هو أبو جعفر، محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني، الملقّب برشيد الدين؛ الفقيه المحدِّث، والمفسِّر المحقّق، والأديب البارع، الجامع لفنون العلم والفضائل، المولود في العام 1096م، والمتوفّى في العام 1192م.
اشتُهِر ابن شهرآشوب بلقب "شيخ الطائفة"؛ وهذا اللّقب لم ينله غيره بعد الشّيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، المتوفَّى في العام 460هـ. والده هو الشيخ علي بن شهرآشوب، العالِم الفاضل والفقيه المعروف، وجدّه "شهرآشوب"، يروي عن الشّيخ الطوسي، وعن الشيخ أبي المظفّر عبد الملك السمعاني.
كان يعتبر من كبار أعلام الشيعة في القرن السادس الهجري، وكان له إلمام كبير وكامل بالعلوم العقلية والنقلية، كالنحو، والصرف، والأصول، والفقه، والحديث، والوعظ، وغيرها. بدأ الدراسة عند أبيه وأجداده، ونال منهم الإجازة في الاجتهاد، وسافر إلى مدن كثيرة في إيران والعراق وسوريا. وعلى إثر نزاع مع حكّام "مازندران"، غادر إلى بغداد، وانكبّ هناك على الوعظ والمناقشات، واكتسب مكانة عند الخليفة "المقتفي"، لكنَّه غادر بغداد بعد فترة من الإقامة فيها، وذهب إلى الموصل، ومن بعدها إلى حلب.
ذكره علماء السِّيَر وأرباب المعاجم، وأشاروا إلى مكانته وأهميته وفضله. ومن جملة من تحدّث عنه:
"صلاح الدين الصفدي" في [الوافي بالوفيات، ج4، ص:164]، بقوله: "محمد بن علي بن شهرآشوب، أبو جعفر السروي المازندراني، رشيد الدين، أحد شيوخ الشيعة، حَفِظ القرآن الكريم وله ثمان سنين، وبلغ النهاية في أصول الشيعة".
ويتابع: "كان يُرحل إليه من البلاد، ثم تقدّم في علم القرآن والغريب والنحو، ووعظ على المنبر أيام المقتفي ببغداد، فأعجبه وأثنى عليه".
وذكره ابن أبي طي في تاريخه، وأثنى عليه ثناءً بليغاً، وكذلك الفيروزآبادي في كتاب "البلغة في تراجم أئمّة النّحو واللّغة"، وزاد: "إنّه كان واسع العلم، كثير العبادة، دائم الوضوء، عاش مائة سنة إلا عشرة أشهر".
ويقول عنه شمس الدّين الداودي المالكي، تلميذ عبد الرّحمن السيوطي في طبقات المفسّرين، ما نصّه: "محمَّد بن علي بن شهرآشوب بن أبي نصر، أبو جعفر السروي المازندراني، رشيد الدين، أحد شيوخ الشّيعة. اشتغل بالحديث ولقي الرّجال، ثم تفقّه وبلغ النّهاية في فقه أهل مذهبه، وأحسن الجمع والتأليف، وغلب عليه علم القرآن والحديث، وهو عند الشّيعة، كالخطيب البغدادي لأهل السنّة، في تصانيفه وتعليقات الحديث ورجاله، واسع العلم كثير الفنون، مات في شهر شعبان سنة 588 هجريّة".
وذكره السيوطي في "بغية الوعاة" في باب المحمديْن، وأثنى عليه ثناءً حسناً. وذكره أيضاً ابن حجر العسقلاني في [لسان الميزان، ج5، ص:310]، نقلاً عن ابن أبي طيّ في تاريخه، قائلاً: "اشتغل بالحديث ولقي الرّجال، ثم تفقّه وبلغ النّهاية في فقه أهل البيت، ونبغ في الأصول، ثم تقدّم في القراءات والقرآن والتفسير والعربيّة..كان كثير الخشوع، مات في شهر شعبان العام 588هـ".
وأشار إليه الشّيخ الحرّ العاملي في كتابه "أمل الآمل"، قائلاً: "رشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني السروي، كان عالماً فضلاً، ثقةً، محدِّثاً، محقّقاً، عارفاً بالرّجال والأخبار، أديباً، شاعراً، جامعاً للمحاسن، له كتب". ومن هذه الكتب: "مناقب آل أبي طالب"، "مثالب النّواصب"، "المحزون المكنون في عيون الفنون"، "إعلام الطّرائق في الحدود والحقائق"، "فائدة الفائدة"، "المثال في الأمثال"...
إنّ سلوكه المميّز، ونزعته المعتدلة في التّعاطي مع قضايا عصره، وأسلوبه الدّعويّ والعلميّ والحواريّ المنفتح... هذه الصفات جعلته محطّ تقدير واحترام جميع علماء المذاهب والفرق في عصره وما بعده، فكان واسع الصّدر، منفتح الذهن والأفق في حواره وتعاطيه مع الآخرين، وبوجه خاصّ، مع المعارضين له، حتى عُدّ صاحب مدرسة رائدة في التقريب والاعتدال.
من مشاهير أساتذته: فخر خوارزم جار الله الزمخشري المعتزلي، المولود في العام 467هـ، والمتوفَّى في العام 538هـ، فقد قرأ عليه مؤلفاته: ومنها "تفسير الكشّاف"، "الفائق في غريب الحديث"، "ربيع الأبرار"، وقد أجازه أستاذه المذكور بروايتها عنه.
ومن أساتذته أيضاً، أبو عبدالله محمد بن أحمد النطنزي العامي المذهب، صاحب كتاب "الخصائص العلوية على سائر البرية والمآثر العقلية لسيّد الذريّة". وقد استفاد ابن شهرآشوب من مشايخ آخرين، أمثال: أحمد الغزالي، وخطيب الخوارزمي، وهما من مفاخر رجال أهل السنّة في علوم الحديث، كما أنَّ هناك في المقابل، عدداً من رجال الحديث من أهل السنّة، ممن نقلوا روايات متعدّدة عن ابن شهرآشوب في كتبهم.
لم يكن لدى "ابن شهرآشوب" عقدة في أخذ العلم من جميع العلماء، والتفاعل مع كبار علماء أهل السنّة ومفكّريهم، وهذا ما تشهده سيرته العلميّة ومحطّاته المعرفيّة، فكان همّه السعي وراء طلب العلم.. لذا، كان يسعى وراء اكتساب العلم والمعرفة من رجال الدين الشيعة، إلى جانب علماء أهل السنّة، الذين حضر حلقات دروسهم، أو كان يتعاون معهم في مختلف المجالات، وبوجه خاصّ، في علم الرّجال والتّفسير.
منذ نعومة أظافره، أقبل ابن شهرآشوب بكلّ قلبه وعقله على كتاب الله، فحفظه وله من العمر ثماني سنوات، وكان بعدها بارعاً للغاية في علم التفسير، وعُرف بين كبار العلماء كمفسِّر متمكّن وعميق.. وما يلفت، هو استفادته في مباحثه التفسيرية من كثير من مفسّري أهل السنّة، منهم "السدي"، و"مقاتل"، و"الزمخشري"، و"الجبائي"، و"الواحدي"، و"الزجاج".
ويعتبر كتابه "مناقب آل أبي طالب" من أهمّ آثاره العلمية المتبقّية، والّذي يعدّ نموذجاً متميّزاً عن أبحاثه وبراعته في التاريخ والحديث، وهو يشتمل على تاريخ حياة المعصومين وفضائلهم ومناقبهم. ويذكر في مقدّمة الكتاب سبب تأليفه بقوله: "حين رأيت عداء الكفّار والخوارج إزاء أمير المؤمنين(ع)... استيقظت من نوم الغفلة، وكان هذا التنبيه لي عنايةً ولطفاً لأن أهتم بكشف الأحوال، ودراسة اختلاف الأقوال". ويتّضح من كلمات ابن شهرآشوب، أنّ دافعه كان تبيين فضائل الأئمة المعصومين(ع) على لسان أهل السنّة، أي ما ورد في كتبهم وأخبارهم من مناقبهم.
إنّ سيرة هذا العالم ومواقفه وأخلاقه، جعلت المحدّثين والمفسّرين والفقهاء من أهل السنّة، يكنّون له الكثير من الاحترام والتّقدير، ويذكرونه بالخير، سواء في أيام حياته أو بعد مماته.
وفي أخريات أيامه، هاجر من العراق، وسكن في حلب من بلاد سوريا، وذلك في عصر أمراء آل حمدان الإماميّين، وتوفي فيها، وكان مشغولاً بالتأليف والوعظ والإرشاد والتّدريس في علوم شتّى، وتخرّج عليه هناك جماعة من الأعلام.
هذا بعض من سيرة مضيئة لعالم رباني معطاء، ورائد مميّز في مسيرة العمل للوحدة الإسلاميّة الأصيلة. لقد شكّلت عطاءاته العلمية معياراً للحكم في النظريات المختلفة في المجاميع العلمية الشيعية والسنّية، بحيث نلمح في العديد من طريق الحديث والرجال لدى أهل السنّة اسم "ابن شهرآشوب". وقد خدم بفكره وجهاده الإسلام والمسلمين في كلّ بقاع الدّنيا، وكانت سيرته المباركة ولا تزال حافزاً للباحثين والمفكّرين، لتسليط الضّوء عليها أكثر، والإفادة منها قدر المستطاع.
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .