المنحرفون عن الايمان في التطبيق العملي

 المنحرفون عن الايمان في التطبيق العملي

 
المنحرفون عن الإيمان
يقول الله سبحانه وتعالى، وهو يحدّثنا عن بعض النّماذج من الَّذين يعلنون أنَّهم المسلمون المؤمنون، ولكنَّهم في عمليَّة التَّطبيق والامتثال، لا يلتزمون هذا الخطّ، وإنما ينحرفون عنه، ولهؤلاء نماذج في كلّ زمان ومكان: {وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ - فيشهدون الشَّهادتين - وَأَطَعْنَا - يقولون إنَّنا نستجيب لقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}[النّساء: 59] - ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ - ثمّ يتولّون ويعرضون عن هذه الشَّهادة وعن هذا الالتزام، ويقول الله عنهم - وَمَآ أُوْلَٰٓئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ}[النّور: 47]، لأنَّ الإيمان ليس مجرَّد كلمة تعلن بها إسلامك، ولكنَّه كلمة تنطلق من قلبك قبل أن تنطلق بلسانك، وكلمةٌ تتمثَّل في التزامك العمليّ، بأن تحوّل هذا الإيمان إلى عمل في كلّ ما تأخذ به، وفي كلّ ما تدعه، لأنَّ عمليَّة أن تكون منتمياً إلى دين، أو منتمياً إلى خطّ، هي أن تلتزمه التزاماً يحكم كلَّ حياتك، بحيث تُخضِع كلَّ أوضاعك؛ في طعامك وشرابك، في شهواتك، في لذَّاتك، في مواقفك، في مواقعك، في أوضاعك كلّها، تخضعها له.. أن تلتزم به، بحيث تكون كلّ حياتك صورةً لكلّ حكم من أحكامه، ولكلّ خطّ من خطوطه، بحيث إذا قيل الإسلام، نظر النَّاس إلى حياتك ليروه متمثّلاً في بيتك، وفي محلّ عملك، وفي النَّادي الَّذي تجلس فيه، وفي الموقع الَّذي تضع نفسك فيه، وفي المواقف الَّتي تقفها تأييداً أو رفضاً، بحيث يكون الإسلام كلَّ صورتك وكلَّ شخصيَّتك.
ولذلك، ينفي الله الإيمان عن هؤلاء الَّذي أعرضوا عن الخطّ العمليّ، والتزموا خطّاً عمليّاً آخر: {وَمَآ أُوْلَٰٓئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ}.
بين خطّ الإيمان وخطّ النّفاق
ثمَّ يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن بعض مواقفهم وكلماتهم، يقول: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ - إذا اختلفوا في أمر ما، والنَّاس عادةً يختلفون ويتناقشون في القضايا الشَّخصيَّة، وفي القضايا الزوجيَّة، وفي القضايا الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة والثَّقافيَّة، فيأخذ هذا بخطّ، ويأخذ ذاك بخطّ آخر، ويرى هذا رأياً ويرى ذاك رأياً آخر، ربما يتحدَّث الإنسان للزّوجة عن حقٍّ للزّوج، أو يتحدَّث إنسان مع الزَّوج عن حقّ للزَّوجة، أو يتحدَّث النَّاس عن الحقوق الَّتي لهم وعليهم في حياتهم العامَّة والخاصَّة، أو يتحدَّثون عن خطّ سياسيّ، هذا يقول يجوز لي ويحلّ لي أن أؤيّد فلاناً، وذاك يقول إنّه لا يجوز لك ذلك، هذا يرى رأياً، وذاك يرى رأياً آخر، وهذا يحصل في كلّ الأمور الَّتي يختلف فيها النَّاس... وينطلق بعض النَّاس ليقول تعالوا نحن مسلمون، ولا بدَّ للمسلم من أن تكون آراؤه منسجمةً مع الرأي الإسلامي، وأن تكون مواقفه متطابقةً مع الموقف الإسلاميّ، تعالوا إلى الله ورسوله، لنقرأ القرآن، ونرى ماذا يقول الله، أو لنقرأ سنَّة الرَّسول (ص)، ونرى ماذا يقول، فهو الحكَم بيننا، فإن كان ما تقول، يا فلان، مطابقاً لكلام الله ورسوله، فالحقّ معك، وإن لم يكن ما تقوله مطابقاً لكلام الله ورسوله، فليس الحقّ معك - إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ}[النّور: 48].
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ - في الخطوط العامَّة للمواقف وللمبادئ، أو ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، عندما يختلف النَّاس في بعض الأمور التفصيليَّة، في أرض هنا، أو في مال هناك، أو ما أشبه ذلك، هذا يقول الحقّ معي، وذاك يقول الحقّ معي - إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ}.
هناك فريق، عندما يختلف مع أحد في أمر من الأمور، يذهب ويسأل أوّلاً عن حكم الشّرع ليعرف لمن الحقّ، فإذا قالوا له الحقّ معك، يأتي ويقول أنا أقف مع الشَّرع ومع ما يقوله الحقّ، وهؤلاء من يقول الله عنهم: {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}[النّور: 49]، ولكن إذا قالوا له إنَّ الحقّ ليس معه، يقول أنا لا أحتكم إلى الشَّرع ولا إلى العلماء، فأنا لديّ عقل، وعقلي يقول لي كذا، وعقلي يحكم بكلّ شيء. أليس هناك من يقول هكذا؟! يقول أنا لا أغيّر موقفي، فحتّى لو جاءت الدّنيا كلّها، وحتّى لو جاء النّبيّ بنفسه، فلست مستعدّاً لأغيّر موقفي، والله سبحانه يقول عن هؤلاء: {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ - يعني هل تحوَّلوا من خطّ الإيمان إلى خطّ النّفاق، والمنافقون من هم؟ {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقرة: 14] - أَمِ ارْتَابُوا - صار عندهم شكّ - أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ – يعني يخافون أن يظلمهم الله، وهل يظلم الله؟! نحن إنَّما يظلم بعضنا بعضاً لأنّنا نخاف من بعضنا البعض، ولأنّنا ضعفاء، "وَإِنَّما يَحْتَاجُ إِلَى الظُّلْمِ الضَّعِيفُ"، ولكنَّ الله هو القويّ، ولا يحتاج إلى أن يظلم أحداً - وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[النّور: 50]، الّذين ظلموا أنفسهم بالانحراف عن خطّ الله، وظلموا الله بالابتعاد عن خطوط طاعته، وظلموا النَّاس عندما لم يعطوهم حقَّهم.
الفائزون عندَ الله
إنَّ هذا ليس كلام المؤمنين، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ - فإذا أريد لهم أن يحلّوا المشاكل بينهم وبين النَّاس على أساس كلام الله ورسوله، فكيف يواجه المؤمن هذا الموقف؟ - أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا - كلامَ الله وكلامَ رسوله - وَأَطَعْنَا – لأنَّ طاعة الله وطاعة رسوله هي من لوازم إيماننا بالله ورسوله، لأنَّ الإيمان بالله ورسوله يفرض علينا الالتزام بكلّ ما قاله الله في كتابه، وكلّ ما قاله رسوله في سنَّته - وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[النّور: 51]، الَّذين يحصلون على الفلاح والنَّجاح في الدّنيا والآخرة. وأيّ فلاح أعظم من أن يرضى الله عنك؟! وأيّ فلاح أعظم من أن تصل إلى الدَّار الآخرة {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}[الأنبياء: 103]؟!
ثمّ يعطينا الله الخطّ: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ - في كلّ ما أمره به أن يفعله، وفي كلّ ما نهاه عنه بأن يتركه - وَيَخْشَ اللَّهَ - يخاف الله ويخاف غضبه وعذابه، بحيث يعيش في نفسه الخوف من الله أكثر مما يعيش الخوف من النَّاس، لا كما البعض من النَّاس ممن تحدَّث الله عنهم أنَّهم يخشون النَّاس كخشية الله أو أشدّ خشية {أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[التّوبة: 13]. إنَّ المؤمن هو الَّذي يخاف الله، بحيث إذا وصل أمام الواجب، وحدَّثته نفسه بأن يترك الواجب، خاف الله أن يفعل ذلك، أو إذا وقف أمام الحرام، وحدَّثته نفسه بأن يفعل الحرام، قال لنفسه {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الحشر: 16]، وإذا أراد النَّاس منه بطريقة العاطفة أو الضّغط أن يعصي الله، قال: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الزّمر: 13] - وَيَتَّقْهِ - وتقوى الله هي أن تراقب الله في كلّ أعمالك - فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[النّور: 52].
