أن تتحدَّث عن عالم كبير كالسيّد محسن الأمين، فإنَّك تتحدَّث عن شخصيَّة متعدّدة الأبعاد، متنوّعة النشاطات، منفتحة العقل، متحرّكة المواقع؛ من طفولة حادّة الذكاء، إلى شباب ناقدٍ لما حوله ولمن حوله، إلى كهولة ثائرةٍ على سلبيّات الواقع، متجدّدة في مواجهة احتياجات العصر، إلى شيخوخة متحرّكة في الإنتاج والإبداع، في تواضعٍ يوحي بالعمق الإنساني للشخصيّة الإسلاميّة، التي كلَّما ارتفعت في الواقع الاجتماعي إلى الدرجات العليا، انفتحت على إنسانيَّة الإنسان الآخر، وفي إحساسٍ عميقٍ بالمسؤوليّة في وعي الحاجات الإسلاميّة، لحماية الإسلام من الجهل والتخلّف والخرافة، وفي الانفتاح على التطلّعات السياسيَّة في حاجة الأمّة إلى الثورة على الاستعمار من أجل الحرية للنّاس جميعاً، والتمرّد على الظلم الاجتماعي من أجل الخلاص من الواقع الصّعب الذي يعانيه المحرومون في الأمّة، وفي رعايةٍ قياديّة لقضايا المؤمنين من المستضعفين في التعقيدات الاجتماعيّة التي يتخبّطون فيها، فتنطلق مبادراته الخيريّة والتربويّة والقضائيّة لإخراجهم من المأزق الذي يعيشون فيه، وفي روحانيّة فيّاضة بالصّفاء والنّقاء والطّهر والإخلاص لله، في رجاء يمتزج بالخوف، وفي محبّة تحلّق في أجواء رحمة الله ولطفه.
كان السيّد محسن الأمين عالماً مستقلاً في ذاته، متحرّكاً في الصّغير من الأمور والكبير منها، لأنّ القضيّة عنده كانت قضيّة الإنسان بما يرفع مستوى إنسانيّته... حتى كانت هموم الطّفولة عنده في حاجتها إلى الرّعاية والتّربية في نشاطه، كهموم الشّباب بين يديه في حاجته إلى التّوجيه والتعليم والتزكية والتنمية، والصّغير عنده في قضاياه، كبير عنده في اهتماماته، لأنّ المسؤوليّة في الإسلام، تبقى كبيرة في وعي المسؤول، بقطع النّظر عن طبيعة التراتبيّة المجتمعيّة في مواقع الإنسان الآخر في المجتمع. وتلك هي بعض ملامح صورته العامّة في عناصر شخصيّته الإسلاميّة الإنسانيّة...
وتبقى لنا من مشاريعه في الجانب الثقافيّ والتربويّ والسياسيّ، وفي الواقع الإسلاميّ الوحدويّ، عناوين متعدّدة، لا بدّ لنا من أن ننفتح عليها في المراحل الزمنيّة على صعيد الحاضر والمستقبل، لعلاقتها بالتطوّرات الإصلاحيّة في الأمّة كلّها:
أوّلاً: الثروة الثقافيّة في تنوّعاتها الفكريّة والأدبيّة والتاريخيّة، وفي مقدّمها موسوعة "أعيان الشّيعة"، الّتي تتميّز بالعرض التّاريخيّ المتميِّز بالنقد والتحليل، والتقويم المتنوّع للشخصيّة، والتّحقيق، والتّوثيق، والأبحاث الأدبيّة النقديّة في تراجم الشعراء والأدباء، ما يجعل من الكتاب ثقافة موسوعيّة، بما تتسع لها هذه الكلمة في موضوعه، إلى جانب الكتب الحديثيّة والعقيديّة والفقهيّة والأصوليّة والنحويّة، ثم الأبحاث النقديّة لمختلف الموضوعات المتعلّقة بالدّفاع عن الإسلام والتشيّع، إضافةً إلى القصص الرّوائيّة التي مثّلها طلاب المدرسة العلويّة في دمشق على المسرح، والدّواوين الشعريّة.
ثانياً: محاربة الأميّة والجهل في المنطقة الّتي حلّ فيها في دمشق، فقد تحدث عن ذلك قائلاً: "لقد وجدنا أنّ معظم الأطفال يبقون أمّيّين بدون تعليم، وبعضهم يتعلّمون القراءة والكتابة في بعض الكتاتيب على الطّراز القديم"، فأسّس مدرسة للذكور وأخرى للإناث، في وقت كان المجتمع التقليدي يستنكر تعليم الذّكور على المنهج الحديث. أمّا تعليم الإناث، فقد كان من المحرّمات التقليديّة، ولكنه خاض الثورة على ذلك كله... وكان من نتائج مشروعه، أن تحوّل ذلك المجتمع الأميّ الجاهل، إلى مجتمع متعلّم انفتح على التقدّم في العلم، حتى وصل إلى مراحل الجامعة بفضل مشروعه التربوي التعليمي... وكان من اللافت، أنّ العلاّمة الأمين، كان يقوم بتدريس الصفوف الابتدائية بنفسه، بالرغم من أنه كان من العلماء الكبار في المجتمع الإسلامي، من دون أن يرى في ذلك غضّاً من شأنه.
ثالثاً: إصلاح المنبر الحسيني والاحتفال بعاشوراء، فقد ذكر في مذكّراته: "إنّا وجدنا مجالس العزاء وما يتلى فيها من أحاديث غير صحيحة، وما يُصنع في المشهد المنسوب إلى زينب الصغرى، المكنّاة بأمّ كلثوم، في قرية "راوية"، من ضرب الرّؤوس بالسيوف والقامات، وبعض الأفعال المستنكَرة، وقد صار ذلك كالعادة التي يعسر استئصالها، ولا سيّما أنها ملبّسة بلباس الدّين...".
وهكذا، بدأ بتهذيب السيرة الحسينّية، وتربية القرّاء بالمستوى الثقافي الجيد الذي يستطيعون من خلاله أن يميّزوا بين الصحيح وغير الصحيح، وبتحريم جرح الرؤوس بالمدى والسيوف ونحو ذلك، لأنّه محرّم بنصّ الشّرع وحكم العقل، لأنَّ فيه إيذاءً للنفس، وهو محرّم شرعاً وعقلاً، ولا يترتَّب عليه فائدة دينية ولا دنيوية، بل يترتّب عليه إبراز شيعة أهل البيت(ع) بصورة الوحشيّة والسخرية.
وقد تحدّث العلامة الأمين عن ردّ الفعل ضدّ هذا الإجراء الفتوائي والإصلاحي من قِبَل التقليديّين، فقال: "وقد عملت في ذلك رسالة التنزيه، وقام لها بعض الناس وقعدوا، وأبرقوا، وأرعدوا، وجاشوا، وأزبدوا، وهيّجوا طغام العوام والقشريّين ممن ينسب إلى الدّين، فذهب زبدهم جفاءً، ومكث ما ينفع الناس في الأرض... لقد أشاعوا في العوام أن فلاناً حرّم إقامة العزاء، بل زادوا على ذلك أن نسبونا إلى الخروج من الدين، واستغلوا بذلك بعض الجامدين من المعمّمين، فقيل لهم إنّ فلاناً هو الذي شيّد المجالس في دمشق، فقالوا: قد كان هذا عن أوّل أمره، لكنه بعد ذلك خرج من دين الإسلام".
وقد استطاع هذا المنهج الإصلاحيّ أن يترك تأثيره الكبير في المجالس والمنابر الحسينية، ولكن التخلّف لا يزال يتحرك بطريقة وأخرى، لإثارة العواطف الشعبيّة بطريقة غرائزية. وقد عانينا الكثير في حركتنا الإصلاحيّة في هذا الموضوع وغيره، من خلال هؤلاء المتخلّفين الذين لا يريدون للصلاح والإصلاح أن يفرضا نفسهما على الواقع، في الصورة الإسلامية الحضارية في هذا العصر.
رابعاً: موقفه من الحركة الوطنية في سوريا، فقد اختلف الأهالي في دمشق مع شركة الجرّ والتنوير الأجنبيّة، وكان عنده فريق من زعماء الكتلة الوطنيّة، فدعاهم إلى مقاطعة هذه الشركة، وانتقد الأغنياء الّذين لا يبالون بتحكّم هذه الشركة، فماتت عندهم عاطفة الإباء والشّمم، ولو كان فيهم شمم وإباء، لآثروا "النوّاصة" على ضياء الكهرباء، ولم يرضوا بأن تتحكّم بهم هذه الشّركة الأجنبية. وأمر الزعماء بإبلاغ الشعب هذه الدّعوة. وفي اليوم التالي، قاطع الناس الشّركة مقاطعةً تامّة، وأحرقوا بعض عرباتها، ثم تحوّلت المقاطعة إلى الإضراب الخمسيني الشّهير في سوريا، الذي اضطرّ معه الكونت "دي مارتيل"، المفوّض السامي الفرنسي، إلى النزول على رأي الوطنيّين. وكان الزعماء يجتمعون عنده بين وقت وآخر، ويستشيرونه في حركتهم ضد الانتداب الفرنسي، ويمنحهم الرأي السديد. وبذلك، كان العالم الديني الّذي دفع بالحركة الوطنية نحو الاستقلال بطريقته الخاصة.
خامساً: موقفه من الوحدة الإسلاميّة؛ فقد حاول الفرنسيون إصدار قانون الطوائف، الذي اعتبر المسلمين الشيعة في نطاق الأقلّيات، فأرسل إليهم رسالة قال فيها: "بصفتي الرئيس الروحي للطائفة الإسلامية الشيعية في سوريا ولبنان، أرجو فخامتكم أن تحيطوا علماً باستنكار المسلمين الشيعيّين لهذا القرار، ولهذه التفرقة المصطنعة بين المسلمين"... وعزموا على إحداث منصب رئيس علماء الشّيعة في سوريا ولبنان معاً، وقرّروا تعيينه لهذا المنصب، وأصدروا فيه مرسوماً، فرفض ذلك بكلّ قوّة، بالرغم من إصرارهم وتوسيط بعض زعماء الطائفة.
وقد أصدرت الحكومة السوريّة في عهد الاستقلال قراراً في الانتخابات النيابية، فأدخلت الشيعة في الأقليات، فقدّم السيد الأمين كتاباً للحكومة، قال لهم فيه إنّ الشيعة تعتبر المسلمين طائفة واحدة، ولا تريد الافتراق عن إخوانها السنّة. وهكذا، خضعت الحكومة، وقرّرت أن المسلمين طائفة واحدة لا فرق بين سنيّهم وشيعيّهم، وأنّ هذه المقاعد المعيّنة للمسلمين في جميع أنحاء الدّولة السوريّة، هي للسنّة والشّيعة على السّواء... وكان لذلك الوقع الحسن عند الوطنيّين.
كذلك، جاء السيّد الأمين شخص سنيّ، وقال له: أريد أن أتحوّل إلى التشيّع، فقال له سماحته: لا فرق بين السنّة والشيعة، فكلّنا مسلمون. وأصرّ ذلك الشخص، فقال له: انطق بالشهادتين، فنطق بهما، فقال له: الآن صرت شيعياً، لأن التشيّع لا يزيد على ذلك.. وكان يؤكّد أنّ الوحدة الإسلاميّة لا بدّ من أن تقوم على الأسس الأصيلة للإسلام، وعلى الحوار الموضوعي العلمي الّذي يرتكز على فهم كلّ من المسلمين للآخر، بعيداً عن الفهم الخاطئ والنقل الكاذب.
وهكذا، كان السيّد الأمين الرجل الكبير العالم المسلم، الذي ارتفع بالواقع الإسلاميّ إلى مستوى الوعي المنفتح على العصر، من دون إهمال للحقائق الإسلاميّة العقيديّة والشرعيّة، فابتعد به عن الخرافة والتخلّف الفكري، وكان الإنسان المصلح الّذي لا تأخذه في الله لومة لائم، فيقول كلمة الحقّ من دون خوف ولا وجل... وكان المرجع المسؤول الّذي يريد للعلماء المسلمين أن يأخذوا بأسباب الاجتهاد العلمي في الفقه، وأسباب التقوى في السّلوك، وأسباب العقل في الحركة والموقف والاتجاه.
* محاضرة