لا نزال في أجواء الإسلام، نتعلَّم من كتاب الله ومن سنَّة رسوله (ص)، ومن كلمات الأئمَّة من أهل البيت (ع)، الكثيرَ الكثيرَ مما يركّز الإسلام في عقائده في عقولنا، ويحرّكه في شريعته في حياتنا، لنكون مسلمين كما يريد الله لنا أن نكون؛ نتحرَّك في محبَّته من خلال الإيمان به، ونتحرَّك في طاعته من خلال شريعته.
الأمينُ على الإسلام
وقد كان عليّ (ع) الإنسانَ الأوَّل الَّذي عاش الإسلامَ مع رسول الله (ص) في روحانيَّته قبل أن يبعث النَّبيّ بالرّسالة، فانطبعت شخصيَّة النَّبيّ (ص) في كلّ شخصيَّة عليّ (ع) ووجدانه، وكان مع النَّبيّ بعد الرّسالة في بيته، يعيش معه ليله ونهاره، فيرى ما يرى، ويسمع ما يسمع، ويتحاور معه، ويستمع إليه. فلذلك، أخذ عليّ (ع) كلَّ ما عند النَّبيّ (ص) فيما عرَّفه الله، وفيما أوحي به إليه، وما أوكله به في سنَّته، وهكذا انطلقت كلمة رسول الله (ص): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، وقال عليّ (ع): "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ أَلْفَ بَابٍ مِنَ العِلْمِ، يَفْتَحُ كُلُّ بَابٍ أَلْفَ بَابٍ".
ومن هنا، أيُّها الأحبَّة، فإنَّنا نحبّ عليّاً (ع) ونتولَّاه، لأنَّه كان هو الأمينَ على الإسلام، وكان هو الإنسانَ الَّذي باعَ نفسَه لله، فكان أخَا رسول الله بالرّوح وبالعمل، وكان وصيَّه، وكان وارثَ علمِهِ، وكانَ السَّائرَ إلى الحقّ في كلّ حياته.
ونحن نريد أن نعيشَ مع عليّ (ع)، حتَّى لو أنَّه غائبٌ عنّا بجسده، نريد أن نستمع إليه، كما استمع إليه الكثيرون ممن كانوا معه، فعمل بعضٌ بما سمع، ولم يعمل بعض آخر به، ونرجو أن نكون من العاملين بما تحدَّث به عليّ (ع) حتَّى كأنَّه بيننا، لنُشهد الله على أنَّ ولايتنا له ليست ولايةً اسميَّة، ولكنَّها ولايةٌ فكريَّة وعمليَّة وحركيَّة، نفكّر كما يفكّر، ونعمل كما يعمل، ونتحرَّك من حيث تحرَّك.
تعالوا إلى عليّ (ع) في بعض ما كان يوصي به أصحابه.
أهميَّة الصَّلاة
يقول (ع): "تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلَاةِ وحَافِظُوا عَلَيْهَا، واسْتَكْثِرُوا مِنْهَا، وتَقَرَّبُوا بِهَا، فَإِنَّهَا {كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً}[النّساء: 103]! أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِينَ سُئِلُوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}"[المدّثّر: 42 - 43].
لقد أراد عليّ (ع) منّا أن نتعاهد أمر الصَّلاة، بحيث نعتبرها عنصراً أساسيّاً في علاقتنا بالله سبحانه وتعالى وفي إخلاصنا له، لأنَّنا، أيُّها الأحبَّة، في كلّ حياتنا الَّتي تكثر فيها الاهتزازات، وتتنوَّع فيها الشُّبهات والإشكالات والتَّعقيدات والخلافات الَّتي يمكن أن تبعدنا عن الله سبحانه وتعالى، إنَّنا في كلّ ذلك، نحتاج أن نعيش مع الله، وأن نشهده على إيماننا، وعلى تعظيمنا له، وعلى محبَّتنا له، وعلى شكرنا له، والصَّلاة هي الَّتي تحقّق لنا ذلك.
ولذلك، علينا أن لا نستهين بالصَّلاة، أن لا نؤخّرها عن وقتها، أن لا نجعلها على هامش حياتنا، أن نهتمَّ بها كما نهتمُّ بأعمالنا؛ هل يفكّر أحد أن يتهاون في عمله الَّذي منه معيشته؟ إنَّنا لا نفعل ذلك، ولكنَّ بعضاً منَّا يتهاون في صلاته، فلا يصلّيها في وقتها، ولا يحافظ عليها، لأنّها مجرَّد عادة اعتادها، أو وضع تقليديّ ألفه، ولذلك، فهو يؤخّر صلاته لحساب أيّ شغل آخر، حتَّى لو كان هذا الشّغل لا أهميَّة له، ليقضيها فيما بعد أو لا يقضيها.
إنَّ الإمام (ع) يقول: "تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلَاةِ وحَافِظُوا عَلَيْهَا - {الَّذينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون: 2] - واسْتَكْثِرُوا مِنْهَا - حاولوا أن تكثروا من صلاتكم، فلا تقتصروا على الفرائض الواجبة، بل حاولوا أن تأتوا بالمستحبّات أيضاً - وتَقَرَّبُوا بِهَا - لأنَّها "مِعْرَاجُ المُؤْمِنِ إِلَى اللَّهِ"، ولأنّه "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ" - فَإِنَّهَا {كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً}، أي فريضة لها أوقات معيَّنة.
علاقَةُ الصَّلاةِ بالمصير
ثمَّ يحاول الإمام (ع) أن يثير أمامنا علاقة الصَّلاة بالمصير في الدّنيا والآخرة، فيقول (ع): - أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِينَ سُئِلُوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} - فالإنسان الَّذي لا يصلّي، أو الّذي يترك صلاته ويتهاون بها، هو الَّذي سيكون مصيره وادي سقر في جهنَّم.
فإذا كانَت لكم عاطفة على أولادكم وبناتكم وأزواجكم وأهلكم، فعليكم أن تبادروا إلى أن تجعلوهم يقيمون الصَّلاة، وإلَّا كان مصيرهم كما ذكرت الآية.
ثمَّ يقول الإمام (ع) في إيجابيَّات الصَّلاة: - وإِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ الْوَرَقِ - فكما تتساقط الأوراق في الخريف، كذلك الصَّلاة تُسقِطُ الذّنوب - وتُطْلِقُهَا إِطْلَاقَ الرِّبَقِ"، يعني تجعلها تغيب.
"وشَبَّهَهَا رَسُولُ اللَّه (ص) بِالْحَمَّى تَكُونُ عَلَى بَابِ الرَّجُلِ، فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ واللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْه مِنَ الدَّرَنِ؟! – فلو فرضنا أنَّ إنساناً عنده عين ماء أمام بيته، يغتسل منها صباحاً وظهراً وفي المغرب والعشاء، فهل يبقى عليه شيء من الدَّرن والوسخ؟! من المؤكَّد أنَّه لا يبقى شيء من ذلك، وكذلك الَّذي يصلّي الصَّلوات الخمس، فإنَّه لا يبقى عليه شيء من الذّنوب.
وقد جاء في تفسير قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود: 114]، وفسّرت الحسنات بأنّها الصَّلاة، فإذا صلَّى الإنسان الصَّلاة بشروطها وخشوعها، وبجميع ما يعتبر فيها، فإنَّ هذه الصَّلاة تُسقِط عنه كلَّ الذّنوب الّتي سبقتها.
- وقَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا تَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِينَةُ مَتَاعٍ ولَا قُرَّةُ عَيْنٍ مِنْ وَلَدٍ ولَا مَالٍ – يقول (ع) إنَّ الَّذين يعرفون حقَّ الصَّلاة وقيمتها وعلاقتها بالقرب من الله وبالنَّجاة في المصير، يقبلون عليها، ويجعلونها همّهم وشغلهم، فلا يشغلهم عنها زينة متاعٍ في الدّنيا، ولا مال ولا ولد، لأنَّها تمثّل الأساس الَّذي يتقرَّبون به إلى الله سبحانه وتعالى.