وقد تحدّث الله عن الفائزين في آية ثانية، قال: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 20]، أي أنَّ {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}، وهؤلاء هم أصحاب الجنَّة. فهل تريد أنت الجنّة أم أنَّك تستغني عنها؟! هناك الكثير من النَّاس يعيشون جنَّة الدّنيا ولا يريدون جنَّة الآخرة، لكن إذا كنَّا مؤمنين، نعرف أنَّ جنَّة الدّنيا تزول، فإمّا تفارقنا في حياتنا أو نفارقها، وجنّة الآخرة تحتاج فقط إلى كلمتين {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}.
أسلوبُ المنافقين
هناك بعض المنافقين كانوا يأتون إلى النَّبيّ ويقولون له مُرْنا ونحن نطيعك {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ - بكلّ الأيمان المغلّظة - لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ - إلى القتال، أو في أيّ مهمّة تكلّفهم بها - قُل لَّا تُقْسِمُوا - بعض النَّاس كلَّما حلف لك أكثر شُكَّ فيه أكثر، لأنَّ الإنسان الواثق بنفسه لا يحلف، إنَّما يحلف الَّذي يعرف من نفسه أنَّه غير صادق، فلذلك هؤلاء الّذين يقسمون كثيراً هم موضع شكّ في كلامهم. وهل تعرف معنى أن تقسم بالله؟ معناه أن تأتي بالله شاهداً، فإذا كانت المسألة زوراً، فمعنى ذلك أنَّك تأتي بالله شاهد زور، ولذلك "إنَّ اليمينَ الكَاذِبَةَ تَدَعُ الدّيَارَ بَلَاقِعَ"، أي أنّها تكون سبباً لفناء أصحابها - طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ - أي أنَّ طاعتكم طاعة شكليَّة وظاهريَّة - إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[النّور: 53].
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ - فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه - وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ - لأنَّ الرَّسول إنما يأتي من خلال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر: 7]، و{مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النّساء: 80] - فَإِن تَوَلَّوْا – قالوا إنّهم غير مستعدّين - فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ - من الدَّعوة والبلاغ - وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ - من المسؤوليَّة - وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا - لأنَّ طاعة الرَّسول تؤدّي بكم إلى الجنَّة وإلى رضوان الله - وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[النّور: 54].
سبيلُ النَّجاةِ
أيُّها الأحبَّة، هذا هو القرآن بكلّ وضوحه. ونحن هنا عندما نعيش مع آيات الله سبحانه وتعالى في القرآن، فإنَّ ذلك يمثّل حجَّةً علينا، لأنَّ مشكلة النَّاس ممن يدخلون النَّار أنّهم {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك: 10]، والسّمع هنا بأن تكون لهم أذن واعية {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}[الحاقّة: 12]، فالأذن تسمع، والعقل يفكّر فيما يسمع.
ولهذا، أيُّها الأحبَّة، نحن الآن بين يدي الله سبحانه وتعالى، في بيته، وفي الصَّلاة الَّتي نؤدّيها بأمره تعالى، علينا أن تكون هذه الآيات برنامجاً لنا في حياتنا، حتَّى نستطيع أن نصوغ أنفسنا في كلّ ما نفكّر، وفي كلّ ما نتكلَّم، وفي كلّ ما نعمل، وفي كلّ ما ننشئ من علاقات، ونقف من مواقف، أن يكون ذلك كلّه طاعةً لله، لأنَّ "اليومَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابٌ، وَغَداً حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ".
أيُّها الأحبَّة، إنَّ معنى أن تتَّقي الله، أن تعيش عملك في داخل نفسك، لتشعر بأنَّ الله يراقبك في ذلك، قل لنفسك إذا أمرتك بالسّوء، وإذا أرادت منك الانحراف: يا نفس، سوف تقفين غداً بين يدي الله، وسيسألك عن كلّ كلمة وعن كلّ عمل وعن كلّ موقف، فلا بدَّ لك أن تحضّري جوابك أمام الله. قبل أن تعمل العمل، قبل أن تقول الكلمة، فكّر لو أنَّ الله قبض روحك في هذه الحال، وسألك لماذا قلت، وكيف قلت، لماذا فعلت، وكيف فعلت، فماذا يكون جوابك؟ أن تحضّر لكلّ سؤال جواباً، لأنَّ ذلك اليوم {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النّحل: 111]، {الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[غافر: 17]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ}[الانفطار: 19].       
  الخطبة الثَّانيَّة
 
عباد الله، اتَّقوا الله فيما تقبلون عليه من أموركم، بأن تراقبوا الله في كلّ أمر مما يتَّصل بحياتكم الخاصَّة أو بحياتكم العامَّة، واتَّقوا الله فيما أسلفتم من ماضيكم مما عملتموه أو قلتموه، بأن تتوبوا إلى الله من كلّ ما أسلفتم من السيّئات، وأن تشكروا الله على ما عملتموه من الحسنات. راقبوا الله في كلّ الأمور العامَّة والخاصَّة، وحاذروا أن تنحرفوا عن خطّ الله سبحانه وتعالى، وأن تعيشوا في هوى أنفسكم، ومع الجانب العاطفي من حياتكم، لأنَّ الله خلق للإنسان عقلاً، وأراده أن يجعل عاطفته في طاعة عقله، ولا يجعل عقله في طاعة عاطفته، لأنَّ العقل هو الَّذي يميّز بين الحسن والقبيح، ولأنَّ العاطفة قد تذهب بصاحبها إلى الهلاك، فالعاطفة لا تفكّر، أمَّا العقل فإنَّه يفكّر، والله جعل العقل حجَّةً علينا وحجَّة لنا.
العملُ من أجل الآخرة
لذلك، أيُّها الأحبَّة، فكّروا في كلّ أمرٍ تنطلقون فيه، فكّروا في الله ماذا يريد منكم أن تعملوا في هذا الأمر، وفكّروا في رسول الله، ماذا يريد منكم أن تعملوا في ذلك، مما يتَّصل بمصالح المسلمين، فكّروا في القضايا العامَّة على أساس المصالح العامَّة، ولا تفكّروا في القضايا العامَّة على أساس المصالح الخاصّة. حاولوا في كلّ الأمور الَّتي يتحرَّك فيها النَّاس بطريقة انفعاليَّة وبطريقة عاطفيَّة، عندما يفرح النَّاس، ويزداد بهم الفرح، أو عندما يغضب النَّاس، ويزداد بهم الغضب، أن لا تأخذكم أجواء الانفعال وأجواء العاطفة، أن لا تأخذكم لتصفّقوا مع المصفّقين دون أن تعرفوا لماذا صفّقتم، ولتهتفوا مع الهاتفين دون أن تعرفوا لماذا هتفتم. عليكم أن لا تصفّقوا إلَّا في الحالات الَّتي تعرفون فيها أنَّ الله يرضى لهذه البادرة منكم، ولا تهتفوا إلَّا لمن كان في خطّ الله ورسوله، وفي خطّ العدل وفي خطّ الحقّ، لا تتحركوا على أساس التَّأثّر بما حولكم من الأجواء، فقد تحيط بكم بعض الأجواء الَّتي يهيّئها وينتجها الَّذين لا يخافون الله ورسوله، من هؤلاء الَّذين يريدون أن يعيش النَّاس على أساس الملذَّات والشَّهوات والأهواء والمطامع. حدّقوا دائماً بالآخرة عندما تتحركون في الدّنيا {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ}[القصص: 77].
لتكن الدار الآخرة هي الهدف الَّذي نستهدفه، أن نهيّئ لأنفسنا مكاناً في الجنَّة، وأن نهيّئ لأنفسنا إخواناً في الجنَّة، وموقع قرب عند الله سبحانه وتعالى، فإنّ كلَّ السَّعادة أن تكون قريباً من الله، أن يقرّبك الله إليه فيما يعطيك إيَّاه من منزلة، وليست السَّعادة أن تجد القرب عند شخص يملك مالاً كثيراً أو جاهاً كبيراً أو موقعاً متقدّماً، لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الوليّ {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ}[الكهف: 44]، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}[البقرة: 257].
فكّروا في ولاية الله ولا تفكّروا في ولاية النَّاس، وإذا فكّرتم في ولاية النَّاس، ففكّروا في الولاية الَّتي ترتبط بالله وبرسوله. هذا هو خطّ الفلاح في الدنيا وفي الآخرة.
وإذا تطلَّعتم إلى مسؤوليَّاتكم، فيما يحيط بكم من كلّ الواقع السياسيّ والأمنيّ في داخل بلادكم وفي خارجها، فحاولوا أن تخطّطوا لأن تكون مواقفكم في الاتجاه الَّذي يرضي الله، مما فيه للمسلمين مصلحة، وللمستضعفين مصلحة، وللمستكبرين سقوط في أيّ مجالٍ هنا وهناك.
اهتزازُ الواقعِ الإسلاميّ
وقد عشنا، أيُّها الأحبَّة، ولا نزال نعيش الكثير من الاهتزازات في واقعنا الإسلاميّ، وقد تحدَّثنا سابقاً أنَّ هناك مؤامرةً استكباريَّةً كافرة تحاول أن تجعل المسلمين في قلق دائم، في كلّ أوضاعهم، وفي حرب دائمة، وفي فتنة دائمة؛ فتنة مذهبيَّة هنا، وحرب سياسيَّة هناك، وحرب أمنيَّة هنا وهناك. إنَّ المطلوب أن يبقى المسلمون مشغولين بأنفسهم وبخلافاتهم وبمشاكلهم، يضرب بعضهم بعضاً، ويهدّد بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً، وينطلقون هنا وهناك في خدمة مستكبر هنا ومستكبر هناك، أن يتنازعوا ليرضى المستكبرون عنهم، وأن يتحاربوا ليدفعوا ضريبة ما يريد لهم المستكبرون أن يدفعوه.
هذا ما لاحظناه في الفتن الَّتي عشناها والَّتي عاشها المسلمون في الأيَّام الأخيرة، في الاهتزازات بين تركيا وسوريا، من خلال العدوان التركيّ على سوريا، بعد أن تحالفت تركيا مع إسرائيل، وعاشت تحت الضَّغط الأمريكيّ.
وهكذا فيما أريد للجمهوريَّة الإسلاميَّة أن تغرق في وحول الفتنة الأفغانيَّة من هنا وهناك.
وهكذا نجد كيف أنَّ المسلمين في كوسوفو يعيشون تحت التَّشريد والضّغط والقتل والمجازر الجماعيَّة، والغرب هنا وهناك يتحرَّك من خلال مصلحته لحلّ هذه المشكلة على قياس مصالحه لا على قياس مصالحنا. والمسلمون مع ذلك يختلفون على أساس مذهبيّ؛ هذا يكفّر بعضاً، وهذا يحاول أن يضلّل البعض الآخر، وهذا يحاول أن يسبّ ويلعن هنا، وذاك يسبّ ويلعن هناك، والشَّيطان الأكبر يقهقه، لأنَّه استطاع أن يدخلنا في هذه الدوَّامة الَّتي نعيش فيها، وهو يخطّط جيّداً كيف يسرق ثرواتنا ويتسلَّط على أرضنا ويصادر سياستنا.
هذا هو واقع المسلمين الآن، فتعالوا لنرى بعض ما هناك، فلعلَّنا عندما نرى بعض ما هنا وبعض ما هناك، مما يجرح قلوبنا، ويجرح حاضرنا ومستقبلنا، نثوب إلى رشدنا.
تراجعُ تركيا عن تهديدها
لقد تراجعت تركيا بعض الشَّيء عن أسلوب التَّهديد، بفعل أكثر من وساطة عربيَّة وإسلاميَّة، أثبتت لها أنَّ سوريا لا علاقة لها بنشاط حزب العمَّال الكرديّ منذ مدَّة طويلة، مما كان من الممكن أن تتعرَّفه بالمفاوضات مع سوريا بشكل مباشر، بناءً على الطَّلب السوريّ، من دون إثارة هذه الضّجَّة الَّتي دلَّلت على النّزق العسكريّ الَّذي يحكم الطبقة العسكرية الحاكمة هناك، الباحثة عن أيّ عنصر إثارة في الداخل والخارج للخروج من مأزقها السياسي والأمني.
لقد استطاعت إسرائيل أن تدفع تركيا إلى هذه اللّعبة الخطرة، لتعقيد علاقاتها مع العالم العربي والإسلامي، لترتمي في أحضان العدوّ الصهيوني، من دون أيّ فائدة لها تذكر، ومع حركة مجنونة في الدّاخل ضدّ الإسلاميّين، تتمثَّل في منع ارتداء الحجاب الإسلاميّ في الجامعات، واعتقال صحفيين إسلاميين أيَّدوا هذه الاحتجاجات، والتهديد بمحاكمة رئيس حزب الفضيلة، مما كشف وجه العلمانيَّة المزيَّفة التي يدَّعي العسكريون أنهم يدافعون عنها، في الوقت الَّذي نعرف أنَّ تركيا تخضع لحكم عسكري غير مباشر يلبس لبوس العلمانيَّة والديمقراطيَّة الَّتي يفترض أن تقوم على الحريَّات.
فإذا كنتم علمانيّين، فالعلمانيّة تقوم على إعطاء الحريّة للنّاس في كلّ أمورهم، فإذا أرادت المرأة أن تتحجَّب أن يكون لها الحريّة في ذلك، وإذا أرادت أن تسافر أن يكون لها الحريَّة في ذلك... والآن في أوروبّا وأمريكا، هناك الكثير من المحجَّبات في الجامعات دون أن يعترض أحد عليهنَّ... أمّا فرنسا، فعندها نوع من التَّحفّظات، وهذه لا تزال تثير الجدل فيها، على أساس أنّ هذا ضدّ حقوق الإنسان وضدّ الحريّات.
أمَّا أنتم في تركيا، فقد خرجتم من الإسلام، واعتبرتم تركيا علمانيَّة، وأردتم أن تتماشوا مع الغرب، ولكنَّ الغرب لا يمنع طالبة مسلمة من أن تدخل الجامعة بحجابها، فعلى أيّ أساس أنتم تمنعونها؟! فإذا كنتم مسلمين، فالإسلام يفرض الحجاب، وإذا كنتم غربيّين علمانيّين، فأين حريَّة الإنسان؟!
ولهذا، فإنَّ الحكم التركيّ أصبح عنده مأزق، لأنَّ الشَّعب المسلم استيقظ في تركيا على الإسلام، كردّ فعل على كلّ الضَّغط الَّذي واجهه من خلال النّظام العلماني، حتَّى إنَّ حزب الرّفاه الإسلامي الّذي ألغي، وحزب الفضيلة الَّذي جاء بعده، أصبحوا يملكون أكبر شعبيَّة مقارنةً بكلّ الأحزاب. لذلك، هم يخافون من مظهر الحجاب، لأنَّه يدلّل على تنامي الإسلام، وهذا يترك تأثيراً نفسيّاً على واقع النّساء الأخريات في تركيا. فالمسألة هي مسألة الخوف من الإسلام، والخوف من الالتزام الإسلاميّ.
لقد كانت سوريا في هذه الأزمة تمثّل الدَّولة العاقلة الواعية لخلفيَّات اللّعبة التركية الإسرائيلية الخطرة، ولذلك، طرحت المفاوضات كحلّ للمشكلات العالقة بينها وبين تركيا، ولا سيَّما مشكلة المياه التي تستغلّها تركيا للضّغط على العراق وسوريا لإثارة التوتّر في المنطقة.
لعبةُ أمريكا بإثارةِ التَّوتّر
وفي الوقت نفسه، نلاحظ أنَّ أمريكا تحاول أن تثير التوتّر الجديد في منطقة الخليج، عبر الزيارة المتجدّدة لوزير الدّفاع الأمريكي اليهودي كوهين، الَّذي يقدّم صورة مفزعة غير واقعيَّة عن التسلّح الإيراني، وقد دعا دول الخليج قبل أيَّام إلى الدخول في برنامج التسلّح الأمريكي ضدّ ما يسمّيه الخطر الإيرانيّ والعراقيّ.
إنَّنا نعتقد أنَّ دول الخليج أصبحت تعرف جيّداً أنَّ التسلّح الإيرانيَّ ليس موجَّهاً ضدّها أو ضدَّ أيّ دولة عربيَّة أو إسلاميَّة، بل هو من أجل الدّفاع عن نفسها وعن استقلالها، بعد الحملة الَّتي شنَّها عليها الاستكبار العالمي الَّذي وكَّل النظام العراقي في أن يهجم على إيران، في الوقت الذي لم تكن إيران مستعدّة للحرب. فإيران تتسلَّح من أجل أن تدافع عن نفسها، لا من أجل أن تعتدي على غيرها، لأنَّ الإسلام يمنعها من أن تعتدي على كلّ من يسالمها، وعلى كلّ من لا يعلن الحرب عليها.
