السيد شرف الدين: العالم الموضوعي العقلاني

السيد شرف الدين: العالم الموضوعي العقلاني

إنها لفرصة مباركة وسعيدة أن ألتقيكم، من خلال ما تمثلون من حركة الفكر الإسلامي في مواجهته لكل السلبيات التي يثيرها الآخرون ضد المفاهيم الإسلامية العامة، والتي يحاول الكثيرون من خلالها أن يستعيدوا تاريخ الخلافات الإسلامية، ولكن بطريقة غير علمية، لأن من مشاكلنا في الواقع الإسلامي، أننا لسنا مستعدين لدرس التَّاريخ بحقائقه، بل ربما نحاول أن نستهلك ما يقدَّم لنا من التاريخ من دون أيِّ تحقيق، وهذه ذهنيَّة تطبع الواقع الإسلامي السني والشيعي على حدٍّ سواء. ولهذا، فإنّ هناك الكثير من التراكمات التي تراكمت في ذهنية الناس، وأصبحنا نزرع الحقد في النّفوس، ونؤكد مسألة التكفير، حتى أصبحت قضية الحكم على شخص بالكفر، لمجرّد أنّه يناقش رواية يعتقد صحة صدورها عن النبي(ص)، بينما يراها الآخر غير صحيحة، فيعتبر ذلك من قبيل تكذيب الرسول، وبهذا يصدر حكمه التكفيري على الآخر.

ونحن نلاحظ أنَّ هذه المشكلة الَّتي امتدت في العالم الإسلامي، ليست مسألة القاعدة أو الزّرقاوي، بل هي حالة جذورها تاريخية، حتى أصبح ما يحدث في العراق ظاهرة في العالم الإسلامي كلّه، ولولا وجود بعض العلماء الوحدويين المنفتحين، لتحركت الأحقاد في كل مجال هنا وهناك.

إنّ قيمة المؤتمر أنّنا عندما نكرِّم السيد عبد الحسين شرف الدين، إنّما نكرِّم رجلاً عقلانياً موضوعياً، لم يهرب من الخلافات، وإنّما واجهها بكلِّ موضوعية وبكلِّ عقلانية، وهذا ما جعله يطرح فكر أهل البيت(ع)، وفكر ما يعبر عنه بمدرسة الخلافة أو مدرسة الصحابة، بطريقة علمية موضوعية عقلانية. ولو كان السيد عبد الحسين شرف الدين موجوداً بيننا وفي مجتمعنا هذا، لكُفِّر من قبل الناس الذي يحركون الحساسيات هنا وهناك.

وأحد نماذج الموضوعية في معالجته القضايا، هو إجابته (رحمه الله) عندما سُئل عن السَّبب في موقف الصحابة الذين استمعوا إلى الغدير، كيف ابتعدوا عن هذا الجو؟ وكان جوابه أنهم لم يفهموا الحقيقة كما نفهمها الآن، فهم درسوا الأمور بطريقة غير موضوعية وغير علمية، فأخطأوا في الفهم، ولم يقل إنهم كفروا أو إنهم كانوا مرتدّين. ولو أنَّ إنساناً الآن قدَّم هذه الفكرة في حوزاتنا، ولدى الكبار منا، لاتهموه بالضلال وربما بالكفر. هذه العقليّة المنطلقة من إيجاد عذر للآخر الذي يختلف معه، بقطع النظر عما إذا كان هذا العذر مقبولاً منه أو غير مقبول، هي عقليّة تنسجم مع النص القرآني.

لكن نحن، مع الأسف، لا نفهم مسألة الحوار في القرآن الكريم، فالقرآن الكريم يدعونا إلى أن نبحث عن مواقع اللقاء مع الآخرين، لا عن مواقع الافتراق {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}[1]. وكم بيننا وبين أهل الكتاب من خلافات! إنّهم يقولون ربنا يسوع المسيح، ونحن نقول إن السيد المسيح هو رسول الله وكلمته وروح منه ألقاها إلى مريم، ومع ذلك يقول تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[2].