ويستشهد الإمام (ع) على هذه الفكرة، فيقول - يَقُولُ اللَّه سُبْحَانَه: {رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وإِقامِ الصَّلاةِ وإِيتاءِ الزَّكاةِ}"[النّور: 37] - فلا شيء يلهيهم عن إقامة الصَّلاة، لا بيع ولا تجارة ولا أيّ شيء آخر، بل إنّهم يصلّون ويحافظون على صلواتهم، لتكون تجارتهم تجارة أمانة وصدق وخير، وليكون بيعهم بيعاً لا غشَّ فيه ولا ظلم.
صلاةُ الرَّسول (ص)
ثمَّ يتحدَّث الإمام (ع) عن صلاة رسول الله (ص)، فيقول: "وكَانَ رَسُولُ اللَّه (ص) نَصِباً بِالصَّلَاةِ - يتعب نفسه بها - بَعْدَ التَّبْشِيرِ لَه بِالْجَنَّةِ - فقد بشَّر الله رسوله بالجنَّة، وقال له إنَّك سائر إلى الجنَّة حتماً، ومع ذلك، كان يتعب نفسه بالصَّلاة - لِقَوْلِ اللَّه سُبْحَانَهُ: {وأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها}[طه: 132]، فَكَانَ يَأْمُرُ بِهَا أَهْلَه ويَصْبِرُ عَلَيْهَا نَفْسَه".
وهذا النّداء ليس موجَّهاً إلى رسول الله (ص)، لأنَّه لا يحتاج إلى وصيَّة، وهو صاحب الرّسالة، ولكنَّه موجَّه إلى كلّ مسلم ومسلمة. فعلينا جميعاً أن نأمر أهلنا وأولادنا بالصَّلاة بكلّ الوسائل الَّتي تفتح عقولهم وقلوبهم عليها. وقد ورد في بعض الأحاديث أنَّ رسول الله (ص) سئل: لماذا تجهد نفسك بالصَّلاة وقد بشَّرك الله بالجنَّة؟ قال: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدَاً شَكُوراً". فقد أنعم الله عليَّ بكلّ النّعم، وبالنّبوَّة الَّتي لا مرتبة أعلى منها، أفلا يستحقّ منّي أن أشكره؟! إنَّ الصَّلاة هي فعل شكر من العبد لربّه.
ولذلك، أيُّها الأحبَّة، نحن نحتاج من خلال وصيَّة الله ورسوله، ومن خلال موعظة عليّ (ع)، إلى أن نعيش هذا الاهتمام بالصَّلاة، أن يثقل علينا أمر بناتنا وأولادنا وأهلنا إذا لم يصلّوا، تماماً كما لو كانت هناك مصيبة تحلّ بهم، فلو كانت هناك مصيبة تحلّ بولدك أو زوجتك أو أبيك أو أمّك أو أهلك، ألا يشغل ذلك كلَّ همّك؟! إنَّ ترك الصَّلاة هي من أعظم المصائب، لأنَّها تقود الإنسان إلى جهنَّم. وكيف تسمح لك عاطفتك ومشاعرك بأن يصير أهلك إلى النَّار وأنت تنظر إليهم؟! "الصَّلاةُ عمودُ الدِّينِ، إنْ قُبِلَتْ قُبِلَ ما سِوَاهَا، وإنْ رُدَّتْ رُدَّ ما سِوَاهَا".
الزّكاة وقايةٌ من النَّار
ثمَّ يتحدَّث الإمام عن فريضة أخرى، وهي فريضة الزّكاة. يقول (ع): "ثُمَّ إِنَّ الزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّلَاةِ قُرْبَاناً لأَهْلِ الإِسْلَامِ - ولذلك قرن القرآنُ الزكاة بالصَّلاة في الكثير من الآيات {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: 43]. والزكاة تشمل كلَّ الحقوق الشَّرعيَّة الَّتي فرضها الله على الإنسان - فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا – بمعنى أعطاها برضا منه وبطيب خاطر، باعتبار أنَّ الله هو الَّذي رزقه هذا المال، وأنَّ هذا المال هو مال الله، وهو الَّذي كلّفه الإنفاق منه {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذي آتَاكُمْ}[النّور: 33]، {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[الحديد: 7]، {مَّثَلُ الَّذينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 261]، فمن يعطيها عن طيب نفس - فَإِنَّهَا تُجْعَلُ لَه كَفَّارَةً – من الذّنوب - ومِنَ النَّارِ حِجَازاً ووِقَايَةً - بحيث تكون الزّكاة هي الَّتي تحجزه عن النَّار وتقيه منها - فَلَا يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَه، ولَا يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهَفَه - بعض النَّاس يدفع الزكاة والخمس وعينه فيما دفع، فهو لا يدفعها بطمأنينة وراحة، بل يدفعها ولهفته وحسرته على ما أعطى - فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا غَيْرَ طَيِّبِ النَّفْسِ بِهَا، يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ، مَغْبُونُ الأَجْرِ - لن يحصل على أجر كبير - ضَالُّ الْعَمَلِ، طَوِيلُ النَّدَمِ"، فالإنسان الّذي يعطي الزّكاة عن طيب نفس، يحصل على نتائج كبيرة عند الله تعالى، وإذا أعطاها من غير طيب نفس، فقدَ الكثيرَ من الأجر في ذلك.
ونحن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ مسألة الضَّرائب الإسلاميَّة هي من المسائل الَّتي جعلها الإسلام احتياطاً للمحتاجين في المجتمع، ممن لا يملكون فرصة العيش الكريم: "إِنَّ اللَّـهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ لِلْفُقَرَاءِ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ مِمَّا يَكْتَفُونَ بِهِ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّـهُ أَنَّ الَّذِي فَرَضَ لَهُمْ لَمْ يَكْفِهِمْ لَزَادَهُمْ". وقد جاء في كلام عليّ (ع): "مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ"، باعتبار أنَّه يحجب عن الفقير حقَّه.
مسؤوليَّةُ أداءِ الأمانة
"ثُمَّ أَدَاءَ الأَمَانَةِ - والأمانة لا تقتصر على الودائع الَّتي يودعها النَّاس عندك، بل تمتدُّ إلى كلّ عمل تحمل أمانته، عندما تكون عاملاً في مخزن أو في مصنع، أو موظّفاً في دائرة، بحيث تُحمَّل مسؤوليَّة هذا العمل الَّذي استُأْجِرْتَ عليه، وهكذا المسؤوليَّات العامَّة هي أمانة الله فيما كلَّفنا به من الأعمال - فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا - فالإنسان الَّذي لا يكون من أهل الأمانة، بل من أهل الخيانة، هو من الخائبين عند الله.
ومن أهميَّتها - إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ الْمَبْنِيَّةِ، والأَرَضِينَ الْمَدْحُوَّةِ، والْجِبَالِ ذَاتِ الطُّولِ الْمَنْصُوبَةِ، فَلَا أَطْوَلَ ولَا أَعْرَضَ ولَا أَعْلَى ولَا أَعْظَمَ مِنْهَا، ولَوِ امْتَنَعَ شَيْءٌ بِطُولٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ قُوَّةٍ أَوْ عِزٍّ لَامْتَنَعْنَ، ولَكِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وعَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُنَّ، وهُوَ الإِنْسَانُ {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا}"[الأحزاب: 72].
كأنَّ الله سبحانه وتعالى قال للسَّماوات والأرض والجبال: هل تتحمَّلن مسؤوليَّة وجودكنَّ في كلّ ما يتَّصل بهذا الوجود، بحيث تخترنَّ هذه المسؤوليَّات لتحاسبن عليها؟ فلم يقبلن بتحمّل هذه المسؤوليّة {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصّلت: 11]، وتركن الأمر لله، ولكنَّ الإنسان تحمَّلها، ولم يقم بما يجب عليه منها {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا}.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ الله سبحانه وتعالى خلقنا، وجعل لكلّ واحد منَّا مسؤوليَّة ودوراً في هذا الوجود، وجعله أمانة عندنا، ويريد لنا أن نقف غداً بين يديه ليسألنا عن كلّ الأمانات الَّتي حمَّلنا مسؤوليَّتها؛ أمانة الإنسان عن نفسه، وعن عياله، وعن النَّاس من حوله، وعن الحياة كلّها، وعن كلّ ما كلَّفه الله سبحانه وتعالى من مسؤوليَّات، وعلى كلّ واحد منّا أن يقدّم حسابه {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88 - 89].
مراقبةُ الله للعباد
ويتابع الإمام (ع): "إِنَّ اللَّه سُبْحَانَه وتَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْه مَا الْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ - فالله عالم بكلّ ما يعمله العباد - فِي لَيْلِهِمْ ونَهَارِهِمْ، لَطُفَ بِه خُبْراً – {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك: 11] - وأَحَاطَ بِه عِلْماً، أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُه - {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يس: 65] - وجَوَارِحُكُمْ جُنُودُه - كلّ أعضائكم هذه هي جنود الله - وضَمَائِرُكُمْ عُيُونُه – فكلّ سرائركم وضمائركم هي العيون الَّتي تراقبكم وتقدّم تقريرها إلى الله - وخَلَوَاتُكُمْ عِيَانُه"، عندما تخلون إلى أنفسكم، وتعيشون وحدكم، وتشعرون بالأمن {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ}"[المجادلة: 7].
أيُّها الأحبَّة، هذه هي وصيَّة عليّ (ع) تحدَّث بها مع أصحابه، ومع الزَّمن الطَّويل نحن أصحابه، وعلينا أن ننفّذ وصيَّته (ع)، وهو الَّذي لا يوصينا إلَّا بما يوصينا به الله ورسوله، وبما ينفعنا في الدّنيا والآخرة، فاستوصوا بذلك خيراً.
الخطبة الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا لله سبحانه وتعالى فيما حمَّلكم من مسؤوليَّة عن أنفسكم وأهليكم، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التّحريم: 6]، وحمَّلكم مسؤوليَّة كلّ ما تستطيعون القيام به من أمورِ النَّاس من حولكم وأمور الحياة، وكلّ ما يتعلَّق بالمسلمين في عزَّتهم وكرامتهم وحريّتهم، وفي حركة العدل في حياتهم، فقد قال رسول الله (ص): "كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّ رَاعٍ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". وعلينا أن نقدّم حسابنا غداً أمام الله في كلّ ما حمَّلنا من هذه المسؤوليَّات الخاصَّة والعامَّة، وأن لا نسترخي فيها ونبتعد عنها، بل أن نحملها بكلّ ما نملك من طاقة.
ومن الطَّبيعيّ أن نتحمَّل مسؤوليَّاتنا تجاه ما يحيط بنا في أمَّتنا من التَّحدّيات الَّتي تترك تأثيرها على حاضرنا ومستقبلنا، في قضايا الحريَّة وفي قضايا العدالة.
ونحن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ وجود إسرائيل في هذه المنطقة، أربك كلَّ ماضي المنطقة، وجعلها تتحرَّك من حربٍ إلى حربٍ، ومن مشكلةٍ إلى مشكلة، وجعلها تعيش الضّعف في اقتصادها وسياستها واجتماعها، كما أنَّها تتحرَّك في المستقبل من أجل إرباك كلّ أوضاعنا، ومن أجل إسقاط كلّ عنفواننا ومصالحنا.
ولذلك، لا بدَّ لنا أن نراقب هذا العدوّ الَّذي كان عدوّاً للإسلام والمسلمين {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذينَ أَشْرَكُوا}[المائدة: 82]، {وَالَّذينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ}[الرّعد: 25]، {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ}[آل عمران: 21]، لا بدَّ لنا أن نبقى في مراقبة لهم، أن لا نسترخي أمام وجودهم وتمدّدهم، أن لا نطبّع علاقتنا بهم، أن لا نعمل على تقويتهم بشراء بضاعتهم وبالتَّعاون معهم، ولا سيَّما الَّذين يعملون من أجل أن يتجسَّسوا للعدوّ على أهلهم، فإنَّ ذلك يمثّل الخيانة الكبرى، لأنَّه يمكّن العدوَّ من أهلهم ليضعفهم ويسقطهم ويبتزّهم، وليأخذ كلَّ خيراتهم.
لذلك، لا بدَّ لنا أن نراقب ذلك كلَّه، وأن يتَّخذ كلّ واحد منَّا موقفه أمام هذا المنكر الكبير، وقد جاء عن رسول الله (ص): "مَن رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ".
تعالوا لنراقب كيف يعمل هذا العدوّ في واقعنا بكلّ ألاعيبه، وبكلّ تحالفاته مع الشَّيطان الأكبر أمريكا الَّتي أعطت العدوَّ كلَّ القوَّة، وعملت على أن تعطي العرب والمسلمين كلَّ عناصر الضّعف.
خداعٌ صهيونيٌّ للفلسطينييّن
في المسألة الفلسطينيَّة، في الأسبوع الماضي، ملاحظتان؛ الأولى: افتتاح مطار غزَّة الَّذي صفَّق له الفلسطينيّون، واعتبروه بدايةً لمشروع الدَّولة، في الوقت الَّذي صرَّح مسؤول صهيونيّ بأنَّ هذا حكم ذاتيّ وليس دولة، وأنَّ تفتيش الطَّائرات يخضع للأمن الإسرائيليّ، كإشارة إلى أنَّ شيئاً لم يتغيَّر في موضوع السّيادة، حتَّى في المناطق الَّتي تسمَّى مناطق محرَّرة.
الملاحظة الثَّانية: تصريح وزير خارجيَّة العدوّ، ومن الأردن، بأنَّ أقصى ما يمكن أن تسلّمه إسرائيل إلى سلطة الحكم الذّاتيّ قبل المفاوضات النّهائيَّة هو 48% من أراضي الضفَّة الغربيَّة، وبقاء 52 % تحت سلطة إسرائيليَّة، واعتبار هذه المناطق مناطق أمنيَّة، وتأجيل المفاوضات حول القدس وحدود الكيان الفلسطيني واللَّاجئين إلى ما لا نهاية، مع دعوة المستوطنين قبل ذلك للشّروع في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينيَّة، لأنَّ ما يستولون عليه هو ما يبقى لهم، وإعلانه أنَّه يرفض إطلاق سراح أيّ فلسطينيّ تلطّخت يداه بدم يهوديّ، على حسب قوله، بينما لا يجرؤ الفلسطينيّون على المطالبة بمعاقبة مَنْ يقتل أولادهم يوميّاً، ومن كسَّر عظامهم، لأنَّ هذه هي شرعة الغالب والمغلوب.
والسّؤال: ما موقف أمريكا من ذلك كلّه؟ وما معنى اتّفاق "واي ريفر"، إذا كان اليهود سينسحبون من 13% ليصادروا الآن 10%، كما هو قرار حكومة العدوّ؟ وهل إنَّ هذا التَّصرّف يمثّل السَّلام، أو أنَّه يمثّل إيجاد ظروفٍ لحربٍ جديدة؟!
إنَّنا نريد للفلسطينيّين أن لا يخدعوا كما يخدع الأطفال بالألعاب الَّتي تقدَّم إليهم، أن يعرفوا طبيعة هذا الاتّفاق، وأنَّه إذا أعطاهم بعض الأرض، فإنَّه يريد منهم أن يعترفوا له بالأرض الَّتي أخذها، وأنَّ الأرض الَّتي يعطيهم إيَّاها، سوف تتحوَّل إلى سجن تحيط به المستوطنات من كلّ جانب، بحيث لا يملك أيّ فلسطينيّ أن يتحرَّك بحريَّة، ولا أن يدافع عن نفسه، لأنَّ المستوطنين مسلَّحون، ومعهم الجيش الصّهيونيّ، أمَّا الفلسطينيّون، فيمنع عنهم السّلاح من خلال إسرائيل، ومن خلال السّلطة الفلسطينيَّة، ولا يملكون حتَّى الدّفاع عن أنفسهم.
اللّعبةُ الأمريكيَّةُ في العراق
وفي موازاة ذلك، لا بدَّ من مراقبة الحركة الأمريكيَّة في المنطقة، ففي الموضوع العراقيّ، نتساءل: هل إنَّ أمريكا تعمل من أجل معارضة عراقيَّة قويَّة كبديل من النّظام، أو أنَّها تحاول إشغال الواقع السّياسيّ بصراعٍ جديدٍ في داخل المعارضة لإحداث انقسامات بين أطرافها، لتتفاقم الأزمة العراقيَّة داخليّاً وخارجيّاً، بما يؤمّن للمشروع الأمريكيّ في المنطقة الفرصةَ الأكبر للاستمرار وللتَّلاعب بدول المنطقة، ولا سيَّما دول الخليج، وفق خريطة مصالحها الاقتصاديَّة والسياسيَّة والأمنيَّة، في الوقت الَّذي ترقص أمريكا على آلام الشَّعب العراقيّ في الحصار المفروض عليه ظلماً وعدواناً، باسم العمل على إسقاط النّظام الَّذي نعرف جميعاً أنَّ أمريكا لا تفكّر في إسقاطه جدّيّاً؟! لذلك، إنَّنا نحذّر المعارضة العراقيَّة من اللُّعبة الأمريكيَّة الجديدة القديمة.
ضغطٌ أمريكيٌّ على لبنان
وفي الجانب الآخر، نتساءل عن زيارات الموفدين الأمريكيّين على مستوى عالٍ إلى لبنان، فهل هناك سياسة لدعم لبنان، كما يقولون، أو أنَّ هناك استمراراً للسياسة الأمريكيَّة لإرباك الأوضاع السّياسيَّة في لبنان، من أجل المزيدِ من السَّيطرة عليه، والتَّحرُّك على أساس التَّلاعبِ بأكثر من واقع إقليميّ في حركة الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، والضَّغط بطريقةٍ وبأخرى على المقاومة لتطويقها، لحسابِ إزالةِ الألغامِ من اتّفاقيَّة "واي ريفر".
إنَّنا ندعو الجميع إلى مراقبة خلفيَّات هذه السّياسة الأمريكيَّة، ونحن نعلم أنَّ الحرب اللُّبنانيَّة بكلّ مآسيها، وبكلّ أوضاعها القاسية، كانت من تخطيطٍ أمريكيّ قام به وزير الخارجيَّة الأمريكيَّة الأسبق، هنري كيسنجر، فإنَّ كلَّ ما حدث في لبنان من هذه الحروب الَّتي دمَّرت البلد أرضاً وشعباً، هو من تخطيط السياسة الأمريكيَّة. ولذلك، فإنَّنا نتشاءم من أيّ نوع من أنواع الانفتاح الأمريكيّ على لبنان، لأنَّنا لم نجدَ من هذا الانفتاح في الماضي أيَّ خير، بل وجدنا الشّرّ كلَّه، والجريمة كلَّها.
الاتّفاقُ الرّوسيُّ الإيرانيّ
وإلى جانب ذلك، فقد عقدت روسيا مع إيران اتّفاقاً لبناء محطَّة نوويَّة في الجمهوريَّة الإسلاميَّة للأغراض السّلميَّة، وذكر وزير الطَّاقة الرُّوسيّ أنَّ هذا التَّعاون لا ينطوي على أيّ ناحية عسكريَّة، واعتبر أنَّ إيرانَ عضوٌ مثاليّ في الأسرة النَّوويَّة، ولم نجد أيَّ ناحية عسكريَّة في برنامجها العسكريّ، كما يقول، وانتقد الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة متسائلاً: لماذا تُستبعَدُ إيران عن سائر الأمم؟! إنَّ اتّباع الولايات المتَّحدة سياسة الكيل بمكيالين قد يعيدنا إلى زمن الحرب.
وقد لاحظنا أنَّ أمريكا وإسرائيل احتجَّتا على ذلك، لأنَّهما لا تريدان لإيران أن تقوم بعمليَّة صنع للقوَّة للاستفادة من الخبرة النَّوويَّة لاقتصادها في الدَّاخل من أجل مشاريعها السّلميَّة، في الوقت الَّذي نجد أنَّ إسرائيل تملك أكثر من 200 رأس نوويّ، وبمعرفة أمريكا والعالم، ولكنَّ أمريكا لا تقدّم أيَّ احتجاج، بل هي ترعى ذلك وتقوّيه، أمَّا إذا انطلقت إيران أو أيّ دولة من دول العالم من أجل أن تقوّي اقتصادها، فإنَّها تثير المشاكل ضدَّها.
إنَّ علينا أن نعرف طبيعة السّياسة الأمريكيَّة الَّتي تريد أن تكون هي الأقوى في العالم، باعتبار أنَّها قيادة العالم، وتريد أن تكون إسرائيل هي الأقوى في المنطقة، لتكون كلّ دول المنطقة في حالة الضّعف لا في حالة القوَّة. ولكنَّنا نعتقد أنَّ الله سبحانه وتعالى كما نصر الجمهوريَّة الإسلاميَّة في البداية، فإنَّه سينصرها على كلّ ألاعيب السّياسة الأمريكيَّة والإسرائيليَّة.
مسؤوليَّةُ العهْدِ الجديد
أمَّا على المستوى اللّبنانيّ الدَّاخليّ، فإنَّنا نقدّر البيان الرّئاسيّ في عناوينه الكبيرة، وفي حركة استعادة الدَّولة لدورها المسؤول ضدَّ السَّارقين والمتلاعبين بثروة الشَّعب، والَّذين يعملون على إبقاء الاهتزاز السّياسيّ والواقع المعيشيّ الصَّعب في الأوساط الشَّعبيَّة.
إنَّنا نتفاءل بهذا المنطق الجديد الَّذي نرجو أن يأخذ طريقه إلى التَّنفيذ، لتحقيق الآمال الشَّعبيَّة بالعهد الجديد، لأنَّ الشَّعب اللّبنانيّ قد سمع الكثير من الكلمات، وهو ينتظر الكثير من الأفعال.
ونؤكّد ضرورة احتضان السّلطة للمقاومين المجاهدين الَّذين استطاعوا أن يحوّلوا الاحتلال إلى مأزق أمنيّ ضاغطٍ على كلّ وجوده العسكريّ، وإلى مأزقٍ سياسيّ في داخلِ فلسطين، ما جعل العدوَّ يصرخ من أجل الانسحاب من لبنان.
وإنَّنا في هذا المجال، نقدّر للمجاهدين في المقاومة الإسلاميَّة، العمليَّات الموفَّقة المتلاحقة الَّتي هزَّت كيان العدوّ، وأحدثت ارتباكاً في مواقف مسؤوليه وتصريحاتهم، بين التَّهديدات، والحديث عن مشروع الانسحاب من طرفٍ واحد، وهذا ما يضاعف الرّهان على المقاومة ودورها في استكمال عمليَّة التَّحرير، ويفرض على الجميع دعمها بلا حدود.
وأخيراً، إنَّنا ندعو الجميع إلى عدم الشّعور بالاسترخاء، لأنَّ العدوَّ لا يزالُ يكيدُ للواقع اللّبنانيّ الدَّاخليّ المقبل على تغييرات إيجابيَّة، ولا سيَّما أنَّ مسؤوليه صرَّحوا بعدم ترحيبهم بالعهد الجديد، لأنَّهم يخافون من عقيدته الرَّافضة للاحتلال بكلّ قوّة، والمؤكّدة لوحدة المسارين اللّبنانيّ والسّوريّ، لأنَّ مصير البلدين واحد في جميع المجالات، وندعو اللّبنانيّين جميعاً إلى وحدة الموقف أمام التحدّيات الكبرى الَّتي تحيط بهم، لأنَّ ذلك هو السَّبيل للخروج من المشاكل الكثيرة في الدَّاخل والخارج على أكثر من صعيد.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 27/11/1998م.
لا نزال في أجواء الإسلام، نتعلَّم من كتاب الله ومن سنَّة رسوله (ص)، ومن كلمات الأئمَّة من أهل البيت (ع)، الكثيرَ الكثيرَ مما يركّز الإسلام في عقائده في عقولنا، ويحرّكه في شريعته في حياتنا، لنكون مسلمين كما يريد الله لنا أن نكون؛ نتحرَّك في محبَّته من خلال الإيمان به، ونتحرَّك في طاعته من خلال شريعته.
الأمينُ على الإسلام
وقد كان عليّ (ع) الإنسانَ الأوَّل الَّذي عاش الإسلامَ مع رسول الله (ص) في روحانيَّته قبل أن يبعث النَّبيّ بالرّسالة، فانطبعت شخصيَّة النَّبيّ (ص) في كلّ شخصيَّة عليّ (ع) ووجدانه، وكان مع النَّبيّ بعد الرّسالة في بيته، يعيش معه ليله ونهاره، فيرى ما يرى، ويسمع ما يسمع، ويتحاور معه، ويستمع إليه. فلذلك، أخذ عليّ (ع) كلَّ ما عند النَّبيّ (ص) فيما عرَّفه الله، وفيما أوحي به إليه، وما أوكله به في سنَّته، وهكذا انطلقت كلمة رسول الله (ص): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، وقال عليّ (ع): "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ أَلْفَ بَابٍ مِنَ العِلْمِ، يَفْتَحُ كُلُّ بَابٍ أَلْفَ بَابٍ".
ومن هنا، أيُّها الأحبَّة، فإنَّنا نحبّ عليّاً (ع) ونتولَّاه، لأنَّه كان هو الأمينَ على الإسلام، وكان هو الإنسانَ الَّذي باعَ نفسَه لله، فكان أخَا رسول الله بالرّوح وبالعمل، وكان وصيَّه، وكان وارثَ علمِهِ، وكانَ السَّائرَ إلى الحقّ في كلّ حياته.
ونحن نريد أن نعيشَ مع عليّ (ع)، حتَّى لو أنَّه غائبٌ عنّا بجسده، نريد أن نستمع إليه، كما استمع إليه الكثيرون ممن كانوا معه، فعمل بعضٌ بما سمع، ولم يعمل بعض آخر به، ونرجو أن نكون من العاملين بما تحدَّث به عليّ (ع) حتَّى كأنَّه بيننا، لنُشهد الله على أنَّ ولايتنا له ليست ولايةً اسميَّة، ولكنَّها ولايةٌ فكريَّة وعمليَّة وحركيَّة، نفكّر كما يفكّر، ونعمل كما يعمل، ونتحرَّك من حيث تحرَّك.
تعالوا إلى عليّ (ع) في بعض ما كان يوصي به أصحابه.
أهميَّة الصَّلاة
يقول (ع): "تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلَاةِ وحَافِظُوا عَلَيْهَا، واسْتَكْثِرُوا مِنْهَا، وتَقَرَّبُوا بِهَا، فَإِنَّهَا {كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً}[النّساء: 103]! أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِينَ سُئِلُوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}"[المدّثّر: 42 - 43].
لقد أراد عليّ (ع) منّا أن نتعاهد أمر الصَّلاة، بحيث نعتبرها عنصراً أساسيّاً في علاقتنا بالله سبحانه وتعالى وفي إخلاصنا له، لأنَّنا، أيُّها الأحبَّة، في كلّ حياتنا الَّتي تكثر فيها الاهتزازات، وتتنوَّع فيها الشُّبهات والإشكالات والتَّعقيدات والخلافات الَّتي يمكن أن تبعدنا عن الله سبحانه وتعالى، إنَّنا في كلّ ذلك، نحتاج أن نعيش مع الله، وأن نشهده على إيماننا، وعلى تعظيمنا له، وعلى محبَّتنا له، وعلى شكرنا له، والصَّلاة هي الَّتي تحقّق لنا ذلك.
ولذلك، علينا أن لا نستهين بالصَّلاة، أن لا نؤخّرها عن وقتها، أن لا نجعلها على هامش حياتنا، أن نهتمَّ بها كما نهتمُّ بأعمالنا؛ هل يفكّر أحد أن يتهاون في عمله الَّذي منه معيشته؟ إنَّنا لا نفعل ذلك، ولكنَّ بعضاً منَّا يتهاون في صلاته، فلا يصلّيها في وقتها، ولا يحافظ عليها، لأنّها مجرَّد عادة اعتادها، أو وضع تقليديّ ألفه، ولذلك، فهو يؤخّر صلاته لحساب أيّ شغل آخر، حتَّى لو كان هذا الشّغل لا أهميَّة له، ليقضيها فيما بعد أو لا يقضيها.
إنَّ الإمام (ع) يقول: "تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلَاةِ وحَافِظُوا عَلَيْهَا - {الَّذينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون: 2] - واسْتَكْثِرُوا مِنْهَا - حاولوا أن تكثروا من صلاتكم، فلا تقتصروا على الفرائض الواجبة، بل حاولوا أن تأتوا بالمستحبّات أيضاً - وتَقَرَّبُوا بِهَا - لأنَّها "مِعْرَاجُ المُؤْمِنِ إِلَى اللَّهِ"، ولأنّه "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ" - فَإِنَّهَا {كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً}، أي فريضة لها أوقات معيَّنة.
علاقَةُ الصَّلاةِ بالمصير
ثمَّ يحاول الإمام (ع) أن يثير أمامنا علاقة الصَّلاة بالمصير في الدّنيا والآخرة، فيقول (ع): - أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِينَ سُئِلُوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} - فالإنسان الَّذي لا يصلّي، أو الّذي يترك صلاته ويتهاون بها، هو الَّذي سيكون مصيره وادي سقر في جهنَّم.
فإذا كانَت لكم عاطفة على أولادكم وبناتكم وأزواجكم وأهلكم، فعليكم أن تبادروا إلى أن تجعلوهم يقيمون الصَّلاة، وإلَّا كان مصيرهم كما ذكرت الآية.
ثمَّ يقول الإمام (ع) في إيجابيَّات الصَّلاة: - وإِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ الْوَرَقِ - فكما تتساقط الأوراق في الخريف، كذلك الصَّلاة تُسقِطُ الذّنوب - وتُطْلِقُهَا إِطْلَاقَ الرِّبَقِ"، يعني تجعلها تغيب.
"وشَبَّهَهَا رَسُولُ اللَّه (ص) بِالْحَمَّى تَكُونُ عَلَى بَابِ الرَّجُلِ، فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ واللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْه مِنَ الدَّرَنِ؟! – فلو فرضنا أنَّ إنساناً عنده عين ماء أمام بيته، يغتسل منها صباحاً وظهراً وفي المغرب والعشاء، فهل يبقى عليه شيء من الدَّرن والوسخ؟! من المؤكَّد أنَّه لا يبقى شيء من ذلك، وكذلك الَّذي يصلّي الصَّلوات الخمس، فإنَّه لا يبقى عليه شيء من الذّنوب.
وقد جاء في تفسير قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود: 114]، وفسّرت الحسنات بأنّها الصَّلاة، فإذا صلَّى الإنسان الصَّلاة بشروطها وخشوعها، وبجميع ما يعتبر فيها، فإنَّ هذه الصَّلاة تُسقِط عنه كلَّ الذّنوب الّتي سبقتها.
- وقَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا تَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِينَةُ مَتَاعٍ ولَا قُرَّةُ عَيْنٍ مِنْ وَلَدٍ ولَا مَالٍ – يقول (ع) إنَّ الَّذين يعرفون حقَّ الصَّلاة وقيمتها وعلاقتها بالقرب من الله وبالنَّجاة في المصير، يقبلون عليها، ويجعلونها همّهم وشغلهم، فلا يشغلهم عنها زينة متاعٍ في الدّنيا، ولا مال ولا ولد، لأنَّها تمثّل الأساس الَّذي يتقرَّبون به إلى الله سبحانه وتعالى.
ويستشهد الإمام (ع) على هذه الفكرة، فيقول - يَقُولُ اللَّه سُبْحَانَه: {رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وإِقامِ الصَّلاةِ وإِيتاءِ الزَّكاةِ}"[النّور: 37] - فلا شيء يلهيهم عن إقامة الصَّلاة، لا بيع ولا تجارة ولا أيّ شيء آخر، بل إنّهم يصلّون ويحافظون على صلواتهم، لتكون تجارتهم تجارة أمانة وصدق وخير، وليكون بيعهم بيعاً لا غشَّ فيه ولا ظلم.
صلاةُ الرَّسول (ص)
ثمَّ يتحدَّث الإمام (ع) عن صلاة رسول الله (ص)، فيقول: "وكَانَ رَسُولُ اللَّه (ص) نَصِباً بِالصَّلَاةِ - يتعب نفسه بها - بَعْدَ التَّبْشِيرِ لَه بِالْجَنَّةِ - فقد بشَّر الله رسوله بالجنَّة، وقال له إنَّك سائر إلى الجنَّة حتماً، ومع ذلك، كان يتعب نفسه بالصَّلاة - لِقَوْلِ اللَّه سُبْحَانَهُ: {وأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها}[طه: 132]، فَكَانَ يَأْمُرُ بِهَا أَهْلَه ويَصْبِرُ عَلَيْهَا نَفْسَه".
وهذا النّداء ليس موجَّهاً إلى رسول الله (ص)، لأنَّه لا يحتاج إلى وصيَّة، وهو صاحب الرّسالة، ولكنَّه موجَّه إلى كلّ مسلم ومسلمة. فعلينا جميعاً أن نأمر أهلنا وأولادنا بالصَّلاة بكلّ الوسائل الَّتي تفتح عقولهم وقلوبهم عليها. وقد ورد في بعض الأحاديث أنَّ رسول الله (ص) سئل: لماذا تجهد نفسك بالصَّلاة وقد بشَّرك الله بالجنَّة؟ قال: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدَاً شَكُوراً". فقد أنعم الله عليَّ بكلّ النّعم، وبالنّبوَّة الَّتي لا مرتبة أعلى منها، أفلا يستحقّ منّي أن أشكره؟! إنَّ الصَّلاة هي فعل شكر من العبد لربّه.
ولذلك، أيُّها الأحبَّة، نحن نحتاج من خلال وصيَّة الله ورسوله، ومن خلال موعظة عليّ (ع)، إلى أن نعيش هذا الاهتمام بالصَّلاة، أن يثقل علينا أمر بناتنا وأولادنا وأهلنا إذا لم يصلّوا، تماماً كما لو كانت هناك مصيبة تحلّ بهم، فلو كانت هناك مصيبة تحلّ بولدك أو زوجتك أو أبيك أو أمّك أو أهلك، ألا يشغل ذلك كلَّ همّك؟! إنَّ ترك الصَّلاة هي من أعظم المصائب، لأنَّها تقود الإنسان إلى جهنَّم. وكيف تسمح لك عاطفتك ومشاعرك بأن يصير أهلك إلى النَّار وأنت تنظر إليهم؟! "الصَّلاةُ عمودُ الدِّينِ، إنْ قُبِلَتْ قُبِلَ ما سِوَاهَا، وإنْ رُدَّتْ رُدَّ ما سِوَاهَا".
الزّكاة وقايةٌ من النَّار
ثمَّ يتحدَّث الإمام عن فريضة أخرى، وهي فريضة الزّكاة. يقول (ع): "ثُمَّ إِنَّ الزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّلَاةِ قُرْبَاناً لأَهْلِ الإِسْلَامِ - ولذلك قرن القرآنُ الزكاة بالصَّلاة في الكثير من الآيات {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: 43]. والزكاة تشمل كلَّ الحقوق الشَّرعيَّة الَّتي فرضها الله على الإنسان - فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا – بمعنى أعطاها برضا منه وبطيب خاطر، باعتبار أنَّ الله هو الَّذي رزقه هذا المال، وأنَّ هذا المال هو مال الله، وهو الَّذي كلّفه الإنفاق منه {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذي آتَاكُمْ}[النّور: 33]، {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[الحديد: 7]، {مَّثَلُ الَّذينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 261]، فمن يعطيها عن طيب نفس - فَإِنَّهَا تُجْعَلُ لَه كَفَّارَةً – من الذّنوب - ومِنَ النَّارِ حِجَازاً ووِقَايَةً - بحيث تكون الزّكاة هي الَّتي تحجزه عن النَّار وتقيه منها - فَلَا يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَه، ولَا يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهَفَه - بعض النَّاس يدفع الزكاة والخمس وعينه فيما دفع، فهو لا يدفعها بطمأنينة وراحة، بل يدفعها ولهفته وحسرته على ما أعطى - فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا غَيْرَ طَيِّبِ النَّفْسِ بِهَا، يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ، مَغْبُونُ الأَجْرِ - لن يحصل على أجر كبير - ضَالُّ الْعَمَلِ، طَوِيلُ النَّدَمِ"، فالإنسان الّذي يعطي الزّكاة عن طيب نفس، يحصل على نتائج كبيرة عند الله تعالى، وإذا أعطاها من غير طيب نفس، فقدَ الكثيرَ من الأجر في ذلك.
ونحن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ مسألة الضَّرائب الإسلاميَّة هي من المسائل الَّتي جعلها الإسلام احتياطاً للمحتاجين في المجتمع، ممن لا يملكون فرصة العيش الكريم: "إِنَّ اللَّـهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ لِلْفُقَرَاءِ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ مِمَّا يَكْتَفُونَ بِهِ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّـهُ أَنَّ الَّذِي فَرَضَ لَهُمْ لَمْ يَكْفِهِمْ لَزَادَهُمْ". وقد جاء في كلام عليّ (ع): "مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ"، باعتبار أنَّه يحجب عن الفقير حقَّه.
مسؤوليَّةُ أداءِ الأمانة
"ثُمَّ أَدَاءَ الأَمَانَةِ - والأمانة لا تقتصر على الودائع الَّتي يودعها النَّاس عندك، بل تمتدُّ إلى كلّ عمل تحمل أمانته، عندما تكون عاملاً في مخزن أو في مصنع، أو موظّفاً في دائرة، بحيث تُحمَّل مسؤوليَّة هذا العمل الَّذي استُأْجِرْتَ عليه، وهكذا المسؤوليَّات العامَّة هي أمانة الله فيما كلَّفنا به من الأعمال - فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا - فالإنسان الَّذي لا يكون من أهل الأمانة، بل من أهل الخيانة، هو من الخائبين عند الله.
ومن أهميَّتها - إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ الْمَبْنِيَّةِ، والأَرَضِينَ الْمَدْحُوَّةِ، والْجِبَالِ ذَاتِ الطُّولِ الْمَنْصُوبَةِ، فَلَا أَطْوَلَ ولَا أَعْرَضَ ولَا أَعْلَى ولَا أَعْظَمَ مِنْهَا، ولَوِ امْتَنَعَ شَيْءٌ بِطُولٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ قُوَّةٍ أَوْ عِزٍّ لَامْتَنَعْنَ، ولَكِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وعَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُنَّ، وهُوَ الإِنْسَانُ {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا}"[الأحزاب: 72].
كأنَّ الله سبحانه وتعالى قال للسَّماوات والأرض والجبال: هل تتحمَّلن مسؤوليَّة وجودكنَّ في كلّ ما يتَّصل بهذا الوجود، بحيث تخترنَّ هذه المسؤوليَّات لتحاسبن عليها؟ فلم يقبلن بتحمّل هذه المسؤوليّة {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصّلت: 11]، وتركن الأمر لله، ولكنَّ الإنسان تحمَّلها، ولم يقم بما يجب عليه منها {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا}.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ الله سبحانه وتعالى خلقنا، وجعل لكلّ واحد منَّا مسؤوليَّة ودوراً في هذا الوجود، وجعله أمانة عندنا، ويريد لنا أن نقف غداً بين يديه ليسألنا عن كلّ الأمانات الَّتي حمَّلنا مسؤوليَّتها؛ أمانة الإنسان عن نفسه، وعن عياله، وعن النَّاس من حوله، وعن الحياة كلّها، وعن كلّ ما كلَّفه الله سبحانه وتعالى من مسؤوليَّات، وعلى كلّ واحد منّا أن يقدّم حسابه {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88 - 89].
مراقبةُ الله للعباد
ويتابع الإمام (ع): "إِنَّ اللَّه سُبْحَانَه وتَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْه مَا الْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ - فالله عالم بكلّ ما يعمله العباد - فِي لَيْلِهِمْ ونَهَارِهِمْ، لَطُفَ بِه خُبْراً – {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك: 11] - وأَحَاطَ بِه عِلْماً، أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُه - {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يس: 65] - وجَوَارِحُكُمْ جُنُودُه - كلّ أعضائكم هذه هي جنود الله - وضَمَائِرُكُمْ عُيُونُه – فكلّ سرائركم وضمائركم هي العيون الَّتي تراقبكم وتقدّم تقريرها إلى الله - وخَلَوَاتُكُمْ عِيَانُه"، عندما تخلون إلى أنفسكم، وتعيشون وحدكم، وتشعرون بالأمن {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ}"[المجادلة: 7].
أيُّها الأحبَّة، هذه هي وصيَّة عليّ (ع) تحدَّث بها مع أصحابه، ومع الزَّمن الطَّويل نحن أصحابه، وعلينا أن ننفّذ وصيَّته (ع)، وهو الَّذي لا يوصينا إلَّا بما يوصينا به الله ورسوله، وبما ينفعنا في الدّنيا والآخرة، فاستوصوا بذلك خيراً.
الخطبة الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا لله سبحانه وتعالى فيما حمَّلكم من مسؤوليَّة عن أنفسكم وأهليكم، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التّحريم: 6]، وحمَّلكم مسؤوليَّة كلّ ما تستطيعون القيام به من أمورِ النَّاس من حولكم وأمور الحياة، وكلّ ما يتعلَّق بالمسلمين في عزَّتهم وكرامتهم وحريّتهم، وفي حركة العدل في حياتهم، فقد قال رسول الله (ص): "كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّ رَاعٍ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". وعلينا أن نقدّم حسابنا غداً أمام الله في كلّ ما حمَّلنا من هذه المسؤوليَّات الخاصَّة والعامَّة، وأن لا نسترخي فيها ونبتعد عنها، بل أن نحملها بكلّ ما نملك من طاقة.
ومن الطَّبيعيّ أن نتحمَّل مسؤوليَّاتنا تجاه ما يحيط بنا في أمَّتنا من التَّحدّيات الَّتي تترك تأثيرها على حاضرنا ومستقبلنا، في قضايا الحريَّة وفي قضايا العدالة.
ونحن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ وجود إسرائيل في هذه المنطقة، أربك كلَّ ماضي المنطقة، وجعلها تتحرَّك من حربٍ إلى حربٍ، ومن مشكلةٍ إلى مشكلة، وجعلها تعيش الضّعف في اقتصادها وسياستها واجتماعها، كما أنَّها تتحرَّك في المستقبل من أجل إرباك كلّ أوضاعنا، ومن أجل إسقاط كلّ عنفواننا ومصالحنا.
ولذلك، لا بدَّ لنا أن نراقب هذا العدوّ الَّذي كان عدوّاً للإسلام والمسلمين {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذينَ أَشْرَكُوا}[المائدة: 82]، {وَالَّذينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ}[الرّعد: 25]، {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ}[آل عمران: 21]، لا بدَّ لنا أن نبقى في مراقبة لهم، أن لا نسترخي أمام وجودهم وتمدّدهم، أن لا نطبّع علاقتنا بهم، أن لا نعمل على تقويتهم بشراء بضاعتهم وبالتَّعاون معهم، ولا سيَّما الَّذين يعملون من أجل أن يتجسَّسوا للعدوّ على أهلهم، فإنَّ ذلك يمثّل الخيانة الكبرى، لأنَّه يمكّن العدوَّ من أهلهم ليضعفهم ويسقطهم ويبتزّهم، وليأخذ كلَّ خيراتهم.
لذلك، لا بدَّ لنا أن نراقب ذلك كلَّه، وأن يتَّخذ كلّ واحد منَّا موقفه أمام هذا المنكر الكبير، وقد جاء عن رسول الله (ص): "مَن رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ".
تعالوا لنراقب كيف يعمل هذا العدوّ في واقعنا بكلّ ألاعيبه، وبكلّ تحالفاته مع الشَّيطان الأكبر أمريكا الَّتي أعطت العدوَّ كلَّ القوَّة، وعملت على أن تعطي العرب والمسلمين كلَّ عناصر الضّعف.
خداعٌ صهيونيٌّ للفلسطينييّن
في المسألة الفلسطينيَّة، في الأسبوع الماضي، ملاحظتان؛ الأولى: افتتاح مطار غزَّة الَّذي صفَّق له الفلسطينيّون، واعتبروه بدايةً لمشروع الدَّولة، في الوقت الَّذي صرَّح مسؤول صهيونيّ بأنَّ هذا حكم ذاتيّ وليس دولة، وأنَّ تفتيش الطَّائرات يخضع للأمن الإسرائيليّ، كإشارة إلى أنَّ شيئاً لم يتغيَّر في موضوع السّيادة، حتَّى في المناطق الَّتي تسمَّى مناطق محرَّرة.
الملاحظة الثَّانية: تصريح وزير خارجيَّة العدوّ، ومن الأردن، بأنَّ أقصى ما يمكن أن تسلّمه إسرائيل إلى سلطة الحكم الذّاتيّ قبل المفاوضات النّهائيَّة هو 48% من أراضي الضفَّة الغربيَّة، وبقاء 52 % تحت سلطة إسرائيليَّة، واعتبار هذه المناطق مناطق أمنيَّة، وتأجيل المفاوضات حول القدس وحدود الكيان الفلسطيني واللَّاجئين إلى ما لا نهاية، مع دعوة المستوطنين قبل ذلك للشّروع في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينيَّة، لأنَّ ما يستولون عليه هو ما يبقى لهم، وإعلانه أنَّه يرفض إطلاق سراح أيّ فلسطينيّ تلطّخت يداه بدم يهوديّ، على حسب قوله، بينما لا يجرؤ الفلسطينيّون على المطالبة بمعاقبة مَنْ يقتل أولادهم يوميّاً، ومن كسَّر عظامهم، لأنَّ هذه هي شرعة الغالب والمغلوب.
والسّؤال: ما موقف أمريكا من ذلك كلّه؟ وما معنى اتّفاق "واي ريفر"، إذا كان اليهود سينسحبون من 13% ليصادروا الآن 10%، كما هو قرار حكومة العدوّ؟ وهل إنَّ هذا التَّصرّف يمثّل السَّلام، أو أنَّه يمثّل إيجاد ظروفٍ لحربٍ جديدة؟!
إنَّنا نريد للفلسطينيّين أن لا يخدعوا كما يخدع الأطفال بالألعاب الَّتي تقدَّم إليهم، أن يعرفوا طبيعة هذا الاتّفاق، وأنَّه إذا أعطاهم بعض الأرض، فإنَّه يريد منهم أن يعترفوا له بالأرض الَّتي أخذها، وأنَّ الأرض الَّتي يعطيهم إيَّاها، سوف تتحوَّل إلى سجن تحيط به المستوطنات من كلّ جانب، بحيث لا يملك أيّ فلسطينيّ أن يتحرَّك بحريَّة، ولا أن يدافع عن نفسه، لأنَّ المستوطنين مسلَّحون، ومعهم الجيش الصّهيونيّ، أمَّا الفلسطينيّون، فيمنع عنهم السّلاح من خلال إسرائيل، ومن خلال السّلطة الفلسطينيَّة، ولا يملكون حتَّى الدّفاع عن أنفسهم.
اللّعبةُ الأمريكيَّةُ في العراق
وفي موازاة ذلك، لا بدَّ من مراقبة الحركة الأمريكيَّة في المنطقة، ففي الموضوع العراقيّ، نتساءل: هل إنَّ أمريكا تعمل من أجل معارضة عراقيَّة قويَّة كبديل من النّظام، أو أنَّها تحاول إشغال الواقع السّياسيّ بصراعٍ جديدٍ في داخل المعارضة لإحداث انقسامات بين أطرافها، لتتفاقم الأزمة العراقيَّة داخليّاً وخارجيّاً، بما يؤمّن للمشروع الأمريكيّ في المنطقة الفرصةَ الأكبر للاستمرار وللتَّلاعب بدول المنطقة، ولا سيَّما دول الخليج، وفق خريطة مصالحها الاقتصاديَّة والسياسيَّة والأمنيَّة، في الوقت الَّذي ترقص أمريكا على آلام الشَّعب العراقيّ في الحصار المفروض عليه ظلماً وعدواناً، باسم العمل على إسقاط النّظام الَّذي نعرف جميعاً أنَّ أمريكا لا تفكّر في إسقاطه جدّيّاً؟! لذلك، إنَّنا نحذّر المعارضة العراقيَّة من اللُّعبة الأمريكيَّة الجديدة القديمة.
ضغطٌ أمريكيٌّ على لبنان
وفي الجانب الآخر، نتساءل عن زيارات الموفدين الأمريكيّين على مستوى عالٍ إلى لبنان، فهل هناك سياسة لدعم لبنان، كما يقولون، أو أنَّ هناك استمراراً للسياسة الأمريكيَّة لإرباك الأوضاع السّياسيَّة في لبنان، من أجل المزيدِ من السَّيطرة عليه، والتَّحرُّك على أساس التَّلاعبِ بأكثر من واقع إقليميّ في حركة الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، والضَّغط بطريقةٍ وبأخرى على المقاومة لتطويقها، لحسابِ إزالةِ الألغامِ من اتّفاقيَّة "واي ريفر".
إنَّنا ندعو الجميع إلى مراقبة خلفيَّات هذه السّياسة الأمريكيَّة، ونحن نعلم أنَّ الحرب اللُّبنانيَّة بكلّ مآسيها، وبكلّ أوضاعها القاسية، كانت من تخطيطٍ أمريكيّ قام به وزير الخارجيَّة الأمريكيَّة الأسبق، هنري كيسنجر، فإنَّ كلَّ ما حدث في لبنان من هذه الحروب الَّتي دمَّرت البلد أرضاً وشعباً، هو من تخطيط السياسة الأمريكيَّة. ولذلك، فإنَّنا نتشاءم من أيّ نوع من أنواع الانفتاح الأمريكيّ على لبنان، لأنَّنا لم نجدَ من هذا الانفتاح في الماضي أيَّ خير، بل وجدنا الشّرّ كلَّه، والجريمة كلَّها.
الاتّفاقُ الرّوسيُّ الإيرانيّ
وإلى جانب ذلك، فقد عقدت روسيا مع إيران اتّفاقاً لبناء محطَّة نوويَّة في الجمهوريَّة الإسلاميَّة للأغراض السّلميَّة، وذكر وزير الطَّاقة الرُّوسيّ أنَّ هذا التَّعاون لا ينطوي على أيّ ناحية عسكريَّة، واعتبر أنَّ إيرانَ عضوٌ مثاليّ في الأسرة النَّوويَّة، ولم نجد أيَّ ناحية عسكريَّة في برنامجها العسكريّ، كما يقول، وانتقد الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة متسائلاً: لماذا تُستبعَدُ إيران عن سائر الأمم؟! إنَّ اتّباع الولايات المتَّحدة سياسة الكيل بمكيالين قد يعيدنا إلى زمن الحرب.
وقد لاحظنا أنَّ أمريكا وإسرائيل احتجَّتا على ذلك، لأنَّهما لا تريدان لإيران أن تقوم بعمليَّة صنع للقوَّة للاستفادة من الخبرة النَّوويَّة لاقتصادها في الدَّاخل من أجل مشاريعها السّلميَّة، في الوقت الَّذي نجد أنَّ إسرائيل تملك أكثر من 200 رأس نوويّ، وبمعرفة أمريكا والعالم، ولكنَّ أمريكا لا تقدّم أيَّ احتجاج، بل هي ترعى ذلك وتقوّيه، أمَّا إذا انطلقت إيران أو أيّ دولة من دول العالم من أجل أن تقوّي اقتصادها، فإنَّها تثير المشاكل ضدَّها.
إنَّ علينا أن نعرف طبيعة السّياسة الأمريكيَّة الَّتي تريد أن تكون هي الأقوى في العالم، باعتبار أنَّها قيادة العالم، وتريد أن تكون إسرائيل هي الأقوى في المنطقة، لتكون كلّ دول المنطقة في حالة الضّعف لا في حالة القوَّة. ولكنَّنا نعتقد أنَّ الله سبحانه وتعالى كما نصر الجمهوريَّة الإسلاميَّة في البداية، فإنَّه سينصرها على كلّ ألاعيب السّياسة الأمريكيَّة والإسرائيليَّة.
مسؤوليَّةُ العهْدِ الجديد
أمَّا على المستوى اللّبنانيّ الدَّاخليّ، فإنَّنا نقدّر البيان الرّئاسيّ في عناوينه الكبيرة، وفي حركة استعادة الدَّولة لدورها المسؤول ضدَّ السَّارقين والمتلاعبين بثروة الشَّعب، والَّذين يعملون على إبقاء الاهتزاز السّياسيّ والواقع المعيشيّ الصَّعب في الأوساط الشَّعبيَّة.
إنَّنا نتفاءل بهذا المنطق الجديد الَّذي نرجو أن يأخذ طريقه إلى التَّنفيذ، لتحقيق الآمال الشَّعبيَّة بالعهد الجديد، لأنَّ الشَّعب اللّبنانيّ قد سمع الكثير من الكلمات، وهو ينتظر الكثير من الأفعال.
ونؤكّد ضرورة احتضان السّلطة للمقاومين المجاهدين الَّذين استطاعوا أن يحوّلوا الاحتلال إلى مأزق أمنيّ ضاغطٍ على كلّ وجوده العسكريّ، وإلى مأزقٍ سياسيّ في داخلِ فلسطين، ما جعل العدوَّ يصرخ من أجل الانسحاب من لبنان.
وإنَّنا في هذا المجال، نقدّر للمجاهدين في المقاومة الإسلاميَّة، العمليَّات الموفَّقة المتلاحقة الَّتي هزَّت كيان العدوّ، وأحدثت ارتباكاً في مواقف مسؤوليه وتصريحاتهم، بين التَّهديدات، والحديث عن مشروع الانسحاب من طرفٍ واحد، وهذا ما يضاعف الرّهان على المقاومة ودورها في استكمال عمليَّة التَّحرير، ويفرض على الجميع دعمها بلا حدود.
وأخيراً، إنَّنا ندعو الجميع إلى عدم الشّعور بالاسترخاء، لأنَّ العدوَّ لا يزالُ يكيدُ للواقع اللّبنانيّ الدَّاخليّ المقبل على تغييرات إيجابيَّة، ولا سيَّما أنَّ مسؤوليه صرَّحوا بعدم ترحيبهم بالعهد الجديد، لأنَّهم يخافون من عقيدته الرَّافضة للاحتلال بكلّ قوّة، والمؤكّدة لوحدة المسارين اللّبنانيّ والسّوريّ، لأنَّ مصير البلدين واحد في جميع المجالات، وندعو اللّبنانيّين جميعاً إلى وحدة الموقف أمام التحدّيات الكبرى الَّتي تحيط بهم، لأنَّ ذلك هو السَّبيل للخروج من المشاكل الكثيرة في الدَّاخل والخارج على أكثر من صعيد.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 27/11/1998م.