ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
العمل أمانة ومسؤوليّة دينيّة ودنيويّة
عيد العمّال: تكريمٌ للعامل المخلص
في هذا اليوم، يحتفل العالم كلّه بيوم العمل، من خلال تأكيد قيمة العامل في بناء الحياة وإعمارها وتطويرها، سواء كان هذا العمل ممّا يتعلّق بخدمة الإنسان أو بخدمة الحضارة أو الكون في حركته النظامية. ومن الطبيعي أن العامل، كأيّ إنسان، يتحمّل مسؤوليةً، وقد يقوم بمسؤوليته بإخلاص، لأنه يعتبر أن عمله هو أمانة الله وأمانة الناس عنده، وقد لا يتحمّل هذه المسؤولية، فيغشّ في عمله، أو يخونه، أو يخرّبه أو ما إلى ذلك...
ولذلك، فإن التكريم في هذا اليوم هو تكريم للعامل الذي يخلص في عمله، والذي يسلّمه إلى صاحبه كما يجب، في مقابل ما يأخذه منه. وإذا كان الناس يتحدثون عن العامل في الجوانب الحياتية الدنيوية، في الإعمار والإنتاج وغيرهما، فإن هناك أيضاً العمّال السياسيين الذين يعملون في السياسة؛ وهؤلاء أيضاً قد نجد بعضهم يخون أمته في عمله السياسي، بينما يُخلص بعضهم الآخر لأمّته، وكذلك الأمر في العمّال الإداريين، الذين نجد منهم من يستغل موقعه في إدارته لمصلحة منافعه الشخصية، ومن يحاول أن يُخلص في إدارته لمصلحة الناس كلهم.
وهكذا عمّال السلطة، في مسألة المُلك والإمرة والرئاسة، فهناك من يعتبر أن موقعه رسالة لا بد من الإخلاص لها في قيادة الناس وقيادة البلد في حريته واستقلاله، وهناك من يعتبر القيادة سلطةً يحاول فيها تضخيم شخصيته على حساب الناس والأمة، لأنه لا يفكر في موقعه القيادي إلا كموقع شخصي.
وهناك العمّال الدينيون، ومن هؤلاء من يتّخذ الدين تجارةً يحاول من خلالها أن يحقق لنفسه أرباحاً ومكاسب، ومنهم مَنْ يعتبر عمله الديني عملاً رسالياً. أمّا العمل الأعلى الذي ينفتح فيه الإنسان على الآخرة، فهو العمل في سبيل الله وطاعته وعبادته، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [الانشقاق:6]، فالمؤمنون يكدحون إلى الله لأنهم يعملون على القيام بمسؤولياتهم تجاه ما أمرهم الله به أو نهاهم عنه.
أحاديث للرسول(ص) والأئمّة(ع) في العمل
ونحن في هذا اليوم، نحاول أن نستذكر بعض كلمات رسول الله(ص) وأئمة أهل البيت(ع) في العمل بحسب طبيعته وتنوعاته ومسؤولياته. فقد ورد عن رسول الله(ص) في وصيته لابن مسعود: "يا بن مسعود، إذا عملت عملاً فاعمل بعلم وعقل ـ إذا أردت أن تقوم بأي عمل، فلا بد من أن يكون لديك ثقافة هذا العمل، لأن بعض الناس قد يأخذ شهادةً مزوّرةً، فيصبح موظفاً أو مديراً أو معلّماً بهذه الشهادة المزوّرة، ولكنه في العمق يجهل عمله، والبعض قد يقوم بعمله من دون أن يستخدم عقله، بينما العقل يجعل الإنسان يفكّر في نقاط القوة والضعف في عمله ـ وإياك وأن تعمل عملاً بغير تدبّر وعلم، فإنه جلّ جلاله يقول:{ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً}" [النحل:92].
وعن رسول الله(ص): "إن الله تعالى يحبّ إذا عَمِلَ أحدُكم عملاً أن يتقنه"؛ فعندما تستلم عملاً معيناً، في البناء أو الزراعة أو الصناعة أو في أيّ مجالٍ آخر، فلا بد لك من أن تؤديه بإتقان، فلا يكون في العمل أي نقصان أو عيب، بحيث تسلّم عملك سالماً كاملاً غير منقوص. وعنه(ص): "إن الله تعالى يحبّ من العامل إذا عمل أن يحسن". وعن الإمام الصادق(ع): "لما مات إبراهيم ابن رسول الله(ص)، رأى النبي في قبره خللاً، فسوّاه بيده، ثم قال: إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن".
عاقبة ظلم العامل
وهناك نقطة أخرى في هذا المجال، وهي أن بعض أرباب العمل قد يتأخّر في إعطاء العامل أجره، وقد يكون العامل محتاجاً إلى هذا المال ليؤمّن حاجات نفسه وأهله وليقضي ديونه، ولكن بعض أرباب العمل يحاول تأخير دفع الأجر استثماراً لهذا المال، وقد يُنقص البعض منهم من الأجر المتفق عليه، وفي ذلك، ورد عن رسول الله(ص): "من ظلم أجيراً أجره ـ حرمه أجره أو أنقص منه شيئاً ـ أحبط الله عمله ـ فلو كان صاحب العمل من المصلّين الصائمين، ولكنّه كان ظالماً لعمّاله، فإن الله يُسقط عمله فيكون كمن لم يعمل شيئاً ـ وحرَّم عليه ريح الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة خمسمائة عام". وعنه(ص): "إن الله عزّ وجلّ غافر كل ذنب، إلا رجل اغتصب أجيراً أجره، أو مهر امرأة"، فالإنسان الذي يغصب للأجير أجره، أو يطلّق زوجته دون أن يعطيها مهرها، هو إنسان مذنب لا يغفر الله له ذنبه مهما عمل.
وليس المطلوب فقط أن تعطي الأجير أجره وأن لا تنقص منه شيئاً، بل أن تبادر إلى تمكينه منه، فقد ورد عن رسول الله(ص): "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه ، وأَعلِمه أجرَه وهو في عمله"، حتى ورد عن الإمام الرضا(ع)، لما رأى بعض من يقومون بأعماله قد استأجروا أجيراً، فسألهم: هل عرّفتموه أجره؟ قالوا: لا، فعنفهم الإمام (ع) ، لأنك عندما تعرّف الأجير أجره وتعطيه زيادةً ولو بسيطةً، فإنه يعتبرك محسناً إليه.
العمل إما طريق إلى الجنّة أو إلى النّار
علينا أن نعتبر أن العمل المتقن الذي يعمله الإنسان بإخلاص من أجل أن يؤدي أمانته، هو أمر يحبّه الله ورسوله، ويؤجره الله على ذلك إضافةً إلى الأجر المادي الذي يحصل عليه. ونقول للعمّال، إن هناك عملاً يؤجَر عليه الإنسان، وهناك عمل يحاسب عليه، فمن عمل عملاً لتأييد الظالمين، يعاقَبْ عليه من الله سبحانه، ومن عمل في سبيل بناء الإنسان وبناء الحياة بما يحبّه الله ويرضاه، يؤجره الله عليه. ولذلك على الناس في كل بلد احتُلَّت أرضهم، أن لا يكونوا أجراء للمحتل، بل أن يعملوا على أن يكونوا مؤتمنين على مصالح الناس والبلاد.
ولذلك على الإنسان أن يتدبّر أمره، وأن يعتبر أن العمل قد يرفعه إلى الله ليدخل به الجنة، وقد يحط من درجته عند الله ليدخل به النار. وإننا نبارك للعمّال عيدهم، ونطالب كل السلطات، في أيّ موقع من المواقع، أن تمنح العمّال ما يستحقون من حقوقهم المشروعة.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
زحفٌ استيطانيٌّ لتغيير الخارطة الفلسطينية
في فلسطين المحتلة، تدور محركات الجرافات الإسرائيلية مجدداً، استعداداً لهدم عشرات المنازل الفلسطينية في قلب القدس، ويتزامن ذلك مع تسارع وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية، والذي سيتيح الفرصة ـ عبر قرارات الضم الجديدة لآلاف الهكتارات من الأراضي المحتلة ـ لزيادة 35 ألف نسمة إلى المستوطنات الكبرى، وسيؤدّي إلى شطر الضفة الغربية إلى شطرين شمالي وجنوبي، ويمهّد لفرز جديد يُسقط ميدانياً ما يسمّى مشروع الدولة الفلسطينية القابلة للحياة...
وبين عمليات الهدم المتواصلة في القدس، وتطويقها بالمستوطنات، وقضم المزيد من أراضي الضفة، تهوي السلطة الفلسطينية ومعها مشروع الدولة واقعياً، فيما تعلن الإدارة الأميركية عن إرسال المزيد من المدرّبين الأمنيين إلى هذه السلطة، لإعطاء الدروس في كيفية التصدي الأمني للمقاومة... في الوقت الذي يكفّ الاتحاد الأوروبي عن الحديث عن هذا الزحف الاستيطاني الذي يوشك أن يغيِّر الخارطة الفلسطينية كلها، ولا تنطلق إلا بضعة كلمات خجولة من فرنسا تتحدث عن أن العمليات الاستيطانية الجديدة مثيرة للقلق. أما ما يسمّى المجتمع الدولي الذي لم يستخدم كلمةً واحدةً تدعو إلى وقف الاستيطان، فقد كفّ حتى عن استخدام تعبيراته السابقة التي يطالب فيها بتجميد الاستيطان، حيث لا يجرؤ أحدٌ على دعوة إسرائيل إلى وقف أيّ مشروع من المشاريع التي باشرت بتنفيذها، فيما تتعالى الأصوات الغربية التي تدعو العرب والمسلمين إلى التخلّي عن أي مشروع يرى فيه الغرب تهديداً للعدو ولو بعد عشرات السنين.
ومن الطريف أن كيان العدو الذي قام قبل سنوات بمناورات عسكرية مشتركة مع تركيا وأميركا، في نطاق التخطيط لاستهداف التجربة العسكرية الإيرانية، يبدي في هذه الأيام انزعاجه من المناورة التركية ـ السورية الأخيرة، ويعتبرها تطوراً مقلقاً... وخصوصاً بعد الموقف التركي الحاسم والرافض للعدوان الإسرائيلي على غزة، وهو الموقف الذي لم يعرف العرب كيفية استغلاله، ولم يحرّكوا ساكناً لاجتذاب تركيا إلى حضنها الإسلامي الدافئ، للاستفادة من موقعها الاستراتيجي المؤثِّر في المنطقة لحساب قضاياهم، تماماً كما فعلوا مع إيران، وقد كان من اللافت أن يعبّر أحد الكتّاب والمحللين العرب عن أن "الدولتين اللتين تمثلان الصفوية والعثمانية، وكانت لهما مشاكل كبيرة مع العرب، تحتضنان قضيتهم وتدافعان عنهم"، بخلاف ما يتحرك به العرب في مواقعهم الرسمية.
المعايير المزدوجة للأمم المتحدة
وفي مشهد عربي آخر، تتوالى المهزلة في مسألة معاقبة المجاهدين الذين عملوا على تهريب السلاح إلى غزة، ليدخل على خطها عاملٌ جديد يتمثل بالأمم المتحدة، حيث يطير مبعوث الأمين العام لمراقبة القرار1559 "لارسن" إلى القاهرة لإثارة القضية، ودفعها إلى التّفاعل من جديد، من خلال إعلانه بأن المسألة تمثل "ظاهرةً خطيرةً" وتمسّ بسيادة الأراضي المصرية.
ونحن نتساءل عمّا إذا كان دور الأمم المتحدة هو الحفاظ على السلم والأمن الدوليين أو افتعال المشاكل بين الدول والمجموعات السياسية، ولماذا لا تكون المنظمة الدولية حريصةً على سيادة الأراضي السورية التي اخترقتها طائرات العدو لتقصف إحدى المنشآت في "دير الزور"، كما اعتدت عليها الطائرات الأميركية لتغتال الفلاّحين والعمّال في "البوكمال"؟ ولماذا لا تكون الأمم المتحدة حريصةً على سيادة السودان التي تنتهكها الطائرات الإسرائيلية، فتقصف أهدافاً في البحر وفي منطقة "بورسودان"؟... ولماذا لا تحرّك ساكناً أمام هذه الاستباحة الإسرائيلية للأجواء اللبنانية يومياً، وأمام استباحة العدوّ الأمنية للساحة اللبنانية، في شبكاته الاستخبارية العاملة على العبث بالأمن اللبناني الداخلي؟!... أم أن للأمم المتحدة أيضاً أجندتها الإسرائيلية؟!...
إننا، وأمام هذا الموقف الغريب للأمم المتحدة، والذي يرتقي إلى مستوى التحريض وإثارة القلاقل بين العرب، وخصوصاً في حركة "لارسن" المعروف بإخلاصه لإسرائيل، وانتمائه لها على حساب الأمم المتحدة نفسها، ندعو المنظمة الدولية لإخراج نفسها من هذا المأزق الذي حشرت نفسها به، وكادت أن تتحوّل إلى موقع يعمل من خلال التخطيط والتوجيه الإسرائيلي، لأن المسألة ترقى إلى مستوى الكارثة التي ينبغي تداركها قبل أن تنعكس نتائجها على غير صعيد في المنطقة التي تقف على حافة اللهب، والتي تحتاج إلى من يطفئ نيرانها لا إلى من يُشعل الملفات لحساب المحتلين والطغاة.
ثبات السياسة الأمريكية حيال إسرائيل
أما وزيرة الخارجية الأميركية التي طافت المنطقة في الأسبوع الفائت، فلم تخرج ـ في تصريحاتها ومواقفها ـ قيد أنملة عن سياسات إدارة بوش، وخصوصاً لجهة إعلانها عن أن إدارتها لن تتعامل مع أية حكومة فلسطينية تضم حركة حماس، ولا تلتزم بشروط الرباعية، ومن بينها نبذ العنف والاعتراف بالعدو، فهي تريد من الفلسطينيين أن يلقوا السلاح وينزلوا عند شروط المحتلّ، حتى دون إقرار العدوّ بحلّ الدولتين أو اعترافه بالشّعب الفلسطيني، أو خضوعه للقرارات الدولية في إزالة المستوطنات والجدار العازل، لأنّه يراد أن تبقى إسرائيل خارج نطاق أي التزام حيال قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي، كما يراد لها أن تستخدم كل أساليب العنف والإرهاب والمجازر فيما هو عنف الكيان الوحشي الذي تجلّى في الحرب على لبنان وعلى غزة، من دون أن يطالبها أحد بنبذ العنف أو أن يجرؤ أحد على محاسبتها...
إن أميركا الإسرائيلية لا تزال على حالها، مع إضافة جرعة جديدة فيما هو الخطاب السياسي الذي يستهدف إعادة الثقة العالمية بها، ولا تزال تتطلّع إلى تكريس زعامتها الإمبراطورية على العالم، وإن كان الثمن سحق شعوبٍ بأكملها، وإسقاط منظومة حقوق الإنسان كلها، وتدمير السلم العالمي كله على مذبح مصالحها ومصالح العدو. ولذلك فإننا نريد للعرب وللبنانيين ألا ينخدعوا أمام الوعود الأميركية، لأن ما تحمله وزيرة الخارجية الحالية لن يختلف في العمق عما كانت تحمله "رايس" التي ملأت الدنيا ضجيجاً بالحديث عن المخاض الجديد للشرق الأوسط الذي كان ثمنه تدمير لبنان وغزة، وعن الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، ثم ذهبت مع إدارتها ومشروعها إلى حيث لا عودة.
الحوار الوطني وإطلاق الضبّاط
أما في لبنان، فقد مرّت جلسة الحوار الوطني من دون أن يصل الحاضرون إلى أية نتيجة في خلافاتهم المزمنة، وفي مسألة الاستراتيجية الدفاعية التي تفرض عليهم أن يفكّروا في الوسائل الواقعية لتقوية الجيش الوطني والأجهزة الأمنية المسؤولة عن الأمن الداخلي، لأن الظروف الصعبة المحيطة بالبلد داخلياً وخارجياً، تحتاج إلى صنع القوة القادرة على حمايته من الخارج كما من الداخل...