ثم إنّنا نلاحظ أن الحوار في القرآن الكريم، في منهجه العلمي ومنهجه الإنساني والموضوعي، لم تقترب منه كل مناهج الحوار في العالم، وكنت في لقاءاتي مع الكثيرين من الصحافيين الغربيين والمفكِّرين، أقول لهم: "إنَّكم لم تصلوا إلى إنسانية الحوار الإسلامي، فضلاً عن أنكم تتجاوزونه"، فالله تعالى يقول على لسان النبي(ص): {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[3]. فهل كان النبي شاكاً لا يعرف أنه هو المهتدي؟ كان(ص) نبيّ الهدى، ومع ذلك، كان يقول لهم: قد أكون أنا مهتدياً وقد أكون ضالاً، وقد تكونون مهتدين وقد تكونون ضالين! بمعنى أن هناك حقيقة ضائعة بيننا، فتعالوا نتشارك في رحلة البحث عنها. لم يقل أنا المهتدي وأنتم الضالون، ولكنه جعل القضية موضع بحث.

من منا في هذه الظروف التي أطبق فيها الكفر والاستكبار والضلال على الإسلام، وحتى على خط أهل البيت(ع)، من منّا يتقبّل هذا المفهوم؟ بعض الناس الذين يختلفون مع بعض الناس الآخرين في الرأي في موضوع إسلامي معين، يقول: أنا الإسلام وكل من يختلف معي هو ضد الإسلام. هذه هي الذهنية الموجودة عندنا. لذلك، أنا أعتبر أن إعادة بحث السيد عبد الحسين شرف الدين في أفكاره، وفي كل مبادراته، وفي كل حركته، تعطينا ثقافة جديدة، ليست ثقافة تجريدية، ولكنها ثقافةٌ تتحرك في الواقع، وتستطيع أن تصنع جيلاً جديداً.

هناك نقطة لا يعرفها الكثيرون عن المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين، وقد عشتها معه في الخمسينيات، وهي أنّ السيد شرف الدين كان يُمثل الأخلاق النبوية في الدرجة العليا؛ وقد كان يجلس مع الصغير ومع الكبير، كان يحتضن كل من يلتقيه ويتواضع له، وقد رأيت منه ما لم أره من الكثيرين. لذلك، ينبغي أن تدرس أخلاق السيد شرف الدين، لأنّه الرجل الذي إذا تطلَّعت إليه في سلوكه الأخلاقي الروحي، رأيت أنك تعيش مع أخلاق النبوّة وأخلاق الإمامة، وهذا أمر يجب أن نعيشه حتى نستطيع أن نصنع في قياداتنا، كل قياداتنا، المعنى الإنساني الذي ينفتح على الناس، تماماً كما كان الصحابة يقولون عن الرّسول(ص): "كان فينا كأحدنا". لقد كان المسألة عنده، أنّ ما يصل إليه الإنسان على مستوى العلم أو المرجعية، أيّة مرجعية كانت، لا يبرر له أن يرتفع بنفسه عن الناس.

ولا بدَّ من أن ندرس السيد شرف الدين سياسياً في مرحلة كانت من أقسى المراحل في العالم الإسلامي. وفي هذا المجال، كان دوره لافتاً، ولا سيما في مرحلة أبناء الشريف حسين، وخصوصاً الأمير فيصل، حيث تفاقمت المشاكل السياسية في ظل الاستعمار الفرنسي، وعلى مستوى الأوضاع التي كان يضج بها الواقع.