لذلك، إنَّ الخليجيّين يعرفون ذلك، وأنَّ العراق أيضاً لم يعد يمثّل خطراً واقعيّاً على جيرانه من ناحية القوَّة العسكريَّة. لكنَّ أمريكا تحاول أن تسوّق أسلحتها في سوق الاستهلاك الخليجي، بإثارة هذه المخاوف، وتوتير الأجواء في غير مصلحة شعوب المنطقة الَّتي تطالب بانسحاب القوَّات الأجنبيَّة عن أرضها، لأنها لم تأت للدّفاع عنها، بل للدّفاع عن مصالح الاستكبار الأمريكي في المنطقة.
الضّغطُ على الفلسطينيّين
ونبقى في الدَّائرة الأمريكيَّة، لنراقب الاجتماع الأمريكيَّ الفلسطيني الصّهيونيّ، الَّذي يدرس مسألة ما يسمَّى بإعادة انتشار جيش العدوّ في فلسطين في هذه المرحلة، ونلاحظ أنَّ الخاسر الأكبر في هذه المفاوضات هو الجانب الفلسطيني الَّذي لا يملك أيَّ ورقة كبيرة في هذه اللّعبة القمارية السياسية الخطرة، والَّتي تتضامن فيها أمريكا مع إسرائيل للضَّغط على الفلسطينيّين الَّذين أصبح دورهم المميَّز هو تقديم التنازلات السياسيَّة للعدوّ، في كلّ مرحلة من مراحل المفاوضات، في غياب أيّ ضغط عربيّ أو إسلاميّ لمصلحة القضيَّة الفلسطينيَّة الَّتي يراد لها، بفعل الشروط الأمريكية الإسرائيلية، أن تغرق في وحول الفتنة الداخليَّة ضدّ المجاهدين، باسم المحافظة على الأمن لمصلحة أمن إسرائيل، ولكن من دون أيّ أمن للشّعب الفلسطيني.
ذكرى مجزرة حولا
وفي هذا الجوّ، فإنَّنا نعيش الذكرى الخمسين لمجزرة حولا المجاهدة الَّتي حدثت في 17 تشرين الأوَّل سنة 48، والَّتي ارتكبتها العصابات الصهيونيَّة، فقتلت 90 شهيداً من الأطفال والنساء والشيوخ والشَّباب، ودمَّرت البلدة وأحرقتها، وهجَّرت أهلها، وهي فصل من سلسلة عشرات المجازر التي ارتكبتها إسرائيل في حانين وصبرا وشاتيلا وقانا وسحمر والنبطيَّة، وغيرها من المناطق الجنوبيَّة اللّبنانيَّة.
إنَّنا ندعو إلى إبقاء هذا التَّاريخ؛ تاريخ المجازر الإسرائيليَّة ضدّ شعوبنا وضدَّ أمَّتنا، حيّاً في أذهان العالم والأجيال الحاضرة والمستقبلة لشعبنا، حتَّى يتعرَّفوا دائماً الصّورة البشعة لهذا العدوّ الَّذي يقدّم نفسه كرسول سلام، وكمبعوث للحضارة الغربيَّة في دنيا العرب والمسلمين الَّتي يعتبروها دنيا البداوة.
إنَّ الرّدّ الطّبيعيّ على هذه المجازر هو بالمقاومة الَّتي تقوم بالدَّور الكبير على أكمل وجه، في مواجهة عدوّ لا يفهم إلَّا بلغة القوَّة، وهو ما تمثَّل أخيراً في الرّدّ القويّ للمقاومة على قصف العدوّ للمدنيّين. وإنَّنا ندعو اللّبنانيّين إلى التوحّد في العهد الجديد على دعم المقاومة والجيش في تحرير البلد من الاحتلال.
هل يتحقَّق التّغيير؟
أمَّا على المستوى اللّبنانيّ الدَّاخليّ، وفي ظلّ التّغييرات الدستورية الأخيرة، فإنّ الكلام الدَّاخليّ يتضاعف عن تغيير جذريّ على مستوى أنماط السلوك السياسيّ والاقتصاديّ. وفي الوقت الَّذي نريد أن نتفاءل بالعهد الجديد من خلال الصّورة الجادَّة الَّتي يمثّلها رئيسه، علينا أن ندرك أنَّ التَّغيير عندما يحصل، فإنَّه ينطلق من جانبيه؛ الأوَّل ومنشؤه المتغيرات السياسيَّة الكبرى في المنطقة، ولا يبدو أنّ هناك جديداً واضحاً على هذا المستوى في المستقبل القريب، والثاني ينطلق من الإدارة الدَّاخليَّة الَّتي تحسن قراءة المراحل، وترجمة التّوجّهات الشَّعبيَّة وحاجات المواطنين، وهذه المسألة لا تحتاج لا إلى جهود الفرد والشَّخص فحسب، بل إلى جهود الأفراد، وتغييرٍ في الذّهنيَّة قبل كلّ شيء؛ أن يتكامل الشَّعب والدَّولة، أن تكون هناك ثقة بين الشعب والدولة، لأنَّ الشَّعب إذا وثق بدولته، وأنَّ دولته ليست هي دولة الهدر في الثروة الوطنيَّة، بل هي دولة المحافظة على الثَّروة الوطنيَّة، وإذا عرف أنَّ دولته هي دولة القانون والمؤسَّسات وليست دولة الأهواء والأشخاص، إذا عرف الشَّعب ذلك، فإنَّه يرى أنَّ الدولة له، وأنَّ المؤسَّسات له، وأنَّ قوَّتها قوَّةٌ له، وأنَّ توازنها توازنٌ له، ولذلك فإنَّه يدفع الضَّرائب عن طيب خاطر، لأنّه يعرف أنَّها سوف تتحوَّل إلى مشاريع لمصالحه ولحاجاته، وسوف تتحوَّل إليه في نهاية المطاف.
إنَّ مشكلتنا في هذا البلد، هي فقدان الثّقة بين الشَّعب والدّولة، من خلال كلّ الأوضاع الشاذَّة الَّتي يتحرَّك فيها الأشخاص الَّذين يفرضون أنفسهم على الدَّولة، ويفرضون محاسيبهم وجماعتهم عليها، لتصبح الدَّولة دولة الأزلام والمحاسيب للأشخاص، لا دولة الشعب كلّه.
ولذلك، فإنَّ التحدَّي الكبير الَّذي يواجه العهد الجديد، هو أن تكون لنا في لبنان دولة الشَّعب، لا أن تكون هناك دولة الأشخاص.
التّخطيط المطلوب
ولا بدَّ من التَّأكيد في معرض الحديث عن الآمال بانقراض الفساد، والانتهاء من حركة الهدر في الدَّولة، والفساد في الإدارة، ومع التحسّن الاقتصاديّ، بأنَّ التحسَّن الذي ينطلق من الأجواء العامَّة، ولا ينطلق من خطَّة شاملة، لا يستطيع أن يتجذَّر في الواقع المليء بالألغام السياسية والاقتصادية. إنَّ المسألة الملحَّة، هي أن يعرف الشَّعب ماذا يريد، وأن يعرف ما هو مستقبله، وأن يعرف أنَّ أيَّ عهد يجيء، لا بدَّ له من أن يفكّر أوّلاً في إزالة الاحتلال، وقد سمعنا حديثاً جيّداً في التَّصميم على إزالة الاحتلال، وسمعنا كلاماً جيّداً في الحديث عن الانحناء أمام شهداء المقاومة، وهذه أوَّل كلمة نسمعها بهذا المستوى من مسؤول لبنانيّ. إنَّنا نريد الأفعال، نريد دولة التَّخطيط، نريد دولة المؤسَّسات، نريد الشَّعب الَّذي لا يبيع صوته بأيّ ثمن، نريد الشَّعب الَّذي يخاف الله عندما يعطي تأييده هنا أو يحقّق رفضه هناك.
أيّها النَّاس، "اتَّقُوا اللهَ في عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ، فَإنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ حَتَّى عَنِ البِقَاعِ وَالبَهَائِمِ".
انصحوا الحاكم، ولا تعطوه المزيد من الكلام، انصحوه وعاونوه {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرّعد: 11].
والحمد لله ربّ العالمين.

