ألقى سماحة آية الله العظمى السيد ،محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
أهميّة محاسبة النّفس في الإسلام
الدّنيا مزرعة الآخرة
يقول الله تعالى في كتابه المجيد:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ* لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ}(الحشر:18-20).
يريد الله تعالى للإنسان أن يعرف عمله، لأنَّ العمل قد يكون خيراً وقد يكون شراً؛ فيسأل نفسه هل إن ما عمله هو الخير، أو هو الشر؟ كذلك فإن العمل حرام وحلال، فهل ما صدر عنه من عمل هو حرامٌ أو حلالٌ؟ إذاً على الإنسان أن يعرف نفسه، وأن يميّز بين نقاط الضعف ونقاط القوة فيها، حتى تتوازن نظرته إلى نفسه، فلا يأخذه الغرور لمجرد أنه نجح في موقع من المواقع، أو في مرحلة من المراحل، ولا يتحكّم به اليأس إذا أُصيب بمصيبة أو خسر خسارةً.
ثم عندما يدرس الإنسان نفسه، عليه أن يفكر أن الدنيا مزرعة الآخرة، فكما ينظر الإنسان إلى حصاده بعد الزرع فيرى هل هو مفيد أو غير مفيد، كذلك فإنّ الدنيا مزرعة الآخرة، وما يزرعه في الدّنيا يحصد نتائجه في الآخرة: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}(الانشقاق:6)، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}(الزَّلزلة7-8). على الإنسان أن يدرس عمله ويفكر ماذا قدّم للآخرة، هل قدّم لها من الأعمال ما يرضي ربه، وما يهيّئه لدخول الجنة، أو أنه قدّم لها ما يغضب ربّه وما يدخله النار؟{وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ}(القصص:77)، فالآخرة هي دار المصير والخلود، فلا بدَّ للإنسان أن لا يستغرق في اللحظة التي يعيش فيها عندما يعمل، بل أن يعرف نتيجة هذا العمل، هل هي دنيوية صرف أم أنّها تمتدُّ إلى الآخرة أيضاً .
مراقبة الله في الأعمال
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ـ اتّقوا الله، ولا تستغرقوا في أنفسكم وتنسوا ربكم؛ راقبوه في أعمالكم لترتفعوا إلى مواقع القرب منه، لأن رضا الله يجعل الإنسان يشعر بالسعادة في قلبه وعقله وشعوره، لأن الله هو غاية الغايات ومنتهى الطموحات ـ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍـ وغد الإنسان هو الآخرة التي يقبل عليها بعد أن يترك هذه الحياة ـ وَاتَّقُوا اللهَ ـ فبعد أن تعرفوا ما قدّمتم لأنفسكم، اتقوا الله فيما تستقبلون من أعمال وأيام، فإن كان عملكم خيراً فاسألوا الله أن يزيدكم منه، وإن كان شراً فاستغفروا الله منه وتوبوا إليه ـ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَـ لأن الله يعرف سرّ الإنسان وعلانيته ـ{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَـ استهلكتهم الحياة الدنيا بأطماعها وشهواتها بحيث أخلدوا إلى الأرض ـ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}(الحشر:18-19)، لأنَّ الإنسان إذا نسي ربه فإنَّه ينسى مسؤوليته وآخرته، وإذا نسي آخرته نسي عمله ونسي الاستعداد لمصيره في الآخرة عندما يقوم الناس لربّ العالمين، وإذا ذكر الإنسان الله في كل أوقاته، فإنه يذكر مسؤوليته أمامه يوم القيامة.
وقد ورد في بعض الآيات الأخرى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى}(طه:125-126)، {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ ـ إن الذين يذكرون الله ويتحمّلون مسؤوليتهم أمامه ويعملون للارتفاع إلى مواقع القرب منه، هم الذين يدخلون الجنة بغير حساب، أما الذين يتمرَّدون عليه ويعصونه فإن النار تنتظرهم، وبذلك فإن ـ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ}(الحشر:20).
محاسبة النفس
ونقرأ في حديث رسول الله(ص) عن معرفة النفس وحسابها: "أَكْيس الكيِّسين من حاسب نفسهـ ليعرف كل دقائق نفسه وكل أفكاره وأعماله وأقواله وعلاقاته؛ هل هي في الخطِّ المستقيم أو في الخطِّ المنحرف، هل هو من الذين أنعم الله عليهم أو هو من المغضوب عليهم ـ وعمل لما بعد الموت ـ أن يعمل للدار الآخرة ـ وأحمق الحمقى من اتّبع هواه وتمنّى على الله الأماني"، هذا الّذي يتمنّى الجنة ورضى الله من دون عمل أو تحمّل للمسؤولية.
وعن الإمام عليّ(ع) أنه قال: "حاسبوا أنفسكم بأعمالهاـ نحن عادةً نحاسب غيرنا لأننا دائماً ننظر إلى الآخرين ولا ننظر إلى أنفسنا، مع أنّ الإنسان ليس مسؤولاً عن الآخرين، بل هو مسؤول عن نفسه، فعليه أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب الآخرين ـ وطالبوها بأداء المفروض عليهاـ فقد فرض الله عليك الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان إذا كنت تستطيع ذلك، والحج، وما إلى ذلك من الفرائض التي أوجبها عليك، وعليك أن تطالب نفسك بهذه الفرائض بأن تؤدّيها ولا تفرِّط فيها أو تستهتر بها ـ والأخذ من فنائها لبقائها، وتزوّدوا ـ وخير الزاد التقوى ـ وتأهّبوا قبل أن تُبعثوا".
الاستعداد لامتحان الآخرة
وعن الإمام عليّ(ع): "ما أحقَّ الإنسان أن تكون له ساعةٌ ـ وقت من الأوقات ـ لا يشغله شاغلٌ ـ بحيث لا يلهو عن هذه الساعة بأيِّ شيء ـ يحاسب فيها نفسه، فينظر فيما اكتسب لها وعليها، في ليلها ونهارها"، وربح الأعمال أعظم من ربح المال، وخسارة الأعمال أكبر من خسارة المال.
وورد عن الإمام الصادق(ع): "كان فيما وعظ به لقمان ابنه: اعلم أنّك ستُسأل غداً إذا وقفتَ بين يدي الله عزّ وجلّ عن أربع: شبابك فيما أبليتهـ إنّ الله أعطاك الشباب، والشباب يمثل مرحلة العمر الذي يملك فيه الإنسان القوة التي تعينه على أن يقوم بأكثر الأعمال جهداً ـ وعمرك فيما أفنيته ـ هل أفنيته بالصالحات أم بالطالحات، بالخير أم بالشر، بما يرضي الله أم بما يغضبه ـ ومالِك ممّا اكتسبتَهـ هل أخذت مالك من مصدر حلال أو مصدر حرام، لأن البعض يعتبر أن الحلال ما حلّ باليد بأيِّ طريق وصل إلى يده! وهذه الأيام هي أيام موسم الأموال الحرام، الأموال التي تبعثها بعض الدول لتغلّب أناساً على آخرين، لتُنتخب جماعتها حتى لو لم يكونوا في مستوى المسؤولية، وقد قرأت في تقرير أمريكي أن الانتخابات اللبنانية هي أغلى الانتخابات في العالم، لأن بعض الدول العربية تصرف مئات الملايين من الدولارات على المرشَّحين التابعين لها، كذلك الأمر فيما يأخذه بعض الناس من الظالمين والمستكبرين من أموال ليتجسّسوا على بلدهم ومواطنيهم ـ وفيما أنفقتَه ـ هل أنفقت مالك في الحلال أو في الحرام ـ فتأهّب لذلكـ وهذه الأسئلة هي امتحان أمام الله، فكما أنك تهيّئ نفسك للامتحان في الدنيا، عليك أن تتهيّأ لهذا الامتحان في الآخرة ـ وأعدّ له جواباً".
ويعلّمنا الإمام عليّ(ع) عن كيفية محاسبة النفس فيقول: "إذا أصبح ثمّ أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفسُ، إنّ هذا يومٌ مضى عليك لا يعود إليك أبداً، واللهُ سائلك عنه فيما أفنيتِه، فما الذي عملتِ فيه؟ أذكرتِ الله أم حمدتيه، أقضيت حقّ أخٍ مؤمن؟ أنفّستِ عنه كربته؟ أحفظتيه بظهر الغيب في أهله وولده؟ أحفظتيه بعد الموت في مُخَلَّفيه؟ أكففتِ عن غيبة أخٍ مؤمن بفضل جاهِك؟ أأعنتِ مسلماً؟ ما الذي صنعتِ فيه؟ فيذكر ما كان منه؛ فإن ذكر أنّه جرى منه خيرٌ حمد الله عز ّوجلّ وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصيةً أو تقصيراً استغفر الله عزّ وجلّ وعزم على ترك معاودته".
على الإنسان أن يدقق في أعماله، ليكون كل يوم عنده يوم حساب، ليأتي إلى ربه وقد استطاع أن يركِّز عمله في خط رضى الله تعالى. وقد حدّثنا الله عن بعض الناس الذين يقفون يوم القيامة، ويؤتى بكتابهم، فيقولون: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}(الكهف:49).
الخطبة الثانية
عباد الله... اتقوا الله
محاولات لإحداث مشكلة بين سوريا وإيران
يجهد قادة العدوّ الصهيوني في هذه الأيام لرسم برنامج عمل متكامل لإدارة الرئيس الأميركي فيما يخص المنطقة... وينشط المسؤولون الصهاينة، سواء على مستوى رئيس كيانهم، أو على مستوى حكومتهم اليمينية المتطرّفة، لإيجاد تحوّل في المنطقة عبر خطين:
الأول، ويتمثل بدفع الولايات المتحدة الأميركية إلى التعامل مع إيران كخطر استراتيجي جاثم، وحثّها على وضع الخطط اللازمة لمواجهة ذلك، وتقصير فترة الحوار المرتقبة مع إيران، ورسم استراتيجية لما يسمّى "عرب الاعتدال" للعزف على الوتر نفسه... وقد سمعنا مواقف عربية جديدة تصعّد الحملة على الجمهورية الإسلامية، في تناسق غريب عجيب مع شروط كيان العدو وأهدافه وحركته.
وفي السياق عينه، تتواصل الحركة الأميركية الظاهرة والخفيّة، للبحث عن ثغرة ينفذ منها الأميركيون والعدوّ الصهيوني وعرب الاعتدال لإحداث مشكلة بين سوريا وإيران، الدولتين الممانعتين اللتين استطاعتا إحداث الفارق الذي أثّر بشكل وبآخر في الخريطة السياسية والأمنية لمصلحة قوى المقاومة في المنطقة كلها... أو للدخول على خط العلاقة الإستراتيجية بينهما بهدف تخريبها، أو إيجاد مسار معين من شأنه أن يخفف اندفاعة البلدين لتعزيز العلاقة وتطويرها...
ونحن، في هذا الجانب، ننظر بارتياح كبير إلى النتائج الإيجابية والمهمة التي ترتبت على زيارة الرئيس الإيراني الأخيرة إلى سوريا، ونشعر بأن كل المحاولات الرامية إلى إحداث وقيعة بين الدولتين والشعبين في إيران وسوريا، هي محاولات مكشوفة ولن يُكتب لها النجاح، سواء انطلقت من الإدارة الأميركية، أو من كيان العدو، أو بفعل تنسيق مع أطراف عربية لا تزال تُصرّ على التعامي عن خطر العدو، وتفتح له أعينها وأجواءها وآفاقها، لتعمل ـ في المقابل ـ على استعداء إيران التي لم تكن يوماً مشكلة للعالم العربي، ولم تعمل يوماً على التعرّض لأمنه السياسي والعسكري منذ انتصار الثورة الإسلامية، بل كانت ولا تزال ركناً من أركان مواجهة العدوّ، وحصناً للمقاومين وطلاّب الحرية من العرب والمسلمين، وموقعاً أساسياً يدعم القضية الفلسطينية كقضية مظلومين، وكقضية إسلامية وعربية، وإنْ كلّفها ذلك أثماناً باهظة وحملات متواصلةً، بعكس ما يحاول بعض العرب أن يوحي بأن تبنّي هذه القضية من جانب إيران إنما يهدف إلى السيطرة على مكامن القوة في المنطقة، لأن المخاطر التي انعكست وتنعكس على الجمهورية الإسلامية جرّاء تبنّيها للقضية الفلسطينية لا عدّ لها ولا حصر...
المسجد الأقصى يتعرَّض للتّطويف الصّهيونيّ
أما الخط الثاني الذي يتحرك فيه العدو، والذي يهدف إلى إحداث تحوّل ميداني داخل فلسطين المحتلة ينعكس على المنطقة برمتها، فيتمثل بتوسيع دائرة الاستيطان في الضفة الغربية، وفي القدس على وجه التحديد، بحيث يُصار إلى تغيير المشهد الكامل من حول المسجد الأقصى، عبر تطويقه بحزام استيطاني تهويدي، في محاولة لتفريغه من المصلّين، ومن ثم السعي لتحويله إلى كنسي يهودي... وتحويل ما تبقّى من الضفة الغربية إلى جزر استيطانية تطوّق البلدات والقرى الفلسطينية، وتفرض أمراً واقعاً حتى على ورقة التوت العربية المسماة: مبادرة عربية.
ووسط ذلك كله، ينشط العرب، وخصوصاً أولئك الذين صادروا شعوبهم بقوانين الطوارئ وحملات المخابرات المتتالية، لإرسال برقيات التهنئة إلى كيان العدو ـ عبر رئيسه ـ بمناسبة ما أسموه الاستقلال الواحد والستين للدولة... في صورة من صور الخيانة والخضوع والسقوط الذي لم نرَ ما يشابهه في واقعنا المعاصر أو في تاريخنا البعيد كشعوب عربية وإسلامية، ولكنه الذل الذي يواصل محاولاته الفاشلة ليلبس لبوس الغفران.
إنّنا ندعو العرب، ومن لا يزالون يحتفظون بشيء من العزة والكرامة في مواقعهم الرسمية، إلى قراءة واقعية وهادئة لأهداف إسرائيل الساعية لمنع قيام أية قوة عربية وإسلامية يمكن أن تواجه التفوّق العسكري الصهيوني، والمتحركة للقضاء على المقاومة بكل أشكالها الجهادية والثقافية... ونريد لهم الانفتاح على القوة الأكبر التي تمثل الداعم الاستراتيجي لقضاياهم، والمتمثلة بالجمهورية الإسلامية في إيران، لأننا نعتقد أن الفرصة لا تزال سانحة لهم لتصحيح هذا الخلل، كما نعتقد أن إيران ستظل مفتوحة الصدر والقلب لاحتضانهم، على الرغم مما تعرضت له من حملات تشويه وتشويش ظالمة.
الأمم المتحدة في الأحضان الإسرائيلية
وفي جانب آخر، كنا قد دعونا الأمم المتحدة ـ عبر أمينها العام ـ إلى الخروج من دائرة التحريض الذي تمارسه عبر بعض مبعوثيها لإحداث مشكلة في العلاقة بين بعض المواقع العربية والإسلامية، كما دعونا إلى إحداث نقلة نوعية تعيد إلى المنظمة صدقيتها، عبر السعي لمحاكمة إسرائيل على جرائمها البشعة التي ارتكبتها في غزة، ولكن يبدو أن الأمين العام للأمم المتحدة ارتمى أكثر في الأحضان الإسرائيلية، وبدلاً من أن يسعى للحفاظ على المنظمة، أعلن أنه سيغلق باب مساءلة العدوّ بعد عرض تقرير لجنة التحقيق التابعة للمنظمة الدولية على مجلس الأمن، وأنه سيكتفي بإجراء حوار مع حكومة العدوّ، وأنه سيبحث في صرف التعويضات لعائلات الضحايا الذين قتلوا داخل مراكز الأونروا في غزة من موازنة الأمم المتحدة نفسها، ولن يطالب العدوّ بدفع التعويضات، ليعطي دليلاً آخر على سقوط منظمته بالضربة القاضية، وعلى أن العدالة الدولية هي استنسابية ولا صدقية لها، وبالتالي فإن على الشعوب وقواها الحيّة أن تبحث عن السبل التي تحفظ فيها حقوقها وكرامتها عبر قواها الذاتية ومقاوماتها الأصيلة، فهذا عالمٌ لا وجود فيه للعدالة، ولا احترام فيه للحقوق إلا من خلال القوة. ولذلك، فإنني أدعو شعوبنا إلى احتضان كل أشكال المقاومة الشريفة، وإلى بناء كل أسس القوة، وإلى عدم التنازل عن أي سلاح يمثل سلاح العزة في مواجهة العدوّ والغطرسة الدولية، لأن التنازل عنه يصبح تنازلاً عن الحق في الوجود والاستمرار وحماية المستقبل كله.
لبنان: ممنوع نقد المسؤولين الطّائفيّين
أما في لبنان، فإننا نلاحظ فقدان الإحساس الوطني ليحلّ محلّه الإحساس الطائفي والمذهبي الذي يحاول أن يغطّي سلبياته بطريقة توحي بأنّ القضية قضية مبدأ، في الوقت الذي نرى أن الخطاب التعبوي يترك تأثيره العدواني في الشارع، ليكون الصوت الذي يضعه هذا الفريق أو ذاك الفريق في الصندوق تنفيساً عن الحالة النفسية المعقّدة ضدّ الآخر، لا انطلاقاً من البرامج التي يقدّمها هذا الزعيم أو ذاك حول القضايا العامة الإصلاحية أو التغييرية التي لا يفقه المواطن منها شيئاً لأنه مشغول عن ذلك بالهتاف والتصفيق.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الجميع يتحدثون عن ضرورة مساءلة المسؤولين ومحاسبتهم، لكنّ المسألة تختلف على أرض الواقع، إذ لا يستطيع أحد أن ينتقد المسؤولين الطائفيين، لأن أبناء الطائفة يعتبرون نقد المسؤول عدواناً على الطائفة، كما أن المذهبيين يرون في انتقاد زعيم المذهب حرباً على المذهب نفسه، ما يجعل من النقد، حتى الموضوعي منه، مشكلةً للوطن قد تؤدي إلى العنف وإلى إثارة التعقيدات في علاقة المواطنين بعضهم ببعض، وهذا ما يوحي بفرضية العصمة للمسؤولين الكبار وتحويلهم إلى قدّيسين، بحيث تتحوّل أخطاؤهم إلى مقدّسات لا يجوز إثارة علامة استفهام حولها، وتأخذ المسألة أبعاداً أخطر في حركة الشخصيات الدينية الكبيرة أو الصغيرة التي تعلن الولاء المطلق لزعيم الطائفة على حساب القيم الدينية أو الأخلاقية التي ينبغي أن تحكم حركتها ومواقفها.
أما أن تسأل هذا المسؤول أو ذاك: "من أين لك هذا"، فأنت بذلك تمسّ قدس الأقداس، وإذا طالبت بإصلاح المؤسسات الدستورية، فإنك بذلك تتجاوز الخطوط الحمراء، ولا سيّما إذا تحدثت عن أخطاء القضاة والرؤساء، وعن المجرمين الذي صنعوا المأساة للوطن كله، وتحوّلوا إلى مواقع القيادة التي يراد لها أن تبقى فوق النقد، وتصبح بذلك في موقع الاتهام والمساءلة، لأنك تعرّض البلد وأمنه للخطر... ويبقى السؤال عن عيون العدوّ وشبكاته التي تفرِّخ في هذه المنطقة وتلك، ليتحدث البعض عن العمالة كمهنة في لبنان، وليشير البعض الآخر إلى أن العملاء الصغار تلامذة في مدرسة العمالة التي أسسها الكبار في البلد المفتوح على رياح العالم وعواصفه واستخباراته المنتشرة في كل مكان، والتي تجمع الملل والنحل والطوائف والمذاهب في طائفة العمالة التي وحّدت العملاء ومزّقت اللبنانيين.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد ،محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
أهميّة محاسبة النّفس في الإسلام
الدّنيا مزرعة الآخرة
يقول الله تعالى في كتابه المجيد:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ* لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ}(الحشر:18-20).
يريد الله تعالى للإنسان أن يعرف عمله، لأنَّ العمل قد يكون خيراً وقد يكون شراً؛ فيسأل نفسه هل إن ما عمله هو الخير، أو هو الشر؟ كذلك فإن العمل حرام وحلال، فهل ما صدر عنه من عمل هو حرامٌ أو حلالٌ؟ إذاً على الإنسان أن يعرف نفسه، وأن يميّز بين نقاط الضعف ونقاط القوة فيها، حتى تتوازن نظرته إلى نفسه، فلا يأخذه الغرور لمجرد أنه نجح في موقع من المواقع، أو في مرحلة من المراحل، ولا يتحكّم به اليأس إذا أُصيب بمصيبة أو خسر خسارةً.
ثم عندما يدرس الإنسان نفسه، عليه أن يفكر أن الدنيا مزرعة الآخرة، فكما ينظر الإنسان إلى حصاده بعد الزرع فيرى هل هو مفيد أو غير مفيد، كذلك فإنّ الدنيا مزرعة الآخرة، وما يزرعه في الدّنيا يحصد نتائجه في الآخرة: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}(الانشقاق:6)، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}(الزَّلزلة7-8). على الإنسان أن يدرس عمله ويفكر ماذا قدّم للآخرة، هل قدّم لها من الأعمال ما يرضي ربه، وما يهيّئه لدخول الجنة، أو أنه قدّم لها ما يغضب ربّه وما يدخله النار؟{وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ}(القصص:77)، فالآخرة هي دار المصير والخلود، فلا بدَّ للإنسان أن لا يستغرق في اللحظة التي يعيش فيها عندما يعمل، بل أن يعرف نتيجة هذا العمل، هل هي دنيوية صرف أم أنّها تمتدُّ إلى الآخرة أيضاً .
مراقبة الله في الأعمال
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ـ اتّقوا الله، ولا تستغرقوا في أنفسكم وتنسوا ربكم؛ راقبوه في أعمالكم لترتفعوا إلى مواقع القرب منه، لأن رضا الله يجعل الإنسان يشعر بالسعادة في قلبه وعقله وشعوره، لأن الله هو غاية الغايات ومنتهى الطموحات ـ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍـ وغد الإنسان هو الآخرة التي يقبل عليها بعد أن يترك هذه الحياة ـ وَاتَّقُوا اللهَ ـ فبعد أن تعرفوا ما قدّمتم لأنفسكم، اتقوا الله فيما تستقبلون من أعمال وأيام، فإن كان عملكم خيراً فاسألوا الله أن يزيدكم منه، وإن كان شراً فاستغفروا الله منه وتوبوا إليه ـ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَـ لأن الله يعرف سرّ الإنسان وعلانيته ـ{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَـ استهلكتهم الحياة الدنيا بأطماعها وشهواتها بحيث أخلدوا إلى الأرض ـ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}(الحشر:18-19)، لأنَّ الإنسان إذا نسي ربه فإنَّه ينسى مسؤوليته وآخرته، وإذا نسي آخرته نسي عمله ونسي الاستعداد لمصيره في الآخرة عندما يقوم الناس لربّ العالمين، وإذا ذكر الإنسان الله في كل أوقاته، فإنه يذكر مسؤوليته أمامه يوم القيامة.
وقد ورد في بعض الآيات الأخرى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى}(طه:125-126)، {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ ـ إن الذين يذكرون الله ويتحمّلون مسؤوليتهم أمامه ويعملون للارتفاع إلى مواقع القرب منه، هم الذين يدخلون الجنة بغير حساب، أما الذين يتمرَّدون عليه ويعصونه فإن النار تنتظرهم، وبذلك فإن ـ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ}(الحشر:20).
محاسبة النفس
ونقرأ في حديث رسول الله(ص) عن معرفة النفس وحسابها: "أَكْيس الكيِّسين من حاسب نفسهـ ليعرف كل دقائق نفسه وكل أفكاره وأعماله وأقواله وعلاقاته؛ هل هي في الخطِّ المستقيم أو في الخطِّ المنحرف، هل هو من الذين أنعم الله عليهم أو هو من المغضوب عليهم ـ وعمل لما بعد الموت ـ أن يعمل للدار الآخرة ـ وأحمق الحمقى من اتّبع هواه وتمنّى على الله الأماني"، هذا الّذي يتمنّى الجنة ورضى الله من دون عمل أو تحمّل للمسؤولية.