أيُّها الأحبة، إننا نعتبر أن دراستكم في هذا المؤتمر العلمي، تمثل قيمة علمية مهمة جداً، قد تجعلنا نكتشف شيئاً جديداً، وعلماً جديداً، وخُلقاً جديداً، وسياسةً جديدةً في هذا المجال. إننا بحاجة إلى أن يكون لدينا أكثر من إمام شرف الدين، ونحتاج إلى أن لا نواجه الذين يملكون هذا الانفتاح وهذا التطلع وهذه الثقافة، أن لا نسمح بإسقاط هؤلاء المثقفين والعلماء الذين يواجهون الواقع، لأنّ مشكلتنا أننا نقدِّر ونحترم الذين فارقونا، أما الذين يعيشون معنا، فإنّنا نرميهم بالحجارة ونواجه واقعهم، من دون أن نسمح لأيّ صاحب فكر أن يطرح فكره أو أن يناقشه. ما أحب أن أقوله: إنّنا لا نزال كظاهرة في الحوزات، ولا أقول شمولية، نلاحظ أنه ليست لدينا حرية الفكر، نحن لسنا مستعدين لأن نناقش الكثير من الأفكار التي يثار حولها الجدل، بل إنّنا نُكفِّر بعضنا بعضاً، ونضلّل بعضنا بعضاً.

إنَّ الإسلام يحتاج إلى حرية الفكر، ونحن نعتقد أنّ الفكر كلما كان حراً انتشر أكثر، فالعالم، أيها الأحبة، يرى أن للفكر حريته، سواء كان فكراً إيمانياً أو فكراً علمانياً أو ما إلى ذلك، ونحن نخاف من الفكر! ولعلنا نقرأ في كتاب "المكاسب" أنّ حفظ كتب الضلال، هو مما يحكم العقل بقبحه، ولكن الشيخ الأنصاري (رحمه الله)، عندما يتحدث عن مستثنيات حفظ كتب الضلال، يقول: "بالجملة، فإن الموارد التي يجوز فيها حفظ كتب الضلال، لا تُعدُّ ولا تُحصى"، لأنه من خلال علمه كان منفتحاً.

علينا أن لا نختبئ في زوايانا، وأن نعمل على أن ندخل العصر، لأنّ نبينا كان رحمةً للعالمين، وكان كافة للناس بشيراً ونذيراً، وكما كانت الرسالة للعالم كافّة، علينا أن نكون نحن للعالم كافة. ونحن نعتبر أنّ هذه الجمهورية الإسلامية التي انطلقت من أجل أن يكون الإسلام دولة، وأن يكون الإسلام قوة، وأن يكون الإسلام حركة، وأن ينطلق الفقه الإسلامي من أجل أن ينشئ الدولة، ومن أجل أن يصنع الحرية للناس كافة، نعتبر أن علينا أن نحفظ هذه الجمهورية الإسلامية، أن نحفظها بكل ما عندنا، أن نحفظها برعايتها وبالدفاع عنها، وأن نحفظها بأن ننقدها وأن نعمل على أساس أننا إذا وجدنا خطأً ننبه إليه. إن قضية النقد العلمي البنّاء، هو الذي يجعل الإسلام قيمةً وقوةً وامتداداً وانفتاحاً.

أيُّها الأخوة، نحن الآن نعيش في العالم التحديات الكبرى، فأميركا تحاول أن تسيطر على العالم كلّه؛ ثقافياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً، وهي تأتينا من بين أيدينا، كما هو الشيطان، ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا.

علينا أن نستعدَّ لأميركا التي استطاعت أن تحتوي أوروبا التي سقطت تحت تأثير مصالحها معها، أن نعيد إلى الإسلام قوته، أن نعيد إليه عنفوانه، أن ننطلق من أجل أن نجرب ولو إلى ما بعد خمسين سنة، أن يكون العالم مسلماً.

*الكلمة التي ألقاها العلامة المرجع السيد فضل الله خلال استقبال عدد من الشخصيات المشاركة في مؤتمر تكريم السيد عبد الحسين شرف الدين الذي عقد في بيروت، لمناسبة الذكرى الخمسين لرحيله.


