"على شاطئ الوجدان"، ديوان شعر العلّامة محمد حسين فضل الله، انضمّ مؤخّراً إلى الدّيوانين اللّذين صدرا له سابقاً، وهما: "يا ظلال الإسلام" و"قصائد للإسلام والحياة".
وبمناسبة صدور الدّيوان الجديد، التقت "الدولية" العلامة فضل الله، وتحدّثت معه عن الجانب الآخر من شخصيّته، ولا سيّما أنّ له 16 مؤلَّفاً فكريّاً في شؤون الإسلام...
المفكّر الأديب
ـ محمد حسين فضل الله، في وجهه الآخر، كشاعرٍ وكأديبٍ وكمفكّرٍ، كيف يقدّم نفسه إلى القرّاء؟
ـ عندما انطلقت في الحياة، انطلقت من موقع الفكر، لأنّني انطلقت من موقع علميّ يتحرّك على أساس دراسة الإسلام في فقهه وفي فلسفته وحركته في الحياة. ومن الطبيعيّ لكلّ إنسان يعمل على دراسة الإسلام بشكل حيّ، أن ينطلق من خلال المفردات الإسلاميّة للفكر وللتّشويق وللحركة نحو الإطلالة على كلّ قضايا الحياة، من خلال هذا الفهم الشّموليّ للإسلام الذي يتحرّك في كلّ قضايا الحياة. وعلى هذا الأساس، فإنني كنت أحاول أن أحرّك الفكر، وأن أفلسف القضايا، وأن أتعمّق في كلّ مواقع الفكر، في ما يثيره التطوّر الحضاري من قضايا، لأجعل منها مادة فكرية أحاول من خلالها أن أركّز الفكر الإسلاميّ، ليكون الفكر الذي يستطيع أن يدفع الآخرين إلى احترامه أمام الأفكار الأخرى، وبالتّالي إلى الاقتناع به.
أمّا في المسألة الأدبيّة، فعشت في بيئة تتنفّس الشّعر، وهي بيئة النجف الأشرف في العراق، الّتي كانت إلى جانب كونها بيئة علميّة فقهيّة ـ فلسفيّة، البيئةَ الأدبية التي استطاعت أن تخرّج الكثيرين من الشّعراء الكبار، أمثال: محمد سعيد الحبوبي، ومحمد مهدي الجواهري، وعلي الشرقي وآخرين، من الأسماء الكبيرة في الشعر العربي المعاصر. كنت أتنفّس هذا الجوّ عندما كان الشعر يتلى في الأفراح والأحزان والمناسبات الاجتماعية والسياسية.
لذلك، لم أشعر بنفسي إلا وأنا أنظم الشعر. فقد بدأت نظم الشّعر في العاشرة من عمري، وكانت التّجربة جيّدةً آنذاك. ويعزّز هذا المعنى أنّني من عائلة شعريّة. فعائلة فضل الله التي تعيش في عيناثا في قضاء بنت جبيل، داخل المنطقة الحدودية في جنوب لبنان، عائلة شاعرة، إضافةً إلى أنها عائلة علميّة. وقد شاركت هناك في الكثير من التجارب الشعريّة. ولعلّ الكثير من تجاربي الشعريّة في الدواوين الثّلاثة التي طبعت لي كانت في النّجف الأشرف. ولعلّ الذي يقرأ الدّيوان الثالث "على شاطئ الوجدان"، يرى أنّ هناك تقسيماً للقصائد النجفيّة وللقصائد اللّبنانيّة.
لقد عشت التجربة الشعريّة بكلّ انفتاحها. فقد كنت أقرأ الشّعر القديم كما كنت أقرأ الشعر الحديث؛ قرأت لأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وخليل مطران، والياس أبو شبكة، وبشارة الخوري، وصلاح لبكي، وغيرهم من الشّعراء، كما قرأت، كما قلت آنفاً، محمد مهدي الجواهري وعلي الشّرقي.
ثم عندما انطلقت التجربة الشعريّة في تطوير شكل الشّعر على ما يسمّى الشّعر الحرّ في الخمسينات... عندما انطلقت تجربة نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب وصلاح عبد الصّبور وعبد العزيز عبد الصبور وكلّ هذا الجيل الشاعري الّذي لا يزال يتحرّك في هذا الاتجاه، كنت أتابع التجربة.
وقد شاركت في عدّة تجارب في الشّعر الحرّ، وكتبت في الشعر الحرّ عدة تجارب منشورة في كتاب "قصائد الإسلام والحياة"، لأني لا أؤمن بأنّ على الشعر أن يتجمّد في الأوزان التي جرّبها الشّعراء الأقدمون، لأنهم كانوا ينطلقون في مسألة الوزن من موسيقى معيّنة عاشت في تجربتهم الشّعرية. ويمكن للشّعراء الآخرين أن يستحدثوا أوزاناً جديدة، ولكنّني أتصوّر أنّ من الضّرورة للشّعر أن تبقى له موسيقاه.
ولذلك، فإنّني لا أفهم مسألة الشّعر المنثور؛ إنه مجرّد حالة نثريّة قد تحمل صوراً فنيّة مبدعة، ولكن من الصعب أن نعطيها اسم الشّعر في ما هو المفهوم العربي للشّعر، لأن مسألة الموسيقى الشعرية أساسية في مسألة الشعر. وقد أجد أن التجارب الشعرية الأخيرة في الأسلوب الجديد الّذي ينطلق فيه الشعراء، قد تحمل الكثير من الإبداع في الصّورة وفي التّعبير، ولكنّها تمثّل حالة من الغموض الذي يمنع القارئ الذي يحمل ثقافة متوسّطة من أن يتفهَّم مضمون الفكرة الشعريّة. إنّ الشّعر الحديث الذي يعيش الشعراء تجربته الآن قد ابتعد عن الوضوح.
وعندما أتحدَّث عن الوضوح، لا أتحدَّث عن الوضوح في الصورة الشعريّة وعن البساطة. إنّني أعتبر أنّ الفنّ لا بدَّ أن يحمل تركيباً فنيّاً في الصّورة وفي الأسلوب وفي الكلمة، ولكنَّه لا بدَّ أن يعيش كلّ هذه العمليّة الفنيّة في إطار من الوضوح ـ وهذا ما يسمّى، بحسب التَّعابير الأدبيَّة، السَّهل ـ الممتنع. فأنت تجد سهولةً في الفهم، ولكنَّك تشعر بأنَّ هذه الفكرة التي تستطيع أن تتمثّلها بوضوح، ليست بسيطة، باعتبار العناصر الفنية الأساسيّة التي تختزنها. لذلك، فإنني أتصوّر أنّ الشعراء المحدثين الذي لا نستطيع أن نغفل مستواهم الشعري في بعض التجارب، استطاعوا أن يجعلوا شعرهم شعر النخبة. ولا أريد أن أقول إنّ الشعر يمثّل حالة شعبيّة، ولكنّ الشعر هو الطريقة الجدّية في التعبير التي تطلّ على واقع الناس الذين يملكون قدراً معيّناً من الوعي ومن الفهم، بحيث يجد الناس في التجارب الشعريّة صوت حياتهم وآفاق حياتهم.
وهذا ما نلاحظه في أنّ الشعراء الأقدمين الذين نقرأهم، مثل المتنبي وأبي تمام والبحتري وأمثالهم، نجد أنهم في تجاربهم الشعريّة قد ارتفعوا إلى مستوى عالٍ من الإبداع الفنّي. ولكنّك تشعر بأنّ شعرهم يترنّم به كلّ الناس، حتى الذين هم أشباه الأميّين، فيفهمونه بطريقتهم، ويفهمه المثقّفون كلّ بحسب مستواه الثقافي. لهذا، ليس معنى الدّعوة إلى الوضوح، بحيث يكون للشّعر حالة فنيّة شاملة، الدّعوة إلى البساطة وإلى السّهولة، ولكن الشّاعر الشّاعر هو الذي يستطيع أن يجمع بين الوضوح وبين الإبداع.
الرّوحانيّة في الشّعر!
ـ من خلال هذا العرض، يبدو أنّك أجبت عن عدّة أسئلة لا عن سؤال واحد. ولكن هل كان لجذورك الإسلاميّة تأثير مباشر في تجربتك الشعريّة؟ وهل حاولت من خلال هذه التجربة أن تعطي صورة جديدة عن الروحانيّة الإلهيّة في إطار الشّعر؟
ـ في تصوّري، إننا عندما ننفتح على الإسلام في آفاقه الواسعة الرحبة، فإننا ننفتح على الشعر، لأنّ الشعر يتحرّك في رحاب الجمال؛ جمال المرأة، جمال الكون في كلّ مفرداته المتناثرة في البحر وفي النهر وفي الجبل والنجوم والشّمس والقمر وجنائن الورد، وفي كلّ المواقع التي تحمل عمق الجمال الّذي يعيش الإنسان إحساسه بالسَّعادة لا الشّعوريّة. وعندما تتحدّث عن الله، فإنّك تتحدّث عن مبدع الجمال، وعندما تتحدّث عن صفات الله، فإنك تتحدث عن عالم المطلق الّذي لا حدود له.
وأتصوَّر أنَّ الشِّعر لا يُجتذَب بشيء كما يجتذبه المطلق. فالشَّاعر يحاول أن يصنع من هذه الوردة التي تتمظهر بأوراق معيّنة وبروائح عطريّة معيّنة، كوناً واسعاً من الأسئلة الجماليّة، ومن المشاعر والأحاسيس الّتي يعيش فيها الإنسان معنى الجمال في الوردة في فكره، أكثر مما يعيشه في جمال الوردة المادّيّ. إنّ الشاعر يحاول أن يتروحن في نظرته إلى الجمال، ليجعل من الجمال حالة روحيّة ممتدّة، بحيث يمنح الصّورة معنى الخلود في التجربة الأدبيّة أو الشعريّة بعد أن تموت الصّورة. هذا ما عبّر عنه الأخطل الصّغير عندما قال:
ما الحسنُ لولا الشّعرُ إلا زهرةٌ يلهو بها في لحظتين النّظرُ
لكنَّها إن أدركتْها رقّةٌ من شاعر، أو دمعة تنحدرُ
سالتْ دماءُ الخلدْ في أوراقِها ونامَ تحتَ قدميْها القدرُ
لقد لاحظنا أنَّ التجربة الصوفيّة التي تحركت على أساس حبّ الله، والاستغراق في الله، والانفتاح على الله، والتغزّل بالله، انطلقت من خلال حالة شعريّة وجدانيّة روحيّة رأت الجمال الإلهيّ الذي اختزنته في إحساسها وفي فكرها، من خلال الأجواء القرآنيّة، ومن خلال الآفاق التأمليّة، بحيث شعرت بأنّ الله يمثّل الجمال. والوجود كلّه إنما هو ظلال لهذا الجمال الذي يمثّله الله، باعتبار أنَّ الكون هو هدى لوجود الله. فإذا عشنا تجربة الجمال في كلّ مظاهر الجمال في الكون، فإنّنا نكتشف الله من خلاله.
أمّا الفكرة التي يحملها الكثيرون عن الإسلام بأنّه يمثِّل حالة تقليديّة جامدة روتينيّة، فإنّني أتصوّر أنهم ينطلقون فيها من إحدى الحالتين: إمّا من خلال تجربتهم مع الّذين عاشوا الجمود في شخصيّتهم فجمّدوا الإسلام معهم، أو لأنّ هؤلاء الذين يتحدّثون عن الإسلام، يتحدّثون عن لافتات قرأوها في التجربة الغربيّة للدّين ولم يقرأوا الإسلام جيّداً. ولذلك، أدعو هؤلاء إلى أن يقرأوا الإسلام، ليجدوا الفكر والفنّ والإبداع وحركة الحياة.
حبّ الله في شعر السيّد
ـ ديوانك الجديد "على شاطئ الوجدان" لم يتضمّن كلّ هذا الذي تكلَّمت عنه!
ـ هناك بعض التجارب التي يتضمّنها الديوان تحمل مثل هذا. مثلاً القصيدة التالية:
ربّي مـالي أبكي ومالي أغنّيوحياتي تصدُّ نجواكَ عنّي
أنا أهواكَ للهوى ترعشُ الرّوحُ بأفيائِه ويهتزُّ لحني
للسّماءِ الزّرقاءِ تنهلُ منها شعلةُ النّورِ في جلالٍ وفنِّ
للصّبا يوقظُ الصّبابةَ في الأعماقِ والحبُّ في الضّلوعِ يغنّي
إلى أن أقول:
أنا أدري بأنّ خلفَ ظلالِ الموتِ إن ثارتِ الغريزة سجني
وبأنّي إذا اقتحمْتُ لذاذاتي وأترعْتُ بالغواياتِ دنّي
سوفَ أهوي إلى الجحيمِ ولكنْ أنا أرجو في ظلّ عفوِك أمني
وفي قصيدة أخرى:
وأحبّي، ووزّعي الحبّ أحلاماً على كلّ سامر يتدنّى
فأنا ها هنا أبارك ذكرى كنْتِ لفظاً بها وحبّي معنى
الحبّ يتّخذ هنا الفكرة التي لا يعود فيها المحبوب مجرَّد حالة ماديّة يستغرق فيها الإنسان. وهكذا أجد أنَّ هناك عدة تجارب في هذا الدّيوان الّذي كان يمثّل شبابي الأوَّل، الّذي لم تستكمل فيه تجربتي الرّسالية بشكل عميق وشامل. هناك كثير من اللافتات يمكن لمن يقرأها أن يلمس أنَّ حياتي كانت تعيش في إشارات وإيحاءات توحي بما أعيشه الآن.
علاقة الشّاعر بالرّساليّ!
ـ هل تشعر بنوعٍ من الانفصال بين ما تعيشه في حركتك الإسلاميَّة وما تعيشه كشاعر؟
ـ أشعر بأنّني إنسان حيّ أعيش الحياة بكلّ عمقها وبكلّ انفتاحها وبكلّ مواقع الصّراع وآفاق الجمال فيها. ولذلك، فأنا لا أجد أيّ نوع من الانفصال بين ما أعيشه كشاعر في تجربتي الفنيّة الشعوريّة، وبين ما أعيشه كرسالة في حركتي الإسلاميّة، وفي ما أعيشه في فكري في حركتي العلميّة.
إنني أعتقد أنّ العلم هو رسالة، والفنّ يمكن أن يحقّق للحياة أكثر من غنى في التّجربة، وأكثر من قوّة في الموقع، وأكثر من انفتاح على الله. ولذلك، أنا أتكامل في كلّ ما أمارسه من تجارب، من دون أن أشعر بأنّ أيّ تجربة تحاول أن تلغي الأخرى أو تتنكّر لها.
*مجلة "الدوليّة"، 23 شباط/ فبراير 1991م - 9 شعبان 1411هـ