حديثنا في هذا اللّقاء حول كلام عليّ(ع) على شخصيّة إسلاميّة صحابية متميّزة، أثارت ولا تزال تُثير الكثير من الجدل في الأبحاث الإسلاميّة، فمنهم من يتطرّف في تقويمها الفكري، ليضعها في دائرة الاشتراكيّة، ومنهم من يضعها في دائرة المشاغبة، ومنهم من ينفتح على عناصرها الفكرية والحركية، ليقدّمها نموذجاً للشخصية الإسلامية المتحرّكة الّتي تملك صلابة الموقف وقوّته، ولا تأخذها في اللّه لومة لائم، مهما كانت درجة الشخصية التي تُعارضها وتأمرها بالمعروف وتنهاها عن المنكر. وقد لاقت هذه الشخصيّة في العهد الإسلامي الأول بعد الرسول(ص)، الكثير من التعسّف والنفي، وهو الّذي قال عنه رسول اللّه(ص) مما رواه أكثر المسلمين: "ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء، ذا لهجة أصدق من أبي ذرّ"[1].
ملامح شخصيّة أبي ذرّ الغفاريّ
ولا بُدَّ لنا قبل أن ندخل في كلمة عليّ(ع) لأبي ذرّ، من أن ندرس بعض ملامح هذه الشخصيّة، مما ذكره المؤرّخون. كان من عشيرة بني غفّار، وكانوا يقطعون الطريق ويسلبون المارّة، ولكنَّه كان منذ بدايات حياته موحّداً لله، ويعيش قلق البحث عن المعرفة، حتّى إنَّه كان كما يحدّث عن نفسه، يصلّي على طريقته في العشاء مبتهلاً إلى الله سبحانه وتعالى. وكان أخوه شاعراً، وقد ذهب إلى مكّة في بداية عهد الرّسالة، وسمع عن رسول الله(ص) ما كانت تحدِّث به قريش، وسمع رسول الله(ص)، وجاء إلى أبي ذرّ يُخبره بما سمعه من رسول الله(ص)، وقال له إنَّ حديثه ليس حديث شعر، وليس حديث كهانة، ولكنَّه حديث يأخـذ بمجامع القلب.
وجاء أبو ذرّ إلى مكّة باحثاً عن الحقيقة، والتقاه عليّ(ع) واستضافه، ولم يلبث أن التقى رسول الله(ص). وعندما سمعه، أسلم وتشهّد الشّهادتين، وعندما لاقى من قريش العنت والاضطهاد، سأل رسول الله، ماذا يفعل، فأشار عليه الرّسول(ص) بألا يُعلن إسلامه، لأنَّهم سوف يؤذونه، لكنَّه أعلن إسلامه، فضربوه حتّى نالوا منه، وأنقذه العباس عمّ النبيّ(ص) منهم، وقال لقريش إنَّكم أهل تجارة، وإنَّكم تمرّون على بني غفّار، فقد يعرضون لتجارتكم، فكفّوا عنه، وقال له رسول الله(ص): اذهب إلى عشيرتك، وانتظرني إلى أن أذهب إلى المدينة، فعاد أبو ذرّ إلى قومه، ودعا عشيرته إلى الإسلام، وأسلم نصفهم، كما تقول الرِّواية، وأسلم النّصف الآخر عندما أتى رسول الله(ص) إلى يثرب، وأسلم كلّ بني غفّار، وأسلمت معهم عشيرة أخرى، وهي عشيرة (أسلم)، وقد دعا لهم رسول الله(ص).
الوصايا السّبع
وعاش هذا الصحابي مع رسول الله(ص)، يسمع منه ويروي عنه، ونقرأ مما رواه عن رسول الله(ص) قوله: "أوصاني خليلي بسبع" أي صديقي، وهذا يعني أنَّ العلاقة بينه وبين رسول الله(ص) وصلت إلى نوع من الحميميّة والصميميّة، بحيثُ إنَّ الرّجل أصبح في علاقته برسول الله(ص) في مستوى الصداقة، من خلال هذا الحبّ الذي عاشه أبو ذرّ لرسول الله(ص)، ثُمَّ انظروا إلى هذه الوصايا الغضّة الحيّة، بحيثُ ما زالت تتحرّك في المجتمعات الإسلاميّة، لتؤصّل القيمة الروحية الأخلاقية لشخصية الإنسان المسلم.
"أمرني بحبّ المساكين والدنوّ منهم"؛ أن أعيش مع الفئة التي ترتبط بالأرض، وتعيش عفوية القيمة الإنسانية وبساطة الروح، هؤلاء الذين عاشوا المسكنة فقراً وجوعاً، ولكنَّهم عاشوا العزّة في أنفسهم، فلقد أمره رسول الله(ص) أن يعيش مع هؤلاء، حتّى يتعلّم كيف يعيش الارتباط بالمعنى الإنسانيّ للإنسان، وهذا ما نقرأه في دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع) ـ وكم نجهل زين العابدين، تلك القمّة الروحيّة العلميّة العظيمة التي ترتفع وتسمو وتعيش مع اللّه، في الوقت الّذي تؤثر العيش مع الإنسان ـ: "اللّهمَّ حبّب إلـيَّ صحبة الفقراء، وأعنّي على صحبتهم بحسن الصبر"[2]، لأنَّ من الطبيعي أن تكون هناك بعض التعقيدات في حياتهم، ما يجعل الإنسان يشعر بالتعب من خلال العيش معهم، ولذلك، فلا بُدَّ من أن يصبر الإنسان على تلك التعقيدات.
"وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي"، لأنَّ الإنسان إذا نظر إلى من هو دونه، عرف نعمة الله عليه فيما أعطاه، مما يميّزه عن هؤلاء، بينما إذا نظر إلى منْ هو فوقه، لـم يشعر بنعمة الله عليه، بل ربَّما يدفعه الحسد وعدم الرّضا بقضاء الله في هذا المقام، إلى أن يتصوّر أنَّ الله لـم يُعطِهِ كما أعطى فلاناً.
"وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً"، فكلّ ما أستطيع أن آتيه، أحاول أن أقوم به بنفسي، ولا أكلّف غيري مشقّته، وما لا أستطيع أن آتيه، أصبّر نفسي عليه، وأحاول أن أطوّر قدراتي حتّى أتمكّن منه.
ويُنقل عن رسولِ الله(ص) في هذا المضمار، أنَّه جاءه بعض أصحابه وقالوا له: يا رسول اللّه، إنّ وجودك فرصة ثمينة بيننا، فأنت حبيب الله وشفيع المذنبين، نريد منك أن تضمن لنا على اللّه الجنّة؟ فأطرق(ص) برأسه إلى الأرض، وكان بيده عصا ينكت بها الأرض، ثُمَّ رفع رأسه وقال: أضمن لكم على اللّه الجنّة بشرط. فقالوا: ما هو؟ قال: أن لا تسألوا النّاس شيئاً. فالشّيء الّذي تقدرون عليه، ائتوا به، والّذي لا تقدرون عليه، لا تحاولوا أن تسألوا النّاس عنه. فكأنَّه يقول لهم، إنَّ الإنسان تستعبده حاجاته، فإذا طلبتم منهم شيئاً، فإنَّهم قد يستغلّون حاجاتكم إليهم، ليفرضوا عليكم الانحراف والشروط التي تذلّكم، وهذا ما نلاحظه عندما نمدّ أيدينا إلى الغرب والشرق، لنستورد منهم الكماليات والحاجات غير الضروريّة، بل ما يضرّنا ويفرض علينا شروطاً سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة وأمنيّة قاسية. فكم يستورد العالم العربي والإسلامي من السجائر والأمور التي لا يحتاجها حاجة فعليّة، كاللّحوم المثلّجة، في حين أنَّ عندنا لحوماً طازجة، فنحن نربّي الأغنام والأبقار والمواشي! وكم نستورد غير ذلك من الكماليّات! حتّى إنَّ العالم الإسلامي يعيش اليوم تحت ضغط الديون للبنك الدولي، الذي يفرض على الشعوب والحكومات شروطاً اقتصادية تربك واقعها السياسي والاقتصادي معاً، ونحن لسنا مستعدِّين للاستغناء عن هذه الكماليات لنحفظ عزّة أنفسنا، في حين أنَّنا نروي في الكلمات المأثورة مما ينسب إلى الإمام عليّ(ع)، ومما يمكن توظيفه أخلاقياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً: "امنن على من شئت تكن أميره، واستغن عمّن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره"[3].
ويُقال إنَّه بعد أن أوصى النبيّ(ص) هؤلاء المسلمين بهذه الوصيّة، كان أحدهم إذا كان الماء إلى جانب جليسه، لا يقول له أعطني الماء، بل يتناوله بنفسه، وإذا كان راكباً الفرس وسقط السّوط من يده، لا يقول للّذي على الأرض أعطني السّوط، وإنَّما ينزل ليتناوله بنفسه. وليس مقصود النبيّ(ص) هو هذا، وإنَّما أراد بالاعتماد على النّفس، أن تكون سيِّد حاجاتك وسيِّد شهواتك ونفسك، وأن لا تستعبد نفسك للآخرين.
"وأمرني أن أصل الرّحم وإن أدبرت"، أن أصل الرّحم حتّى ولو كان قاطعاً. "وأمرني أن أقول الحقّ وإن كان مرّاً"، بحيثُ أواجه كلّ مواقع الباطل، فلو جاء الباطل بكلِّ إغراءاته ليقدّم لي كلّ حلاوة المطامع والشّهوات، فإنّي أقول الحقّ، لأنَّ النّاس إذا قالوا الحقّ، وتحمّلوا مرارته، ركّز الحقّ وجوده في الواقع، ولكن إذا كنّا لا نقول الحقّ، بل نتحرّك مع الباطل، لأنَّ شهواتنا تتّفق مع الباطل، فسوف يموت الحقّ وتموت الإيجابيّات التي نحصل عليها من خلال الحقّ.
"وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم"، بحيثُ إنَّ اللّه إذا أمرني بشيء، ورأيت رضاه في هذا الشّيء، وكان كلّ النّاس يلومونني ويشتمونني ويضطهدونني، فإنَّني لا أخاف منهم، بل أراقب اللّه في ذلك كلّه.
"وأمرني أن أُكثر من قول: لا حول ولا قوّة إلاَّ باللّه"[4]، التي تعني أنَّ الإنسان عندما يضعف، فإنَّه يستمدّ الحول والقوّة من اللّه، وعندما يقوى، لا يشعر بذاتية القوّة، ولا بطغيانها، بل يشعر بأنَّها من اللّه سبحانه وتعالى، وبأنَّ اللّه الذي أعطاه القوّة، يمكن أن يسلبه إيّاها، فلا يستعمل قوّته فيما لا يرضي اللّه. وقد قام أبو ذرّ بتنفيذ كلِّ هذه الوصايا في حياته.
تقييم عليّ(ع) لأبي ذرّ
وتعالوا نسمع تقييم الإمام عليّ(ع) لأبي ذرّ(رض)، وعليّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليّ، وهو لا يخاف في اللّه لومة لائم، ولذلك، فهو لا يجامل أحداً في الحقّ. فعن عليّ(ع)، كما ينقل ذلك ابن سعد في طبقاته في الجزء الرّابع: "لم يبقَ اليوم ـ وهذا كان قبل خلافة عليّ(ع) ـ أحدٌ لا يبالي في اللّه لومة لائم غير أبي ذرّ ولا نفسي، ثُمَّ ضرب على صدره"[5]، أي ليس هناك سوانا من لا يخاف في اللّه لومة لائم.
وسُئِلَ عليٌّ(ع) عن أبي ذرّ، فقال: "وعى علماً عجز فيه، وكان شحيحاً حريصاً، شحيحاً على دينه"، بحيث لا يمكّن أحداً من أن يخترق دينه أو يلعب بدينه، "حريصاً على العلم"، يتحرّك في كلّ موقع من مواقع العلم ليكتسب علماً، "وكان يكثر السؤال"، أي كان يعيش قلق المعرفة، كما نعبّر هذه الأيّام، وكان يحاول كلّما ارتسمت علامات الاستفهام في ذهنه، أن يلاحقها ليقدّمها إلى من يملك الإجابة عنها. وهذا هو الّذي يريده الإسلام، بأن نعيش قلق المعرفة، وأن نسأل عن كلِّ شيء، وأن لا نخاف ولا نخجل من أيِّ سؤال، لأنَّ على الإنسان أن يتعلّم، فالعلم هو النّور الّذي يضيء قلبك وعقلك، ويؤصّل إيمانك، ويقوّي حركتك في الحياة. "فيعطي ويمنع"، أي يعطي الجواب تارةً، ويمنع تارةً أخرى عندما لا يكون هناك مصلحة في الجواب. "أمّا إنَّه قد ملئ له في وعائه حتّى امتلأ"، أي لكثرة ما اكتسب من علم، لـم يبقَ في وعائه متَّسع.
ويقول ابن سعد: "فلم يدروا ما يريد عليّ بقوله: وعى علماً عجز فيه؛ أعجز عن كشف ما عنده من العلم، أم عن طلب ما طلب من العلم إلى النبيّ(ص)؟" [6]، وبقيت الكلمة غامضة.
فأبو ذرّ من القلائل الذين ثبتوا مع عليّ(ع)، إضافةً إلى سلمان وعمّار، لأنَّ القضية كانت عندهم في مستوى الوضوح الّذي ليس فيه أيّ مجال لأيّة شبهة أو لأيِّ خلل.
أبو ذرّ المعارض
وقد برز موقف أبي ذر المعارض في زمن عثمان، أي لم ينقل عنه أنَّه كان في خطّ المعارضة القويّة في زمن أبي بكر وعمر. فكيف بدأت معارضته؟
يقول ابن أبي الحديد، إنَّ عثمان لما أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال، واختصّ زيد بن ثابت بشيء منها، جعل أبو ذرّ يعترض على ذلك، وكان المعارض الوحيد آنذاك، فكأنَّ النّاس في ذلك الوقت لم يكونوا يجرؤون على نقد الحاكم، بالرّغم من أنَّهم تعلّموا من رسول اللّه(ص) أن يسألوا عن كلّ شيء، حتّى بما يتّصل برسول اللّه(ص)، وهو سيِّد الخلق وهو المعصوم، فكانوا يعترضون، ولـم يكن يتعقّد من اعتراضهم، حتّى كانوا يسيئون الأدب معه أحياناً، ولم يكن يعاقبهم على ذلك، حتّى إنَّ عباس بن مرداس، جاءه في معركة حنين، وكان النبيّ(ص) يوزّع الغنائم، فقال له: اعدل يا محمَّد! فقال(ص): "ويحك، ومن يعدل إذا لم أعدل"[7]، ولم يعنّفه. ولكنّ العهد كان قد بعُد، ونسي النّاس الكثير مما كان رسول اللّه(ص) قد علّمهم إيّاه. وهذا ما نحتاجه في واقعنا، فنحن صرنا نخاف أن نعيش المعارضة.
يقول: "جعل أبو ذرّ يقول بين النّاس وفي الطّرقات والشّوارع: بشّر الكافرين بعذابٍ أليم، ويرفع بذلك صوته، ويتلو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[8]، فرفع ذلك إلى عثمان مراراً وهو ساكت، ثُمَّ إنّه أرسل إليه مولى من مواليه، أن انته عمّا بلغني عنك"[9]، أي كفّ عن ذلك، فقال أبو ذرّ: أوينهاني عثمان عن قراءة كتاب اللّه تعالى؟!".
ومن هذا، نستوحي أنَّنا في بعض الحالات، قد نعيش الضغط السياسي أمام الحاكم الجائر والمحتلّ، وقد لا نستطيع أن نتكلّم عمّا يسود في الواقع، فيُمكن في هذه الحال أن نلجأ إلى القرآن لنقرأه. وقد كنت أقول للنّاس في أيّام الاحتلال الإسرائيلي للبنان في العام 1978، وكان الوضع ضاغطاً، إنَّ لديكم حفلات تأبينيّة، فاختاروا في قراءة القرآن الآيات التي تتحدّث عن اليهود، كقوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّه}[10]. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}[11]. وما إلى ذلك، فالقرآن يمكن أن يكون الناطق بلسان الأمّة في هذه المواقف، ويعرّف النّاس بما عليه اليهود، وهذا لونٌ من ألوان المعارضة السياسيّة الصامتة، وهذا هو أسلوب أبي ذرّ.
قال: "أينهاني عثمان عن قراءة كتاب اللّه تعالى، وعيب من ترك أمر اللّه تعالى"، فأنا أتحدّث عن الّذين تركوا أمر اللّه تعالى، "فواللّه، لئن أرضي اللّه بسخط عثمان، أحبّ إليَّ وخيرٌ لي من أن أسخط اللّه برضا عثمان"، فحينما يدور أمري بين رضا اللّه وسخط عثمان، فرضا اللّه يقدّم، وهو فوق سخط السّاخطين، "فأغضب عثمان ذلك وأحفظه، فتصابر وتماسك، إلى أن قال عثمان يوماً والنّاس حوله: أيجوز للإمام"، أي للخليفة، "أن يأخذ من المال شيئاً قرضاً، فإذا أيسر قضى"، أي استقرض مالاً من بيت المال، وإذا توفّر المال لديّ، أوفي دَيْني؟ "قال كعب الأحبار"، وكان يهوديّاً وأسلم: "لا بأس بذلك، فقال أبو ذرّ: يا بن اليهوديّين أتعلّمنا ديننا؟ فقال عثمان: قد كثر أذاك لي وتولّعك بأصحابي، الحق بالشّام". فأخرجه إليها، فنفاه إلى الشام، وقد ارتاح منه فابتلي به معاوية، "فكان أبو ذرّ ينكر على معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية يوماً بثلاثمائة دينار، فقال أبو ذرّ لرسوله: إن كانت من عطائي الّذي حرمتمونيه عامي هذا أقبلها، وإن كان صلة فلا حاجة لي فيها، وردّها عليه، ثُمَّ بنى معاوية الخضراء بدمشق، فقال أبو ذرّ: يا معاوية، إن كانت هذه من مال اللّه فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهي الإسراف"، وكان أبو ذرّ يقول وهو في الشّام: "واللّه لقد حدثت أعمال ما أعرفها، واللّه ما هي في كتاب اللّه ولا سنّة نبيه(ص)، واللّه، إنّي لأرى حقّاً يطفأ، وباطلاً يحيا، وصادقاً مكذّباً، وأثرة بغير تُقى، وصالحاً مستأثراً عليه". قال حبيب بن مسلم الفهري لمعاوية: "إنَّ أبا ذرّ لمفسد عليكم الشّام، فتدارك أهله إن كان لك فيها حاجة"[12].
وكتب معاوية إلى عثمان، إذا كان لك حاجة في الشّام، فخذ أبا ذرّ إلى المدينة عندك، فلا أستطيع تحمّله لأنَّه يُفسد عليّ الشّام. وحينما رجع أبو ذرّ إلى المدينة، أعاد الكرّة من جديد، فأمر عثمان به ونفاه إلى الربذة، وهي منطقة نائية ليس فيها شيء من شروط الحياة المعقولة. وعندما أُخرِجَ، أَمَرَ عثمان أن يُنادى في النّاس: "لا يكلّم أحد أبا ذرّ ولا يشيّعه. وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به، فخرج به فتحاماه النّاس، إلا عليّ بن أبي طالب، وعقيلاً أخاه، وحسناً وحسيناً(ع) وعمّاراً، فإنَّهم خرجوا معه يشيعونه. يقول الرّاوي: فجعل الحسن(ع) يكلّم أبا ذرّ، فقال مروان: إيه يا حسن، ألا تعلم أنَّ أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرّجل، فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك، فحمل عليّ(ع) على مروان، فضرب بالسّوط بين أذني راحلته، وقال: تنحّ لحاك اللّه إلى النّار. فرجع مروان إلى عثمان مغضباً، فأخبره الخبر، فتلظّى على عليّ(ع)، ووقف أبو ذرّ فودّعه القوم، ومعه ذكوان مولى أمّ هانئ. قال ذكوان: فحفظ كلام القوم وكان حافظاً"[13]. فقال عليّ(ع): "يا أبا ذرّ، إنّك غضبت للّه، فارجُ من غضبت له، فأنت لم تغضب لنفسك، بل رأيت مُنكراً فنهيت عنه، ورأيت معروفاً يُترك فأمرت به، إنَّ القوم خافوك على دنياهم"، لأنَّهم أرادوا أن يحصلوا على الدنيا بطريقة غير شرعيّة، وخافوا من الذين يرصدون انحرافهم عن الحقّ، "وخفتهم على دينك، فامتحنوك بالقلى، ونفوك إلى الفلا، لأنَّهم أرادوا أن يفتنوك عن دينك ترغيباً وترهيباً، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه"، اترك لهم دنياهم، "واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم"، لأنَّه هو الّذي ينجّيهم في الآخرة، "وأغناك عمّا منعوك"، لأنَّك لست طالب دنيا، "وستعلم من الرّابح غداً الأكثر حسداً"، فالحسد ليس في الدّنيا، وإنَّما الحسد في يوم القيامة، عندما يؤمر بأناسٍ إلى النّار ويؤمر بآخرين إلى الجنّة.
"ولو أنّ السَّماوات والأرضين كانتا على عبدٍ رتقاً"، أي مغلوقتين، "ثُمَّ اتّقى اللّه، لجعلَ اللّه له منها مخرجاً"، {وَمَنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}[14]. "ولا يؤنسنّك إلا الحقّ"، فلو أنَّ النّاس كلّهم تركوك، وكان الحقُّ معك، فإنّ الحقّ هو الأنيس الّذي يؤنس عقلك وقلبك وحياتك، "ولا يوحشنّك إلا الباطل"، لأنَّ الباطل لا يملك العناصر الّتي تفتح عقل الإنسان وروحه، بل يملك العناصر الّتي تسقط للإنسان روحه وحياته، "ولو قبلت دنياهم لأحبّوك"، أي لو أنَّك أقبلت على الدّنيا، لأصبحت من فريقهم، "ولو قرضت منها"، أي لو أخذت منها مما يريدون أن يرشوك به "لأمّنوك"[15].
وداع الآخرين:
"ثُمَّ قال لأصحابه: ودّعوا عمّكم، وقال لعقيل: ودّع أخاك. فتكلّم عقيل وقال: ما عسى أن نقول يا أبا ذرّ، أنت تعلم أنَّا نحبُّك، وأنت تحبّنا، فاتَّقِ اللّه، فإنّ التَّقوى نجاة، واصبر فإنَّ الصّبر كرم، واعلم أنَّ استثقالك الصّبر من الجزع، واستبطاءك العافية من اليأس، فدع اليأس والجزع. ثُمَّ تكلّم الحسن(ع) فقال: يا عمّاه، لولا أنَّه لا ينبغي للمودّع أن يسكت، وللمشيع أن ينصرف، لقصر الكلام، وإن طال الأسف، وقد أتى القوم إليك ما تـرى، فضع عنك الدنيا بتذكّر فراقها، وشدّة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها، واصبر حتّى تلقى نبيّك(ص) وهو عنك راض. ثُمَّ تكلّم الحسين(ع) فقال: يا عمّاه، إنَّ اللّه تعالى قادرٌ أن يغيّر ما قد ترى"، فهذا لا يدوم. وهذا يعني أنَّ الحسين(ع) كان يفكّر في التغيير منذ ذلك الوقت، وكان هاجسه أنَّ الواقع السيّئ لا بُدَّ من أن يتغيّر، "واللّه كلّ يوم هو في شأن، وقد منعك القوم دنياهم، ومنعتهم دينك، فما أغناك عمّا منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم! فاسأل اللّه الصّبر والنّصر، واستعذ به من الجشع والجزع، فإنَّ الصّبر من الدّين الكرم، وإنَّ الجشع لا يقدّم رزقاً، والجزع لا يؤخّر أجلاً. ثُمَّ تكلّم عمّار (رحمه اللّه) مغضباً، فقال: لا آنس اللّه من أوحشك، ولا آمن من أخافك، أما واللّه لو أردت دنياهم لآمنوك، ولو رضيت أعمالهم لأحبّوك، وما منع النّاس أن يقولوا بقولك إلاَّ الرّضا بالدّنيا، والجزع من الموت، ومالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه، والملك لمن غلب، فوهبوا لهم دينهم، ومنحهم القوم دنياهم، فخسروا الدّنيا والآخرة، ألا ذلك هو الخسران المبين.
تعقيب أبي ذرّ
فبكى أبو ذرّ (رحمه اللّه) وكان شيخاً كبيراً، وقال: رحمكم اللّه يا أهل بيت الرّحمة! إذا رأيتكم ذكرتُ بكم رسول اللّه(ص). ما لي بالمدينة سكنٌ ولا شجنٌ غيركم، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز، كما ثقلت على معاوية بالشّام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين، فأفسد النّاس عليهما، فسيّرني إلى بلدٍ ليس لي به ناصر ولا دافع إلاَّ اللّه، واللّه ما أريد إلاَّ اللّه صاحباً، وما أخشى مع اللّه وحشة"، فلا تخافوا عليّ ما دمت مع اللّه، واللّه معي، "يا صاحبي في شدّتي"، ولا يستوحش من كان اللّه معه. "ورجع القوم إلى المدينة، فجاء عليّ(ع) إلى عثمان، فقال له: ما حملك على ردِّ رسولي، وتصغير أمري، فقال عليّ(ع): أمّا رسولك، فأراد أن يردَّ وجهي فرددته، وأمّا أمرك فلم أصغّره.
قال: أما بلغك نهيي عن كلام أبي ذرّ! قال: أوكلّ ما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه. قال عثمان: أقد مروان من نفسك ـ أي لمروان قصاص عليك ـ قال ممّاذا؟ قال: من شتمه وجذب راحلته. قال: أمّا راحلته فراحلتي بها، وأمّا شتمه إيّاي، فواللّه، لا يشتمني شتمة إلا شتمتك مثلها، لا أكذب عليك"[16].
خطّ الإسلام
أيُّها الأحبّة، هذا هو أبو ذرّ، وهذا هو صاحب رسول اللّه(ص)، وهذا هو عليّ(ع)، وهؤلاء هم أهل بيت الرحمة في موقفهم مع الحقّ ومع المظلوم وفي مواجهتهم للباطل وللظلم كلّه.
ما نريد أن نأخذ الدّرس منه، هو هل أن نكون في خطّ عليّ(ع) وأهل بيته(ع)، لنقف مع المظلوم، سواء كان شخصاً أو شعباً أو أمّةً، ونقف ضدّ الظالم، سواء كان دولةً أو محوراً دولياً أو شخصاً، وتلك وصية عليّ(ع) لولديه الحسن والحسين(ع): "كونا للظّالـم خصماً وللمظلوم عوناً"[17]. لنكن مع المظلومين حتّى لو لم يكونوا مسلمين، ولنكن ضدَّ الظالمين حتّى ولو كانوا مسلمين، لأنَّ اللّه لا يريد لأحد أن يُظْلَم ولا يريد لأحد أن يَظْلِم، وقد علّمنا زين العابدين(ع) أن نطلب من اللّه أن يقينا من أن نظلم النّاس، كما يقينا من أن يظلمنا النّاس، وذلك هو دعاؤه: "اللّهمَّ فكما كرّهت إليّ أن أُظلم، فقني من أن أظلِم"[18]، وذلك من دعائه: "ولا أُظلمنّ وأنت مطيقٌ للدفع عنّي، ولا أَظلمنّ وأنت قادرٌ على القبض منّي"[19].
أيُّها الأحبّة، ذلك هو خطّ الإسلام؛ خطّ أهل البيت (ع)، خطّ العدل كلّه، خطّ الحقّ كلّه، خطّ الوقوف مع المظلومين ضدَّ الظالمين، ومع المستضعفين ضدَّ المستكبرين، ومع المحقّين ضدَّ المبطلين. فإذا أردتُم أن تكونوا مع الحقّ، فالحقّ مع عليّ وعليّ مع الحقّ، يدور معه حيثما دار، ولا مكان للباطل في دائرة عليّ(ع)، فَمَنْ أراد أن يكون مع عليّ(ع) ومع الباطل، فإنَّه لا يقترب من عليّ(ع) قيد شعرة.
* ندوة الشام الأسبوعيّة - فكر وثقافة
[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 10، ص 123.
[2] الصحيفة السجادية.
[3] ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج1، ص55.
[4] أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج 4، ص 231.
[5] المصدر نفسه، ص 228.
[6] المصدر نفسه، ص 228.
[7] بحار الأنوار، ج18، ص113.
[8] (التوبة: 34).
[9] أعيان الشيعة، ج 4، ص 237.
[10] (المائدة: 64).
[11] (البقرة: 27).
[12] أعيان الشيعة، ج 4، ص 237.
[13] أعيان الشيعة، ج 1، ص 439.
[14] (الطلاق: 2).
[15] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 13.
[16] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 22، ص 413.
[17] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 2، ص 1778.
[18] الصّحيفة السّجاديّة.
[19] المصدر نفسه.