[1] (آل عمران/64)

[2] (العنكبوت/46)

[3] (سـبأ/24)

إنها لفرصة مباركة وسعيدة أن ألتقيكم، من خلال ما تمثلون من حركة الفكر الإسلامي في مواجهته لكل السلبيات التي يثيرها الآخرون ضد المفاهيم الإسلامية العامة، والتي يحاول الكثيرون من خلالها أن يستعيدوا تاريخ الخلافات الإسلامية، ولكن بطريقة غير علمية، لأن من مشاكلنا في الواقع الإسلامي، أننا لسنا مستعدين لدرس التَّاريخ بحقائقه، بل ربما نحاول أن نستهلك ما يقدَّم لنا من التاريخ من دون أيِّ تحقيق، وهذه ذهنيَّة تطبع الواقع الإسلامي السني والشيعي على حدٍّ سواء. ولهذا، فإنّ هناك الكثير من التراكمات التي تراكمت في ذهنية الناس، وأصبحنا نزرع الحقد في النّفوس، ونؤكد مسألة التكفير، حتى أصبحت قضية الحكم على شخص بالكفر، لمجرّد أنّه يناقش رواية يعتقد صحة صدورها عن النبي(ص)، بينما يراها الآخر غير صحيحة، فيعتبر ذلك من قبيل تكذيب الرسول، وبهذا يصدر حكمه التكفيري على الآخر.

ونحن نلاحظ أنَّ هذه المشكلة الَّتي امتدت في العالم الإسلامي، ليست مسألة القاعدة أو الزّرقاوي، بل هي حالة جذورها تاريخية، حتى أصبح ما يحدث في العراق ظاهرة في العالم الإسلامي كلّه، ولولا وجود بعض العلماء الوحدويين المنفتحين، لتحركت الأحقاد في كل مجال هنا وهناك.

إنّ قيمة المؤتمر أنّنا عندما نكرِّم السيد عبد الحسين شرف الدين، إنّما نكرِّم رجلاً عقلانياً موضوعياً، لم يهرب من الخلافات، وإنّما واجهها بكلِّ موضوعية وبكلِّ عقلانية، وهذا ما جعله يطرح فكر أهل البيت(ع)، وفكر ما يعبر عنه بمدرسة الخلافة أو مدرسة الصحابة، بطريقة علمية موضوعية عقلانية. ولو كان السيد عبد الحسين شرف الدين موجوداً بيننا وفي مجتمعنا هذا، لكُفِّر من قبل الناس الذي يحركون الحساسيات هنا وهناك.

وأحد نماذج الموضوعية في معالجته القضايا، هو إجابته (رحمه الله) عندما سُئل عن السَّبب في موقف الصحابة الذين استمعوا إلى الغدير، كيف ابتعدوا عن هذا الجو؟ وكان جوابه أنهم لم يفهموا الحقيقة كما نفهمها الآن، فهم درسوا الأمور بطريقة غير موضوعية وغير علمية، فأخطأوا في الفهم، ولم يقل إنهم كفروا أو إنهم كانوا مرتدّين. ولو أنَّ إنساناً الآن قدَّم هذه الفكرة في حوزاتنا، ولدى الكبار منا، لاتهموه بالضلال وربما بالكفر. هذه العقليّة المنطلقة من إيجاد عذر للآخر الذي يختلف معه، بقطع النظر عما إذا كان هذا العذر مقبولاً منه أو غير مقبول، هي عقليّة تنسجم مع النص القرآني.

لكن نحن، مع الأسف، لا نفهم مسألة الحوار في القرآن الكريم، فالقرآن الكريم يدعونا إلى أن نبحث عن مواقع اللقاء مع الآخرين، لا عن مواقع الافتراق {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}[1]. وكم بيننا وبين أهل الكتاب من خلافات! إنّهم يقولون ربنا يسوع المسيح، ونحن نقول إن السيد المسيح هو رسول الله وكلمته وروح منه ألقاها إلى مريم، ومع ذلك يقول تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[2].