*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 16/10/1998م.

 
 
المنحرفون عن الإيمان
يقول الله سبحانه وتعالى، وهو يحدّثنا عن بعض النّماذج من الَّذين يعلنون أنَّهم المسلمون المؤمنون، ولكنَّهم في عمليَّة التَّطبيق والامتثال، لا يلتزمون هذا الخطّ، وإنما ينحرفون عنه، ولهؤلاء نماذج في كلّ زمان ومكان: {وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ - فيشهدون الشَّهادتين - وَأَطَعْنَا - يقولون إنَّنا نستجيب لقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}[النّساء: 59] - ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ - ثمّ يتولّون ويعرضون عن هذه الشَّهادة وعن هذا الالتزام، ويقول الله عنهم - وَمَآ أُوْلَٰٓئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ}[النّور: 47]، لأنَّ الإيمان ليس مجرَّد كلمة تعلن بها إسلامك، ولكنَّه كلمة تنطلق من قلبك قبل أن تنطلق بلسانك، وكلمةٌ تتمثَّل في التزامك العمليّ، بأن تحوّل هذا الإيمان إلى عمل في كلّ ما تأخذ به، وفي كلّ ما تدعه، لأنَّ عمليَّة أن تكون منتمياً إلى دين، أو منتمياً إلى خطّ، هي أن تلتزمه التزاماً يحكم كلَّ حياتك، بحيث تُخضِع كلَّ أوضاعك؛ في طعامك وشرابك، في شهواتك، في لذَّاتك، في مواقفك، في مواقعك، في أوضاعك كلّها، تخضعها له.. أن تلتزم به، بحيث تكون كلّ حياتك صورةً لكلّ حكم من أحكامه، ولكلّ خطّ من خطوطه، بحيث إذا قيل الإسلام، نظر النَّاس إلى حياتك ليروه متمثّلاً في بيتك، وفي محلّ عملك، وفي النَّادي الَّذي تجلس فيه، وفي الموقع الَّذي تضع نفسك فيه، وفي المواقف الَّتي تقفها تأييداً أو رفضاً، بحيث يكون الإسلام كلَّ صورتك وكلَّ شخصيَّتك.
ولذلك، ينفي الله الإيمان عن هؤلاء الَّذي أعرضوا عن الخطّ العمليّ، والتزموا خطّاً عمليّاً آخر: {وَمَآ أُوْلَٰٓئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ}.
بين خطّ الإيمان وخطّ النّفاق
ثمَّ يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن بعض مواقفهم وكلماتهم، يقول: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ - إذا اختلفوا في أمر ما، والنَّاس عادةً يختلفون ويتناقشون في القضايا الشَّخصيَّة، وفي القضايا الزوجيَّة، وفي القضايا الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة والثَّقافيَّة، فيأخذ هذا بخطّ، ويأخذ ذاك بخطّ آخر، ويرى هذا رأياً ويرى ذاك رأياً آخر، ربما يتحدَّث الإنسان للزّوجة عن حقٍّ للزّوج، أو يتحدَّث إنسان مع الزَّوج عن حقّ للزَّوجة، أو يتحدَّث النَّاس عن الحقوق الَّتي لهم وعليهم في حياتهم العامَّة والخاصَّة، أو يتحدَّثون عن خطّ سياسيّ، هذا يقول يجوز لي ويحلّ لي أن أؤيّد فلاناً، وذاك يقول إنّه لا يجوز لك ذلك، هذا يرى رأياً، وذاك يرى رأياً آخر، وهذا يحصل في كلّ الأمور الَّتي يختلف فيها النَّاس... وينطلق بعض النَّاس ليقول تعالوا نحن مسلمون، ولا بدَّ للمسلم من أن تكون آراؤه منسجمةً مع الرأي الإسلامي، وأن تكون مواقفه متطابقةً مع الموقف الإسلاميّ، تعالوا إلى الله ورسوله، لنقرأ القرآن، ونرى ماذا يقول الله، أو لنقرأ سنَّة الرَّسول (ص)، ونرى ماذا يقول، فهو الحكَم بيننا، فإن كان ما تقول، يا فلان، مطابقاً لكلام الله ورسوله، فالحقّ معك، وإن لم يكن ما تقوله مطابقاً لكلام الله ورسوله، فليس الحقّ معك - إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ}[النّور: 48].
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ - في الخطوط العامَّة للمواقف وللمبادئ، أو ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، عندما يختلف النَّاس في بعض الأمور التفصيليَّة، في أرض هنا، أو في مال هناك، أو ما أشبه ذلك، هذا يقول الحقّ معي، وذاك يقول الحقّ معي - إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ}.
هناك فريق، عندما يختلف مع أحد في أمر من الأمور، يذهب ويسأل أوّلاً عن حكم الشّرع ليعرف لمن الحقّ، فإذا قالوا له الحقّ معك، يأتي ويقول أنا أقف مع الشَّرع ومع ما يقوله الحقّ، وهؤلاء من يقول الله عنهم: {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}[النّور: 49]، ولكن إذا قالوا له إنَّ الحقّ ليس معه، يقول أنا لا أحتكم إلى الشَّرع ولا إلى العلماء، فأنا لديّ عقل، وعقلي يقول لي كذا، وعقلي يحكم بكلّ شيء. أليس هناك من يقول هكذا؟! يقول أنا لا أغيّر موقفي، فحتّى لو جاءت الدّنيا كلّها، وحتّى لو جاء النّبيّ بنفسه، فلست مستعدّاً لأغيّر موقفي، والله سبحانه يقول عن هؤلاء: {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ - يعني هل تحوَّلوا من خطّ الإيمان إلى خطّ النّفاق، والمنافقون من هم؟ {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقرة: 14] - أَمِ ارْتَابُوا - صار عندهم شكّ - أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ – يعني يخافون أن يظلمهم الله، وهل يظلم الله؟! نحن إنَّما يظلم بعضنا بعضاً لأنّنا نخاف من بعضنا البعض، ولأنّنا ضعفاء، "وَإِنَّما يَحْتَاجُ إِلَى الظُّلْمِ الضَّعِيفُ"، ولكنَّ الله هو القويّ، ولا يحتاج إلى أن يظلم أحداً - وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[النّور: 50]، الّذين ظلموا أنفسهم بالانحراف عن خطّ الله، وظلموا الله بالابتعاد عن خطوط طاعته، وظلموا النَّاس عندما لم يعطوهم حقَّهم.
الفائزون عندَ الله
إنَّ هذا ليس كلام المؤمنين، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ - فإذا أريد لهم أن يحلّوا المشاكل بينهم وبين النَّاس على أساس كلام الله ورسوله، فكيف يواجه المؤمن هذا الموقف؟ - أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا - كلامَ الله وكلامَ رسوله - وَأَطَعْنَا – لأنَّ طاعة الله وطاعة رسوله هي من لوازم إيماننا بالله ورسوله، لأنَّ الإيمان بالله ورسوله يفرض علينا الالتزام بكلّ ما قاله الله في كتابه، وكلّ ما قاله رسوله في سنَّته - وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[النّور: 51]، الَّذين يحصلون على الفلاح والنَّجاح في الدّنيا والآخرة. وأيّ فلاح أعظم من أن يرضى الله عنك؟! وأيّ فلاح أعظم من أن تصل إلى الدَّار الآخرة {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}[الأنبياء: 103]؟!
ثمّ يعطينا الله الخطّ: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ - في كلّ ما أمره به أن يفعله، وفي كلّ ما نهاه عنه بأن يتركه - وَيَخْشَ اللَّهَ - يخاف الله ويخاف غضبه وعذابه، بحيث يعيش في نفسه الخوف من الله أكثر مما يعيش الخوف من النَّاس، لا كما البعض من النَّاس ممن تحدَّث الله عنهم أنَّهم يخشون النَّاس كخشية الله أو أشدّ خشية {أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[التّوبة: 13]. إنَّ المؤمن هو الَّذي يخاف الله، بحيث إذا وصل أمام الواجب، وحدَّثته نفسه بأن يترك الواجب، خاف الله أن يفعل ذلك، أو إذا وقف أمام الحرام، وحدَّثته نفسه بأن يفعل الحرام، قال لنفسه {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الحشر: 16]، وإذا أراد النَّاس منه بطريقة العاطفة أو الضّغط أن يعصي الله، قال: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الزّمر: 13] - وَيَتَّقْهِ - وتقوى الله هي أن تراقب الله في كلّ أعمالك - فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[النّور: 52].
وقد تحدّث الله عن الفائزين في آية ثانية، قال: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 20]، أي أنَّ {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}، وهؤلاء هم أصحاب الجنَّة. فهل تريد أنت الجنّة أم أنَّك تستغني عنها؟! هناك الكثير من النَّاس يعيشون جنَّة الدّنيا ولا يريدون جنَّة الآخرة، لكن إذا كنَّا مؤمنين، نعرف أنَّ جنَّة الدّنيا تزول، فإمّا تفارقنا في حياتنا أو نفارقها، وجنّة الآخرة تحتاج فقط إلى كلمتين {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}.
أسلوبُ المنافقين
هناك بعض المنافقين كانوا يأتون إلى النَّبيّ ويقولون له مُرْنا ونحن نطيعك {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ - بكلّ الأيمان المغلّظة - لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ - إلى القتال، أو في أيّ مهمّة تكلّفهم بها - قُل لَّا تُقْسِمُوا - بعض النَّاس كلَّما حلف لك أكثر شُكَّ فيه أكثر، لأنَّ الإنسان الواثق بنفسه لا يحلف، إنَّما يحلف الَّذي يعرف من نفسه أنَّه غير صادق، فلذلك هؤلاء الّذين يقسمون كثيراً هم موضع شكّ في كلامهم. وهل تعرف معنى أن تقسم بالله؟ معناه أن تأتي بالله شاهداً، فإذا كانت المسألة زوراً، فمعنى ذلك أنَّك تأتي بالله شاهد زور، ولذلك "إنَّ اليمينَ الكَاذِبَةَ تَدَعُ الدّيَارَ بَلَاقِعَ"، أي أنّها تكون سبباً لفناء أصحابها - طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ - أي أنَّ طاعتكم طاعة شكليَّة وظاهريَّة - إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[النّور: 53].
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ - فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه - وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ - لأنَّ الرَّسول إنما يأتي من خلال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر: 7]، و{مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النّساء: 80] - فَإِن تَوَلَّوْا – قالوا إنّهم غير مستعدّين - فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ - من الدَّعوة والبلاغ - وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ - من المسؤوليَّة - وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا - لأنَّ طاعة الرَّسول تؤدّي بكم إلى الجنَّة وإلى رضوان الله - وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[النّور: 54].
سبيلُ النَّجاةِ
أيُّها الأحبَّة، هذا هو القرآن بكلّ وضوحه. ونحن هنا عندما نعيش مع آيات الله سبحانه وتعالى في القرآن، فإنَّ ذلك يمثّل حجَّةً علينا، لأنَّ مشكلة النَّاس ممن يدخلون النَّار أنّهم {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك: 10]، والسّمع هنا بأن تكون لهم أذن واعية {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}[الحاقّة: 12]، فالأذن تسمع، والعقل يفكّر فيما يسمع.
ولهذا، أيُّها الأحبَّة، نحن الآن بين يدي الله سبحانه وتعالى، في بيته، وفي الصَّلاة الَّتي نؤدّيها بأمره تعالى، علينا أن تكون هذه الآيات برنامجاً لنا في حياتنا، حتَّى نستطيع أن نصوغ أنفسنا في كلّ ما نفكّر، وفي كلّ ما نتكلَّم، وفي كلّ ما نعمل، وفي كلّ ما ننشئ من علاقات، ونقف من مواقف، أن يكون ذلك كلّه طاعةً لله، لأنَّ "اليومَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابٌ، وَغَداً حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ".
أيُّها الأحبَّة، إنَّ معنى أن تتَّقي الله، أن تعيش عملك في داخل نفسك، لتشعر بأنَّ الله يراقبك في ذلك، قل لنفسك إذا أمرتك بالسّوء، وإذا أرادت منك الانحراف: يا نفس، سوف تقفين غداً بين يدي الله، وسيسألك عن كلّ كلمة وعن كلّ عمل وعن كلّ موقف، فلا بدَّ لك أن تحضّري جوابك أمام الله. قبل أن تعمل العمل، قبل أن تقول الكلمة، فكّر لو أنَّ الله قبض روحك في هذه الحال، وسألك لماذا قلت، وكيف قلت، لماذا فعلت، وكيف فعلت، فماذا يكون جوابك؟ أن تحضّر لكلّ سؤال جواباً، لأنَّ ذلك اليوم {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النّحل: 111]، {الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[غافر: 17]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ}[الانفطار: 19].       
  الخطبة الثَّانيَّة
 
عباد الله، اتَّقوا الله فيما تقبلون عليه من أموركم، بأن تراقبوا الله في كلّ أمر مما يتَّصل بحياتكم الخاصَّة أو بحياتكم العامَّة، واتَّقوا الله فيما أسلفتم من ماضيكم مما عملتموه أو قلتموه، بأن تتوبوا إلى الله من كلّ ما أسلفتم من السيّئات، وأن تشكروا الله على ما عملتموه من الحسنات. راقبوا الله في كلّ الأمور العامَّة والخاصَّة، وحاذروا أن تنحرفوا عن خطّ الله سبحانه وتعالى، وأن تعيشوا في هوى أنفسكم، ومع الجانب العاطفي من حياتكم، لأنَّ الله خلق للإنسان عقلاً، وأراده أن يجعل عاطفته في طاعة عقله، ولا يجعل عقله في طاعة عاطفته، لأنَّ العقل هو الَّذي يميّز بين الحسن والقبيح، ولأنَّ العاطفة قد تذهب بصاحبها إلى الهلاك، فالعاطفة لا تفكّر، أمَّا العقل فإنَّه يفكّر، والله جعل العقل حجَّةً علينا وحجَّة لنا.
العملُ من أجل الآخرة
لذلك، أيُّها الأحبَّة، فكّروا في كلّ أمرٍ تنطلقون فيه، فكّروا في الله ماذا يريد منكم أن تعملوا في هذا الأمر، وفكّروا في رسول الله، ماذا يريد منكم أن تعملوا في ذلك، مما يتَّصل بمصالح المسلمين، فكّروا في القضايا العامَّة على أساس المصالح العامَّة، ولا تفكّروا في القضايا العامَّة على أساس المصالح الخاصّة. حاولوا في كلّ الأمور الَّتي يتحرَّك فيها النَّاس بطريقة انفعاليَّة وبطريقة عاطفيَّة، عندما يفرح النَّاس، ويزداد بهم الفرح، أو عندما يغضب النَّاس، ويزداد بهم الغضب، أن لا تأخذكم أجواء الانفعال وأجواء العاطفة، أن لا تأخذكم لتصفّقوا مع المصفّقين دون أن تعرفوا لماذا صفّقتم، ولتهتفوا مع الهاتفين دون أن تعرفوا لماذا هتفتم. عليكم أن لا تصفّقوا إلَّا في الحالات الَّتي تعرفون فيها أنَّ الله يرضى لهذه البادرة منكم، ولا تهتفوا إلَّا لمن كان في خطّ الله ورسوله، وفي خطّ العدل وفي خطّ الحقّ، لا تتحركوا على أساس التَّأثّر بما حولكم من الأجواء، فقد تحيط بكم بعض الأجواء الَّتي يهيّئها وينتجها الَّذين لا يخافون الله ورسوله، من هؤلاء الَّذين يريدون أن يعيش النَّاس على أساس الملذَّات والشَّهوات والأهواء والمطامع. حدّقوا دائماً بالآخرة عندما تتحركون في الدّنيا {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ}[القصص: 77].
لتكن الدار الآخرة هي الهدف الَّذي نستهدفه، أن نهيّئ لأنفسنا مكاناً في الجنَّة، وأن نهيّئ لأنفسنا إخواناً في الجنَّة، وموقع قرب عند الله سبحانه وتعالى، فإنّ كلَّ السَّعادة أن تكون قريباً من الله، أن يقرّبك الله إليه فيما يعطيك إيَّاه من منزلة، وليست السَّعادة أن تجد القرب عند شخص يملك مالاً كثيراً أو جاهاً كبيراً أو موقعاً متقدّماً، لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الوليّ {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ}[الكهف: 44]، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}[البقرة: 257].
فكّروا في ولاية الله ولا تفكّروا في ولاية النَّاس، وإذا فكّرتم في ولاية النَّاس، ففكّروا في الولاية الَّتي ترتبط بالله وبرسوله. هذا هو خطّ الفلاح في الدنيا وفي الآخرة.