وعن الإمام عليّ(ع) أنه قال: "حاسبوا أنفسكم بأعمالهاـ نحن عادةً نحاسب غيرنا لأننا دائماً ننظر إلى الآخرين ولا ننظر إلى أنفسنا، مع أنّ الإنسان ليس مسؤولاً عن الآخرين، بل هو مسؤول عن نفسه، فعليه أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب الآخرين ـ وطالبوها بأداء المفروض عليهاـ فقد فرض الله عليك الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان إذا كنت تستطيع ذلك، والحج، وما إلى ذلك من الفرائض التي أوجبها عليك، وعليك أن تطالب نفسك بهذه الفرائض بأن تؤدّيها ولا تفرِّط فيها أو تستهتر بها ـ والأخذ من فنائها لبقائها، وتزوّدوا ـ وخير الزاد التقوى ـ وتأهّبوا قبل أن تُبعثوا".
الاستعداد لامتحان الآخرة
وعن الإمام عليّ(ع): "ما أحقَّ الإنسان أن تكون له ساعةٌ ـ وقت من الأوقات ـ لا يشغله شاغلٌ ـ بحيث لا يلهو عن هذه الساعة بأيِّ شيء ـ يحاسب فيها نفسه، فينظر فيما اكتسب لها وعليها، في ليلها ونهارها"، وربح الأعمال أعظم من ربح المال، وخسارة الأعمال أكبر من خسارة المال.
وورد عن الإمام الصادق(ع): "كان فيما وعظ به لقمان ابنه: اعلم أنّك ستُسأل غداً إذا وقفتَ بين يدي الله عزّ وجلّ عن أربع: شبابك فيما أبليتهـ إنّ الله أعطاك الشباب، والشباب يمثل مرحلة العمر الذي يملك فيه الإنسان القوة التي تعينه على أن يقوم بأكثر الأعمال جهداً ـ وعمرك فيما أفنيته ـ هل أفنيته بالصالحات أم بالطالحات، بالخير أم بالشر، بما يرضي الله أم بما يغضبه ـ ومالِك ممّا اكتسبتَهـ هل أخذت مالك من مصدر حلال أو مصدر حرام، لأن البعض يعتبر أن الحلال ما حلّ باليد بأيِّ طريق وصل إلى يده! وهذه الأيام هي أيام موسم الأموال الحرام، الأموال التي تبعثها بعض الدول لتغلّب أناساً على آخرين، لتُنتخب جماعتها حتى لو لم يكونوا في مستوى المسؤولية، وقد قرأت في تقرير أمريكي أن الانتخابات اللبنانية هي أغلى الانتخابات في العالم، لأن بعض الدول العربية تصرف مئات الملايين من الدولارات على المرشَّحين التابعين لها، كذلك الأمر فيما يأخذه بعض الناس من الظالمين والمستكبرين من أموال ليتجسّسوا على بلدهم ومواطنيهم ـ وفيما أنفقتَه ـ هل أنفقت مالك في الحلال أو في الحرام ـ فتأهّب لذلكـ وهذه الأسئلة هي امتحان أمام الله، فكما أنك تهيّئ نفسك للامتحان في الدنيا، عليك أن تتهيّأ لهذا الامتحان في الآخرة ـ وأعدّ له جواباً".
ويعلّمنا الإمام عليّ(ع) عن كيفية محاسبة النفس فيقول: "إذا أصبح ثمّ أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفسُ، إنّ هذا يومٌ مضى عليك لا يعود إليك أبداً، واللهُ سائلك عنه فيما أفنيتِه، فما الذي عملتِ فيه؟ أذكرتِ الله أم حمدتيه، أقضيت حقّ أخٍ مؤمن؟ أنفّستِ عنه كربته؟ أحفظتيه بظهر الغيب في أهله وولده؟ أحفظتيه بعد الموت في مُخَلَّفيه؟ أكففتِ عن غيبة أخٍ مؤمن بفضل جاهِك؟ أأعنتِ مسلماً؟ ما الذي صنعتِ فيه؟ فيذكر ما كان منه؛ فإن ذكر أنّه جرى منه خيرٌ حمد الله عز ّوجلّ وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصيةً أو تقصيراً استغفر الله عزّ وجلّ وعزم على ترك معاودته".
على الإنسان أن يدقق في أعماله، ليكون كل يوم عنده يوم حساب، ليأتي إلى ربه وقد استطاع أن يركِّز عمله في خط رضى الله تعالى. وقد حدّثنا الله عن بعض الناس الذين يقفون يوم القيامة، ويؤتى بكتابهم، فيقولون: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}(الكهف:49).
الخطبة الثانية
عباد الله... اتقوا الله
محاولات لإحداث مشكلة بين سوريا وإيران
يجهد قادة العدوّ الصهيوني في هذه الأيام لرسم برنامج عمل متكامل لإدارة الرئيس الأميركي فيما يخص المنطقة... وينشط المسؤولون الصهاينة، سواء على مستوى رئيس كيانهم، أو على مستوى حكومتهم اليمينية المتطرّفة، لإيجاد تحوّل في المنطقة عبر خطين:
الأول، ويتمثل بدفع الولايات المتحدة الأميركية إلى التعامل مع إيران كخطر استراتيجي جاثم، وحثّها على وضع الخطط اللازمة لمواجهة ذلك، وتقصير فترة الحوار المرتقبة مع إيران، ورسم استراتيجية لما يسمّى "عرب الاعتدال" للعزف على الوتر نفسه... وقد سمعنا مواقف عربية جديدة تصعّد الحملة على الجمهورية الإسلامية، في تناسق غريب عجيب مع شروط كيان العدو وأهدافه وحركته.
وفي السياق عينه، تتواصل الحركة الأميركية الظاهرة والخفيّة، للبحث عن ثغرة ينفذ منها الأميركيون والعدوّ الصهيوني وعرب الاعتدال لإحداث مشكلة بين سوريا وإيران، الدولتين الممانعتين اللتين استطاعتا إحداث الفارق الذي أثّر بشكل وبآخر في الخريطة السياسية والأمنية لمصلحة قوى المقاومة في المنطقة كلها... أو للدخول على خط العلاقة الإستراتيجية بينهما بهدف تخريبها، أو إيجاد مسار معين من شأنه أن يخفف اندفاعة البلدين لتعزيز العلاقة وتطويرها...
ونحن، في هذا الجانب، ننظر بارتياح كبير إلى النتائج الإيجابية والمهمة التي ترتبت على زيارة الرئيس الإيراني الأخيرة إلى سوريا، ونشعر بأن كل المحاولات الرامية إلى إحداث وقيعة بين الدولتين والشعبين في إيران وسوريا، هي محاولات مكشوفة ولن يُكتب لها النجاح، سواء انطلقت من الإدارة الأميركية، أو من كيان العدو، أو بفعل تنسيق مع أطراف عربية لا تزال تُصرّ على التعامي عن خطر العدو، وتفتح له أعينها وأجواءها وآفاقها، لتعمل ـ في المقابل ـ على استعداء إيران التي لم تكن يوماً مشكلة للعالم العربي، ولم تعمل يوماً على التعرّض لأمنه السياسي والعسكري منذ انتصار الثورة الإسلامية، بل كانت ولا تزال ركناً من أركان مواجهة العدوّ، وحصناً للمقاومين وطلاّب الحرية من العرب والمسلمين، وموقعاً أساسياً يدعم القضية الفلسطينية كقضية مظلومين، وكقضية إسلامية وعربية، وإنْ كلّفها ذلك أثماناً باهظة وحملات متواصلةً، بعكس ما يحاول بعض العرب أن يوحي بأن تبنّي هذه القضية من جانب إيران إنما يهدف إلى السيطرة على مكامن القوة في المنطقة، لأن المخاطر التي انعكست وتنعكس على الجمهورية الإسلامية جرّاء تبنّيها للقضية الفلسطينية لا عدّ لها ولا حصر...
المسجد الأقصى يتعرَّض للتّطويف الصّهيونيّ
أما الخط الثاني الذي يتحرك فيه العدو، والذي يهدف إلى إحداث تحوّل ميداني داخل فلسطين المحتلة ينعكس على المنطقة برمتها، فيتمثل بتوسيع دائرة الاستيطان في الضفة الغربية، وفي القدس على وجه التحديد، بحيث يُصار إلى تغيير المشهد الكامل من حول المسجد الأقصى، عبر تطويقه بحزام استيطاني تهويدي، في محاولة لتفريغه من المصلّين، ومن ثم السعي لتحويله إلى كنسي يهودي... وتحويل ما تبقّى من الضفة الغربية إلى جزر استيطانية تطوّق البلدات والقرى الفلسطينية، وتفرض أمراً واقعاً حتى على ورقة التوت العربية المسماة: مبادرة عربية.
ووسط ذلك كله، ينشط العرب، وخصوصاً أولئك الذين صادروا شعوبهم بقوانين الطوارئ وحملات المخابرات المتتالية، لإرسال برقيات التهنئة إلى كيان العدو ـ عبر رئيسه ـ بمناسبة ما أسموه الاستقلال الواحد والستين للدولة... في صورة من صور الخيانة والخضوع والسقوط الذي لم نرَ ما يشابهه في واقعنا المعاصر أو في تاريخنا البعيد كشعوب عربية وإسلامية، ولكنه الذل الذي يواصل محاولاته الفاشلة ليلبس لبوس الغفران.
إنّنا ندعو العرب، ومن لا يزالون يحتفظون بشيء من العزة والكرامة في مواقعهم الرسمية، إلى قراءة واقعية وهادئة لأهداف إسرائيل الساعية لمنع قيام أية قوة عربية وإسلامية يمكن أن تواجه التفوّق العسكري الصهيوني، والمتحركة للقضاء على المقاومة بكل أشكالها الجهادية والثقافية... ونريد لهم الانفتاح على القوة الأكبر التي تمثل الداعم الاستراتيجي لقضاياهم، والمتمثلة بالجمهورية الإسلامية في إيران، لأننا نعتقد أن الفرصة لا تزال سانحة لهم لتصحيح هذا الخلل، كما نعتقد أن إيران ستظل مفتوحة الصدر والقلب لاحتضانهم، على الرغم مما تعرضت له من حملات تشويه وتشويش ظالمة.
الأمم المتحدة في الأحضان الإسرائيلية
وفي جانب آخر، كنا قد دعونا الأمم المتحدة ـ عبر أمينها العام ـ إلى الخروج من دائرة التحريض الذي تمارسه عبر بعض مبعوثيها لإحداث مشكلة في العلاقة بين بعض المواقع العربية والإسلامية، كما دعونا إلى إحداث نقلة نوعية تعيد إلى المنظمة صدقيتها، عبر السعي لمحاكمة إسرائيل على جرائمها البشعة التي ارتكبتها في غزة، ولكن يبدو أن الأمين العام للأمم المتحدة ارتمى أكثر في الأحضان الإسرائيلية، وبدلاً من أن يسعى للحفاظ على المنظمة، أعلن أنه سيغلق باب مساءلة العدوّ بعد عرض تقرير لجنة التحقيق التابعة للمنظمة الدولية على مجلس الأمن، وأنه سيكتفي بإجراء حوار مع حكومة العدوّ، وأنه سيبحث في صرف التعويضات لعائلات الضحايا الذين قتلوا داخل مراكز الأونروا في غزة من موازنة الأمم المتحدة نفسها، ولن يطالب العدوّ بدفع التعويضات، ليعطي دليلاً آخر على سقوط منظمته بالضربة القاضية، وعلى أن العدالة الدولية هي استنسابية ولا صدقية لها، وبالتالي فإن على الشعوب وقواها الحيّة أن تبحث عن السبل التي تحفظ فيها حقوقها وكرامتها عبر قواها الذاتية ومقاوماتها الأصيلة، فهذا عالمٌ لا وجود فيه للعدالة، ولا احترام فيه للحقوق إلا من خلال القوة. ولذلك، فإنني أدعو شعوبنا إلى احتضان كل أشكال المقاومة الشريفة، وإلى بناء كل أسس القوة، وإلى عدم التنازل عن أي سلاح يمثل سلاح العزة في مواجهة العدوّ والغطرسة الدولية، لأن التنازل عنه يصبح تنازلاً عن الحق في الوجود والاستمرار وحماية المستقبل كله.
لبنان: ممنوع نقد المسؤولين الطّائفيّين
أما في لبنان، فإننا نلاحظ فقدان الإحساس الوطني ليحلّ محلّه الإحساس الطائفي والمذهبي الذي يحاول أن يغطّي سلبياته بطريقة توحي بأنّ القضية قضية مبدأ، في الوقت الذي نرى أن الخطاب التعبوي يترك تأثيره العدواني في الشارع، ليكون الصوت الذي يضعه هذا الفريق أو ذاك الفريق في الصندوق تنفيساً عن الحالة النفسية المعقّدة ضدّ الآخر، لا انطلاقاً من البرامج التي يقدّمها هذا الزعيم أو ذاك حول القضايا العامة الإصلاحية أو التغييرية التي لا يفقه المواطن منها شيئاً لأنه مشغول عن ذلك بالهتاف والتصفيق.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الجميع يتحدثون عن ضرورة مساءلة المسؤولين ومحاسبتهم، لكنّ المسألة تختلف على أرض الواقع، إذ لا يستطيع أحد أن ينتقد المسؤولين الطائفيين، لأن أبناء الطائفة يعتبرون نقد المسؤول عدواناً على الطائفة، كما أن المذهبيين يرون في انتقاد زعيم المذهب حرباً على المذهب نفسه، ما يجعل من النقد، حتى الموضوعي منه، مشكلةً للوطن قد تؤدي إلى العنف وإلى إثارة التعقيدات في علاقة المواطنين بعضهم ببعض، وهذا ما يوحي بفرضية العصمة للمسؤولين الكبار وتحويلهم إلى قدّيسين، بحيث تتحوّل أخطاؤهم إلى مقدّسات لا يجوز إثارة علامة استفهام حولها، وتأخذ المسألة أبعاداً أخطر في حركة الشخصيات الدينية الكبيرة أو الصغيرة التي تعلن الولاء المطلق لزعيم الطائفة على حساب القيم الدينية أو الأخلاقية التي ينبغي أن تحكم حركتها ومواقفها.
أما أن تسأل هذا المسؤول أو ذاك: "من أين لك هذا"، فأنت بذلك تمسّ قدس الأقداس، وإذا طالبت بإصلاح المؤسسات الدستورية، فإنك بذلك تتجاوز الخطوط الحمراء، ولا سيّما إذا تحدثت عن أخطاء القضاة والرؤساء، وعن المجرمين الذي صنعوا المأساة للوطن كله، وتحوّلوا إلى مواقع القيادة التي يراد لها أن تبقى فوق النقد، وتصبح بذلك في موقع الاتهام والمساءلة، لأنك تعرّض البلد وأمنه للخطر... ويبقى السؤال عن عيون العدوّ وشبكاته التي تفرِّخ في هذه المنطقة وتلك، ليتحدث البعض عن العمالة كمهنة في لبنان، وليشير البعض الآخر إلى أن العملاء الصغار تلامذة في مدرسة العمالة التي أسسها الكبار في البلد المفتوح على رياح العالم وعواصفه واستخباراته المنتشرة في كل مكان، والتي تجمع الملل والنحل والطوائف والمذاهب في طائفة العمالة التي وحّدت العملاء ومزّقت اللبنانيين.