ولكن المتحاورين جهدوا على أن يبرزوا كشخصيات حضارية منفتحة بعضها على بعض، وحريصة على التهدئة، وإن كان حديث الصالونات الخاصة يختلف عن أحاديث اللقاءات العامة التي تنطلق فيها المواقف السياسية التخوينية والتحريضية التي تدفع بالتابعين والأصحاب والمقرّبين إلى الاستفادة من الخطاب السياسي المتوتر بافتعال المشاكل، والانخراط في عمليات الاعتداء، والإساءة إلى السلم الأهلي على مختلف المستويات، بما يجعل الساحة الداخلية تهتز لمجرد أن تنطلق الصافرة مع بداية هذه المباريات الرياضية أو عند نهايتها، وكأن الصافرة السياسية والعصبية هي التي تحدد مسار الأمور في لبنان، حتى تلك التي لها طابعها الرياضي الصرف.
إننا نقول للمتحاورين: إنه لمن الجميل أن تبرزوا بشخصيتكم الانفتاحية في اللقاءات الحوارية الداخلية، ولكن من الأجمل أن ينعكس ذلك على القاعدة الشعبية التي تتثقّف بخطابكم الانفعالي تارةً، وبما تسرّونه لها من كلمات تثير العصبية تارةً أخرى، وماذا ينفع بعدها أن تتحدثوا عن التهدئة، وأن تعقدوا لقاءات الحوار التي تملأ الفراغ السياسي في الزمن الضائع على مستوى لبنان والمنطقة.
وإننا، أمام مناسبة خروج الضباط الأربعة الى الحرية، ندعو اللبنانيين الى العمل للحفاظ على وحدتهم وتماسك ساحتهم الداخلية، وعدم الانجرار وراء أية انفعالات قد تنطلق من هنا وهناك، وندعو الدولة بمؤسساتها المعنية الى وقفة تأمل تقود الى مراجعة حقيقية عل جميع المستويات، حيث لا يمكن وضع ما جرى في دائرة السجال السياسي الذي يتحرك بين هذا الفريق أو ذاك، لأن المسألة تطاول ركناً أساسياً من أركان الدولة والكيان، والذي لا يمكن للبلد أن يستمر من دون ترميمه وإصلاحه.
كما نريد للبنانيين، من كل الفئات والتيارات، أن يتواضعوا في أحلامهم أمام مسألة المحاكم الدولية والقضاء الدولي، لأن التجارب العربية والإسلامية مع هذه المحاكم ومع هذا القضاء تختزن أكثر من مرارة فيما هي المصداقية التي قد تتحرك تارة بفعل ظروف ضاغطة، وتختفي أخرى بفعل حالات طاردة... ولذلك فليست المسألة في أن نمحض هذا القضاء ثقة مطلقة أو نسلب منه إمكانية الصدق، بل أن نبقى مع قضايانا ونحفظ بلدنا، لأن ثبات الموقف فيما يتصل بقضايا الوطن والأمة هو الذي يعيد المسألة برمتها إلى دائرة الحقيقة، ويبعدها عن حالات المسخ والاختزال.
إننا نريد للبنانيين جميعاً أن يخرجوا من دائرة الاتهام السياسي وغير السياسي، لأن المسألة هنا وهناك قد تُستغل لاستصدار أحكام على أساس الاتهام الذي قد ينطلق من دون دليل. إننا نريد للجميع أن يخرجوا من هذه التجاذبات التي تُحدث اهتزازاً في البلد ولا تخدم العدالة في أيّ وجه من وجوهها.
الانتخابات الأغلى في التاريخ!
أما الانتخابات النيابية اللبنانية، فقد تحدثت صحيفة أميركية عن أن هذه الانتخابات هي الأغلى في التاريخ، لأن بعض الدول تصرف مئات الملايين من الدولارات من أجل إنجاح فريقها السياسي. والسؤال هو: هل إن هذه الملايين سوف تحل الأزمة المعيشية للمواطنين عندما تدخل الأصوات في سوق المزاد؟ إلى ذلك، فإننا نلاحظ أن بعض التسويات التحالفية التي يجري التوصل إليها لا يبحث أصحابها عن الكفاءة السياسية والمعرفة القانونية، بل عن الحجم الذي يملكه هذا الشخص الذي يدخل في داخل الائتلاف من الأصوات التي تدخل في الصناديق... ثم يحدثونك عن الديمقراطية في لبنان!! أما إذا أطلقت مشروع الديمقراطية التوافقية، فإن البعض يهاجم الفكرة لأنها لا تتوافق مع الإرادة الشعبية المنتخبة على قاعدة الأكثرية والأقلية في عملية الديمقراطية... وإذا طالبتهم على هذا الأساس بالديمقراطية العددية التي تتحرك في الالتزام بالاستفتاء الشعبي، فهناك الويل والثبور وعظائم الأمور، لأنها تسيء إلى مسألة التعايش عندما تملك طائفة أعداداً من الناس أكثر من طائفة أخرى...
ولذلك، فإن الديمقراطية اللبنانية تبقى ديمقراطيةً عجائبيةً تستوعب ما لا يُستوعب من إملاءات الخارج، وتضيق بشعبها في الداخل، وتستمر لغزاً غير قابل للحل وعقدةً عصّية على الحلحلة، لأنه يراد للبلد أن يستمر في الدور المرسوم له، ليكون عبئاً على أهل الطموح، وفخاً لطلاب الحرية والعزة والكرامة.
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
العمل أمانة ومسؤوليّة دينيّة ودنيويّة
عيد العمّال: تكريمٌ للعامل المخلص
في هذا اليوم، يحتفل العالم كلّه بيوم العمل، من خلال تأكيد قيمة العامل في بناء الحياة وإعمارها وتطويرها، سواء كان هذا العمل ممّا يتعلّق بخدمة الإنسان أو بخدمة الحضارة أو الكون في حركته النظامية. ومن الطبيعي أن العامل، كأيّ إنسان، يتحمّل مسؤوليةً، وقد يقوم بمسؤوليته بإخلاص، لأنه يعتبر أن عمله هو أمانة الله وأمانة الناس عنده، وقد لا يتحمّل هذه المسؤولية، فيغشّ في عمله، أو يخونه، أو يخرّبه أو ما إلى ذلك...
ولذلك، فإن التكريم في هذا اليوم هو تكريم للعامل الذي يخلص في عمله، والذي يسلّمه إلى صاحبه كما يجب، في مقابل ما يأخذه منه. وإذا كان الناس يتحدثون عن العامل في الجوانب الحياتية الدنيوية، في الإعمار والإنتاج وغيرهما، فإن هناك أيضاً العمّال السياسيين الذين يعملون في السياسة؛ وهؤلاء أيضاً قد نجد بعضهم يخون أمته في عمله السياسي، بينما يُخلص بعضهم الآخر لأمّته، وكذلك الأمر في العمّال الإداريين، الذين نجد منهم من يستغل موقعه في إدارته لمصلحة منافعه الشخصية، ومن يحاول أن يُخلص في إدارته لمصلحة الناس كلهم.
وهكذا عمّال السلطة، في مسألة المُلك والإمرة والرئاسة، فهناك من يعتبر أن موقعه رسالة لا بد من الإخلاص لها في قيادة الناس وقيادة البلد في حريته واستقلاله، وهناك من يعتبر القيادة سلطةً يحاول فيها تضخيم شخصيته على حساب الناس والأمة، لأنه لا يفكر في موقعه القيادي إلا كموقع شخصي.
وهناك العمّال الدينيون، ومن هؤلاء من يتّخذ الدين تجارةً يحاول من خلالها أن يحقق لنفسه أرباحاً ومكاسب، ومنهم مَنْ يعتبر عمله الديني عملاً رسالياً. أمّا العمل الأعلى الذي ينفتح فيه الإنسان على الآخرة، فهو العمل في سبيل الله وطاعته وعبادته، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [الانشقاق:6]، فالمؤمنون يكدحون إلى الله لأنهم يعملون على القيام بمسؤولياتهم تجاه ما أمرهم الله به أو نهاهم عنه.
أحاديث للرسول(ص) والأئمّة(ع) في العمل
ونحن في هذا اليوم، نحاول أن نستذكر بعض كلمات رسول الله(ص) وأئمة أهل البيت(ع) في العمل بحسب طبيعته وتنوعاته ومسؤولياته. فقد ورد عن رسول الله(ص) في وصيته لابن مسعود: "يا بن مسعود، إذا عملت عملاً فاعمل بعلم وعقل ـ إذا أردت أن تقوم بأي عمل، فلا بد من أن يكون لديك ثقافة هذا العمل، لأن بعض الناس قد يأخذ شهادةً مزوّرةً، فيصبح موظفاً أو مديراً أو معلّماً بهذه الشهادة المزوّرة، ولكنه في العمق يجهل عمله، والبعض قد يقوم بعمله من دون أن يستخدم عقله، بينما العقل يجعل الإنسان يفكّر في نقاط القوة والضعف في عمله ـ وإياك وأن تعمل عملاً بغير تدبّر وعلم، فإنه جلّ جلاله يقول:{ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً}" [النحل:92].
وعن رسول الله(ص): "إن الله تعالى يحبّ إذا عَمِلَ أحدُكم عملاً أن يتقنه"؛ فعندما تستلم عملاً معيناً، في البناء أو الزراعة أو الصناعة أو في أيّ مجالٍ آخر، فلا بد لك من أن تؤديه بإتقان، فلا يكون في العمل أي نقصان أو عيب، بحيث تسلّم عملك سالماً كاملاً غير منقوص. وعنه(ص): "إن الله تعالى يحبّ من العامل إذا عمل أن يحسن". وعن الإمام الصادق(ع): "لما مات إبراهيم ابن رسول الله(ص)، رأى النبي في قبره خللاً، فسوّاه بيده، ثم قال: إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن".
عاقبة ظلم العامل
وهناك نقطة أخرى في هذا المجال، وهي أن بعض أرباب العمل قد يتأخّر في إعطاء العامل أجره، وقد يكون العامل محتاجاً إلى هذا المال ليؤمّن حاجات نفسه وأهله وليقضي ديونه، ولكن بعض أرباب العمل يحاول تأخير دفع الأجر استثماراً لهذا المال، وقد يُنقص البعض منهم من الأجر المتفق عليه، وفي ذلك، ورد عن رسول الله(ص): "من ظلم أجيراً أجره ـ حرمه أجره أو أنقص منه شيئاً ـ أحبط الله عمله ـ فلو كان صاحب العمل من المصلّين الصائمين، ولكنّه كان ظالماً لعمّاله، فإن الله يُسقط عمله فيكون كمن لم يعمل شيئاً ـ وحرَّم عليه ريح الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة خمسمائة عام". وعنه(ص): "إن الله عزّ وجلّ غافر كل ذنب، إلا رجل اغتصب أجيراً أجره، أو مهر امرأة"، فالإنسان الذي يغصب للأجير أجره، أو يطلّق زوجته دون أن يعطيها مهرها، هو إنسان مذنب لا يغفر الله له ذنبه مهما عمل.
وليس المطلوب فقط أن تعطي الأجير أجره وأن لا تنقص منه شيئاً، بل أن تبادر إلى تمكينه منه، فقد ورد عن رسول الله(ص): "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه ، وأَعلِمه أجرَه وهو في عمله"، حتى ورد عن الإمام الرضا(ع)، لما رأى بعض من يقومون بأعماله قد استأجروا أجيراً، فسألهم: هل عرّفتموه أجره؟ قالوا: لا، فعنفهم الإمام (ع) ، لأنك عندما تعرّف الأجير أجره وتعطيه زيادةً ولو بسيطةً، فإنه يعتبرك محسناً إليه.
العمل إما طريق إلى الجنّة أو إلى النّار
علينا أن نعتبر أن العمل المتقن الذي يعمله الإنسان بإخلاص من أجل أن يؤدي أمانته، هو أمر يحبّه الله ورسوله، ويؤجره الله على ذلك إضافةً إلى الأجر المادي الذي يحصل عليه. ونقول للعمّال، إن هناك عملاً يؤجَر عليه الإنسان، وهناك عمل يحاسب عليه، فمن عمل عملاً لتأييد الظالمين، يعاقَبْ عليه من الله سبحانه، ومن عمل في سبيل بناء الإنسان وبناء الحياة بما يحبّه الله ويرضاه، يؤجره الله عليه. ولذلك على الناس في كل بلد احتُلَّت أرضهم، أن لا يكونوا أجراء للمحتل، بل أن يعملوا على أن يكونوا مؤتمنين على مصالح الناس والبلاد.
ولذلك على الإنسان أن يتدبّر أمره، وأن يعتبر أن العمل قد يرفعه إلى الله ليدخل به الجنة، وقد يحط من درجته عند الله ليدخل به النار. وإننا نبارك للعمّال عيدهم، ونطالب كل السلطات، في أيّ موقع من المواقع، أن تمنح العمّال ما يستحقون من حقوقهم المشروعة.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
زحفٌ استيطانيٌّ لتغيير الخارطة الفلسطينية
في فلسطين المحتلة، تدور محركات الجرافات الإسرائيلية مجدداً، استعداداً لهدم عشرات المنازل الفلسطينية في قلب القدس، ويتزامن ذلك مع تسارع وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية، والذي سيتيح الفرصة ـ عبر قرارات الضم الجديدة لآلاف الهكتارات من الأراضي المحتلة ـ لزيادة 35 ألف نسمة إلى المستوطنات الكبرى، وسيؤدّي إلى شطر الضفة الغربية إلى شطرين شمالي وجنوبي، ويمهّد لفرز جديد يُسقط ميدانياً ما يسمّى مشروع الدولة الفلسطينية القابلة للحياة...
وبين عمليات الهدم المتواصلة في القدس، وتطويقها بالمستوطنات، وقضم المزيد من أراضي الضفة، تهوي السلطة الفلسطينية ومعها مشروع الدولة واقعياً، فيما تعلن الإدارة الأميركية عن إرسال المزيد من المدرّبين الأمنيين إلى هذه السلطة، لإعطاء الدروس في كيفية التصدي الأمني للمقاومة... في الوقت الذي يكفّ الاتحاد الأوروبي عن الحديث عن هذا الزحف الاستيطاني الذي يوشك أن يغيِّر الخارطة الفلسطينية كلها، ولا تنطلق إلا بضعة كلمات خجولة من فرنسا تتحدث عن أن العمليات الاستيطانية الجديدة مثيرة للقلق. أما ما يسمّى المجتمع الدولي الذي لم يستخدم كلمةً واحدةً تدعو إلى وقف الاستيطان، فقد كفّ حتى عن استخدام تعبيراته السابقة التي يطالب فيها بتجميد الاستيطان، حيث لا يجرؤ أحدٌ على دعوة إسرائيل إلى وقف أيّ مشروع من المشاريع التي باشرت بتنفيذها، فيما تتعالى الأصوات الغربية التي تدعو العرب والمسلمين إلى التخلّي عن أي مشروع يرى فيه الغرب تهديداً للعدو ولو بعد عشرات السنين.
ومن الطريف أن كيان العدو الذي قام قبل سنوات بمناورات عسكرية مشتركة مع تركيا وأميركا، في نطاق التخطيط لاستهداف التجربة العسكرية الإيرانية، يبدي في هذه الأيام انزعاجه من المناورة التركية ـ السورية الأخيرة، ويعتبرها تطوراً مقلقاً... وخصوصاً بعد الموقف التركي الحاسم والرافض للعدوان الإسرائيلي على غزة، وهو الموقف الذي لم يعرف العرب كيفية استغلاله، ولم يحرّكوا ساكناً لاجتذاب تركيا إلى حضنها الإسلامي الدافئ، للاستفادة من موقعها الاستراتيجي المؤثِّر في المنطقة لحساب قضاياهم، تماماً كما فعلوا مع إيران، وقد كان من اللافت أن يعبّر أحد الكتّاب والمحللين العرب عن أن "الدولتين اللتين تمثلان الصفوية والعثمانية، وكانت لهما مشاكل كبيرة مع العرب، تحتضنان قضيتهم وتدافعان عنهم"، بخلاف ما يتحرك به العرب في مواقعهم الرسمية.
المعايير المزدوجة للأمم المتحدة
وفي مشهد عربي آخر، تتوالى المهزلة في مسألة معاقبة المجاهدين الذين عملوا على تهريب السلاح إلى غزة، ليدخل على خطها عاملٌ جديد يتمثل بالأمم المتحدة، حيث يطير مبعوث الأمين العام لمراقبة القرار1559 "لارسن" إلى القاهرة لإثارة القضية، ودفعها إلى التّفاعل من جديد، من خلال إعلانه بأن المسألة تمثل "ظاهرةً خطيرةً" وتمسّ بسيادة الأراضي المصرية.
ونحن نتساءل عمّا إذا كان دور الأمم المتحدة هو الحفاظ على السلم والأمن الدوليين أو افتعال المشاكل بين الدول والمجموعات السياسية، ولماذا لا تكون المنظمة الدولية حريصةً على سيادة الأراضي السورية التي اخترقتها طائرات العدو لتقصف إحدى المنشآت في "دير الزور"، كما اعتدت عليها الطائرات الأميركية لتغتال الفلاّحين والعمّال في "البوكمال"؟ ولماذا لا تكون الأمم المتحدة حريصةً على سيادة السودان التي تنتهكها الطائرات الإسرائيلية، فتقصف أهدافاً في البحر وفي منطقة "بورسودان"؟... ولماذا لا تحرّك ساكناً أمام هذه الاستباحة الإسرائيلية للأجواء اللبنانية يومياً، وأمام استباحة العدوّ الأمنية للساحة اللبنانية، في شبكاته الاستخبارية العاملة على العبث بالأمن اللبناني الداخلي؟!... أم أن للأمم المتحدة أيضاً أجندتها الإسرائيلية؟!...
إننا، وأمام هذا الموقف الغريب للأمم المتحدة، والذي يرتقي إلى مستوى التحريض وإثارة القلاقل بين العرب، وخصوصاً في حركة "لارسن" المعروف بإخلاصه لإسرائيل، وانتمائه لها على حساب الأمم المتحدة نفسها، ندعو المنظمة الدولية لإخراج نفسها من هذا المأزق الذي حشرت نفسها به، وكادت أن تتحوّل إلى موقع يعمل من خلال التخطيط والتوجيه الإسرائيلي، لأن المسألة ترقى إلى مستوى الكارثة التي ينبغي تداركها قبل أن تنعكس نتائجها على غير صعيد في المنطقة التي تقف على حافة اللهب، والتي تحتاج إلى من يطفئ نيرانها لا إلى من يُشعل الملفات لحساب المحتلين والطغاة.
ثبات السياسة الأمريكية حيال إسرائيل
أما وزيرة الخارجية الأميركية التي طافت المنطقة في الأسبوع الفائت، فلم تخرج ـ في تصريحاتها ومواقفها ـ قيد أنملة عن سياسات إدارة بوش، وخصوصاً لجهة إعلانها عن أن إدارتها لن تتعامل مع أية حكومة فلسطينية تضم حركة حماس، ولا تلتزم بشروط الرباعية، ومن بينها نبذ العنف والاعتراف بالعدو، فهي تريد من الفلسطينيين أن يلقوا السلاح وينزلوا عند شروط المحتلّ، حتى دون إقرار العدوّ بحلّ الدولتين أو اعترافه بالشّعب الفلسطيني، أو خضوعه للقرارات الدولية في إزالة المستوطنات والجدار العازل، لأنّه يراد أن تبقى إسرائيل خارج نطاق أي التزام حيال قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي، كما يراد لها أن تستخدم كل أساليب العنف والإرهاب والمجازر فيما هو عنف الكيان الوحشي الذي تجلّى في الحرب على لبنان وعلى غزة، من دون أن يطالبها أحد بنبذ العنف أو أن يجرؤ أحد على محاسبتها...
إن أميركا الإسرائيلية لا تزال على حالها، مع إضافة جرعة جديدة فيما هو الخطاب السياسي الذي يستهدف إعادة الثقة العالمية بها، ولا تزال تتطلّع إلى تكريس زعامتها الإمبراطورية على العالم، وإن كان الثمن سحق شعوبٍ بأكملها، وإسقاط منظومة حقوق الإنسان كلها، وتدمير السلم العالمي كله على مذبح مصالحها ومصالح العدو. ولذلك فإننا نريد للعرب وللبنانيين ألا ينخدعوا أمام الوعود الأميركية، لأن ما تحمله وزيرة الخارجية الحالية لن يختلف في العمق عما كانت تحمله "رايس" التي ملأت الدنيا ضجيجاً بالحديث عن المخاض الجديد للشرق الأوسط الذي كان ثمنه تدمير لبنان وغزة، وعن الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، ثم ذهبت مع إدارتها ومشروعها إلى حيث لا عودة.
الحوار الوطني وإطلاق الضبّاط
أما في لبنان، فقد مرّت جلسة الحوار الوطني من دون أن يصل الحاضرون إلى أية نتيجة في خلافاتهم المزمنة، وفي مسألة الاستراتيجية الدفاعية التي تفرض عليهم أن يفكّروا في الوسائل الواقعية لتقوية الجيش الوطني والأجهزة الأمنية المسؤولة عن الأمن الداخلي، لأن الظروف الصعبة المحيطة بالبلد داخلياً وخارجياً، تحتاج إلى صنع القوة القادرة على حمايته من الخارج كما من الداخل...
ولكن المتحاورين جهدوا على أن يبرزوا كشخصيات حضارية منفتحة بعضها على بعض، وحريصة على التهدئة، وإن كان حديث الصالونات الخاصة يختلف عن أحاديث اللقاءات العامة التي تنطلق فيها المواقف السياسية التخوينية والتحريضية التي تدفع بالتابعين والأصحاب والمقرّبين إلى الاستفادة من الخطاب السياسي المتوتر بافتعال المشاكل، والانخراط في عمليات الاعتداء، والإساءة إلى السلم الأهلي على مختلف المستويات، بما يجعل الساحة الداخلية تهتز لمجرد أن تنطلق الصافرة مع بداية هذه المباريات الرياضية أو عند نهايتها، وكأن الصافرة السياسية والعصبية هي التي تحدد مسار الأمور في لبنان، حتى تلك التي لها طابعها الرياضي الصرف.
إننا نقول للمتحاورين: إنه لمن الجميل أن تبرزوا بشخصيتكم الانفتاحية في اللقاءات الحوارية الداخلية، ولكن من الأجمل أن ينعكس ذلك على القاعدة الشعبية التي تتثقّف بخطابكم الانفعالي تارةً، وبما تسرّونه لها من كلمات تثير العصبية تارةً أخرى، وماذا ينفع بعدها أن تتحدثوا عن التهدئة، وأن تعقدوا لقاءات الحوار التي تملأ الفراغ السياسي في الزمن الضائع على مستوى لبنان والمنطقة.
وإننا، أمام مناسبة خروج الضباط الأربعة الى الحرية، ندعو اللبنانيين الى العمل للحفاظ على وحدتهم وتماسك ساحتهم الداخلية، وعدم الانجرار وراء أية انفعالات قد تنطلق من هنا وهناك، وندعو الدولة بمؤسساتها المعنية الى وقفة تأمل تقود الى مراجعة حقيقية عل جميع المستويات، حيث لا يمكن وضع ما جرى في دائرة السجال السياسي الذي يتحرك بين هذا الفريق أو ذاك، لأن المسألة تطاول ركناً أساسياً من أركان الدولة والكيان، والذي لا يمكن للبلد أن يستمر من دون ترميمه وإصلاحه.
كما نريد للبنانيين، من كل الفئات والتيارات، أن يتواضعوا في أحلامهم أمام مسألة المحاكم الدولية والقضاء الدولي، لأن التجارب العربية والإسلامية مع هذه المحاكم ومع هذا القضاء تختزن أكثر من مرارة فيما هي المصداقية التي قد تتحرك تارة بفعل ظروف ضاغطة، وتختفي أخرى بفعل حالات طاردة... ولذلك فليست المسألة في أن نمحض هذا القضاء ثقة مطلقة أو نسلب منه إمكانية الصدق، بل أن نبقى مع قضايانا ونحفظ بلدنا، لأن ثبات الموقف فيما يتصل بقضايا الوطن والأمة هو الذي يعيد المسألة برمتها إلى دائرة الحقيقة، ويبعدها عن حالات المسخ والاختزال.
إننا نريد للبنانيين جميعاً أن يخرجوا من دائرة الاتهام السياسي وغير السياسي، لأن المسألة هنا وهناك قد تُستغل لاستصدار أحكام على أساس الاتهام الذي قد ينطلق من دون دليل. إننا نريد للجميع أن يخرجوا من هذه التجاذبات التي تُحدث اهتزازاً في البلد ولا تخدم العدالة في أيّ وجه من وجوهها.
الانتخابات الأغلى في التاريخ!
أما الانتخابات النيابية اللبنانية، فقد تحدثت صحيفة أميركية عن أن هذه الانتخابات هي الأغلى في التاريخ، لأن بعض الدول تصرف مئات الملايين من الدولارات من أجل إنجاح فريقها السياسي. والسؤال هو: هل إن هذه الملايين سوف تحل الأزمة المعيشية للمواطنين عندما تدخل الأصوات في سوق المزاد؟ إلى ذلك، فإننا نلاحظ أن بعض التسويات التحالفية التي يجري التوصل إليها لا يبحث أصحابها عن الكفاءة السياسية والمعرفة القانونية، بل عن الحجم الذي يملكه هذا الشخص الذي يدخل في داخل الائتلاف من الأصوات التي تدخل في الصناديق... ثم يحدثونك عن الديمقراطية في لبنان!! أما إذا أطلقت مشروع الديمقراطية التوافقية، فإن البعض يهاجم الفكرة لأنها لا تتوافق مع الإرادة الشعبية المنتخبة على قاعدة الأكثرية والأقلية في عملية الديمقراطية... وإذا طالبتهم على هذا الأساس بالديمقراطية العددية التي تتحرك في الالتزام بالاستفتاء الشعبي، فهناك الويل والثبور وعظائم الأمور، لأنها تسيء إلى مسألة التعايش عندما تملك طائفة أعداداً من الناس أكثر من طائفة أخرى...
ولذلك، فإن الديمقراطية اللبنانية تبقى ديمقراطيةً عجائبيةً تستوعب ما لا يُستوعب من إملاءات الخارج، وتضيق بشعبها في الداخل، وتستمر لغزاً غير قابل للحل وعقدةً عصّية على الحلحلة، لأنه يراد للبلد أن يستمر في الدور المرسوم له، ليكون عبئاً على أهل الطموح، وفخاً لطلاب الحرية والعزة والكرامة.