ثم إنّنا نلاحظ أن الحوار في القرآن الكريم، في منهجه العلمي ومنهجه الإنساني والموضوعي، لم تقترب منه كل مناهج الحوار في العالم، وكنت في لقاءاتي مع الكثيرين من الصحافيين الغربيين والمفكِّرين، أقول لهم: "إنَّكم لم تصلوا إلى إنسانية الحوار الإسلامي، فضلاً عن أنكم تتجاوزونه"، فالله تعالى يقول على لسان النبي(ص): {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[3]. فهل كان النبي شاكاً لا يعرف أنه هو المهتدي؟ كان(ص) نبيّ الهدى، ومع ذلك، كان يقول لهم: قد أكون أنا مهتدياً وقد أكون ضالاً، وقد تكونون مهتدين وقد تكونون ضالين! بمعنى أن هناك حقيقة ضائعة بيننا، فتعالوا نتشارك في رحلة البحث عنها. لم يقل أنا المهتدي وأنتم الضالون، ولكنه جعل القضية موضع بحث.

من منا في هذه الظروف التي أطبق فيها الكفر والاستكبار والضلال على الإسلام، وحتى على خط أهل البيت(ع)، من منّا يتقبّل هذا المفهوم؟ بعض الناس الذين يختلفون مع بعض الناس الآخرين في الرأي في موضوع إسلامي معين، يقول: أنا الإسلام وكل من يختلف معي هو ضد الإسلام. هذه هي الذهنية الموجودة عندنا. لذلك، أنا أعتبر أن إعادة بحث السيد عبد الحسين شرف الدين في أفكاره، وفي كل مبادراته، وفي كل حركته، تعطينا ثقافة جديدة، ليست ثقافة تجريدية، ولكنها ثقافةٌ تتحرك في الواقع، وتستطيع أن تصنع جيلاً جديداً.

هناك نقطة لا يعرفها الكثيرون عن المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين، وقد عشتها معه في الخمسينيات، وهي أنّ السيد شرف الدين كان يُمثل الأخلاق النبوية في الدرجة العليا؛ وقد كان يجلس مع الصغير ومع الكبير، كان يحتضن كل من يلتقيه ويتواضع له، وقد رأيت منه ما لم أره من الكثيرين. لذلك، ينبغي أن تدرس أخلاق السيد شرف الدين، لأنّه الرجل الذي إذا تطلَّعت إليه في سلوكه الأخلاقي الروحي، رأيت أنك تعيش مع أخلاق النبوّة وأخلاق الإمامة، وهذا أمر يجب أن نعيشه حتى نستطيع أن نصنع في قياداتنا، كل قياداتنا، المعنى الإنساني الذي ينفتح على الناس، تماماً كما كان الصحابة يقولون عن الرّسول(ص): "كان فينا كأحدنا". لقد كان المسألة عنده، أنّ ما يصل إليه الإنسان على مستوى العلم أو المرجعية، أيّة مرجعية كانت، لا يبرر له أن يرتفع بنفسه عن الناس.

ولا بدَّ من أن ندرس السيد شرف الدين سياسياً في مرحلة كانت من أقسى المراحل في العالم الإسلامي. وفي هذا المجال، كان دوره لافتاً، ولا سيما في مرحلة أبناء الشريف حسين، وخصوصاً الأمير فيصل، حيث تفاقمت المشاكل السياسية في ظل الاستعمار الفرنسي، وعلى مستوى الأوضاع التي كان يضج بها الواقع.

أيُّها الأحبة، إننا نعتبر أن دراستكم في هذا المؤتمر العلمي، تمثل قيمة علمية مهمة جداً، قد تجعلنا نكتشف شيئاً جديداً، وعلماً جديداً، وخُلقاً جديداً، وسياسةً جديدةً في هذا المجال. إننا بحاجة إلى أن يكون لدينا أكثر من إمام شرف الدين، ونحتاج إلى أن لا نواجه الذين يملكون هذا الانفتاح وهذا التطلع وهذه الثقافة، أن لا نسمح بإسقاط هؤلاء المثقفين والعلماء الذين يواجهون الواقع، لأنّ مشكلتنا أننا نقدِّر ونحترم الذين فارقونا، أما الذين يعيشون معنا، فإنّنا نرميهم بالحجارة ونواجه واقعهم، من دون أن نسمح لأيّ صاحب فكر أن يطرح فكره أو أن يناقشه. ما أحب أن أقوله: إنّنا لا نزال كظاهرة في الحوزات، ولا أقول شمولية، نلاحظ أنه ليست لدينا حرية الفكر، نحن لسنا مستعدين لأن نناقش الكثير من الأفكار التي يثار حولها الجدل، بل إنّنا نُكفِّر بعضنا بعضاً، ونضلّل بعضنا بعضاً.

إنَّ الإسلام يحتاج إلى حرية الفكر، ونحن نعتقد أنّ الفكر كلما كان حراً انتشر أكثر، فالعالم، أيها الأحبة، يرى أن للفكر حريته، سواء كان فكراً إيمانياً أو فكراً علمانياً أو ما إلى ذلك، ونحن نخاف من الفكر! ولعلنا نقرأ في كتاب "المكاسب" أنّ حفظ كتب الضلال، هو مما يحكم العقل بقبحه، ولكن الشيخ الأنصاري (رحمه الله)، عندما يتحدث عن مستثنيات حفظ كتب الضلال، يقول: "بالجملة، فإن الموارد التي يجوز فيها حفظ كتب الضلال، لا تُعدُّ ولا تُحصى"، لأنه من خلال علمه كان منفتحاً.

علينا أن لا نختبئ في زوايانا، وأن نعمل على أن ندخل العصر، لأنّ نبينا كان رحمةً للعالمين، وكان كافة للناس بشيراً ونذيراً، وكما كانت الرسالة للعالم كافّة، علينا أن نكون نحن للعالم كافة. ونحن نعتبر أنّ هذه الجمهورية الإسلامية التي انطلقت من أجل أن يكون الإسلام دولة، وأن يكون الإسلام قوة، وأن يكون الإسلام حركة، وأن ينطلق الفقه الإسلامي من أجل أن ينشئ الدولة، ومن أجل أن يصنع الحرية للناس كافة، نعتبر أن علينا أن نحفظ هذه الجمهورية الإسلامية، أن نحفظها بكل ما عندنا، أن نحفظها برعايتها وبالدفاع عنها، وأن نحفظها بأن ننقدها وأن نعمل على أساس أننا إذا وجدنا خطأً ننبه إليه. إن قضية النقد العلمي البنّاء، هو الذي يجعل الإسلام قيمةً وقوةً وامتداداً وانفتاحاً.

أيُّها الأخوة، نحن الآن نعيش في العالم التحديات الكبرى، فأميركا تحاول أن تسيطر على العالم كلّه؛ ثقافياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً، وهي تأتينا من بين أيدينا، كما هو الشيطان، ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا.

علينا أن نستعدَّ لأميركا التي استطاعت أن تحتوي أوروبا التي سقطت تحت تأثير مصالحها معها، أن نعيد إلى الإسلام قوته، أن نعيد إليه عنفوانه، أن ننطلق من أجل أن نجرب ولو إلى ما بعد خمسين سنة، أن يكون العالم مسلماً.

*الكلمة التي ألقاها العلامة المرجع السيد فضل الله خلال استقبال عدد من الشخصيات المشاركة في مؤتمر تكريم السيد عبد الحسين شرف الدين الذي عقد في بيروت، لمناسبة الذكرى الخمسين لرحيله.


[1] (آل عمران/64)

[2] (العنكبوت/46)

[3] (سـبأ/24)

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية