مواقع جديدة فيما يكتشفه من أسرار الكون.. وعلى هذا الأساس، فإنّ الإسلام يدعو الإنسان دائماً إلى أن يتجدد، ويدعو العقل دائماً إلى أن يتحرك، ويدعو التجربة دائماً إلى أن تدخل في كل الواقع"[4].

فالإسلام الحركي هو أن يكون الإنسان مسلماً في كلّ أحواله، في السِّلم وفي الحرب، في حال الشدّة والرّخاء، في الفقه وفي الفلسفة وفي السياسة... هو أن يكون مسلماً في الاستراتيجيات وفي التكتيك، بخلاف بعض الناس الذين انطلقوا بالتكتيك وابتعدوا عن الإسلام، أو حاولوا أن يجدوا في الضربة الاستراتيجية ما يعفيهم من الالتزام بها فكراً وحركة.

فالذين انطلقوا بالفكر الإسلامي تنظيراً وحركة، انطلقوا به بعد أن عاشوا تجارب كثيرة، وواجهوا تحدّيات كثيرة، ولكنّ السيّد محمد حسين فضل الله كان على خلافهم، فقد انطلق بالإسلام كقاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة؛ فهو يقول: "إنّ الإسلام انطلق حركياً، ولا يمكن له أن يجد أيّ موقع في الفكر أو في الواقع، إلا إذا عاد حركيّاً".

ولذلك، يؤكّد أنّ "القرآن لا يفهمه إلا الحركيّون الّذين عاشوا معنى الحركية الإسلامية في حيوية الإسلام في انطلاقه مع الإنسان والعالم"[5].

3ـ الانفتاح على المعاصرة

عاش المرجع السيد محمد حسين فضل الله منفتحاً على الإسلام، ومقبلاً إليه، ومنسجماً معه، وفي الوقت نفسه، استفاد أيضاً من النتاج الإنساني، انطلاقاً من أهمية (التجربة الإنسانية المختلفة)، وأراد أن يفتح الإسلام على العصر، ويفتح العصر على الإسلام .

ولا يكون الإنسان معاصراً إلا إذا كان محيطاً بوعي الاختلاف عند البشر وما يحملونه من علوم؛ ولقد سُئِل الإمام أبو حنيفة عن أفقه الناس في زمانه، فأجاب: جعفر بن محمد.  والسبب في ذلك، كما يقول أبو حنيفة نفسه: "أليس قد روينا أنَّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟!"[6].

قال الصّادق(ع) فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ: "عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ عَارِفاً بِزَمَانِه، مُقْبِلاً عَلَى شَأْنِه، حَافِظاً لِلِسَانِه"[7]. والسبب في ذلك، كما يقول السيّد فضل الله: "لأنّ الكلام ينطلق من العلم والمعرفة والعقل، فلا بدّ للإنسان من أن يعرف عصره وأهل عصره، كيف يفكّرون ويتحرّكون، وكيف يركّزون علاقاتهم، وكيف يفهمون الحرب والسِّلم والوعي والتخلّف. فالإنسان الذي يعيش عصره وهو لا يفهمه، هو إنسان يعيش العمى العقلي، والعمى الروحي، والعمى الحركي في حياته.

ولعلّ مشكلة الكثير من العلماء والمصلحين ـ وهم المخلصون لعملهم ولرسالتهم ـ أنهم يعيشون خارج عصرهم، فبينهم من يعيش في زمن ما قبل الألف عام، ويقرأ الكتب التي ألّفت آنذاك، ما يمثّل تجربة العالم أو المفكّر في ذلك المجتمع، ولكنه لا يدرس الواقع الذي يعيشه مجتمعه الآن. ونحن نعرف أنّ الذهنيّة لغة، فكما أنك لا تستطيع أن تكلّم من يعرف العربية بالإنجليزية، لا يمكن أيضاً أن تكلّم من يعيش ذهنية القرون الوسطى في طريقة تفكيره ومواجهته للأشياء بذهنيّة معاصرة، والعكس صحيح. لذلك، جاء التأكيد في أكثر من حديث، بأن يكون العاقل عارفاً بأهل زمانه. والربط بالعقل يوحي بأنّ من العقل ذلك؛ لأنّ العقل يريد منك أن تندمج في مجتمعك وتحقّق رسالتك فيه، وأن تدخل فكرك إلى عقول المجتمع الّذي يعيش معك، وأن تتحرّك معهم للتكامل معهم"[8].

لقد أراد(قده) أن يعيش عصره بالإسلام من غير تردّد أو انفصام، وأن لا يكون غريباً على عصره، أو متبرّماً منه، أو كافراً به، أو مهاجراً عنه... بل أراد أن يحاور عصره، ويأخذ منه ويعطيه، في انسجام وتكامل في إطار الإسلام، حيث لا تتحقّق المعاصرة إلا من خلال التفاعل والمواكبة والقدرة على التواصل والتوليد .

فالخطاب الإسلامي ـ في أجواء المعاصرة ـ "هو الخطاب الذي يجبُ أنْ نوسِّعَ آفاقه، ليشمَلَ خطاب الإنسان للإنسان، فإسلامُكَ هو عيشٌ للإنسانيّة فيه؛ لأنَّ هذه الإنسانيّة هي صورةٌ داخلنا، وصورةُ عقلنا المفكّر، وقلبنا النابض في الذات، وطاقتنا المتفجِّرة في الواقع"[9].

ولذلك، نراه(قده) يناقش الخطّ التقليدي ـ الّذي ينطلق من مفردات الاجتهادات التاريخيّة وأساليبها، من دون دراسة المتغيّرات الكبيرة التي تحكم الواقع في تطوّر قضاياه وحاجاته ووسائله وعلاقاته ـ سواء من ناحية طريقة الحكم وعنوانه وإدارته وتنظيمه، أو من ناحية الأوضاع السياسيّة التي تحيط به، أو من جانب التحدّيات الفكرية التي تترك تأثيراتها في المسألة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وكان(قده) يلاحظ على هذه الفئة، أنّ اللّغة التي يتحدّثون بها على صعيد المضمون والأسلوب، لا تتناسب مع مفردات اللّغة المعاصرة. ويقصد باللّغة - هنا- الذهنيّة التي تتحرّك بها وسائل التعبير ومفردات التفكير؛ لأنّ الذهنيّة المتنوّعة تمثّل حاجزاً عن التفاهم، تماماً كما هي اللّغة في طبيعتها. ولهذا، انطلقت الرّسالات في خطّ الأنبياء، لتدفعهم إلى أن يخاطبوا الناس بقدر عقولهم، كما جاء في الحديث المأثور عن النبيّ محمد(ص): "إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلِّم الناس على قدر عقولهم"[10].

وفي سؤال عن الإسلام والتحدّيات المعاصرة، أجاب المرجع السيّد فضل الله(قده) - مفصّلاً:- "إنّ المسألة ليست هي أن ينتظر المسلمون حتّى يؤسّسوا فكراً يواجه المتغيّرات أو التحدّيات، بل إنّ المسألة هي أن لا يبقى الإسلام الفكري والحركي في منأى عن الواقع، أن لا يهرب من ساحة الصّراع، أن لا يواجه المتغيّرات ـ التي قد تتحوّل إلى تحدّيات بحسب اختلافها مع الخطوط الفكرية الإسلامية ـ بطريقة اللامبالاة.

ونحن نؤكّد أنّ الإسلام يملك من خلال قواعده الثقافية - بكلّ تنوّعاتها - أن يواجه الفكرة المضادّة التي ربما جاء بها العصر، أو أن يقف من المتغيرات موقف الباحث الذي يدرس كلّ مفردة من مفرداتها بطريقة موضوعيّة، يتعرّف من خلالها ما ينسجم منها مع الفكر الإسلامي فيلتقي به، وما يتنافى مع هذا الفكر فيناقشه.

إنّنا نعتقد أنّ الإسلام يملك حيويّة ثقافيّة في مواجهة كلّ التحدّيات الفكريّة التي تناقض فكره، أو تناقش فكره، أو تنحرف بالواقع عن مسار فكره. ليست المسألة أنّنا ننتظر أن يأتي الآخرون لننتج فكراً جديداً، بل أن نحرّك ما لدينا من فكر في مواجهة كلّ التحدّيات.

وليس معنى أن يكون النصّ مقدّساً -كما هو مقدّس في الكتاب والسنّة- أن يتجمّد الفكر في داخل النّصّ، لأنّ ثبات النصّ ككلمة، لا يعني جمود المفهوم عند ثبات الكلمة. فللمفهوم عالم واسع متحرّك يمكن أن يجتهد فيه المجتهدون، ليفهم مجتهد منه شيئاً، ويفهم مجتهد آخر منه شيئاً. إنّ الكلمة ثابتة، ولكنّ المفهوم متحرّك، ونحن من خلال حركيّة المفهوم، ننطلق لنستوحي إسلاماً يبقى متحرّكاً مع الحياة، لأنّ الكلمة قد تأتي في موقع، ولكنّ الموقع يمثّل النموذج الذي يتّسع لكلّ النماذج المماثلة في حركيّة الحياة".

4ـ الإصلاح والتّغيير

يتطلّع المرجع السيّد فضل الله(قده) إلى تغيير الحياة والمجتمع والإنسان على أساس مشروع متكامل الجوانب، تلتقي فيها الخيوط في تناسق تامّ، ولم يكن يكتفي بالوعظ والإرشاد الأخلاقيّ، أو إسقاط الواجب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحدوده الفرديّة والجزئيّة، بل كان يخاطب بالتغيير كلَّ مفصل من مفاصل الحياة والمجتمع، ولم يكن التّغيير - عنده- يستند إلى الفكر فحسب، بل كانت المؤسّسات والحركات والمشاريع والبرامج تستلهم رؤاه في حركة الإصلاح والتّغيير.

يقول(قده) في حفل خيري للمبرّات الخيرية: "هذا عالمٌ لا بدّ لنا من أن نصنعه، لأنّ كلّ جيل يصنَعُ عالَمه، أن نصنع الإنسان الّذي يمكن أن يضيء ويتوهّج وينفتح ويسمو ويبدِع، حتى نشعر بأنّ إنسانيّتنا تنتج وتتحرّك وتتغيّر، وتغيّر الواقع نحو الأفضل... هذا عالمٌ لا بدّ لنا من أن نصنع فيه معنى القيمة، وأن نعيش رحابته، فلا نتقوقع في زاوية هنا وزاوية هناك، ولا نحرّك الحقد لينفتح على ما سمّيناه قداسة، حقد أتباع هذا الدّين على أتباع ذاك الدّين، أو حقد هذا الخط السياسيّ على الخطّ السياسيّ الآخر... هذا عالمٌ لا بدّ من أن نعيش رحابته، تماماً كرحابة الشّمس التي تطلع على البرِّ والفاجر، وكما هي رحابة الينبوع في عطائه عندما يتدفّق على الأرض الخصبة والجدبة، لا بدّ لنا من أن نفكّر، لأن كلّ هذا الضّجيج الذي يفترس كلّ طهر الهدوء في عقولنا وفي قلوبنا وفي حياتنا، يمنعنا من أن نفكّر، ولا بدّ من أن يكون فكرنا فكراً يعيش رحابة الحياة، ويخطّط لرحابة المستقبل".

وكان أكبر همِّ سماحة العلامة المرجع فضل الله(قده)، هو بناء طاقة الإنسان العقلية والروحية والنفسية. ومن أجل ذلك، آمن بأهميّة المؤسسات كوسيلة لتأمين حاجات المجتمع، وبناء الأفراد، وصناعة مستقبلهم .

وشدّد سماحته - منذ بداياته الأولى - على بناء المؤسّسات، وأنّها الباقية والقادرة على التطوّر، وأنّ المجتمع الّذي لا يملك المؤسّسات، هو مجتمع لا يستطيع أن يحقّق حاجاته، ولن يقدر على مواجهة التحدّيات، ولا الوصول إلى أهدافه... أمّا الأفراد، فإنهم يزولون، ومهما كبرت إمكاناتهم، فإنها تبقى محدودة بحدود قدراتهم ونظرتهم إلى الأمور.

ولذلك، كان حرصه - ومن خلال موقعه الديني كمرجع - على الدّعوة إلى المرجعيّة المؤسّسة، لا مرجعيّة الفرد الّذي تزول كلّ مشاريعه بذهابه إلى ربه، أو تتحوّل إلى إرث شخصيّ، أو تفقد الأمّة كلّ النتائج التي حصل عليها، من خلال كونه في أعلى مواقع المسؤوليّة الدينية. (أنظر: المعالم الجديدة للمرجعية الشيعية، دراسة وحوار مع آية الله السيد محمد حسين فضل الله، لسليم الحسني).

ويؤكّد سماحته (قده) أنّ "الفقيه لا يملك حقّ القرار المطلق، وخصوصاً في المواقع الحركيّة، كالمواقع السياسيّة الكبرى والعسكريّة وما إلى ذلك، فلا بدّ له من الرجوع إلى أهل الخبرة، فإذا ابتعد الفقيه عن الرجوع إلى أهل الخبرة فيما لا خبرة له فيه، أو في ما لم يستكمل الخبرة لنفسه فيه، وإذا تحرّك من خلال حالة مزاجيّة، بعيداً عن القانون، فإنّ على الأمّة أن تسقط"[11].

ومنذ عهد مبكر، أنشأ العلامة المرجع(قده) في العام 1978 أولى مؤسّساته، "مبرّة الإمام الخوئي"، ثم تلاها أكثر من 65 مركزاً ومعهداً ومؤسّسة ومدرسة.. وتضمّ جمعيّة المبرّات الخيريّة أكثر من خمسة عشر ألف تلميذ في مدارسها ومؤسّساتها المنتشرة من الشمال إلى الجنوب.

وحريّ بي أن أنقل لكم صورة حيّة، ففي حفل إفطار جمعية المبرات الخيرية السنوي، و"بعد تلاوة عطرة من القرآن الكريم، ألقى الكفيف يوسف دحنون من مؤسسة الهادي للإعاقة السمعيّة والبصرية، كلمة تحدّث فيها عن معاناة المكفوفين في لبنان، وسعيهم إلى نيل أعلى مراتب الدراسة، مشيراً إلى مشاركته في برنامج "من سيربح المليون"، وفوزه بـ125 ألف ريال سعودي، مؤكّداً أنّ الكفيف يمكنه أن يتدرّج في سلّم العلم والعطاء، شرط أن يتحمل المجتمع مسؤوليّته تجاه المكفوفين والمحتاجين".

5ـ الأصالة

ليست الأصالة عند المرجع السيّد فضل الله(قده) جموداً على ما ورد من السّلف، بل هي عدم الخروج على الصّحيح مما ورد من السّلف، من ثوابت العقيدة والقواعد والأحكام... فليس كلّ ما ورد من السلف لا يمكن محاكمته؛ حيث كان(قده) لا يؤمن بالأصالة بمعنى التّقليد والجمود والتّرديد من دون إعادة فهم وصياغة، بل الأصالة عنده(قده)، هي "الأخذ بوعي، والتّرك عن دراية".

وفي حوار مطوّل مع جريدة المجد الأردنيّة، يقول المرجع فضل الله(قده): "إنّ مسألة التّراث هي مسألةٌ لا قداسة فيها بعيداً عن النصّ المقدّس، فكلّ تراث العلماء الفقهي والكلامي والقرآني (بما هو تفسير القرآن)، هو تراث نحترمه في إطار الظروف الموضوعيّة التي أحاطت بالذين أنتجوه في ثقافتهم، وفي مفردات الواقع المحيط بهم، وفي أسلوبهم في فهم النّصّ، وفي المؤثّرات التي أثّرت في اجتهادهم، وما إلى ذلك".

ويضيف قائلاً: "ولهذا، فإنّنا لا نعطي التراث البشريّ قداسة، بل نقول إنّه اجتهاد نحترم جهد أصحابه في إنتاجه، ولكنّنا نقول: إنّ من الممكن أن نناقشهم فيه على الأسس العلميّة الإسلاميّة في مناقشة الفكر، وفي فهم النّصّ، وفي وسيلة الاستنباط. وربما تأتي التحدّيات من خلال أنّ هناك أحداثاً في العصر لم يكن للمجتهدين سابق عهد بها، وأنّ هناك قضايا مستجدّة لم يصدر حكم شرعي تفصيلي فيها. لذلك، من الطبيعي جداً أن ينطلق المجتهدون ليناقشوا ما صدر من اجتهادات من الفقهاء، وليعطوا لكلّ قضية جديدة حكمها على أساس الكتاب والسنّة، وليهدموا كثيراً من الأحكام الاجتهاديّة الّتي ثبت خطؤها، وأنها لا تمثّل الرأي الإسلامي الأصيل، ولا تستوعب العصر كله".

فالمقدّس هو الكتاب والسنّة. أمّا فهم الكتاب والسنّة من قِبَل العلماء الآخرين، فليس مقدّساً، بل هم مجتهدون يُخطئون ويُصيبون، وكم ترك الأوّل للآخر.

فـ(الكتاب والسنّة) هما الخطّ والأفق والعمق بالمعنى المقدّس، ولكنَّ كلام الكتاب والسنّة عربيٌّ، وللكلام العربي قواعده فيما يفهمه النّاس منه، ولذلك، فالنّص بكلماته هو الثّابت، ولكنَّ معنى النصّ بمفهومه هو المتحرّك؛ متحرّكٌ من خلال أنّ حيوية اللغة العربية تجعل الإنسان يفهم النّص في أكثر من احتمال، فالنّص في داخله مملوءٌ بالحيويّة، كما هو مضمون الكلام العربي مملوءٌ بالحيويّة .

وفي إطار تناوله للنصّ الشّرعيّ - فهماً وطرحاً ومعالجة - نرى أنّ للمرجع السيّد فضل الله(قده) أسلوبه الخاصّ؛ حيث كان يتعامل مع النصّ وإيحاءاته بذهنيّة منفتحة، من غير تحميل أو تطويع، لعدة حيثيّات :

أ. إنّ الفقه عند سماحته هو للحياة، وليس مادة علمية مخبرية، فهو ليس فقهاً جامداً وقفاً على مرحلة تاريخية، بل هو فقه يتحرّك مع العصر، ويسدّ الفراغات فيه، ويحاول أن يدفع به إلى المواكبة.