وإذا تطلَّعتم إلى مسؤوليَّاتكم، فيما يحيط بكم من كلّ الواقع السياسيّ والأمنيّ في داخل بلادكم وفي خارجها، فحاولوا أن تخطّطوا لأن تكون مواقفكم في الاتجاه الَّذي يرضي الله، مما فيه للمسلمين مصلحة، وللمستضعفين مصلحة، وللمستكبرين سقوط في أيّ مجالٍ هنا وهناك.
اهتزازُ الواقعِ الإسلاميّ
وقد عشنا، أيُّها الأحبَّة، ولا نزال نعيش الكثير من الاهتزازات في واقعنا الإسلاميّ، وقد تحدَّثنا سابقاً أنَّ هناك مؤامرةً استكباريَّةً كافرة تحاول أن تجعل المسلمين في قلق دائم، في كلّ أوضاعهم، وفي حرب دائمة، وفي فتنة دائمة؛ فتنة مذهبيَّة هنا، وحرب سياسيَّة هناك، وحرب أمنيَّة هنا وهناك. إنَّ المطلوب أن يبقى المسلمون مشغولين بأنفسهم وبخلافاتهم وبمشاكلهم، يضرب بعضهم بعضاً، ويهدّد بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً، وينطلقون هنا وهناك في خدمة مستكبر هنا ومستكبر هناك، أن يتنازعوا ليرضى المستكبرون عنهم، وأن يتحاربوا ليدفعوا ضريبة ما يريد لهم المستكبرون أن يدفعوه.
هذا ما لاحظناه في الفتن الَّتي عشناها والَّتي عاشها المسلمون في الأيَّام الأخيرة، في الاهتزازات بين تركيا وسوريا، من خلال العدوان التركيّ على سوريا، بعد أن تحالفت تركيا مع إسرائيل، وعاشت تحت الضَّغط الأمريكيّ.
وهكذا فيما أريد للجمهوريَّة الإسلاميَّة أن تغرق في وحول الفتنة الأفغانيَّة من هنا وهناك.
وهكذا نجد كيف أنَّ المسلمين في كوسوفو يعيشون تحت التَّشريد والضّغط والقتل والمجازر الجماعيَّة، والغرب هنا وهناك يتحرَّك من خلال مصلحته لحلّ هذه المشكلة على قياس مصالحه لا على قياس مصالحنا. والمسلمون مع ذلك يختلفون على أساس مذهبيّ؛ هذا يكفّر بعضاً، وهذا يحاول أن يضلّل البعض الآخر، وهذا يحاول أن يسبّ ويلعن هنا، وذاك يسبّ ويلعن هناك، والشَّيطان الأكبر يقهقه، لأنَّه استطاع أن يدخلنا في هذه الدوَّامة الَّتي نعيش فيها، وهو يخطّط جيّداً كيف يسرق ثرواتنا ويتسلَّط على أرضنا ويصادر سياستنا.
هذا هو واقع المسلمين الآن، فتعالوا لنرى بعض ما هناك، فلعلَّنا عندما نرى بعض ما هنا وبعض ما هناك، مما يجرح قلوبنا، ويجرح حاضرنا ومستقبلنا، نثوب إلى رشدنا.
تراجعُ تركيا عن تهديدها
لقد تراجعت تركيا بعض الشَّيء عن أسلوب التَّهديد، بفعل أكثر من وساطة عربيَّة وإسلاميَّة، أثبتت لها أنَّ سوريا لا علاقة لها بنشاط حزب العمَّال الكرديّ منذ مدَّة طويلة، مما كان من الممكن أن تتعرَّفه بالمفاوضات مع سوريا بشكل مباشر، بناءً على الطَّلب السوريّ، من دون إثارة هذه الضّجَّة الَّتي دلَّلت على النّزق العسكريّ الَّذي يحكم الطبقة العسكرية الحاكمة هناك، الباحثة عن أيّ عنصر إثارة في الداخل والخارج للخروج من مأزقها السياسي والأمني.
لقد استطاعت إسرائيل أن تدفع تركيا إلى هذه اللّعبة الخطرة، لتعقيد علاقاتها مع العالم العربي والإسلامي، لترتمي في أحضان العدوّ الصهيوني، من دون أيّ فائدة لها تذكر، ومع حركة مجنونة في الدّاخل ضدّ الإسلاميّين، تتمثَّل في منع ارتداء الحجاب الإسلاميّ في الجامعات، واعتقال صحفيين إسلاميين أيَّدوا هذه الاحتجاجات، والتهديد بمحاكمة رئيس حزب الفضيلة، مما كشف وجه العلمانيَّة المزيَّفة التي يدَّعي العسكريون أنهم يدافعون عنها، في الوقت الَّذي نعرف أنَّ تركيا تخضع لحكم عسكري غير مباشر يلبس لبوس العلمانيَّة والديمقراطيَّة الَّتي يفترض أن تقوم على الحريَّات.
فإذا كنتم علمانيّين، فالعلمانيّة تقوم على إعطاء الحريّة للنّاس في كلّ أمورهم، فإذا أرادت المرأة أن تتحجَّب أن يكون لها الحريّة في ذلك، وإذا أرادت أن تسافر أن يكون لها الحريَّة في ذلك... والآن في أوروبّا وأمريكا، هناك الكثير من المحجَّبات في الجامعات دون أن يعترض أحد عليهنَّ... أمّا فرنسا، فعندها نوع من التَّحفّظات، وهذه لا تزال تثير الجدل فيها، على أساس أنّ هذا ضدّ حقوق الإنسان وضدّ الحريّات.
أمَّا أنتم في تركيا، فقد خرجتم من الإسلام، واعتبرتم تركيا علمانيَّة، وأردتم أن تتماشوا مع الغرب، ولكنَّ الغرب لا يمنع طالبة مسلمة من أن تدخل الجامعة بحجابها، فعلى أيّ أساس أنتم تمنعونها؟! فإذا كنتم مسلمين، فالإسلام يفرض الحجاب، وإذا كنتم غربيّين علمانيّين، فأين حريَّة الإنسان؟!
ولهذا، فإنَّ الحكم التركيّ أصبح عنده مأزق، لأنَّ الشَّعب المسلم استيقظ في تركيا على الإسلام، كردّ فعل على كلّ الضَّغط الَّذي واجهه من خلال النّظام العلماني، حتَّى إنَّ حزب الرّفاه الإسلامي الّذي ألغي، وحزب الفضيلة الَّذي جاء بعده، أصبحوا يملكون أكبر شعبيَّة مقارنةً بكلّ الأحزاب. لذلك، هم يخافون من مظهر الحجاب، لأنَّه يدلّل على تنامي الإسلام، وهذا يترك تأثيراً نفسيّاً على واقع النّساء الأخريات في تركيا. فالمسألة هي مسألة الخوف من الإسلام، والخوف من الالتزام الإسلاميّ.
لقد كانت سوريا في هذه الأزمة تمثّل الدَّولة العاقلة الواعية لخلفيَّات اللّعبة التركية الإسرائيلية الخطرة، ولذلك، طرحت المفاوضات كحلّ للمشكلات العالقة بينها وبين تركيا، ولا سيَّما مشكلة المياه التي تستغلّها تركيا للضّغط على العراق وسوريا لإثارة التوتّر في المنطقة.
لعبةُ أمريكا بإثارةِ التَّوتّر
وفي الوقت نفسه، نلاحظ أنَّ أمريكا تحاول أن تثير التوتّر الجديد في منطقة الخليج، عبر الزيارة المتجدّدة لوزير الدّفاع الأمريكي اليهودي كوهين، الَّذي يقدّم صورة مفزعة غير واقعيَّة عن التسلّح الإيراني، وقد دعا دول الخليج قبل أيَّام إلى الدخول في برنامج التسلّح الأمريكي ضدّ ما يسمّيه الخطر الإيرانيّ والعراقيّ.
إنَّنا نعتقد أنَّ دول الخليج أصبحت تعرف جيّداً أنَّ التسلّح الإيرانيَّ ليس موجَّهاً ضدّها أو ضدَّ أيّ دولة عربيَّة أو إسلاميَّة، بل هو من أجل الدّفاع عن نفسها وعن استقلالها، بعد الحملة الَّتي شنَّها عليها الاستكبار العالمي الَّذي وكَّل النظام العراقي في أن يهجم على إيران، في الوقت الذي لم تكن إيران مستعدّة للحرب. فإيران تتسلَّح من أجل أن تدافع عن نفسها، لا من أجل أن تعتدي على غيرها، لأنَّ الإسلام يمنعها من أن تعتدي على كلّ من يسالمها، وعلى كلّ من لا يعلن الحرب عليها.
لذلك، إنَّ الخليجيّين يعرفون ذلك، وأنَّ العراق أيضاً لم يعد يمثّل خطراً واقعيّاً على جيرانه من ناحية القوَّة العسكريَّة. لكنَّ أمريكا تحاول أن تسوّق أسلحتها في سوق الاستهلاك الخليجي، بإثارة هذه المخاوف، وتوتير الأجواء في غير مصلحة شعوب المنطقة الَّتي تطالب بانسحاب القوَّات الأجنبيَّة عن أرضها، لأنها لم تأت للدّفاع عنها، بل للدّفاع عن مصالح الاستكبار الأمريكي في المنطقة.
الضّغطُ على الفلسطينيّين
ونبقى في الدَّائرة الأمريكيَّة، لنراقب الاجتماع الأمريكيَّ الفلسطيني الصّهيونيّ، الَّذي يدرس مسألة ما يسمَّى بإعادة انتشار جيش العدوّ في فلسطين في هذه المرحلة، ونلاحظ أنَّ الخاسر الأكبر في هذه المفاوضات هو الجانب الفلسطيني الَّذي لا يملك أيَّ ورقة كبيرة في هذه اللّعبة القمارية السياسية الخطرة، والَّتي تتضامن فيها أمريكا مع إسرائيل للضَّغط على الفلسطينيّين الَّذين أصبح دورهم المميَّز هو تقديم التنازلات السياسيَّة للعدوّ، في كلّ مرحلة من مراحل المفاوضات، في غياب أيّ ضغط عربيّ أو إسلاميّ لمصلحة القضيَّة الفلسطينيَّة الَّتي يراد لها، بفعل الشروط الأمريكية الإسرائيلية، أن تغرق في وحول الفتنة الداخليَّة ضدّ المجاهدين، باسم المحافظة على الأمن لمصلحة أمن إسرائيل، ولكن من دون أيّ أمن للشّعب الفلسطيني.
ذكرى مجزرة حولا
وفي هذا الجوّ، فإنَّنا نعيش الذكرى الخمسين لمجزرة حولا المجاهدة الَّتي حدثت في 17 تشرين الأوَّل سنة 48، والَّتي ارتكبتها العصابات الصهيونيَّة، فقتلت 90 شهيداً من الأطفال والنساء والشيوخ والشَّباب، ودمَّرت البلدة وأحرقتها، وهجَّرت أهلها، وهي فصل من سلسلة عشرات المجازر التي ارتكبتها إسرائيل في حانين وصبرا وشاتيلا وقانا وسحمر والنبطيَّة، وغيرها من المناطق الجنوبيَّة اللّبنانيَّة.
إنَّنا ندعو إلى إبقاء هذا التَّاريخ؛ تاريخ المجازر الإسرائيليَّة ضدّ شعوبنا وضدَّ أمَّتنا، حيّاً في أذهان العالم والأجيال الحاضرة والمستقبلة لشعبنا، حتَّى يتعرَّفوا دائماً الصّورة البشعة لهذا العدوّ الَّذي يقدّم نفسه كرسول سلام، وكمبعوث للحضارة الغربيَّة في دنيا العرب والمسلمين الَّتي يعتبروها دنيا البداوة.
إنَّ الرّدّ الطّبيعيّ على هذه المجازر هو بالمقاومة الَّتي تقوم بالدَّور الكبير على أكمل وجه، في مواجهة عدوّ لا يفهم إلَّا بلغة القوَّة، وهو ما تمثَّل أخيراً في الرّدّ القويّ للمقاومة على قصف العدوّ للمدنيّين. وإنَّنا ندعو اللّبنانيّين إلى التوحّد في العهد الجديد على دعم المقاومة والجيش في تحرير البلد من الاحتلال.
هل يتحقَّق التّغيير؟
أمَّا على المستوى اللّبنانيّ الدَّاخليّ، وفي ظلّ التّغييرات الدستورية الأخيرة، فإنّ الكلام الدَّاخليّ يتضاعف عن تغيير جذريّ على مستوى أنماط السلوك السياسيّ والاقتصاديّ. وفي الوقت الَّذي نريد أن نتفاءل بالعهد الجديد من خلال الصّورة الجادَّة الَّتي يمثّلها رئيسه، علينا أن ندرك أنَّ التَّغيير عندما يحصل، فإنَّه ينطلق من جانبيه؛ الأوَّل ومنشؤه المتغيرات السياسيَّة الكبرى في المنطقة، ولا يبدو أنّ هناك جديداً واضحاً على هذا المستوى في المستقبل القريب، والثاني ينطلق من الإدارة الدَّاخليَّة الَّتي تحسن قراءة المراحل، وترجمة التّوجّهات الشَّعبيَّة وحاجات المواطنين، وهذه المسألة لا تحتاج لا إلى جهود الفرد والشَّخص فحسب، بل إلى جهود الأفراد، وتغييرٍ في الذّهنيَّة قبل كلّ شيء؛ أن يتكامل الشَّعب والدَّولة، أن تكون هناك ثقة بين الشعب والدولة، لأنَّ الشَّعب إذا وثق بدولته، وأنَّ دولته ليست هي دولة الهدر في الثروة الوطنيَّة، بل هي دولة المحافظة على الثَّروة الوطنيَّة، وإذا عرف أنَّ دولته هي دولة القانون والمؤسَّسات وليست دولة الأهواء والأشخاص، إذا عرف الشَّعب ذلك، فإنَّه يرى أنَّ الدولة له، وأنَّ المؤسَّسات له، وأنَّ قوَّتها قوَّةٌ له، وأنَّ توازنها توازنٌ له، ولذلك فإنَّه يدفع الضَّرائب عن طيب خاطر، لأنّه يعرف أنَّها سوف تتحوَّل إلى مشاريع لمصالحه ولحاجاته، وسوف تتحوَّل إليه في نهاية المطاف.
إنَّ مشكلتنا في هذا البلد، هي فقدان الثّقة بين الشَّعب والدّولة، من خلال كلّ الأوضاع الشاذَّة الَّتي يتحرَّك فيها الأشخاص الَّذين يفرضون أنفسهم على الدَّولة، ويفرضون محاسيبهم وجماعتهم عليها، لتصبح الدَّولة دولة الأزلام والمحاسيب للأشخاص، لا دولة الشعب كلّه.
ولذلك، فإنَّ التحدَّي الكبير الَّذي يواجه العهد الجديد، هو أن تكون لنا في لبنان دولة الشَّعب، لا أن تكون هناك دولة الأشخاص.
التّخطيط المطلوب
ولا بدَّ من التَّأكيد في معرض الحديث عن الآمال بانقراض الفساد، والانتهاء من حركة الهدر في الدَّولة، والفساد في الإدارة، ومع التحسّن الاقتصاديّ، بأنَّ التحسَّن الذي ينطلق من الأجواء العامَّة، ولا ينطلق من خطَّة شاملة، لا يستطيع أن يتجذَّر في الواقع المليء بالألغام السياسية والاقتصادية. إنَّ المسألة الملحَّة، هي أن يعرف الشَّعب ماذا يريد، وأن يعرف ما هو مستقبله، وأن يعرف أنَّ أيَّ عهد يجيء، لا بدَّ له من أن يفكّر أوّلاً في إزالة الاحتلال، وقد سمعنا حديثاً جيّداً في التَّصميم على إزالة الاحتلال، وسمعنا كلاماً جيّداً في الحديث عن الانحناء أمام شهداء المقاومة، وهذه أوَّل كلمة نسمعها بهذا المستوى من مسؤول لبنانيّ. إنَّنا نريد الأفعال، نريد دولة التَّخطيط، نريد دولة المؤسَّسات، نريد الشَّعب الَّذي لا يبيع صوته بأيّ ثمن، نريد الشَّعب الَّذي يخاف الله عندما يعطي تأييده هنا أو يحقّق رفضه هناك.
أيّها النَّاس، "اتَّقُوا اللهَ في عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ، فَإنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ حَتَّى عَنِ البِقَاعِ وَالبَهَائِمِ".
انصحوا الحاكم، ولا تعطوه المزيد من الكلام، انصحوه وعاونوه {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرّعد: 11].
والحمد لله ربّ العالمين.

*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 16/10/1998م.

 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية