عندما نتحدث عن مرجعية إسلامية في حركة الفكر، فإننا نتحدّث عن فكر ينفتح على
الحياة كلّها، وعن مرجعية تنفتح على الحياة كلّها.
وهكذا عاش فقيدنا الكبير حياته منذ أن كان طالباً، وتأثرت حياته بحركة الاستبداد
والمشروطة والمستبدّة في إيران، والتي شاركت فتنتها في تهجيره وتهجير أبيه إلى
العراق.
هناك، في الوقت الذي لم يكن يطرح في كلّ العالم الإسلامي مسألة الحاكم المستبدّ، أو
الحاكم الذي يعتمد الشورى في حركته في الحكم، كان الملك هو السيّد المطلق، وكان
الخليفة هو الخليفة المطلق، كان ظلّ الله على الأرض، وكان العلماء يتحدثون آنذاك من
خلال النظرية الفقهية الإسلامية، لا من خلال موقف سياسيّ طارئ، كان العلماء يتحدثون؛
هل من حقّ الحاكم أن يستبدّ، أو أنّه لا بدَّ للحاكم من أن يخضع للأمَّة من خلال
الشورى التي تعطيه الفكر وتعطيه الرأي والنصيحة؟
معارضة حكم الشّاه
وهكذا انطلقت حياته من حيث انطلقت أجواؤه في كلّ الهزات التي عاشها العالم الإسلامي،
سواء في العراق أو في فلسطين أو في إيران، ويعرف الكثيرون، حتى من الإعلاميين من
لبنان الذين عايشوا تلك الفترة، أن الإمام الخوئي(قده) كان من أشد الناس ثورةً
ورفضاً ومعارضةً لحكم الشاه، حتى إنه أرسل رسائل إلى علماء لبنان آنذاك، ومنهم
المرحوم الشيخ حبيب آل إبراهيم، والشيخ المرحوم محمد تقي صالح، والشيخ محمد حسن فضل
الله، والشيخ موسى عز الدين، وغيرهم، يطلب منهم الاجتماع في لبنان من أجل أن يحتجوا
على مظالم الشاه، وأن يصدروا بياناً بذلك.
أكثر الصحف اللّبنانية كانت تتحرّك في الخطّ السياسي للشاه، ولم يكن هناك إلا صحيفة
واحدة لا بدّ من أن نذكرها بالاسم، هي التي تجرأت على نشر البيان الناريّ، وهي
صحيفة "صوت العروبة" في لبنان آنذاك. وهكذا نعرف كيف وقف السيّد الخوئي مع الإمام
الخميني(قده)، عندما تعرَّض للاعتقال، وعندما تعرَّض للاضطهاد، وعندما حاول الشاه
الإيحاء بأنه سيقدّمه للإعدام، إنني أذكر ويذكر كلّ الذين عاشوا في النجف تلك
الفترة، أنه كان الوحيد الذي وقف ليثير النجف الحوزة، وليتدخل مع العلماء الكبار
آنذاك، وفي مقدّمهم السيد محسن الحكيم، من أجل العمل على إنقاذ الإمام الخميني(قده).
دعم القضيّة الفلسطينيّة
ونحن نعرف أيضاً موقفه من القضية الفلسطينيّة، فقد كان من العلماء الذين انفتحوا
على هذه القضيّة، والذين أصدروا الفتاوى في دعم هذه القضيّة مالياً وسياسياً، وإنني
أعرف أنّ الكثيرين من المقاومين في المقاومة الإسلامية، كانوا لا يبتعدون عن فتواه
عندما ينطلقون في خطّ الجهاد وفي خطّ المقاومة، من خلال الفتاوى التي تقود الإنسان
إلى الموقف الحقّ والموقف الصّعب في مواجهة إسرائيل.
وقبل وفاته بأيام، سئل من قبل بعض مؤيديه عن مسألة شراء البضائع الإسرائيلية، فكانت
فتواه صريحة، وهي أنه يحرم على كلّ مسلم أن يشارك ولو بقدر صغير في تقوية إسرائيل،
أو تقوية موقع سياسي أو اقتصادي أو عسكري لإسرائيل.
كان الإنسان المنفتح على قضايا المسلمين، لأنه لا يستطيع إلا أن ينفتح على ذلك، ولا
يمكن أن يبتعد عن ذلك، لأنّ القضية في هذه المسألة ليست قضيّة اجتهاد شخصي يمكن أن
يجتهد فيه إنسان ويمكن أن يرفضه إنسان.
أنا لا أفهم أن هناك إسلاماً معتدلاً وأن هناك إسلاماً ثورياً، أنا لا أفهم أن هناك
عالماً يفصل الدين عن السياسة عندما يعيش معنى الدين في عمقه وامتداده، وأن هناك من
لا يفصل الدين عن السياسة. هناك فرق بين ظروف عامل وعامل، كما هو الفرق بين إمام
وإمام، لأن السياسة لا تعني الانفعال، ولا تعني الاندفاع، وإنما تعني التخطيط
المدروس الواعي، ودراسة الأرض ودراسة الظروف والمستقبل، لتعرف كيف تسيطر على الأرض،
وكيف تحرّك الظروف لمصلحتك، وكيف تنطلق نحو المستقبل من خلال قضاياك.
مستوى علميّ متقدّم
إنّ الضرورات التي قد تغيّر الموضوع تغييراً كلياً، قد تختلف بين مرحلة وأخرى،
والعناوين الثانوية التي هي من الإسلام، قد تختلف بين موقع وآخر، ولذلك، فإنّ
الإسلام يطوّر الحياة، لا أنه يخضع لتطوّرها، وهو يغيّر حركة الاجتهاد، وتتغيّر
فتاواه في حركة الاجتهاد دون أن ينفصل عن صراطه المستقيم وعن خطّه.
لذلك، عندما نطلّ على حياة فقيدنا، فإننا نجد أنّ المستوى العلمي الذي بلغ، والحركة
العلمية التي تحرّك فيها، والدأب في التدريس، [كان مستوى متقدّماً جدّاً] حتى إنه
يحدّث عن نفسه أنه لم يترك الدرس والتدريس والكتابة والتفكير في أيّ لحظة من لحظات
حياته. وقد نستطيع أن نقدّم مثلاً حياً يعرفه الكثيرون من المفكّرين ومن الفقهاء
والفلاسفة من تلامذة الإمام الخوئي، وهو القمة الفكرية الشامخة في الفكر والأصول
وفي الفلسفة وفي التنظير الإسلامي، السيّد محمد باقر الصّدر، الذي كان أول مفكر
إسلامي وأول فقيه إسلامي اكتشف المذهب الاقتصادي للإسلام في مواجهة الاقتصاد
الرأسمالي والاقتصاد الماركسي في كتابه "اقتصادنا"، الذي لا تستغني عن دراسته أيّ
جامعة في العالم، شرقية كانت أو غربية.
المرجعية المتجذّرة
إنّ قيمة المرجعية تتجذّر في عمق الأمّة، وتتحرك الأمّة على أساس أن المرجعية تمثّل
خطّ الإمام، ونحن نعرف عندما نطلّ على حياة مرجع إسلامي كبير قائد منفتح على العالم
كله، وهو الإمام الخميني(قده)، نجد أنه من خلال مرجعيته التي انفتحت على كلّ قضايا
الإنسان، وانفتحت على كلّ خطوط الإسلام، وحركت الظروف في اتجاه فكرها، وتمرّدت على
الضغوط في كلّ خطواتها، وانفتحت على الآخر، حتى إنها تعاونت وهي في خطّ الثورة،
تعاونت مع كلّ أشكال الآخر، وأفسحت للجميع أن يسير معها... أفسحت لمن يختلف معها
حتى في الفكر مادياً وإلهياً، ومن يختلف معها في الإسلام أو غير الإسلام، ومن يختلف
معها في الخطوط السياسية القومية والوطنية وغير الوطنية، قد قالت للجميع إنّه مادام
الهدف واحداً، وهو إسقاط الطاغوت، فتعالوا نلتق من أجل أن نحقّق الهدف المشترك، ثم
يبحث كلّ واحد عن مواقع القوّة في ساحته، لتكون الساحة للأقوى من موقع التنافس
الطبيعيّ، ليكون للأمَّة دورها الكبير في أن تعيِّن من يكون ثقتها في الساحة.
أمريكا والتفرّد بالعالم
إنّ أمريكا تحاول بإعلامها أن تقنعنا بأنَّ هناك نظاماً، وأنّ علينا أن نكون
المنضبطين في هذا النظام، وأن هناك قطاراً إذا لم يركبه الناس فإنهم سيبقون في
العراء بلا ماء ولا كلأ، وإنّ الإعلام الأمريكي يضخّم شخصيّة أمريكا في وعي الشعوب.
ونحن عندما نواجه هذا المنطق، نسعى لمواجهته من خلال القرآن، الإمام الخميني كان
يستهدي بالقرآن، ولاحظوا أنّ قيمة أسلوب الإمام الخميني(قده) في المفردات السياسية،
أنه أراد للمسلمين أن يستعملوا مفردات القرآن عندما يتحدّثون سياسياً، وعندما
يفكرون سياسياً.
جاء لهم بكلمة المستكبرين بدلاً من كلمة المستعمرين، وجاء إليهم بكلمة المستضعفين
بدلاً من كلمة الكادحين وما إلى ذلك، وجاء لهم بكلمة الشيطان، لأن القضية هي أن
ينطلق المسلمون سياسياً من خلال الأجواء السياسية القرآنية، ليعرفوا أنهم وهم
يهتفون، يقرأون القرآن في هتافهم، وهم يتحركون بحركة القرآن، لأن الخط السياسي يمثل
جواً تلتقي فيه كلّ المفردات وكلّ الخطوط. لذلك، ليكن في وعينا أنه الشيطان الأكبر،
لأنه عندما نقرأ في الواقع، فإنّ أمريكا وغير أمريكا من كل هؤلاء الشياطين.
اختزنوا في أنفسكم الرفض لأمريكا، وتحركوا في كلّ حركتكم في كلّ موقع للقوّة تريد
أن تركّزه أمريكا في أرضنا وفي منطقتنا وفي كلّ مكان في العالم، لنتعاون مع كلّ
الأحرار الذين يريدون أن يتحرّروا من النفوذ الأمريكي، في سبيل إسقاط القوة
الأمريكية وفي سبيل إضعافها.
إننا لا نستطيع أن نهدم الجبل دفعةً واحدة، لكننا قادرون على أن يسقط كلّ واحد منا
حجراً.
إنّ أمريكا هي سرّ اللعبة المأساة، وهي سر اللعبة الملهاة، وهي سرّ كلّ هذا القتال
الذي يدور في أكثر من موقع إسلامي. عندما تواجهون الحرب في أفغانستان، فتّشوا عن
اللعبة الأمريكية التي يتحرّك فيها عملاء أمريكا، وعندما تواجهون مسألة المسلمين في
البوسنة والهرسك، فتّشوا عن اللّعبة الأمريكية التي تتحرّك بشكل متنوّع مع اللّعبة
الأوروبيّة في هذا المجال.
نسأل الله أن يتغمّد فقيدنا الكبير آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي،
وفقيدنا الكبير آية الله العظمى الإمام الخميني، وكل الشهداء، وكل العاملين في سبيل
الله، الذين انطلقوا إلى الله، وعاشوا مع الله، برحمته.. فمعهم معهم لا مع عدوّ
الله، ومع خطّهم لا مع الخطوط الأخرى.
هذا هو الطريق، وعلينا أن نكمل السير في هذا الطريق، حتى يأذن الله لوليّه أن ينطلق
بالثّورة الكبرى، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
والحمد لله ربِّ العالمين.
* جريدة العهد: العدد 426.