ولذا، يؤكّد(قده) - دائماً - ضرورة تجنّب (الوعي الهندسي) للنصّ الديني، بحسب تعبيره، والذي هو وعي يتعاطى مع النصّ بدقة هندسيّة قد لا تكون بالضّرورة مقصودة لدى المتكلم، مما ينجم عنه الخروج بنتائج غريبة عن مراد المتكلّم. ولذا، كان يؤكّد دوماً ضرورة استجلاء المنطق العرفي، لأنّ المتكلّم كان يتكلّم بما يتعارف عليه الناس في ذلك الزمان، وهو ما يمكن اعتباره جواً اجتماعياً للنصّ، ومفتاحاً لإعادة المعنى الغائب والمغيب في وعي النصّ .

ب. يؤمن السيّد فضل الله(قده) بأنّ الفقه للواقع والعصر، وليس الفقه من أجل الفقه، وكان يريد بذلك أن يواكب الفقه الحياة بإشكالاتها وأسئلتها وحاجاتها، وأن يلاحق الإنسان في أوضاعه وأماكن ترحاله وعمله ونشاطه .

ت. تميّز فقه السيّد فضل الله بالحركية التي تستند إلى أنّ الإسلام هو الشريعة السهلة السمحاء، وقد لجأ السيد إلى التبسيط، وعدم التشديد، وتجنب التوقف والاحتياطات .

ث. أعاد السيد فضل الله(قده) النظر في فهم الكثير من الأحكام، وطرح مفاهيم جديدة تستند إلى علم أهل الاختصاص من الأطباء والعلماء والخبراء .

ج. وسّع من دائرة الاستفادة من أهل الخبرة العلميّة الاختصاصيّة بالعلوم الطبيعيّة في تحديد مواضيع الأحكام، كلّ في مجال اختصاصه... أي أنّه إلى جانب الأخذ بمحدّدات العرف وتفسيراته، كان لأهل الاختصاص مساحة واسعة وتدخّل في إعادة صياغة الحكم الشّرعي[12].

ولذا، يضع السيّد فضل الله عدداً من المبادئ المنهجيّة التي يمكنها أن تضبط عمليّة الاجتهاد :

الأولى: ضرورة مراعاة الأبعاد التاريخيّة: من الضّروريّ دراسة حركة الواقع من أجل استخلاص كيفيّة تحرّك النصوص في هذا الواقع، وليس من أجل إخضاعها لهذا الواقع، إذ ليس هناك سبيل لفصل فهم القرآن عن حركة الإنسان، والمجتهد أو المفسّر يخضع للمؤثرات التي تحيط به وتسهم في تشكيل ذهنيّته، بطريقة شعوريّة أو لا شعوريّة، والضّمانة الجيّدة لمعادلة ذاتيّة الفقيه، هي نقد الفقيه الآخر، وهنا تبرز قيمة الاختلاف.

فبينما يرى الكثير من الفقهاء حرمة دخول المسيحيين والماركسيين وغيرهم من أهل الكتاب والملحدين، المساجد، من أجل الاستماع إلى المحاضرات وغيرها من الأنشطة الإسلاميّة، يرى سماحته الجواز انطلاقاً من النقل التاريخي الثابت، أنّ النبيّ محمداً(ص) كان يستقبل نصارى نجران وغيرهم في المسجد، كذلك، كان الإمام جعفر الصّادق(ع) يستقبل الزنادقة والملحدين، ويحاورهم في المسجد، ولم ينقل أنّه طردهم منه.

الثانية: مراعاة الأبعاد المقاصديّة: وذلك بالبعد عن الانشغال بالعلاقة الشكليّة بين الأحكام الشرعيّة وموضوعاتها، فهي "تمثّل منطلقات الشّرع في أحكامه، أو ما يسمّى بعلل التّشريع أو ملاكاته، وهو ما يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يحقّقه من أهداف في حياته، من خلال التزامه بهذا الحكم الشّرعيّ أو ذاك. ولكنّ المشكلة في البحث الفقهي الاجتهادي، هي أنّ الكثير من الفقهاء يقولون إنّه ليست عندنا أدلّة حاسمة وقاطعة تدلّنا على مقاصد الشّريعة بشكل صريح، على نحو يمكّننا من تحديد علاقة المقاصد بالتّشريع كعلاقة العلّة بالمعلول. ولكنّنا نظنّ ذلك {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[13]. ولذلك، علينا أن نأخذ بالشّريعة حتى لو لم تحقّق ما نظنّ أنّه المقاصد، لأنّ ما نظن أنه كذلك، قد لا يكون هو المقصد الحقيقي، وهذا يعني أنّ المسألة ترتبط بالمصداق الذي يحقّق المفهوم والثبوت، فلا طريق لنا إلى إثبات مقاصد الشّريعة على أنها بمثابة العلل والأسباب للشريعة. وهذه هي المشكلة في هذا المجال، ولذلك ربما أضعنا الكثير من مقاصد الشريعة في كثير من الفتاوى التي يشعر الإنسان معها بأنّ الحكم الشرعيّ يمثّل جسداً بلا روح. ومن الطبيعي أنّ هذه الأمور تحتاج إلى دقّة في الاجتهاد".

الثالثة: التكامليّة في دراسة النّصوص: ووضعها في وحدة موضوعيّة هيكليّة، لنستخلص منها الحكم الشرعي بعيداً عن التجزيء، بحيث تطعم بأبعادها التاريخية والقانونيّة المعاصرة.

الرابعة: حتميّة أن يتحرك الاجتهاد الإسلامي في دائرة المصادر الإسلامية، وأن يخضع لقواعدها: وذلك في مقابل الاجتهاد الذاتي المتجاوز للنصّ، فلا يكون للإسلام دور إلا من خلال العناوين العامّة؛ إذ ينبغي أن تُحكم مسألة الانفتاح والضيق (أو الانغلاق والسعة) بقاعدة شرعيّة، لا أن تكون مُسيّرة وفق مزاج شخصي .

ولذا، كان القرآن في نظر السيّد فضل الله هو مرآة للحديث، وليس معنى ذلك أنّه يقلِّص من حجم السنّة في حركة الاستنباط، ولكنّ الفقهاء اعتادوا في أبحاثهم الفقهيّة الاستنباطيّة التركيز على مناقشة تفاصيل الروايات، من دون الالتفات إلى الأسس القرآنيّة العامّة، وذلك على العكس من المنهج الّذي يطرحه سماحة السيّد، حيث يرى أنّ القرآن هو مرآة الأحاديث، وليست الأحاديث مرآة القرآن .

وعلى مستوى التّطبيق العلمي، نلاحظ أنّ السيّد فضل الله(قده) يتوقّف عند أهميّة توثيق السنّة، ويشدّد على ضرورة التّدقيق في الأحاديث المتعلّقة بتفسير القرآن وتفصيل مجمله ـ ولا سيّما الغيبيّات ـ لما لها من دور رئيس في تشكيل ذهنيّة المسلم العامّة. ويؤكّد أنّ الجهود المبذولة في ذلك، لم تصل إلى نتائج حاسمة لا تقبل الجدل، مهما قيل عن وثاقة كتاب أو مؤلف. لذا، فهو يؤكّد حاكمية القرآن على السنّة، وأنه الميزان الفصل لكلّ ما يُروى من أحاديث، ورفض تخصيص الآية بخبر الواحد، بل ذهب إلى تخصيص الحديث بالآية؛ لأنّ القرآن يتّسم بالتّأصيل والتقعيد، في حين ترد السنة في غالبها - وليس جميعها- لتحاكي تطبيقات وتعالج وقائع هنا وهناك، ما يجعل الحديث يتحرّك في دائرة خاصّة من القرائن والإيحاءات المحيطة به .

ومن الطبيعيّ - بحسب هذا المنهج - أن تكثر مخالفة السيّد لآراء المشهور، وذلك لأنّ الاختلاف في الأسس والمقدّمات يستدعي الاختلاف في الفروع والنّتائج .

الخامسة: صدم الوعي المسكون: عرف سماحة السيّد فضل الله(قده) بجرأته الكبيرة وشجاعته العلمية؛ التي جعلته لا يتردّد في المجاهرة بآرائه المخالفة للمألوف والمتداول، طالما قادته قناعته الفكريّة إلى ذلك. وقد خاض(قده) في مجالات عديدة - فكريّة وفقهيّة وتاريخيّة- ما أثارت عليه ردود فعل كثيرة، ولكنه لم يأبه لها، ولم ينحنِ، بل أصرّ وواصل حتى خمدت العاصفة، وبقي رأيه صامداً يحثّ الآخرين على التفكير والجديّة في التقييم، ولم يتوقف، وجرّ عليه ذلك كلاماً كثيراً، ولم يبالِ.. ولقد أسّس لهذه الفكرة من خلال وعيه القرآني في الكثير من مفاصل حركة النبوّة[14].

ولا يفتأ(قده) يُذكّر من حوله بهذا الوعي النبويّ، حتى أثناء تدارسه للتاريخ الإسلامي، ففي حركة صلح الحسن وثورة الحسين، يقول: "إنّ صلح الإمام الحسن(ع) لم يكن حالة ضعف أو حالة هروب من الشّهادة. لقد كانت القضية أن يفسح الإمام الحسن(ع) بهذا الصلح المجال للناس ليدرسوا الأُمور على الطبيعة، لتتحرّك المعارضة من خلال أنّ هناك واقعاً يُنمّيها ويُنمّي قواعدها، مع إمكانيّة أن يسمح المستقبل بالحركة. وهكذا كان، إذ لم تمض سنون على ذلك، إلاّ وكانت هناك قاعدة تنتقد، وتعترض، وتشير.. وكانت انطلاقة الإمام الحسين(ع) هي الصّدمة التي أراد من خلالها أن يصدم الواقع، حتّى يهزّه هزّةً عنيفةً من الأعماق، من أجل أن تؤثّر تلك الصدمة في المستقبل، عندما ينفتح الناس على قضيّة الحسين(ع)، ليفكّروا: كيف انطلقت؟ وكيف عاشت؟ وكيف تحرّكت؟ لهذا: فإنّ أسلوب الإمام الحسن(ع) كان أُسلوب المرحلة في حركة الإسلام، وأُسلوب الإمام الحسين(ع) كان أُسلوب المرحلة أيضاً".

ولا نزال نتذكّر كيف كانت آراء السيّد - التي كانت تصلنا في الخليج - تشكّل ما يشبه الصّدمة العلميّة، ما يدفع الطلاب والأساتذة إلى المناقشة والبحث العلميّ، وذلك على غرار ما تحدثه الصّدمة الطبيّة التي تُعطى للمريض من أجل إعادة ضربات القلب فيه، ولا يزال هذا المنهج يحتاج إلى وقت ليس قصيراً حتى يشقّ طريقه في الأوساط الحوزويّة، وحتى يأخذ أبعاده من التعميق والتركيز والمناقشة .

السابعة: العالمية: لم يحشر السيّد فضل الله نفسه في مساحة ضيّقة ولم يؤطّر اهتمامه بجماعة معيّنة، بل كان إنسانياً في اهتمامه وموقفه، وعالمياً في توجّهه ونزعته، ولذا كانت قضايا المسلمين وغيرهم حاضرةً عنده، يوليها رعايته واهتمامه، ويسلّط الأضواء عليها في خطبه، بل لا يترك أمراً يمرّ دون أن يسجّل موقفه منه، ويبدي رأيه فيه، وكان يتحرّك في كلّ دائرة تتحرّك فيها قضايا الإنسان المعاصر سياسيّاً واجتماعيّاً ومعرفيّاً واقتصاديّاً .

ويؤكّد سماحته أنّه ينطلق في الاتجاه الّذي يريد منّا الإسلام أن ننطلق فيه، وإن أبطأتها الأدوات الماديّة، فهو يقول: "هناك فرق بين الأدوات المادية التي يملك فيها الآخرون ظروف الغزو، فمثلاً يملك الآخرون الأجهزة الإعلاميّة كما يملكون القوة المادية والقوة السياسية والاقتصادية التي تتيح لهم أن ينفّذوا مآربهم في كلّ مكان في العالم. هذا صحيح، ولكنّنا نملك أصالة الفكر الإسلامي، وإنسانية الفكر الإسلامي، وعقلانية الفكر الإسلامي. ومن الطبيعي، فإنّ الإنسان الذي أحاطت به التكنولوجيا من جميع الجهات، لا يزال يبحث عن الروح، ويبحث عن العقلانية الصافية. وعندما نلتقي بمفكرين كبار من الغربيين، ممن دخلوا في الإسلام بعد أن كانوا مسيحيين أو ماركسيين، نعرف أنّ الإسلام يخترق فكر هؤلاء المثقّفين الذين عاشوا الثقافة الغربية بكل عناصرها، ولكنهم رأوا في الإسلام الأصالة، ورأوا فيه الدين الذي يحترم الإنسان كلّه، فعندما نرى ذلك، فإننا نشعر بواقعية أنّ الإسلام دين عالمي. ولكنّ المشكلة هي أنّ المسلمين لم يتحوّلوا إلى دعاة، بل إنهم يعيشون في داخل ذواتهم أشكال التخلف، ومشكلتنا هي قيادات الجهل والتخلّف والخرافة التي أساءت إلى الإسلام، وإلا، فلو عرف النّاس الإسلام الأصيل، الإسلام القرآني، والإسلام المحمّدي، والإسلام الّذي انطلق في خطّ الأئمة(ع)، لرأوا ما يجعلهم يؤمنون به، ويشعرون بأنّه هو الّذي يجلب لهم السّعادة في الدّنيا والآخرة".

كان واضحاً أمام سماحة السيد(قده) منذ اللحظة الأولى لمجيئه إلى لبنان، أنّه لا بدّ من العمل للإسلام في إطار مشروع متكامل، وأنّ العدّة التي لا بدّ من مباشرة العمل بها، هي الإخلاص والإصرار والمزيد من الصّبر على المكاره. وقد أعان سماحته على استيعاب صعوبات العمل في الساحة اللّبنانيّة، ما أكسبته إيّاه الساحة العراقيّة من خبرة، وهي ساحة تتمتّع بالغنى في جميع مجالاتها، حيث كانت الأنشطة التي زاولها في مناطق شاسعة من العراق، والتي انفتح فيها على شرائحها الشعبيّة والثقافية والاجتماعية المتنوّعة تأثراً وتأثيراً، كانت له عوناً وخبرةً على معالجة ساحة هي في غاية التعقيد كالساحة اللّبنانيّة.

لقد ترجم سماحة السيّد فضل الله توجهه الإسلامي العالمي، عن طريق طرح الإسلام كفكر عام غير حزبي، وغير طائفي، وغير مذهبي، وسعى إلى أن يكون عامل جذب متنوّع لكلّ من أراد التزام الإسلام بلا عقد وحواجز، ولكلّ من أراد التعرّف إلى الإسلام بدون تعقيدات المذاهب والطّوائف والأحزاب. 

 


[1] ("التفسير والمفسرون" للشيخ محمد هادي معرفة، ص 1029-1030).

[2] (خطوات على طريق الإسلام: ص 407-530).

[3] (انظر له: "حركة النبوة في مواجهة الانحراف"، و"علي ميزان الحقّ"، و"الزهراء قدوة"، و"في رحاب أهل البيت"، و"حديث عاشوراء").

[4] (المشروع الحضاري الإسلامي، السيد محمد حسين فضل الله: ص 30).

[5] (انظر: "مفاهيم حركيّة من وحي القرآن"، الشيخ علي حسن غلوم).

[6] (سير أعلام النبلاء، للذهبي: ج 6، ص 257، وتهذيب الكمال: ج 5، ص 79).

[7]  (الكافي: ج 1، ص 27 و39).

[8] (جريدة بيّنات، السنة الرابعة، 18/4/1420هـ، 31/7/1999م، العدد 137).

[9]  (الخطاب الإسلامي والتيارات المعاصرة، محاضرة ألقاها في المركز الثقافي، ومجلس مدينة حمص، في 12/3/2001).

[10]  (تأمّلات في الخطاب الإسلامي المعاصر، المنطلق، عدد 108 - 109، 1415هـ / 1994م).

[11]  (الدين والمجتمع والسياسة في عالم متبدّل، مقابلة مع العلامة السيّد محمد حسين فضل الله، مجلّة العلوم الاجتماعية، ص 20، المجلد 26، العدد 2، صيف 1998).

[12]  (انظر: "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل"، و"فقه الحياة").

[13]  [النجم: 28]

[14] (البقرة: 142-152و 213، آل عمران: 38-41 و 153-154، الأنعام: 27-32، يوسف: 81-87، الأعراف: 142-145، الأحزاب: 37-40، الإسراء: 83-84، النازعات: 15-26).

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .


ترك السيد فضل الله ما يزيد عن مائة وعشرين كتاباً مطبوعاً؛ تمثّل معالم المنهج الفكري والمشروع الحضاري للإسلام، كما يراه سماحته .ولم يكن هَمُّه في ما كتب هو التّرف الفكري، بل كان همّه وضع لَبِنَات في البناء الفكري والحضاري للأمّة؛ ما جعل تلك المؤلّفات بمثابة كتيبة جهاد فكري للسيّد فضل الله؛ فقد أتت متنوعة لتشمل ما يشغل الأمّة في الداخل والخارج، حاضراً ومستقبلاً.

وتوزّعت إسهاماته الفكرية على العديد من أبواب المعرفة، وكان له فيها إضافات ومبادرات، استطاع أن يفتح من خلالها أبواباً جديدة؛ فهماً وصياغة ومراجعة، وحاول(قده) أن يثير الاهتمام والسؤال عن المتوارث والمنقول، وضرورة تقييم كل ذلك بميزان العقل، فالسيّد محمد حسين فضل الله(قده) مدرسة حاولت أن تشقّ لها طريقاً مغايراً خارج المألوف، ولم يكن ذلك أمراً يسيراً، فقد واجه حملات مضادة، ومعارك امتدّت إلى أكثر من ساحة، لمجرّد رأي في حدث أو إثارة سؤال.

1ـ الواقعيّة الرساليّة

والواقع الرسالي بالنسبة إلى السيد فضل الله(قده)، هو الوسط الذي يتفاعل معه، بحيث يأخذ منه ويعطيه، فلم يكن يأخذ في معالجاته الفكرية والمعرفية الشكل التجريدي الحالم، بل كان واقعياً وموضوعياً في المعالجة والفهم والتصور.

ولا تختلف هذه الرؤية الواقعية حتى في تفسيره "من وحي القرآن"، فهو: " تفسير تربوي اجتماعي شامل، ويعدّ من أروع التفاسير الجامعة، النابعة من روح حركية نابضة بالحيوية الإسلامية العريقة. انطلق فيه المؤلف في إحياء الجو القرآني في كل مجالات الحياة المادية والمعنوية..."[1].

وكذلك هو الحال على مستوى تعامله مع قراءته لشخصيّة الرسول(ص) في خطّ رسالته، حيث لا مجال لمعرفته إلا من خلال ما يوحي به الله في كتابه، وما يلهمه أو يبيّنه لرسوله الذي يعبّر عنه في سنّته. ومن هنا، لا بدّ للمسلمين من أن يستغرقوا في دراسة هذه القضيّة من خلال القرآن في ظواهره، من حيث يريد الله للناس أن يفهموه ويعتقدوه ويعيشوه، ولا سيما في عهد الرسالة الأول؛ حيث كان النبي(ص) يعيش مع أتباعه (المسلمين) وخصومه (المشركين) في آن واحد، الأمر الذي كان يثير الكثير من المشاكل والتعقيدات وعلامات الاستفهام، باعتبار أنّ الوحي كان ينطلق من الفكرة العامة على مستوى النظرية، ومن حركة التجربة الواقعية على مستوى التطبيق، فكان الناس يرون النبي(ص) في مضمون الآيات، ويحدّقون به في حركة الواقع، فيجدون وحدة الخطّ الفكري مع التجسيد الإنساني الواقعي، وفي سلوكه العملي مع الناس؛ لأنّه ليس من الطبيعي أن تكون الصورة النبوية في الوجدان الإسلامي في تلك المرحلة ـ التي تؤسّس للمراحل القادمة ـ بعيدة عن الصّورة الواقعيّة[2].

ولا تغيب هذه الواقعيّة الرساليّة في تناوله بالدراسة والتحليل لأدوار أئمة أهل البيت؛ بل وفي كلّ دراساته للتاريخ الإسلامي وأحداثه[3].

2ـ  حركيّة الإسلام

يؤمن السيّد محمد حسين فضل الله(قده) بحركيّة الإسلام وعدم جموده، والحركيّة  ـ عنده ـ تعني :

-  القدرة على التّطبيق .

-  القابلية على التّنفيذ.

-  المرونة في التعاطي مع الأحداث والوقائع.

-  الاستيعاب للمتغيّرات.

فالإسلام يختزن في داخله الدّعوة إلى تطوير الواقع على أساس، "اعتبار العقل مسؤوليّة الإنسان العاقل، واعتبار الحواسّ مسؤوليّة الإنسان الذي يملكها ليستخدمها في خطّ التجربة، ويحثّ الإنسان على أن يدخل في كل يوم جديد في مواقع جديدة فيما يكتشفه من أسرار الكون.. وعلى هذا الأساس، فإنّ الإسلام يدعو الإنسان دائماً إلى أن يتجدد، ويدعو العقل دائماً إلى أن يتحرك، ويدعو التجربة دائماً إلى أن تدخل في كل الواقع"[4].

فالإسلام الحركي هو أن يكون الإنسان مسلماً في كلّ أحواله، في السِّلم وفي الحرب، في حال الشدّة والرّخاء، في الفقه وفي الفلسفة وفي السياسة... هو أن يكون مسلماً في الاستراتيجيات وفي التكتيك، بخلاف بعض الناس الذين انطلقوا بالتكتيك وابتعدوا عن الإسلام، أو حاولوا أن يجدوا في الضربة الاستراتيجية ما يعفيهم من الالتزام بها فكراً وحركة.

فالذين انطلقوا بالفكر الإسلامي تنظيراً وحركة، انطلقوا به بعد أن عاشوا تجارب كثيرة، وواجهوا تحدّيات كثيرة، ولكنّ السيّد محمد حسين فضل الله كان على خلافهم، فقد انطلق بالإسلام كقاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة؛ فهو يقول: "إنّ الإسلام انطلق حركياً، ولا يمكن له أن يجد أيّ موقع في الفكر أو في الواقع، إلا إذا عاد حركيّاً".

ولذلك، يؤكّد أنّ "القرآن لا يفهمه إلا الحركيّون الّذين عاشوا معنى الحركية الإسلامية في حيوية الإسلام في انطلاقه مع الإنسان والعالم"[5].

3ـ الانفتاح على المعاصرة

عاش المرجع السيد محمد حسين فضل الله منفتحاً على الإسلام، ومقبلاً إليه، ومنسجماً معه، وفي الوقت نفسه، استفاد أيضاً من النتاج الإنساني، انطلاقاً من أهمية (التجربة الإنسانية المختلفة)، وأراد أن يفتح الإسلام على العصر، ويفتح العصر على الإسلام .

ولا يكون الإنسان معاصراً إلا إذا كان محيطاً بوعي الاختلاف عند البشر وما يحملونه من علوم؛ ولقد سُئِل الإمام أبو حنيفة عن أفقه الناس في زمانه، فأجاب: جعفر بن محمد.  والسبب في ذلك، كما يقول أبو حنيفة نفسه: "أليس قد روينا أنَّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟!"[6].

قال الصّادق(ع) فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ: "عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ عَارِفاً بِزَمَانِه، مُقْبِلاً عَلَى شَأْنِه، حَافِظاً لِلِسَانِه"[7]. والسبب في ذلك، كما يقول السيّد فضل الله: "لأنّ الكلام ينطلق من العلم والمعرفة والعقل، فلا بدّ للإنسان من أن يعرف عصره وأهل عصره، كيف يفكّرون ويتحرّكون، وكيف يركّزون علاقاتهم، وكيف يفهمون الحرب والسِّلم والوعي والتخلّف. فالإنسان الذي يعيش عصره وهو لا يفهمه، هو إنسان يعيش العمى العقلي، والعمى الروحي، والعمى الحركي في حياته.

ولعلّ مشكلة الكثير من العلماء والمصلحين ـ وهم المخلصون لعملهم ولرسالتهم ـ أنهم يعيشون خارج عصرهم، فبينهم من يعيش في زمن ما قبل الألف عام، ويقرأ الكتب التي ألّفت آنذاك، ما يمثّل تجربة العالم أو المفكّر في ذلك المجتمع، ولكنه لا يدرس الواقع الذي يعيشه مجتمعه الآن. ونحن نعرف أنّ الذهنيّة لغة، فكما أنك لا تستطيع أن تكلّم من يعرف العربية بالإنجليزية، لا يمكن أيضاً أن تكلّم من يعيش ذهنية القرون الوسطى في طريقة تفكيره ومواجهته للأشياء بذهنيّة معاصرة، والعكس صحيح. لذلك، جاء التأكيد في أكثر من حديث، بأن يكون العاقل عارفاً بأهل زمانه. والربط بالعقل يوحي بأنّ من العقل ذلك؛ لأنّ العقل يريد منك أن تندمج في مجتمعك وتحقّق رسالتك فيه، وأن تدخل فكرك إلى عقول المجتمع الّذي يعيش معك، وأن تتحرّك معهم للتكامل معهم"[8].

لقد أراد(قده) أن يعيش عصره بالإسلام من غير تردّد أو انفصام، وأن لا يكون غريباً على عصره، أو متبرّماً منه، أو كافراً به، أو مهاجراً عنه... بل أراد أن يحاور عصره، ويأخذ منه ويعطيه، في انسجام وتكامل في إطار الإسلام، حيث لا تتحقّق المعاصرة إلا من خلال التفاعل والمواكبة والقدرة على التواصل والتوليد .

فالخطاب الإسلامي ـ في أجواء المعاصرة ـ "هو الخطاب الذي يجبُ أنْ نوسِّعَ آفاقه، ليشمَلَ خطاب الإنسان للإنسان، فإسلامُكَ هو عيشٌ للإنسانيّة فيه؛ لأنَّ هذه الإنسانيّة هي صورةٌ داخلنا، وصورةُ عقلنا المفكّر، وقلبنا النابض في الذات، وطاقتنا المتفجِّرة في الواقع"[9].

ولذلك، نراه(قده) يناقش الخطّ التقليدي ـ الّذي ينطلق من مفردات الاجتهادات التاريخيّة وأساليبها، من دون دراسة المتغيّرات الكبيرة التي تحكم الواقع في تطوّر قضاياه وحاجاته ووسائله وعلاقاته ـ سواء من ناحية طريقة الحكم وعنوانه وإدارته وتنظيمه، أو من ناحية الأوضاع السياسيّة التي تحيط به، أو من جانب التحدّيات الفكرية التي تترك تأثيراتها في المسألة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وكان(قده) يلاحظ على هذه الفئة، أنّ اللّغة التي يتحدّثون بها على صعيد المضمون والأسلوب، لا تتناسب مع مفردات اللّغة المعاصرة. ويقصد باللّغة - هنا- الذهنيّة التي تتحرّك بها وسائل التعبير ومفردات التفكير؛ لأنّ الذهنيّة المتنوّعة تمثّل حاجزاً عن التفاهم، تماماً كما هي اللّغة في طبيعتها. ولهذا، انطلقت الرّسالات في خطّ الأنبياء، لتدفعهم إلى أن يخاطبوا الناس بقدر عقولهم، كما جاء في الحديث المأثور عن النبيّ محمد(ص): "إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلِّم الناس على قدر عقولهم"[10].

وفي سؤال عن الإسلام والتحدّيات المعاصرة، أجاب المرجع السيّد فضل الله(قده) - مفصّلاً:- "إنّ المسألة ليست هي أن ينتظر المسلمون حتّى يؤسّسوا فكراً يواجه المتغيّرات أو التحدّيات، بل إنّ المسألة هي أن لا يبقى الإسلام الفكري والحركي في منأى عن الواقع، أن لا يهرب من ساحة الصّراع، أن لا يواجه المتغيّرات ـ التي قد تتحوّل إلى تحدّيات بحسب اختلافها مع الخطوط الفكرية الإسلامية ـ بطريقة اللامبالاة.

ونحن نؤكّد أنّ الإسلام يملك من خلال قواعده الثقافية - بكلّ تنوّعاتها - أن يواجه الفكرة المضادّة التي ربما جاء بها العصر، أو أن يقف من المتغيرات موقف الباحث الذي يدرس كلّ مفردة من مفرداتها بطريقة موضوعيّة، يتعرّف من خلالها ما ينسجم منها مع الفكر الإسلامي فيلتقي به، وما يتنافى مع هذا الفكر فيناقشه.

إنّنا نعتقد أنّ الإسلام يملك حيويّة ثقافيّة في مواجهة كلّ التحدّيات الفكريّة التي تناقض فكره، أو تناقش فكره، أو تنحرف بالواقع عن مسار فكره. ليست المسألة أنّنا ننتظر أن يأتي الآخرون لننتج فكراً جديداً، بل أن نحرّك ما لدينا من فكر في مواجهة كلّ التحدّيات.

وليس معنى أن يكون النصّ مقدّساً -كما هو مقدّس في الكتاب والسنّة- أن يتجمّد الفكر في داخل النّصّ، لأنّ ثبات النصّ ككلمة، لا يعني جمود المفهوم عند ثبات الكلمة. فللمفهوم عالم واسع متحرّك يمكن أن يجتهد فيه المجتهدون، ليفهم مجتهد منه شيئاً، ويفهم مجتهد آخر منه شيئاً. إنّ الكلمة ثابتة، ولكنّ المفهوم متحرّك، ونحن من خلال حركيّة المفهوم، ننطلق لنستوحي إسلاماً يبقى متحرّكاً مع الحياة، لأنّ الكلمة قد تأتي في موقع، ولكنّ الموقع يمثّل النموذج الذي يتّسع لكلّ النماذج المماثلة في حركيّة الحياة".

4ـ الإصلاح والتّغيير

يتطلّع المرجع السيّد فضل الله(قده) إلى تغيير الحياة والمجتمع والإنسان على أساس مشروع متكامل الجوانب، تلتقي فيها الخيوط في تناسق تامّ، ولم يكن يكتفي بالوعظ والإرشاد الأخلاقيّ، أو إسقاط الواجب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحدوده الفرديّة والجزئيّة، بل كان يخاطب بالتغيير كلَّ مفصل من مفاصل الحياة والمجتمع، ولم يكن التّغيير - عنده- يستند إلى الفكر فحسب، بل كانت المؤسّسات والحركات والمشاريع والبرامج تستلهم رؤاه في حركة الإصلاح والتّغيير.

يقول(قده) في حفل خيري للمبرّات الخيرية: "هذا عالمٌ لا بدّ لنا من أن نصنعه، لأنّ كلّ جيل يصنَعُ عالَمه، أن نصنع الإنسان الّذي يمكن أن يضيء ويتوهّج وينفتح ويسمو ويبدِع، حتى نشعر بأنّ إنسانيّتنا تنتج وتتحرّك وتتغيّر، وتغيّر الواقع نحو الأفضل... هذا عالمٌ لا بدّ لنا من أن نصنع فيه معنى القيمة، وأن نعيش رحابته، فلا نتقوقع في زاوية هنا وزاوية هناك، ولا نحرّك الحقد لينفتح على ما سمّيناه قداسة، حقد أتباع هذا الدّين على أتباع ذاك الدّين، أو حقد هذا الخط السياسيّ على الخطّ السياسيّ الآخر... هذا عالمٌ لا بدّ من أن نعيش رحابته، تماماً كرحابة الشّمس التي تطلع على البرِّ والفاجر، وكما هي رحابة الينبوع في عطائه عندما يتدفّق على الأرض الخصبة والجدبة، لا بدّ لنا من أن نفكّر، لأن كلّ هذا الضّجيج الذي يفترس كلّ طهر الهدوء في عقولنا وفي قلوبنا وفي حياتنا، يمنعنا من أن نفكّر، ولا بدّ من أن يكون فكرنا فكراً يعيش رحابة الحياة، ويخطّط لرحابة المستقبل".

وكان أكبر همِّ سماحة العلامة المرجع فضل الله(قده)، هو بناء طاقة الإنسان العقلية والروحية والنفسية. ومن أجل ذلك، آمن بأهميّة المؤسسات كوسيلة لتأمين حاجات المجتمع، وبناء الأفراد، وصناعة مستقبلهم .

وشدّد سماحته - منذ بداياته الأولى - على بناء المؤسّسات، وأنّها الباقية والقادرة على التطوّر، وأنّ المجتمع الّذي لا يملك المؤسّسات، هو مجتمع لا يستطيع أن يحقّق حاجاته، ولن يقدر على مواجهة التحدّيات، ولا الوصول إلى أهدافه... أمّا الأفراد، فإنهم يزولون، ومهما كبرت إمكاناتهم، فإنها تبقى محدودة بحدود قدراتهم ونظرتهم إلى الأمور.

ولذلك، كان حرصه - ومن خلال موقعه الديني كمرجع - على الدّعوة إلى المرجعيّة المؤسّسة، لا مرجعيّة الفرد الّذي تزول كلّ مشاريعه بذهابه إلى ربه، أو تتحوّل إلى إرث شخصيّ، أو تفقد الأمّة كلّ النتائج التي حصل عليها، من خلال كونه في أعلى مواقع المسؤوليّة الدينية. (أنظر: المعالم الجديدة للمرجعية الشيعية، دراسة وحوار مع آية الله السيد محمد حسين فضل الله، لسليم الحسني).

ويؤكّد سماحته (قده) أنّ "الفقيه لا يملك حقّ القرار المطلق، وخصوصاً في المواقع الحركيّة، كالمواقع السياسيّة الكبرى والعسكريّة وما إلى ذلك، فلا بدّ له من الرجوع إلى أهل الخبرة، فإذا ابتعد الفقيه عن الرجوع إلى أهل الخبرة فيما لا خبرة له فيه، أو في ما لم يستكمل الخبرة لنفسه فيه، وإذا تحرّك من خلال حالة مزاجيّة، بعيداً عن القانون، فإنّ على الأمّة أن تسقط"[11].

ومنذ عهد مبكر، أنشأ العلامة المرجع(قده) في العام 1978 أولى مؤسّساته، "مبرّة الإمام الخوئي"، ثم تلاها أكثر من 65 مركزاً ومعهداً ومؤسّسة ومدرسة.. وتضمّ جمعيّة المبرّات الخيريّة أكثر من خمسة عشر ألف تلميذ في مدارسها ومؤسّساتها المنتشرة من الشمال إلى الجنوب.

وحريّ بي أن أنقل لكم صورة حيّة، ففي حفل إفطار جمعية المبرات الخيرية السنوي، و"بعد تلاوة عطرة من القرآن الكريم، ألقى الكفيف يوسف دحنون من مؤسسة الهادي للإعاقة السمعيّة والبصرية، كلمة تحدّث فيها عن معاناة المكفوفين في لبنان، وسعيهم إلى نيل أعلى مراتب الدراسة، مشيراً إلى مشاركته في برنامج "من سيربح المليون"، وفوزه بـ125 ألف ريال سعودي، مؤكّداً أنّ الكفيف يمكنه أن يتدرّج في سلّم العلم والعطاء، شرط أن يتحمل المجتمع مسؤوليّته تجاه المكفوفين والمحتاجين".

5ـ الأصالة

ليست الأصالة عند المرجع السيّد فضل الله(قده) جموداً على ما ورد من السّلف، بل هي عدم الخروج على الصّحيح مما ورد من السّلف، من ثوابت العقيدة والقواعد والأحكام... فليس كلّ ما ورد من السلف لا يمكن محاكمته؛ حيث كان(قده) لا يؤمن بالأصالة بمعنى التّقليد والجمود والتّرديد من دون إعادة فهم وصياغة، بل الأصالة عنده(قده)، هي "الأخذ بوعي، والتّرك عن دراية".

وفي حوار مطوّل مع جريدة المجد الأردنيّة، يقول المرجع فضل الله(قده): "إنّ مسألة التّراث هي مسألةٌ لا قداسة فيها بعيداً عن النصّ المقدّس، فكلّ تراث العلماء الفقهي والكلامي والقرآني (بما هو تفسير القرآن)، هو تراث نحترمه في إطار الظروف الموضوعيّة التي أحاطت بالذين أنتجوه في ثقافتهم، وفي مفردات الواقع المحيط بهم، وفي أسلوبهم في فهم النّصّ، وفي المؤثّرات التي أثّرت في اجتهادهم، وما إلى ذلك".

ويضيف قائلاً: "ولهذا، فإنّنا لا نعطي التراث البشريّ قداسة، بل نقول إنّه اجتهاد نحترم جهد أصحابه في إنتاجه، ولكنّنا نقول: إنّ من الممكن أن نناقشهم فيه على الأسس العلميّة الإسلاميّة في مناقشة الفكر، وفي فهم النّصّ، وفي وسيلة الاستنباط. وربما تأتي التحدّيات من خلال أنّ هناك أحداثاً في العصر لم يكن للمجتهدين سابق عهد بها، وأنّ هناك قضايا مستجدّة لم يصدر حكم شرعي تفصيلي فيها. لذلك، من الطبيعي جداً أن ينطلق المجتهدون ليناقشوا ما صدر من اجتهادات من الفقهاء، وليعطوا لكلّ قضية جديدة حكمها على أساس الكتاب والسنّة، وليهدموا كثيراً من الأحكام الاجتهاديّة الّتي ثبت خطؤها، وأنها لا تمثّل الرأي الإسلامي الأصيل، ولا تستوعب العصر كله".

فالمقدّس هو الكتاب والسنّة. أمّا فهم الكتاب والسنّة من قِبَل العلماء الآخرين، فليس مقدّساً، بل هم مجتهدون يُخطئون ويُصيبون، وكم ترك الأوّل للآخر.

فـ(الكتاب والسنّة) هما الخطّ والأفق والعمق بالمعنى المقدّس، ولكنَّ كلام الكتاب والسنّة عربيٌّ، وللكلام العربي قواعده فيما يفهمه النّاس منه، ولذلك، فالنّص بكلماته هو الثّابت، ولكنَّ معنى النصّ بمفهومه هو المتحرّك؛ متحرّكٌ من خلال أنّ حيوية اللغة العربية تجعل الإنسان يفهم النّص في أكثر من احتمال، فالنّص في داخله مملوءٌ بالحيويّة، كما هو مضمون الكلام العربي مملوءٌ بالحيويّة .

وفي إطار تناوله للنصّ الشّرعيّ - فهماً وطرحاً ومعالجة - نرى أنّ للمرجع السيّد فضل الله(قده) أسلوبه الخاصّ؛ حيث كان يتعامل مع النصّ وإيحاءاته بذهنيّة منفتحة، من غير تحميل أو تطويع، لعدة حيثيّات :

أ. إنّ الفقه عند سماحته هو للحياة، وليس مادة علمية مخبرية، فهو ليس فقهاً جامداً وقفاً على مرحلة تاريخية، بل هو فقه يتحرّك مع العصر، ويسدّ الفراغات فيه، ويحاول أن يدفع به إلى المواكبة.

ولذا، يؤكّد(قده) - دائماً - ضرورة تجنّب (الوعي الهندسي) للنصّ الديني، بحسب تعبيره، والذي هو وعي يتعاطى مع النصّ بدقة هندسيّة قد لا تكون بالضّرورة مقصودة لدى المتكلم، مما ينجم عنه الخروج بنتائج غريبة عن مراد المتكلّم. ولذا، كان يؤكّد دوماً ضرورة استجلاء المنطق العرفي، لأنّ المتكلّم كان يتكلّم بما يتعارف عليه الناس في ذلك الزمان، وهو ما يمكن اعتباره جواً اجتماعياً للنصّ، ومفتاحاً لإعادة المعنى الغائب والمغيب في وعي النصّ .

ب. يؤمن السيّد فضل الله(قده) بأنّ الفقه للواقع والعصر، وليس الفقه من أجل الفقه، وكان يريد بذلك أن يواكب الفقه الحياة بإشكالاتها وأسئلتها وحاجاتها، وأن يلاحق الإنسان في أوضاعه وأماكن ترحاله وعمله ونشاطه .

ت. تميّز فقه السيّد فضل الله بالحركية التي تستند إلى أنّ الإسلام هو الشريعة السهلة السمحاء، وقد لجأ السيد إلى التبسيط، وعدم التشديد، وتجنب التوقف والاحتياطات .

ث. أعاد السيد فضل الله(قده) النظر في فهم الكثير من الأحكام، وطرح مفاهيم جديدة تستند إلى علم أهل الاختصاص من الأطباء والعلماء والخبراء .

ج. وسّع من دائرة الاستفادة من أهل الخبرة العلميّة الاختصاصيّة بالعلوم الطبيعيّة في تحديد مواضيع الأحكام، كلّ في مجال اختصاصه... أي أنّه إلى جانب الأخذ بمحدّدات العرف وتفسيراته، كان لأهل الاختصاص مساحة واسعة وتدخّل في إعادة صياغة الحكم الشّرعي[12].

ولذا، يضع السيّد فضل الله عدداً من المبادئ المنهجيّة التي يمكنها أن تضبط عمليّة الاجتهاد :

الأولى: ضرورة مراعاة الأبعاد التاريخيّة: من الضّروريّ دراسة حركة الواقع من أجل استخلاص كيفيّة تحرّك النصوص في هذا الواقع، وليس من أجل إخضاعها لهذا الواقع، إذ ليس هناك سبيل لفصل فهم القرآن عن حركة الإنسان، والمجتهد أو المفسّر يخضع للمؤثرات التي تحيط به وتسهم في تشكيل ذهنيّته، بطريقة شعوريّة أو لا شعوريّة، والضّمانة الجيّدة لمعادلة ذاتيّة الفقيه، هي نقد الفقيه الآخر، وهنا تبرز قيمة الاختلاف.

فبينما يرى الكثير من الفقهاء حرمة دخول المسيحيين والماركسيين وغيرهم من أهل الكتاب والملحدين، المساجد، من أجل الاستماع إلى المحاضرات وغيرها من الأنشطة الإسلاميّة، يرى سماحته الجواز انطلاقاً من النقل التاريخي الثابت، أنّ النبيّ محمداً(ص) كان يستقبل نصارى نجران وغيرهم في المسجد، كذلك، كان الإمام جعفر الصّادق(ع) يستقبل الزنادقة والملحدين، ويحاورهم في المسجد، ولم ينقل أنّه طردهم منه.

الثانية: مراعاة الأبعاد المقاصديّة: وذلك بالبعد عن الانشغال بالعلاقة الشكليّة بين الأحكام الشرعيّة وموضوعاتها، فهي "تمثّل منطلقات الشّرع في أحكامه، أو ما يسمّى بعلل التّشريع أو ملاكاته، وهو ما يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يحقّقه من أهداف في حياته، من خلال التزامه بهذا الحكم الشّرعيّ أو ذاك. ولكنّ المشكلة في البحث الفقهي الاجتهادي، هي أنّ الكثير من الفقهاء يقولون إنّه ليست عندنا أدلّة حاسمة وقاطعة تدلّنا على مقاصد الشّريعة بشكل صريح، على نحو يمكّننا من تحديد علاقة المقاصد بالتّشريع كعلاقة العلّة بالمعلول. ولكنّنا نظنّ ذلك {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[13]. ولذلك، علينا أن نأخذ بالشّريعة حتى لو لم تحقّق ما نظنّ أنّه المقاصد، لأنّ ما نظن أنه كذلك، قد لا يكون هو المقصد الحقيقي، وهذا يعني أنّ المسألة ترتبط بالمصداق الذي يحقّق المفهوم والثبوت، فلا طريق لنا إلى إثبات مقاصد الشّريعة على أنها بمثابة العلل والأسباب للشريعة. وهذه هي المشكلة في هذا المجال، ولذلك ربما أضعنا الكثير من مقاصد الشريعة في كثير من الفتاوى التي يشعر الإنسان معها بأنّ الحكم الشرعيّ يمثّل جسداً بلا روح. ومن الطبيعي أنّ هذه الأمور تحتاج إلى دقّة في الاجتهاد".

الثالثة: التكامليّة في دراسة النّصوص: ووضعها في وحدة موضوعيّة هيكليّة، لنستخلص منها الحكم الشرعي بعيداً عن التجزيء، بحيث تطعم بأبعادها التاريخية والقانونيّة المعاصرة.

الرابعة: حتميّة أن يتحرك الاجتهاد الإسلامي في دائرة المصادر الإسلامية، وأن يخضع لقواعدها: وذلك في مقابل الاجتهاد الذاتي المتجاوز للنصّ، فلا يكون للإسلام دور إلا من خلال العناوين العامّة؛ إذ ينبغي أن تُحكم مسألة الانفتاح والضيق (أو الانغلاق والسعة) بقاعدة شرعيّة، لا أن تكون مُسيّرة وفق مزاج شخصي .

ولذا، كان القرآن في نظر السيّد فضل الله هو مرآة للحديث، وليس معنى ذلك أنّه يقلِّص من حجم السنّة في حركة الاستنباط، ولكنّ الفقهاء اعتادوا في أبحاثهم الفقهيّة الاستنباطيّة التركيز على مناقشة تفاصيل الروايات، من دون الالتفات إلى الأسس القرآنيّة العامّة، وذلك على العكس من المنهج الّذي يطرحه سماحة السيّد، حيث يرى أنّ القرآن هو مرآة الأحاديث، وليست الأحاديث مرآة القرآن .

وعلى مستوى التّطبيق العلمي، نلاحظ أنّ السيّد فضل الله(قده) يتوقّف عند أهميّة توثيق السنّة، ويشدّد على ضرورة التّدقيق في الأحاديث المتعلّقة بتفسير القرآن وتفصيل مجمله ـ ولا سيّما الغيبيّات ـ لما لها من دور رئيس في تشكيل ذهنيّة المسلم العامّة. ويؤكّد أنّ الجهود المبذولة في ذلك، لم تصل إلى نتائج حاسمة لا تقبل الجدل، مهما قيل عن وثاقة كتاب أو مؤلف. لذا، فهو يؤكّد حاكمية القرآن على السنّة، وأنه الميزان الفصل لكلّ ما يُروى من أحاديث، ورفض تخصيص الآية بخبر الواحد، بل ذهب إلى تخصيص الحديث بالآية؛ لأنّ القرآن يتّسم بالتّأصيل والتقعيد، في حين ترد السنة في غالبها - وليس جميعها- لتحاكي تطبيقات وتعالج وقائع هنا وهناك، ما يجعل الحديث يتحرّك في دائرة خاصّة من القرائن والإيحاءات المحيطة به .

ومن الطبيعيّ - بحسب هذا المنهج - أن تكثر مخالفة السيّد لآراء المشهور، وذلك لأنّ الاختلاف في الأسس والمقدّمات يستدعي الاختلاف في الفروع والنّتائج .

الخامسة: صدم الوعي المسكون: عرف سماحة السيّد فضل الله(قده) بجرأته الكبيرة وشجاعته العلمية؛ التي جعلته لا يتردّد في المجاهرة بآرائه المخالفة للمألوف والمتداول، طالما قادته قناعته الفكريّة إلى ذلك. وقد خاض(قده) في مجالات عديدة - فكريّة وفقهيّة وتاريخيّة- ما أثارت عليه ردود فعل كثيرة، ولكنه لم يأبه لها، ولم ينحنِ، بل أصرّ وواصل حتى خمدت العاصفة، وبقي رأيه صامداً يحثّ الآخرين على التفكير والجديّة في التقييم، ولم يتوقف، وجرّ عليه ذلك كلاماً كثيراً، ولم يبالِ.. ولقد أسّس لهذه الفكرة من خلال وعيه القرآني في الكثير من مفاصل حركة النبوّة[14].

ولا يفتأ(قده) يُذكّر من حوله بهذا الوعي النبويّ، حتى أثناء تدارسه للتاريخ الإسلامي، ففي حركة صلح الحسن وثورة الحسين، يقول: "إنّ صلح الإمام الحسن(ع) لم يكن حالة ضعف أو حالة هروب من الشّهادة. لقد كانت القضية أن يفسح الإمام الحسن(ع) بهذا الصلح المجال للناس ليدرسوا الأُمور على الطبيعة، لتتحرّك المعارضة من خلال أنّ هناك واقعاً يُنمّيها ويُنمّي قواعدها، مع إمكانيّة أن يسمح المستقبل بالحركة. وهكذا كان، إذ لم تمض سنون على ذلك، إلاّ وكانت هناك قاعدة تنتقد، وتعترض، وتشير.. وكانت انطلاقة الإمام الحسين(ع) هي الصّدمة التي أراد من خلالها أن يصدم الواقع، حتّى يهزّه هزّةً عنيفةً من الأعماق، من أجل أن تؤثّر تلك الصدمة في المستقبل، عندما ينفتح الناس على قضيّة الحسين(ع)، ليفكّروا: كيف انطلقت؟ وكيف عاشت؟ وكيف تحرّكت؟ لهذا: فإنّ أسلوب الإمام الحسن(ع) كان أُسلوب المرحلة في حركة الإسلام، وأُسلوب الإمام الحسين(ع) كان أُسلوب المرحلة أيضاً".

ولا نزال نتذكّر كيف كانت آراء السيّد - التي كانت تصلنا في الخليج - تشكّل ما يشبه الصّدمة العلميّة، ما يدفع الطلاب والأساتذة إلى المناقشة والبحث العلميّ، وذلك على غرار ما تحدثه الصّدمة الطبيّة التي تُعطى للمريض من أجل إعادة ضربات القلب فيه، ولا يزال هذا المنهج يحتاج إلى وقت ليس قصيراً حتى يشقّ طريقه في الأوساط الحوزويّة، وحتى يأخذ أبعاده من التعميق والتركيز والمناقشة .

السابعة: العالمية: لم يحشر السيّد فضل الله نفسه في مساحة ضيّقة ولم يؤطّر اهتمامه بجماعة معيّنة، بل كان إنسانياً في اهتمامه وموقفه، وعالمياً في توجّهه ونزعته، ولذا كانت قضايا المسلمين وغيرهم حاضرةً عنده، يوليها رعايته واهتمامه، ويسلّط الأضواء عليها في خطبه، بل لا يترك أمراً يمرّ دون أن يسجّل موقفه منه، ويبدي رأيه فيه، وكان يتحرّك في كلّ دائرة تتحرّك فيها قضايا الإنسان المعاصر سياسيّاً واجتماعيّاً ومعرفيّاً واقتصاديّاً .

ويؤكّد سماحته أنّه ينطلق في الاتجاه الّذي يريد منّا الإسلام أن ننطلق فيه، وإن أبطأتها الأدوات الماديّة، فهو يقول: "هناك فرق بين الأدوات المادية التي يملك فيها الآخرون ظروف الغزو، فمثلاً يملك الآخرون الأجهزة الإعلاميّة كما يملكون القوة المادية والقوة السياسية والاقتصادية التي تتيح لهم أن ينفّذوا مآربهم في كلّ مكان في العالم. هذا صحيح، ولكنّنا نملك أصالة الفكر الإسلامي، وإنسانية الفكر الإسلامي، وعقلانية الفكر الإسلامي. ومن الطبيعي، فإنّ الإنسان الذي أحاطت به التكنولوجيا من جميع الجهات، لا يزال يبحث عن الروح، ويبحث عن العقلانية الصافية. وعندما نلتقي بمفكرين كبار من الغربيين، ممن دخلوا في الإسلام بعد أن كانوا مسيحيين أو ماركسيين، نعرف أنّ الإسلام يخترق فكر هؤلاء المثقّفين الذين عاشوا الثقافة الغربية بكل عناصرها، ولكنهم رأوا في الإسلام الأصالة، ورأوا فيه الدين الذي يحترم الإنسان كلّه، فعندما نرى ذلك، فإننا نشعر بواقعية أنّ الإسلام دين عالمي. ولكنّ المشكلة هي أنّ المسلمين لم يتحوّلوا إلى دعاة، بل إنهم يعيشون في داخل ذواتهم أشكال التخلف، ومشكلتنا هي قيادات الجهل والتخلّف والخرافة التي أساءت إلى الإسلام، وإلا، فلو عرف النّاس الإسلام الأصيل، الإسلام القرآني، والإسلام المحمّدي، والإسلام الّذي انطلق في خطّ الأئمة(ع)، لرأوا ما يجعلهم يؤمنون به، ويشعرون بأنّه هو الّذي يجلب لهم السّعادة في الدّنيا والآخرة".

كان واضحاً أمام سماحة السيد(قده) منذ اللحظة الأولى لمجيئه إلى لبنان، أنّه لا بدّ من العمل للإسلام في إطار مشروع متكامل، وأنّ العدّة التي لا بدّ من مباشرة العمل بها، هي الإخلاص والإصرار والمزيد من الصّبر على المكاره. وقد أعان سماحته على استيعاب صعوبات العمل في الساحة اللّبنانيّة، ما أكسبته إيّاه الساحة العراقيّة من خبرة، وهي ساحة تتمتّع بالغنى في جميع مجالاتها، حيث كانت الأنشطة التي زاولها في مناطق شاسعة من العراق، والتي انفتح فيها على شرائحها الشعبيّة والثقافية والاجتماعية المتنوّعة تأثراً وتأثيراً، كانت له عوناً وخبرةً على معالجة ساحة هي في غاية التعقيد كالساحة اللّبنانيّة.

لقد ترجم سماحة السيّد فضل الله توجهه الإسلامي العالمي، عن طريق طرح الإسلام كفكر عام غير حزبي، وغير طائفي، وغير مذهبي، وسعى إلى أن يكون عامل جذب متنوّع لكلّ من أراد التزام الإسلام بلا عقد وحواجز، ولكلّ من أراد التعرّف إلى الإسلام بدون تعقيدات المذاهب والطّوائف والأحزاب. 

 


[1] ("التفسير والمفسرون" للشيخ محمد هادي معرفة، ص 1029-1030).

[2] (خطوات على طريق الإسلام: ص 407-530).

[3] (انظر له: "حركة النبوة في مواجهة الانحراف"، و"علي ميزان الحقّ"، و"الزهراء قدوة"، و"في رحاب أهل البيت"، و"حديث عاشوراء").

[4] (المشروع الحضاري الإسلامي، السيد محمد حسين فضل الله: ص 30).

[5] (انظر: "مفاهيم حركيّة من وحي القرآن"، الشيخ علي حسن غلوم).

[6] (سير أعلام النبلاء، للذهبي: ج 6، ص 257، وتهذيب الكمال: ج 5، ص 79).

[7]  (الكافي: ج 1، ص 27 و39).

[8] (جريدة بيّنات، السنة الرابعة، 18/4/1420هـ، 31/7/1999م، العدد 137).

[9]  (الخطاب الإسلامي والتيارات المعاصرة، محاضرة ألقاها في المركز الثقافي، ومجلس مدينة حمص، في 12/3/2001).

[10]  (تأمّلات في الخطاب الإسلامي المعاصر، المنطلق، عدد 108 - 109، 1415هـ / 1994م).

[11]  (الدين والمجتمع والسياسة في عالم متبدّل، مقابلة مع العلامة السيّد محمد حسين فضل الله، مجلّة العلوم الاجتماعية، ص 20، المجلد 26، العدد 2، صيف 1998).

[12]  (انظر: "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل"، و"فقه الحياة").

[13]  [النجم: 28]

[14] (البقرة: 142-152و 213، آل عمران: 38-41 و 153-154، الأنعام: 27-32، يوسف: 81-87، الأعراف: 142-145، الأحزاب: 37-40، الإسراء: 83-84، النازعات: 15-26).

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية