روافد مع السيد محمد حسين فضل الله

روافد مع السيد محمد حسين فضل الله

لا حرج عنده أمام أي سؤال, لا حرج عنده ولا حدود لساحة الحوار, ساحته مفتوحة على التنوّع, فحين يبدأ الكلام يحرك الساكن ويرمي حصاته في البحيرة الراكدة, بذهنية المنفتح الذي يضنيه الجمود الفكري والمرجعي؛ لذلك تجرّأ وتمرد وقرأ خلف النصوص وفي عمقها، جاعلاً لشهب العقل أن تضيء ظلمات المعنى، ولأنه كذلك، عرفناه في أكثر من كتاب، وموقف، ورأي, وتفسير، وتحليل. فقيهاً يستعين بعقله ليهتدي ويهدي إلى الحقيقة, وشاعراً يعلو إلى مصاف الوجد. في هذا الجزء من الحوار، نتابع مع العلامة ما أمكن من الأسئلة حول قضايا الحياة والإنسان.

ليس القرآن كتاب تكنولوجيا

* بالانتقال إلى موضوع آخر، من المعروف سماحة السيد أن هناك من يقول إن أي إنجاز علمي يُحقّق في العالم، مصدره الإسلام أو النص القرآني. سؤالي هو: طالما هذا الإنجاز مصدره متوفر في نصّنا, فلماذا لم نكن السباقين في تحقيقه؟

ـ أنا لا أتفق مع هذه الفكرة؛ لأن الإسلام يمثل عقيدةً تفتح آفاق الإنسان على الله، إن عظمة الإسلام هو أنه أعطى الإنسان المنهج ودفعه إلى أن يتطلب المعرفة من خلال دائرتين:

- الدائرة الأولى، وهي دائرة التأمل والتعقل والتفكير: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً} [آل عمران:191].

- والدائرة الثانية هي دائرة التجربة: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر:2].

لذلك لم يحدثنا الإسلام عن الفيزياء والكيمياء وعن تفاصيل الأسرار وعن الذرّة وما إلى ذلك وعن تكنولوجيا، وإنما أعطانا المنهج: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} [الزمر:9]. إن الإسلام احترم عقل الإنسان وقال له إنك سيد الكون, جرِّب أن تعطي الكون معرفةً جديدةً وواقعاً جديداً, أعطِ من عقلك عقلاً ومن طاقتك طاقةً. الإنسان هو صانع التغيير, لا الاقتصاد، لا الجنس، لا غير ذلك مما أُريـد له أن يحبس الإنسان في البعد الواحد، بل الإنسان بكله. عندما تغيّر نفسك تغير الواقع, عندما تغير عقلك وتجربتك تغيّر التاريخ.

الاستنـســاخ

* سماحتكم لكم رأي في عملية الاستنساخ، وأنت لست ضدّها، ولكن هناك الكثير من رجال الدين أو من المؤسسات الدينية ضد الاستنساخ. بتقديرك، ألا يجعلنا الاستنساخ نعيد التفكير في مسألة التكوين والخلق؟

- لقد عالجت مسألة الاستنساخ في دائرتين:

- الدائرة الأولى هي الدائرة الفكرية من جهة ما يتصل بالعقيدة الدينية في مسألة التكوين.

- والدائرة الثانية هي الدائرة العملية في خط التطبيق العملي.

- في الدائرة الأولى طرحت سؤالاً: هل يتحول الإنسان إلى خالق بالاستنساخ، أو إلى شريك للخالق؟

- والدائرة الثانية: هل يمكن أن نطرح الاستنساخ في الواقع العملي للإنسان؟

- في الدائرة الأولى قلت: إن الاستنساخ لم يحوّل الإنسان إلى خالق؛ لأن عملية الخلق ليست في تغيير الشكل، ولكنها في خلق القانون, كيف يولد الكائن الحي؟ إنه يولد من خلية تجمع 46 من الكروموسومات, النطفة تحمل 23 من الكروموسومات والبويضة تحمل 23, فإذا تلقحت البويضة بالنطفة كملت الخلية 46, فولد الإنسان أو الحيوان, هنا ما الذي فعله المستنسخون؟ جاءوا بخلية ناضجة تحمل 46 من الكروموسومات، وفرغوا البويضة مما فيها من كروموسومات وأودعوا هذه الخلية في داخل البويضة, فالقانون هو القانون، فهم لم يزيدوا واحداً هنا أو ينقصوا واحداً هناك. الله خلق أساس العنصر الذي يولد فيه الكائن الحي.إذاً هذا لا ينافي التكوين.

أما بالنسبة إلى الدائرة العملية، فقلت إنك لكي تحرك أي مشروع في الواقع، لابد أن تدرس إذا كانت سلبياته أكثر من إيجابياته فعليك أن تبعده عن الواقع, وإذا كانت الإيجابيات أكثر من السلبيات فعليك أن تطلقه, والاستنساخ لا يمثل حتى الآن تجربة واضحة حتى نستطيع أن نعرف سلبياته وإيجابياته، ولا شكّ أن ما سيحقّقه الإنسان من مصالح وفوائد على صعيد شفائه من كثير من الأمراض بفعل هذا الاكتشاف، سيجعله مورد قبول الجميع شرط أن تكون المفاسد والسلبيات ضئيلة مقارنةً بالمصالح والإيجابيات.

* لو استطاع الإنسان ذات يوم أن يكتشف حياة جديدة على سطح كوكب ما, هل هذا يعيد خلخلة اليقين بأكمله؟

ـ هذا لا يخلخل اليقين، لأن القرآن لم يتحدث بشكل تفصيلي عن الكواكب الأخرى وماذا فيها، بل هناك بعض النصوص الدينية، الغامضة والضبابية، التي قد تتحدث عن سماء أولى أو ثانية, ولكن لا ندري ما المراد بالسماء حتى الآن, ولذلك فلا نستطيع أن نقول إن المريخ سماء، بل إن أرضنا هي سماء عندما نصعد إلى الفضاء فنجد الأرض تماماً ككل الكواكب الأخرى.

أقرأ إنسانيتي في الشعر

* لننتقل من الحديث الفكري إلى الشعر. سماحتك قلت في أحد الحوارات: عندما أقرأ الشعر أقرأ إنسانيتي ولا أقرأ موقعي الذي يمثل انفتاحي، حتى موقعي المرجعي لا يمنعني من التحليق كإنسان يعيش كبقية الناس..

ـ إنني أعتقد أن الإنسان لابد أن يعيش رحابة إنسانيته, لأن الإنسان الذي يخضع لتقاليد موقعه هو إنسان يسجن نفسه في موقعه, وعندما أعيش موقعاً مرجعياً أو اجتماعياً، فذلك لا يمنعني من أن أعيش كل جمالات الطبيعة وكل أسرارها وكل أسرار النفس الإنسانية, والشعر هو فن يعبّر عن عمق.. عن عمق الأحاسيس والتطلعات والانفتاحات والإيحاءات واللمسات الإنسانية.

* ولكن ألا يحدّ العلاّمة والفقيه فيك من تجلياتك أمام القصيدة؟

ـ إنني أعتقد أن الإنسان يمثل وحدة، فالفقه, والشعر, والسياسة, هي كلها ظهورات لما تختزنه في ذاتك, ولذلك فإني أتصور أن كل أفق تعيش فيه يدعم الأفق الآخر. أنا أعتبر أن الفقه لابد في تأصيله وفي انفتاحه من أن يعيش الإنسان الفقيه الذوق الفني المرهف الذي يساعده على أن يفهم النص، لأن النص - ولا سيما النص القرآني أو النص النبوي - يمثل كياناً، كيانا لغوياً أدبياً، وخصوصاً أننا نقول إن القرآن يمثل قمة البلاغة، ومن لا يعش الفن البلاغي لفهم الكلمة، فكيف يكون فقيهاً؟!

* سماحة السيد، كما نعلم أنك ولدت في بيت فقه وشعر ومعرفة، فهل عشت طفولتك كما ينبغي؟ بمعنى هل كنت حراً؟

ـ عشت في مجتمع تقليدي 100%، باعتبار أني ولدت في النجف الأشرف, البلد الذي يضم الحوزة العلمية، والتي تمتد في تقاليدها إلى مئات السنين, ولكن النجف في الوقت نفسه كانت تنبض بالجانب الثقافي والشعري، بل كان الإنسان فيها يتنفس شعراً. لذلك كنا نعيش بعض هذه الانفتاحات، خصوصاً أننا كنا نعيش على كتف الصحراء الممتدة، كما كنا نعيش على كتف التاريخ عندما نلتقي بموقع أو مرقد الإمام علي (عليه السلام)، وكنا نعيش على كتف العالم الآخر عندما نلتقي بمقبرة وادي السلام التي تُعدّ أكبر مقبرة في العالم، حيث إن الكثير من العراقيين والشيعة يدفنون موتاهم فيها، وهي تقوم على كتف الصحراء. فكنا ننتقل من كتف التاريخ إلى كتف العالم الآخر, إلى كتف الشعر والأدب والفقه والفلسفة وما إلى ذلك. وهكذا كان يمكن للإنسان عندما ينتقل من كتف إلى كتف أن يشعر بشيء من الهواء يتنفسه.

فلسفة الفرح والحزن

* سماحة السيد، تروي لنا أيضاً أنك عشت طفولة ينقصها بعض الفرح، وفيها شيء من القسوة. هل استطعت لاحقاً أن تعوّض عن تلك الخسارة؟

ـ أنا لا أعيش المأساة لأتجمد فيها, ولكني أعيشها لأتحرَّر من تأثيراتها السلبية، وأكتشف في داخل المأساة الفرح, وهناك بيت شعر لا أدري أنقرأ قصيدته أم لا في هذا اللقاء:

فأنا أخلق وحدي جنتي فأرى اللذة في أعماق حزني

* بيت الشعر هذا من أي قصيدة سماحة السيد؟

ـ هذه قصيدة قلتها في أواخر الخمسينات, هي قصيدة قد يكون شكلها وجدانياً ولكن عمقها فلسفي، أقول فيها:

أنا يا ليلاي مـا زلت أغني        للضحى حبي وللإشراق فني

وحياتي فكرة لـم يكتمـل        في حنايا روحها وحي المغني

هبطت للأرض عذراء المنـى        ترشف الأطياب في أطهر دني

أنا يا ليلاي مهـما يعتصـر        من دمائي الليل في عزف التجنّي

فدمي قيثـارة تعـزف لـي        أغنيات النور في وحـي التغني

وأنا عبر المـدى ما ضـرّني        أنني وحـدي أحـيى وأغـني

أزرع البسمة في دنيا غـدي        وأثير النور في أطيـاف جفني

وأناجيك وحولي جنـةٌ من        رؤى فنٍ ومن أطياب حُسْنِ

فأنـا أخلق وحدي جنتـي        فأرى اللذة في أعماق حـزني

فتعالي نقطـع العمـر معـاً        بين لهوٍ وعـذابٍ وتغــني

فهوانا لـم يعـد أسطـورة        في خيال يبدع النجوى وظني

إنه كون رحيب يغـدق الخـ        صب نعماه على الروض الأغنِّ

فتعالي نبدع الحبَّ فما العمـ        ـر إن لم يهدم الحب ويبنـي

غاية العمر حيـاة ينتشـي        في حناياها الضحى منك ومني

حياة الحب وحب الحياة

* هذه القصيدة فيها الكثير من الحب, وأنت تقول إنك لم تعش الحب من الناحية الحسية، بل عشته بالفكر، ألم يحدث معك أبداً أن عشت قصة حب؟

ـ أنا لم أعش الحياة بهذه التنوّعات الإنسانية الإحساسية الذاتية؛ لأن المجتمع الذي عشت فيه كان أقرب إلى المجتمع المنغلق منه إلى المجتمع المنفتح الذي قد يُغري أو يوحي بمثل هذا الجو.

* ألا تعتقد أن الحب يشكل حافزاً أساسياً من حوافز الخلق والإبداع؟

ـ من الطبيعي جداً أن الحبّ يمثل حيوية التجدّد الإنساني, حيث يفتح إنسانيتك ليحرّك العقل عندما تخطِّط لحركة الحب في الواقع, ويحرك القلب في نبضاته وخفقاته, ويحرك الإحساس والشعور... إنه يمثل الصفاء الذي يحسّ به الإنسان، وخصوصاً عندما يعيش إنسانيته في إنسانية الآخر. ليس من الضروري أن يكون الحب غريزة في الجانب الحيواني للغريزة, ولكن الحب ينفتح على كل الكون، فنحن نعيش في صوفيتنا الإيمانية, نعيش الحب لله, وأذكر بعضاً من قصيدة لي في مناجاة مع الله أقول له فيها:

ضمَّنـي في بحيـرة الحـب         إني غارق في بحيرة من دمائـي

ربِّ هبني الصفاء في الروح إني        أغرق العمر في كؤوس الصفاءِ

* سماحة السيد، ماذا عن حضور المرأة في التجربة وفي الحياة؟

ـ أنا لا أوافق على أن تكون المرأة مجرّد كائن جنسي يوحي بالجنس كما هي الفكرة عند الكثير من الناس في الشرق, بحيث كانت في النظرة العامة حالةً إذا تصوّرتها فإنك تتصوّر الجنس، لأننا حبسنا المرأة في تاريخنا الثقافي والاجتماعي وحتى العائلي في هذه الدائرة، وأغلقنا على المرأة عالم الفكر وعالم التجربة والحركة والحياة, مع أنّ الله سبحانه وتعالى اعتبر الكون ينطلق في هذه الزوجية التي يندمج فيها الرجل في المرأة والمرأة في الرجل، لا اندماج الجسد بالجسد، ولكن اندماج العقل بالعقل، والروح بالروح، والحياة بالحياة.

* سماحة السيد، بينك وبين نفسك أحياناً ترغب في أن تعيش حياة مختلفة، حياة أخرى، مثلاً أن تذهب إلى البرية, أن تتأمل في الوجود.. أن...؟

ـ أنا كنت أمارس ذلك, فكنت أخرج إلى الصحراء لأعيش ما يقترب ولو حسياً من اللانهاية واللامكان إذا صح التعبير, وكنت أخرج إلى البساتين، وأصعد إلى الجبال وأتأثر بجمال الطبيعة, ولم يكن هذا بعيداً عن واقعي في الحياة.

* سماحة السيد، تقول في بعض الأحاديث إنك لا تخاف الموت, ولكنك تخاف أن تموت قبل أن تنجز ما تفكر به؟

ـ أنا أحب الحياة، أحبها لأعيش كل تطلّعاتي فيها، على الرغم من إيماني أننا ننتقل من حياة إلى حياة أرجو أن تكون حياة سعيدة ورضية, إنني أحب الحياة ولا أزال أحبها من أجل أن أستكمل تطلعاتي ومشاريعي فيها؛ لأن مسألة ما أعيشه من فكر ومن تطلّع ومن محبة للإنسان ومن حركية في تحقيق القضايا الإنسانية الكبرى, التي تمتد إلى الساحة العالمية، تدفعني لأن أستهلك كل حياتي لأحقّق ما أمكن من أفكاري وأحلامي, بحيث لا يبقى للحياة عندي شيء، وعند ذلك فإنني أواجه مسألة موت الحياة.

ربِّي مالي أبكي ومالـي أغني        وحياتي تصـدُّ نجواك عـني

أنا أهواك لا لنعماك تستهـ        ـوي كياني ولا لجنة عـدنِ

أنا أهواك للهوى ترعش الروح        بأفيـائه ويهتـز لحنــي

للسماء الزرقاء تنساب منهـا        شعلة النور في جلالٍ وفـنِّ

للصبا يوقظ الصَبابة في الأعماق        والحب في الضلوع يغنـي

للصباح الضحوك ينهلُّ كالشلْ        لال للنور مائـجاً بالتغنـي

للشواطي تماوج النَّسَم الرخوُ        بآفاقها بألطـف جفـن

أنا أهواك إن آثامي السو        د ستنداح في شعاعك عني

أنا أدري بأن خلف ظلال الـ        موت إن ثارت الغريزة سجني

وبأني إذا اقتحمت لـذاذا        تي وأترعت بالغوايـة دَنِّي

سوف أهوي إلى الجحيم ولكن        أنا أرجو في ظل عفوك أمني

ربِّ هذي حقيبتي ليس فيـها        لي من قربةٍ سوى حسن ظنِّي

لا حرج عنده أمام أي سؤال, لا حرج عنده ولا حدود لساحة الحوار, ساحته مفتوحة على التنوّع, فحين يبدأ الكلام يحرك الساكن ويرمي حصاته في البحيرة الراكدة, بذهنية المنفتح الذي يضنيه الجمود الفكري والمرجعي؛ لذلك تجرّأ وتمرد وقرأ خلف النصوص وفي عمقها، جاعلاً لشهب العقل أن تضيء ظلمات المعنى، ولأنه كذلك، عرفناه في أكثر من كتاب، وموقف، ورأي, وتفسير، وتحليل. فقيهاً يستعين بعقله ليهتدي ويهدي إلى الحقيقة, وشاعراً يعلو إلى مصاف الوجد. في هذا الجزء من الحوار، نتابع مع العلامة ما أمكن من الأسئلة حول قضايا الحياة والإنسان.

ليس القرآن كتاب تكنولوجيا

* بالانتقال إلى موضوع آخر، من المعروف سماحة السيد أن هناك من يقول إن أي إنجاز علمي يُحقّق في العالم، مصدره الإسلام أو النص القرآني. سؤالي هو: طالما هذا الإنجاز مصدره متوفر في نصّنا, فلماذا لم نكن السباقين في تحقيقه؟

ـ أنا لا أتفق مع هذه الفكرة؛ لأن الإسلام يمثل عقيدةً تفتح آفاق الإنسان على الله، إن عظمة الإسلام هو أنه أعطى الإنسان المنهج ودفعه إلى أن يتطلب المعرفة من خلال دائرتين:

- الدائرة الأولى، وهي دائرة التأمل والتعقل والتفكير: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً} [آل عمران:191].

- والدائرة الثانية هي دائرة التجربة: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر:2].

لذلك لم يحدثنا الإسلام عن الفيزياء والكيمياء وعن تفاصيل الأسرار وعن الذرّة وما إلى ذلك وعن تكنولوجيا، وإنما أعطانا المنهج: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} [الزمر:9]. إن الإسلام احترم عقل الإنسان وقال له إنك سيد الكون, جرِّب أن تعطي الكون معرفةً جديدةً وواقعاً جديداً, أعطِ من عقلك عقلاً ومن طاقتك طاقةً. الإنسان هو صانع التغيير, لا الاقتصاد، لا الجنس، لا غير ذلك مما أُريـد له أن يحبس الإنسان في البعد الواحد، بل الإنسان بكله. عندما تغيّر نفسك تغير الواقع, عندما تغير عقلك وتجربتك تغيّر التاريخ.

الاستنـســاخ

* سماحتكم لكم رأي في عملية الاستنساخ، وأنت لست ضدّها، ولكن هناك الكثير من رجال الدين أو من المؤسسات الدينية ضد الاستنساخ. بتقديرك، ألا يجعلنا الاستنساخ نعيد التفكير في مسألة التكوين والخلق؟

- لقد عالجت مسألة الاستنساخ في دائرتين:

- الدائرة الأولى هي الدائرة الفكرية من جهة ما يتصل بالعقيدة الدينية في مسألة التكوين.

- والدائرة الثانية هي الدائرة العملية في خط التطبيق العملي.

- في الدائرة الأولى طرحت سؤالاً: هل يتحول الإنسان إلى خالق بالاستنساخ، أو إلى شريك للخالق؟

- والدائرة الثانية: هل يمكن أن نطرح الاستنساخ في الواقع العملي للإنسان؟

- في الدائرة الأولى قلت: إن الاستنساخ لم يحوّل الإنسان إلى خالق؛ لأن عملية الخلق ليست في تغيير الشكل، ولكنها في خلق القانون, كيف يولد الكائن الحي؟ إنه يولد من خلية تجمع 46 من الكروموسومات, النطفة تحمل 23 من الكروموسومات والبويضة تحمل 23, فإذا تلقحت البويضة بالنطفة كملت الخلية 46, فولد الإنسان أو الحيوان, هنا ما الذي فعله المستنسخون؟ جاءوا بخلية ناضجة تحمل 46 من الكروموسومات، وفرغوا البويضة مما فيها من كروموسومات وأودعوا هذه الخلية في داخل البويضة, فالقانون هو القانون، فهم لم يزيدوا واحداً هنا أو ينقصوا واحداً هناك. الله خلق أساس العنصر الذي يولد فيه الكائن الحي.إذاً هذا لا ينافي التكوين.

أما بالنسبة إلى الدائرة العملية، فقلت إنك لكي تحرك أي مشروع في الواقع، لابد أن تدرس إذا كانت سلبياته أكثر من إيجابياته فعليك أن تبعده عن الواقع, وإذا كانت الإيجابيات أكثر من السلبيات فعليك أن تطلقه, والاستنساخ لا يمثل حتى الآن تجربة واضحة حتى نستطيع أن نعرف سلبياته وإيجابياته، ولا شكّ أن ما سيحقّقه الإنسان من مصالح وفوائد على صعيد شفائه من كثير من الأمراض بفعل هذا الاكتشاف، سيجعله مورد قبول الجميع شرط أن تكون المفاسد والسلبيات ضئيلة مقارنةً بالمصالح والإيجابيات.

* لو استطاع الإنسان ذات يوم أن يكتشف حياة جديدة على سطح كوكب ما, هل هذا يعيد خلخلة اليقين بأكمله؟

ـ هذا لا يخلخل اليقين، لأن القرآن لم يتحدث بشكل تفصيلي عن الكواكب الأخرى وماذا فيها، بل هناك بعض النصوص الدينية، الغامضة والضبابية، التي قد تتحدث عن سماء أولى أو ثانية, ولكن لا ندري ما المراد بالسماء حتى الآن, ولذلك فلا نستطيع أن نقول إن المريخ سماء، بل إن أرضنا هي سماء عندما نصعد إلى الفضاء فنجد الأرض تماماً ككل الكواكب الأخرى.

أقرأ إنسانيتي في الشعر

* لننتقل من الحديث الفكري إلى الشعر. سماحتك قلت في أحد الحوارات: عندما أقرأ الشعر أقرأ إنسانيتي ولا أقرأ موقعي الذي يمثل انفتاحي، حتى موقعي المرجعي لا يمنعني من التحليق كإنسان يعيش كبقية الناس..

ـ إنني أعتقد أن الإنسان لابد أن يعيش رحابة إنسانيته, لأن الإنسان الذي يخضع لتقاليد موقعه هو إنسان يسجن نفسه في موقعه, وعندما أعيش موقعاً مرجعياً أو اجتماعياً، فذلك لا يمنعني من أن أعيش كل جمالات الطبيعة وكل أسرارها وكل أسرار النفس الإنسانية, والشعر هو فن يعبّر عن عمق.. عن عمق الأحاسيس والتطلعات والانفتاحات والإيحاءات واللمسات الإنسانية.

* ولكن ألا يحدّ العلاّمة والفقيه فيك من تجلياتك أمام القصيدة؟

ـ إنني أعتقد أن الإنسان يمثل وحدة، فالفقه, والشعر, والسياسة, هي كلها ظهورات لما تختزنه في ذاتك, ولذلك فإني أتصور أن كل أفق تعيش فيه يدعم الأفق الآخر. أنا أعتبر أن الفقه لابد في تأصيله وفي انفتاحه من أن يعيش الإنسان الفقيه الذوق الفني المرهف الذي يساعده على أن يفهم النص، لأن النص - ولا سيما النص القرآني أو النص النبوي - يمثل كياناً، كيانا لغوياً أدبياً، وخصوصاً أننا نقول إن القرآن يمثل قمة البلاغة، ومن لا يعش الفن البلاغي لفهم الكلمة، فكيف يكون فقيهاً؟!

* سماحة السيد، كما نعلم أنك ولدت في بيت فقه وشعر ومعرفة، فهل عشت طفولتك كما ينبغي؟ بمعنى هل كنت حراً؟

ـ عشت في مجتمع تقليدي 100%، باعتبار أني ولدت في النجف الأشرف, البلد الذي يضم الحوزة العلمية، والتي تمتد في تقاليدها إلى مئات السنين, ولكن النجف في الوقت نفسه كانت تنبض بالجانب الثقافي والشعري، بل كان الإنسان فيها يتنفس شعراً. لذلك كنا نعيش بعض هذه الانفتاحات، خصوصاً أننا كنا نعيش على كتف الصحراء الممتدة، كما كنا نعيش على كتف التاريخ عندما نلتقي بموقع أو مرقد الإمام علي (عليه السلام)، وكنا نعيش على كتف العالم الآخر عندما نلتقي بمقبرة وادي السلام التي تُعدّ أكبر مقبرة في العالم، حيث إن الكثير من العراقيين والشيعة يدفنون موتاهم فيها، وهي تقوم على كتف الصحراء. فكنا ننتقل من كتف التاريخ إلى كتف العالم الآخر, إلى كتف الشعر والأدب والفقه والفلسفة وما إلى ذلك. وهكذا كان يمكن للإنسان عندما ينتقل من كتف إلى كتف أن يشعر بشيء من الهواء يتنفسه.

فلسفة الفرح والحزن

* سماحة السيد، تروي لنا أيضاً أنك عشت طفولة ينقصها بعض الفرح، وفيها شيء من القسوة. هل استطعت لاحقاً أن تعوّض عن تلك الخسارة؟

ـ أنا لا أعيش المأساة لأتجمد فيها, ولكني أعيشها لأتحرَّر من تأثيراتها السلبية، وأكتشف في داخل المأساة الفرح, وهناك بيت شعر لا أدري أنقرأ قصيدته أم لا في هذا اللقاء:

فأنا أخلق وحدي جنتي فأرى اللذة في أعماق حزني

* بيت الشعر هذا من أي قصيدة سماحة السيد؟

ـ هذه قصيدة قلتها في أواخر الخمسينات, هي قصيدة قد يكون شكلها وجدانياً ولكن عمقها فلسفي، أقول فيها:

أنا يا ليلاي مـا زلت أغني        للضحى حبي وللإشراق فني

وحياتي فكرة لـم يكتمـل        في حنايا روحها وحي المغني

هبطت للأرض عذراء المنـى        ترشف الأطياب في أطهر دني

أنا يا ليلاي مهـما يعتصـر        من دمائي الليل في عزف التجنّي

فدمي قيثـارة تعـزف لـي        أغنيات النور في وحـي التغني

وأنا عبر المـدى ما ضـرّني        أنني وحـدي أحـيى وأغـني

أزرع البسمة في دنيا غـدي        وأثير النور في أطيـاف جفني

وأناجيك وحولي جنـةٌ من        رؤى فنٍ ومن أطياب حُسْنِ

فأنـا أخلق وحدي جنتـي        فأرى اللذة في أعماق حـزني

فتعالي نقطـع العمـر معـاً        بين لهوٍ وعـذابٍ وتغــني

فهوانا لـم يعـد أسطـورة        في خيال يبدع النجوى وظني

إنه كون رحيب يغـدق الخـ        صب نعماه على الروض الأغنِّ

فتعالي نبدع الحبَّ فما العمـ        ـر إن لم يهدم الحب ويبنـي

غاية العمر حيـاة ينتشـي        في حناياها الضحى منك ومني

حياة الحب وحب الحياة

* هذه القصيدة فيها الكثير من الحب, وأنت تقول إنك لم تعش الحب من الناحية الحسية، بل عشته بالفكر، ألم يحدث معك أبداً أن عشت قصة حب؟

ـ أنا لم أعش الحياة بهذه التنوّعات الإنسانية الإحساسية الذاتية؛ لأن المجتمع الذي عشت فيه كان أقرب إلى المجتمع المنغلق منه إلى المجتمع المنفتح الذي قد يُغري أو يوحي بمثل هذا الجو.

* ألا تعتقد أن الحب يشكل حافزاً أساسياً من حوافز الخلق والإبداع؟

ـ من الطبيعي جداً أن الحبّ يمثل حيوية التجدّد الإنساني, حيث يفتح إنسانيتك ليحرّك العقل عندما تخطِّط لحركة الحب في الواقع, ويحرك القلب في نبضاته وخفقاته, ويحرك الإحساس والشعور... إنه يمثل الصفاء الذي يحسّ به الإنسان، وخصوصاً عندما يعيش إنسانيته في إنسانية الآخر. ليس من الضروري أن يكون الحب غريزة في الجانب الحيواني للغريزة, ولكن الحب ينفتح على كل الكون، فنحن نعيش في صوفيتنا الإيمانية, نعيش الحب لله, وأذكر بعضاً من قصيدة لي في مناجاة مع الله أقول له فيها:

ضمَّنـي في بحيـرة الحـب         إني غارق في بحيرة من دمائـي

ربِّ هبني الصفاء في الروح إني        أغرق العمر في كؤوس الصفاءِ

* سماحة السيد، ماذا عن حضور المرأة في التجربة وفي الحياة؟

ـ أنا لا أوافق على أن تكون المرأة مجرّد كائن جنسي يوحي بالجنس كما هي الفكرة عند الكثير من الناس في الشرق, بحيث كانت في النظرة العامة حالةً إذا تصوّرتها فإنك تتصوّر الجنس، لأننا حبسنا المرأة في تاريخنا الثقافي والاجتماعي وحتى العائلي في هذه الدائرة، وأغلقنا على المرأة عالم الفكر وعالم التجربة والحركة والحياة, مع أنّ الله سبحانه وتعالى اعتبر الكون ينطلق في هذه الزوجية التي يندمج فيها الرجل في المرأة والمرأة في الرجل، لا اندماج الجسد بالجسد، ولكن اندماج العقل بالعقل، والروح بالروح، والحياة بالحياة.

* سماحة السيد، بينك وبين نفسك أحياناً ترغب في أن تعيش حياة مختلفة، حياة أخرى، مثلاً أن تذهب إلى البرية, أن تتأمل في الوجود.. أن...؟

ـ أنا كنت أمارس ذلك, فكنت أخرج إلى الصحراء لأعيش ما يقترب ولو حسياً من اللانهاية واللامكان إذا صح التعبير, وكنت أخرج إلى البساتين، وأصعد إلى الجبال وأتأثر بجمال الطبيعة, ولم يكن هذا بعيداً عن واقعي في الحياة.

* سماحة السيد، تقول في بعض الأحاديث إنك لا تخاف الموت, ولكنك تخاف أن تموت قبل أن تنجز ما تفكر به؟

ـ أنا أحب الحياة، أحبها لأعيش كل تطلّعاتي فيها، على الرغم من إيماني أننا ننتقل من حياة إلى حياة أرجو أن تكون حياة سعيدة ورضية, إنني أحب الحياة ولا أزال أحبها من أجل أن أستكمل تطلعاتي ومشاريعي فيها؛ لأن مسألة ما أعيشه من فكر ومن تطلّع ومن محبة للإنسان ومن حركية في تحقيق القضايا الإنسانية الكبرى, التي تمتد إلى الساحة العالمية، تدفعني لأن أستهلك كل حياتي لأحقّق ما أمكن من أفكاري وأحلامي, بحيث لا يبقى للحياة عندي شيء، وعند ذلك فإنني أواجه مسألة موت الحياة.

ربِّي مالي أبكي ومالـي أغني        وحياتي تصـدُّ نجواك عـني

أنا أهواك لا لنعماك تستهـ        ـوي كياني ولا لجنة عـدنِ

أنا أهواك للهوى ترعش الروح        بأفيـائه ويهتـز لحنــي

للسماء الزرقاء تنساب منهـا        شعلة النور في جلالٍ وفـنِّ

للصبا يوقظ الصَبابة في الأعماق        والحب في الضلوع يغنـي

للصباح الضحوك ينهلُّ كالشلْ        لال للنور مائـجاً بالتغنـي

للشواطي تماوج النَّسَم الرخوُ        بآفاقها بألطـف جفـن

أنا أهواك إن آثامي السو        د ستنداح في شعاعك عني

أنا أدري بأن خلف ظلال الـ        موت إن ثارت الغريزة سجني

وبأني إذا اقتحمت لـذاذا        تي وأترعت بالغوايـة دَنِّي

سوف أهوي إلى الجحيم ولكن        أنا أرجو في ظل عفوك أمني

ربِّ هذي حقيبتي ليس فيـها        لي من قربةٍ سوى حسن ظنِّي

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية