ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الخطبة الأولى
الالتزام الفكريّ والعملي بالإسلام
الإسلام دين الرّسالات
إنّ الإسلام الّذي جاء به الرّسول محمد(ص) بوحيٍ من الله، هو الدين الذي يشمل كل ما جاءت به رسالات الأنبياء، وهذا ما خاطب الله به النبيَّ إبراهيم(ع): {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ}(البقرة:131)، وقد قال الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ}(الحج:78).
فالإسلام يعني أن يكون الإنسان بكلِّه لله، وأن يشعر بأنّه عبدٌ له، فلا يتحرّك في حياته إلاّ من خلال الإيمان بتوحيده في العقيدة، فالله هو الإله الواحد الذي لا شريك له ولا عديل:{اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}(الأعراف:59)، وبتوحيده في الطاعة؛ بأن يطيعه في كلّ ما أمره به ونهاه عنه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}(آل عمران:31).شرك الطّاعة
وعلى هذا الأساس، فالإسلام ليس مجرَّد عقيدة يحملها الإنسان ثم يأخذ حريته في الانتماء إلى غير الله، لأن الشرك ليس فقط في أن تعبد الآخرين بالطريقة التي تعبد بها الله، بل هو أيضاً أن تطيع الآخرين وتخضع لهم في معصية الله، فقد يكتشف الإنسان أنّه مشركٌ شركاً خفيّاً بخضوعه لغير الله، سواء كان هذا الشخص الّذي يخضع له ممّن يملك السلطة السياسية أو السّلطة المالية، ونحن نعتقد أنّ تعصّب الإنسان لشخص معين، هو نوع من أنواع الشرك، ولذا نقرأ في دعاء الإمام زين العابدين(ع): "اللهمّ إني أخلصت بانقطاعي إليك، وأقبلت بكلِّي عليك، وصرفت وجهي عمَّن يحتاج إلى رفدك، وقلبت مسألتي عمَّن لم يستغنِ عن فضلك، ورأيت أن طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه، وضلّة من عقله.فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العزّ بغيرك فذلّوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتّضعوا، فصحَّ بمعاينة أمثالهم حازم وفَّقه اعتباره، وأرشده إلى طريق صوابه اختياره. فأنت يا مولاي دون كل مسؤول موضع مسألتي، ودون كلِّ مطلوب إليه وليّ حاجتي".
رسالة التّوحيد
هذا هو الخطّ التوحيدي الذي كان النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) يبشّرون به. وللأسف، فإنّ بعض المذاهب الإسلاميّة المتطرّفة، تتّهم أتباع أهل البيت(ع) بالشّرك، ولكنّنا نلتزم محبّة أهل البيت(ع) وولايتهم على أساس أنّهم عباد الله، ولذلك فإنّنا نقول في التشهّد: "وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله"، ونشهد أن كل إمام هو عبدٌ لله وإمامٌ من قبله، ونحن عندما نطلب حاجاتنا، فإنّنا لا نطلبها من الأئمة(ع)، لأنهم(ع) هم أنفسهم يطلبون من الله سبحانه، ونحن نقرأ في دعاء أمير المؤمنين(ع): "وأستشفع بك إلى نفسك". فالأنبياء والأئمة(ع) إنّما قُرّبوا من الله لجهة إخلاصهم له وعبوديتهم له. وأفضل نصّ لموضوع الشفاعة نجده في دعاء يوم الخميس المنسوب إلى الإمام زين العابدين(ع): "واجعلتوسّلي به ـ بالنبي(ص) ـ شافعاً يوم القيامة نافعاً".
فلنتعلّم عندما نقوم ونقعد ونتحرّك أن نقول: "يا الله"، لأنّه حتّى الأنبياء كانوا يطلبون من الله، وهذا ما دعا به النبي نوح: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}(القمر:10)، وما ناجى به موسى(ع) ربه:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}(القصص:24).
التّوحيد العمليّ
فالإسلام يعني التوحيد الخالص لله في العقيدة والعبادة والطاعة. وقد ورد في بعض الأحاديث عن الذين يظلّهم الله بظلّه يوم القيامة: "رجل لم يقدّم رجلاً حتى يعلم أن ذلك لله رضا"، وورد عن الدّنيا: "واعلم أنّ في حلالها حساباً، وفي حرامها عقاباً، وفي الشّبهات عتاباً". فلا تفكر في أن يرضى فلان أو فلان، لأنّه سيموت ويُحاسب كما ستموت وتحاسب، وقد قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ـ لا أعيش، ولا أموت، ولا أحج، ولا أصلي لحساب أيّ شخص، بل أفعل كل ذلك لله ـ لَا شَرِيكَ لَهُ}(الأنعام:162-163).
ولذلك تحدّث الله تعالى عن العمل، فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ـ ليكن كلّ عملك متحركاً في طاعة الله ـ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(التوبة:105). وقال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ـ لأنَّ شرط قبول العمل الصالح هو أن يكون الإنسان مؤمناً، لأن الإنسان عندما يقف للحساب فسيسأل عن عمله الصالح لحساب من كان، ليأخذ نصيبه منه ـ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(النحل:97). وقال أيضاً: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}(القصص:67)...وفي كلمة للإمام عليّ(ع) يصف فيها حال الذي يمدح الخيّرين والصالحين، ولكنّه لا يتمتّع بصفاتهم ولا يعمل عملهم، يقول(ع): "لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل، ويُرجي التوبة بطول الأمل... يحبّ الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض المذنبين وهو أحدهم... يخاف على غيره بأدنى من ذنبه ـ ينهى فلاناً عن شرب الخمر، ولكنه قد يزني أو يأكل أموال الناس ـويرجو لنفسه بأكثر من عمله... يقصّر إذا عمل، ويبالغ إذا سأل... فهو بالقول مدلّ، ومن العمل مقلّ".
ويقول الإمام زين العابدين(ع): "إنَّ أحبَّكم إلى الله عزّ وجلّ أحسنكم عملاً ـ فالتّنافس لا ينبغي أن يكون في من هو أكثر مالاً وجاهاً، لأنَّ المال يزول والجاه يفنى، بل ينبغي أن يكون في الأعمال الحسنة لأنّها هي الّتي تبقى ـ وإن أعظمكم عند الله عملاً أعظمكم فيما عند الله رغبةً"، بعض الناس يقول: إنّي مسلم أو إنّي شيعي، والشيعي مهما عمل من سوء لا يدخل النار، ولكن الله تعالى يقول: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ـ ليس بأحلامكم وتمنّياتكم أنتم وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ـ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِوَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}(النساء:123)، فليس بين الله وبين أحد قرابة، فالقريب من الله هو من يعمل صالحاً، وقد قال النبي(ص) في آخر حياته: "أيُّها الناس، لا يتمنَّ متمنٍ، ولا يدّعِ مدّعٍ، أما إنه لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت".
العمل قرين الإنسان
وفي حديث لرسول الله(ص) يقسّم فيه الأصدقاء: "إنّ لأحدكم ثلاثة أخلاّء: منهم من يُمتّعه بما سأله فذلك ماله ـ المال صديق، وساعة تحتاجه يلبيك ـ ومنهم خليل ينطلق معه حتى يلج القبر ولا يعطيه شيئاً ولا يصحبه فأولئك قريبهـ أقرباؤك لا ينـزلون معك في قبرك ـ ومنهم خليل يقول: والله أنا ذاهب معك حيث ذهبت ولست مفارقك، فذلك عمله، إن كان خيراً وإن كان شرّاً". وعنه(ص): "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية ـ كأن يبني مسجداً أو حسينيةً أو مستشفى، والصدقة الجارية كالنهر الجاري الذي يستفيد منه كل الناس ـأو علم ينتفع بهمن بعده ـ يترك بعض الكتب التي تستفيد منها الأجيال من بعده ـ أو ولد صالح يدعو له". ونحن في الغالب نهتمّ بمستقبل أولادنا العملي والعلمي، وهذا مطلوب، ولكنّنا نهمل مستقبلهم الإيماني.
وهناك نوعان من العمل؛ عمل يستفيد منه الإنسان ولكن مسؤوليته تبقى، وعمل يتعب فيه ولكن أجره يبقى، يقول الإمام عليّ(ع): "شتّان بين عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره".
ويقول الله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(الجاثية:29). ويقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(الزَّلزلة:7-8). ويقول أيضاً: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}(آل عمران:30)، ويقول سبحانه:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}(الأنبياء:94).الإسلام هو إقرار بالجنان، واعتراف باللسان، وعمل بالأركان، فلنستعدّ ليوم لا مجال فيه إلاّ للعمل:{اليَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ اليَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ}(غافر:17).
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله
حكومة العدو: جولة جديدة من العنف والتهجير في القدس
في فلسطين المحتَّلة، يبدأ العدوّ جولةً جديدةً من جولات تهجير الفلسطينيين وتشتيتهم داخل فلسطين وخارجها؛ فمع حملات الهدم والاقتلاع والإبعاد المتواصلة التي تطاول الشعب الفلسطيني داخل القدس المحتلة، تتوالى عمليات الزحف الاستيطاني التي بدأت تأخذ زخماً إضافياً مع الحكومة اليمينية الجديدة، ويواصل الجدار العازل قضمه للأراضي الفلسطينية وعزلها، في ظل عمليات القتل المتعمَّد التي ترتكبها قوات الاحتلال في صفوف المتظاهرين رفضاً لهذا الجدار العنصري....
إن الهجمة الصهيونية الجديدة على الشعب الفلسطيني تحاول أن تلبس لبوس المرحلة، مدّعيةً أنها تتوافق مع الحركة الأميركية التي انطلقت مع إدارة أوباما، والتي حاولت أن توحي أنها ستسير في خطِّ التسوية لإقامة دولتين في فلسطين المحتلة، تماماً كما هي المسألة عندما أطلق بوش شعار الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، وهو الشعار الذي امتدّ إلى "أنابوليس"، ثم أكلته التطورات وهضمته الأحداث.
إنَّ على العرب الذين يُقبل بعضهم على زيارة كيان العدوّ ليفتح معه صفحةً جديدةً، ويرسل بعضهم الآخر رسائل من بعيد تشير إلى أنهم جاهزون لخطب ود الحكومة اليمينية المتطرفة، ويحلّ بعضهم الثالث ضيفاً على الرئيس الأميركي الذي طالب بمبادرات حسن نيّة لتبقى المبادرة العربية كورقة في مهبّ النقاش، ولينطلق العرب بعدها في مبادرات جديدة تأخذ في الاعتبار التوازنات الجديدة، وتراعي الوضع الإسرائيلي في الدَّاخل الذي يوحي بسحب الاعتراف بيهوديّة الدولة كشرطٍ للتفاوض، ولكنَّه يجزم بأنَّ المفاوضات ستبقى في مكانها إن لم يتقدّم العرب نحو التسليم بهذا المبدأ... إن على العرب أن يعرفوا أن ما تطلبه منهم الإدارة الأميركية لن يخرج عما تتطلّبه المصلحة الإسرائيلية، وأنها ستطلب منهم في المستقبل أن يكيّفوا أوضاعهم مع الحقائق الجديدة داخل كيان العدوّ، والتي ستستمر في الظهور ويتجدد معها الطلب الأميركي.
إنَّه لمن المريب حقاً أن تنطلق الصواريخ التي تحمل أقماراً اصطناعيةً تجسسيةً ـ التي تصنعها إسرائيل ـ من قلب القارة الهندية، وأن تنطلق الدول في علاقات تسلّحية معها، ليبرز العدوّ كحاجةٍ حتى للصين وروسيا، وليمدّ ذراعه العلميّة والأمنيّة إلى الدول الكبرى، بينما تنطلق بعض الدول العربية والإسلامية بما يشبه العقدة في الهجوم الإعلامي والسياسي على إيران، وفي وصفها بالخطر الداهم على العرب، في الوقت الذي لم يجد العرب من يدافع عن قضيّتهم ويحمل همومهم وهواجسهم في مواجهة إسرائيل إلا إيران، وقد تجلّى ذلك في مؤتمر مكافحة العنصرية في جنيف.
إيران: سياسة التزام القضية الفلسطينية
وقد لاحظنا في هذا المؤتمر كيف غابت عنه الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية الرئيسة لحساب إسرائيل، وخشية من أن تدينها قراراته بفعل سياستها العنصرية الحاقدة ضد العرب والفلسطينيين، وعدوانها المتنوّع في قتل الفلسطينيين واضطهادهم ومصادرة أراضيهم، والسيطرة على مياههم... وكيف انسحبت الدول الأوروبية الأخرى في أثناء مداخلة الرئيس نجاد، من دون أن يدفع ذلك الدول العربية إلى القيام بمبادرة ثناء أو تواصل مع هذه الخطوة الإسلامية الإيرانية المميّزة، والتي تؤكد أن الموقف الإسلامي الذي أراده الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) من مسألة فلسطين، لا يزال يمثل التزاماً ثابتاً في سياسة إيران تجاه العالم كله.
إن على العالم كلّه أن يدرك حجم الجريمة العنصرية التي تمارسها إسرائيل، وعلى العرب والمسلمين أن يفضحوا جرائمها ومجازرها في كل المنتديات الدولية، لا أن يديروا ظهرهم لقضايا أمتهم، أو أن يتركّز همهم على ملاحقة أولئك الذين نذروا أنفسهم لمساعدة الشعب الفلسطيني المظلوم والمحاصَر.
وعلى الدول العربية ـ إذا كانت صادقة مع نفسها وفي التزاماتها الإسلامية والقومية ـ أن تُظهر للعالم أنَّ أكبر عدوّ للسامية هو إسرائيل التي تضطهد العرب الذين هم ساميّون، والتي تحظى بحماية العالم كلّه، حتى عندما ترفض التحقيق في أحداث مجزرة غزة، لتنكر على ما يسمّى "المجتمع الدولي" حتى محاولاته الشكلية في الكشف عن المجرم، مستفيدةً من سبات الأمم المتحدة التي شاهد أمينها العام بأم عينه مجازر إسرائيل في قصفها مقرات "الأونروا" في غزة، ثم حاول أن ينكر على الرئيس الإيراني إشارته إلى عنصرية هذا النظام، ليكذّب بلسانه ما شاهدته عيناه...
لبنان: شبكات التجسس تصل إلى أرشيف الدّولة
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ هذا الكمَّ الكبير من الشبكات الإسرائيلية التي تمّ اكتشافها، والتي تتحرَّك بحرية على مختلف الأراضي اللبنانية، وتصل أذرعها الأمنية إلى كلِّ مكان، بما في ذلك أرشيف الدولة اللبنانية، ما يدل على أن الموساد الإسرائيلي يملك هامشاً واسعاً للتحكّم بالحركة الأمنية، والتأثير على الحركة السياسية في لبنان، الأمر الذي يجعل الساحة اللبنانية ساحةً مفتوحةً على تطورات المنطقة والعالم، ومصدرَ خطرٍ على حياة المواطنين والمقيمين فيها، وخصوصاً للذين يمثلون التحدي للعدوّ الإسرائيلي، والمستعدّين لمقاومته ومواجهة ما يخطط له من العدوان على لبنان، كما برز في تهديدات ضباط جيشه ومسؤوليه الذين صرّح بعضهم بأنَّ الجيش الصهيوني سوف يشنّ الحرب القادمة على لبنان لتدمير بنيته التحتية، لا على المقاومة وحدها، وذلك عندما تتوافر له الظروف للعدوان بما قد يصنعه من المبرّرات الأمنية والسياسية.
وهذا ما يفرض على اللبنانيين أن يكون كل واحدٍ منهم خفيراً ورقيباً على حركة الجواسيس الذين خدعهم العدو وأغراهم بالمال، ولا سيّما في المناطق التي بقيت فترةً طويلة تحت ضغط الاحتلال، هذا إضافة إلى دعم الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية والمقاومة الإسلامية الوطنية من خلال الاستراتيجية الدفاعية التي تملك الوسائل المتنوعة لردع العدوان في أيّ زمان.
ومن جانب آخر، فإنَّ الحفاظ على أمن الناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم في أية منطقةٍ يعيش فيها اللصوص والقتلة والمفسدون في الأرض، هو مسؤولية الأجهزة الأمنية والمواطنين جميعاً، لأنه لا استقرار سياسياً من دون استقرار أمني، مع ملاحظة مهمة، وهي أنَّ على الدولة أنَّ تؤمّن للمناطق المحرومة حاجاتها الخدماتيّة، ومشاريعها التنموية، وأوضاعها الأمنية، لأن الحرمان قد يغري البعض بالقيام بالإخلال بالأمن وإرهاب الناس بالوسائل غير المشروعة، ذلك أن الاسترخاء الأمني وفقدان العدالة قد يؤدِّي إلى النتائج السلبية في حياة المواطنين.
عبث سياسي للإخلال بالتّوازن الوطني
ويبقى لبنان في داخل الدوّامة السياسية التي يتقن القائمون عليها أساليب الاتهامات التخوينية باللّصوصية، وسرقة المؤسسات، والتخطيط لعودة الوصاية، والإخلال بالتوازن الوطني، والضّغط الضريبي على المواطنين من أصحاب الدخل المحدود، وتطيير النصاب في المجلس النيابي لمنع بعض القوانين المرتبطة بالتخفيف عن المواطنين في أوضاعهم المعيشية، والعمل النيابي على العفو عن المجرمين ونسيان الجرائم التي قام بها رموز الحرب الأهلية في التفجيرات التي دمّرت البنية التحتية للبلد، وخرَّبت الذهنية التعايشية، ما يدل على أنهم لا يصلحون لأن يمثّلوا الشعب الذي نغّصوا حياته، وذلك إضافةً إلى قانون الانتخابات الذي يحوّل اللبنانيين إلى قطع طائفية متناثرة، يبحث زعماؤها عن تضخيم مواقعهم الحزبية والمذهبية والشخصانية، بدلاً من الالتزام بقانون النسبية في لبنان الدائرة الواحدة، والذي يوازن بين الطوائف ويعطي لكل ذي حقّ حقه.
إنه العبث السياسي الذي يتعبّد فيه الواقع لصغار الفراعنة، ولصوص المشاريع، وسرّاق الأموال الخارجية لحساب السياسات الإقليمية والدولية، ليبقى لبنان ساحةً للاستعراضات الداخلية والتدخّلات الخارجية.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الخطبة الأولى
الالتزام الفكريّ والعملي بالإسلام
الإسلام دين الرّسالات
إنّ الإسلام الّذي جاء به الرّسول محمد(ص) بوحيٍ من الله، هو الدين الذي يشمل كل ما جاءت به رسالات الأنبياء، وهذا ما خاطب الله به النبيَّ إبراهيم(ع): {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ}(البقرة:131)، وقد قال الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ}(الحج:78).
فالإسلام يعني أن يكون الإنسان بكلِّه لله، وأن يشعر بأنّه عبدٌ له، فلا يتحرّك في حياته إلاّ من خلال الإيمان بتوحيده في العقيدة، فالله هو الإله الواحد الذي لا شريك له ولا عديل:{اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}(الأعراف:59)، وبتوحيده في الطاعة؛ بأن يطيعه في كلّ ما أمره به ونهاه عنه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}(آل عمران:31).شرك الطّاعة
وعلى هذا الأساس، فالإسلام ليس مجرَّد عقيدة يحملها الإنسان ثم يأخذ حريته في الانتماء إلى غير الله، لأن الشرك ليس فقط في أن تعبد الآخرين بالطريقة التي تعبد بها الله، بل هو أيضاً أن تطيع الآخرين وتخضع لهم في معصية الله، فقد يكتشف الإنسان أنّه مشركٌ شركاً خفيّاً بخضوعه لغير الله، سواء كان هذا الشخص الّذي يخضع له ممّن يملك السلطة السياسية أو السّلطة المالية، ونحن نعتقد أنّ تعصّب الإنسان لشخص معين، هو نوع من أنواع الشرك، ولذا نقرأ في دعاء الإمام زين العابدين(ع): "اللهمّ إني أخلصت بانقطاعي إليك، وأقبلت بكلِّي عليك، وصرفت وجهي عمَّن يحتاج إلى رفدك، وقلبت مسألتي عمَّن لم يستغنِ عن فضلك، ورأيت أن طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه، وضلّة من عقله.فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العزّ بغيرك فذلّوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتّضعوا، فصحَّ بمعاينة أمثالهم حازم وفَّقه اعتباره، وأرشده إلى طريق صوابه اختياره. فأنت يا مولاي دون كل مسؤول موضع مسألتي، ودون كلِّ مطلوب إليه وليّ حاجتي".
رسالة التّوحيد
هذا هو الخطّ التوحيدي الذي كان النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) يبشّرون به. وللأسف، فإنّ بعض المذاهب الإسلاميّة المتطرّفة، تتّهم أتباع أهل البيت(ع) بالشّرك، ولكنّنا نلتزم محبّة أهل البيت(ع) وولايتهم على أساس أنّهم عباد الله، ولذلك فإنّنا نقول في التشهّد: "وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله"، ونشهد أن كل إمام هو عبدٌ لله وإمامٌ من قبله، ونحن عندما نطلب حاجاتنا، فإنّنا لا نطلبها من الأئمة(ع)، لأنهم(ع) هم أنفسهم يطلبون من الله سبحانه، ونحن نقرأ في دعاء أمير المؤمنين(ع): "وأستشفع بك إلى نفسك". فالأنبياء والأئمة(ع) إنّما قُرّبوا من الله لجهة إخلاصهم له وعبوديتهم له. وأفضل نصّ لموضوع الشفاعة نجده في دعاء يوم الخميس المنسوب إلى الإمام زين العابدين(ع): "واجعلتوسّلي به ـ بالنبي(ص) ـ شافعاً يوم القيامة نافعاً".
فلنتعلّم عندما نقوم ونقعد ونتحرّك أن نقول: "يا الله"، لأنّه حتّى الأنبياء كانوا يطلبون من الله، وهذا ما دعا به النبي نوح: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}(القمر:10)، وما ناجى به موسى(ع) ربه:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}(القصص:24).
التّوحيد العمليّ
فالإسلام يعني التوحيد الخالص لله في العقيدة والعبادة والطاعة. وقد ورد في بعض الأحاديث عن الذين يظلّهم الله بظلّه يوم القيامة: "رجل لم يقدّم رجلاً حتى يعلم أن ذلك لله رضا"، وورد عن الدّنيا: "واعلم أنّ في حلالها حساباً، وفي حرامها عقاباً، وفي الشّبهات عتاباً". فلا تفكر في أن يرضى فلان أو فلان، لأنّه سيموت ويُحاسب كما ستموت وتحاسب، وقد قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ـ لا أعيش، ولا أموت، ولا أحج، ولا أصلي لحساب أيّ شخص، بل أفعل كل ذلك لله ـ لَا شَرِيكَ لَهُ}(الأنعام:162-163).
ولذلك تحدّث الله تعالى عن العمل، فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ـ ليكن كلّ عملك متحركاً في طاعة الله ـ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(التوبة:105). وقال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ـ لأنَّ شرط قبول العمل الصالح هو أن يكون الإنسان مؤمناً، لأن الإنسان عندما يقف للحساب فسيسأل عن عمله الصالح لحساب من كان، ليأخذ نصيبه منه ـ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(النحل:97). وقال أيضاً: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}(القصص:67)...وفي كلمة للإمام عليّ(ع) يصف فيها حال الذي يمدح الخيّرين والصالحين، ولكنّه لا يتمتّع بصفاتهم ولا يعمل عملهم، يقول(ع): "لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل، ويُرجي التوبة بطول الأمل... يحبّ الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض المذنبين وهو أحدهم... يخاف على غيره بأدنى من ذنبه ـ ينهى فلاناً عن شرب الخمر، ولكنه قد يزني أو يأكل أموال الناس ـويرجو لنفسه بأكثر من عمله... يقصّر إذا عمل، ويبالغ إذا سأل... فهو بالقول مدلّ، ومن العمل مقلّ".
ويقول الإمام زين العابدين(ع): "إنَّ أحبَّكم إلى الله عزّ وجلّ أحسنكم عملاً ـ فالتّنافس لا ينبغي أن يكون في من هو أكثر مالاً وجاهاً، لأنَّ المال يزول والجاه يفنى، بل ينبغي أن يكون في الأعمال الحسنة لأنّها هي الّتي تبقى ـ وإن أعظمكم عند الله عملاً أعظمكم فيما عند الله رغبةً"، بعض الناس يقول: إنّي مسلم أو إنّي شيعي، والشيعي مهما عمل من سوء لا يدخل النار، ولكن الله تعالى يقول: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ـ ليس بأحلامكم وتمنّياتكم أنتم وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ـ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِوَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}(النساء:123)، فليس بين الله وبين أحد قرابة، فالقريب من الله هو من يعمل صالحاً، وقد قال النبي(ص) في آخر حياته: "أيُّها الناس، لا يتمنَّ متمنٍ، ولا يدّعِ مدّعٍ، أما إنه لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت".
العمل قرين الإنسان
وفي حديث لرسول الله(ص) يقسّم فيه الأصدقاء: "إنّ لأحدكم ثلاثة أخلاّء: منهم من يُمتّعه بما سأله فذلك ماله ـ المال صديق، وساعة تحتاجه يلبيك ـ ومنهم خليل ينطلق معه حتى يلج القبر ولا يعطيه شيئاً ولا يصحبه فأولئك قريبهـ أقرباؤك لا ينـزلون معك في قبرك ـ ومنهم خليل يقول: والله أنا ذاهب معك حيث ذهبت ولست مفارقك، فذلك عمله، إن كان خيراً وإن كان شرّاً". وعنه(ص): "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية ـ كأن يبني مسجداً أو حسينيةً أو مستشفى، والصدقة الجارية كالنهر الجاري الذي يستفيد منه كل الناس ـأو علم ينتفع بهمن بعده ـ يترك بعض الكتب التي تستفيد منها الأجيال من بعده ـ أو ولد صالح يدعو له". ونحن في الغالب نهتمّ بمستقبل أولادنا العملي والعلمي، وهذا مطلوب، ولكنّنا نهمل مستقبلهم الإيماني.
وهناك نوعان من العمل؛ عمل يستفيد منه الإنسان ولكن مسؤوليته تبقى، وعمل يتعب فيه ولكن أجره يبقى، يقول الإمام عليّ(ع): "شتّان بين عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره".
ويقول الله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(الجاثية:29). ويقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(الزَّلزلة:7-8). ويقول أيضاً: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}(آل عمران:30)، ويقول سبحانه:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}(الأنبياء:94).الإسلام هو إقرار بالجنان، واعتراف باللسان، وعمل بالأركان، فلنستعدّ ليوم لا مجال فيه إلاّ للعمل:{اليَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ اليَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ}(غافر:17).
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله
حكومة العدو: جولة جديدة من العنف والتهجير في القدس
في فلسطين المحتَّلة، يبدأ العدوّ جولةً جديدةً من جولات تهجير الفلسطينيين وتشتيتهم داخل فلسطين وخارجها؛ فمع حملات الهدم والاقتلاع والإبعاد المتواصلة التي تطاول الشعب الفلسطيني داخل القدس المحتلة، تتوالى عمليات الزحف الاستيطاني التي بدأت تأخذ زخماً إضافياً مع الحكومة اليمينية الجديدة، ويواصل الجدار العازل قضمه للأراضي الفلسطينية وعزلها، في ظل عمليات القتل المتعمَّد التي ترتكبها قوات الاحتلال في صفوف المتظاهرين رفضاً لهذا الجدار العنصري....
إن الهجمة الصهيونية الجديدة على الشعب الفلسطيني تحاول أن تلبس لبوس المرحلة، مدّعيةً أنها تتوافق مع الحركة الأميركية التي انطلقت مع إدارة أوباما، والتي حاولت أن توحي أنها ستسير في خطِّ التسوية لإقامة دولتين في فلسطين المحتلة، تماماً كما هي المسألة عندما أطلق بوش شعار الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، وهو الشعار الذي امتدّ إلى "أنابوليس"، ثم أكلته التطورات وهضمته الأحداث.
إنَّ على العرب الذين يُقبل بعضهم على زيارة كيان العدوّ ليفتح معه صفحةً جديدةً، ويرسل بعضهم الآخر رسائل من بعيد تشير إلى أنهم جاهزون لخطب ود الحكومة اليمينية المتطرفة، ويحلّ بعضهم الثالث ضيفاً على الرئيس الأميركي الذي طالب بمبادرات حسن نيّة لتبقى المبادرة العربية كورقة في مهبّ النقاش، ولينطلق العرب بعدها في مبادرات جديدة تأخذ في الاعتبار التوازنات الجديدة، وتراعي الوضع الإسرائيلي في الدَّاخل الذي يوحي بسحب الاعتراف بيهوديّة الدولة كشرطٍ للتفاوض، ولكنَّه يجزم بأنَّ المفاوضات ستبقى في مكانها إن لم يتقدّم العرب نحو التسليم بهذا المبدأ... إن على العرب أن يعرفوا أن ما تطلبه منهم الإدارة الأميركية لن يخرج عما تتطلّبه المصلحة الإسرائيلية، وأنها ستطلب منهم في المستقبل أن يكيّفوا أوضاعهم مع الحقائق الجديدة داخل كيان العدوّ، والتي ستستمر في الظهور ويتجدد معها الطلب الأميركي.
إنَّه لمن المريب حقاً أن تنطلق الصواريخ التي تحمل أقماراً اصطناعيةً تجسسيةً ـ التي تصنعها إسرائيل ـ من قلب القارة الهندية، وأن تنطلق الدول في علاقات تسلّحية معها، ليبرز العدوّ كحاجةٍ حتى للصين وروسيا، وليمدّ ذراعه العلميّة والأمنيّة إلى الدول الكبرى، بينما تنطلق بعض الدول العربية والإسلامية بما يشبه العقدة في الهجوم الإعلامي والسياسي على إيران، وفي وصفها بالخطر الداهم على العرب، في الوقت الذي لم يجد العرب من يدافع عن قضيّتهم ويحمل همومهم وهواجسهم في مواجهة إسرائيل إلا إيران، وقد تجلّى ذلك في مؤتمر مكافحة العنصرية في جنيف.
إيران: سياسة التزام القضية الفلسطينية
وقد لاحظنا في هذا المؤتمر كيف غابت عنه الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية الرئيسة لحساب إسرائيل، وخشية من أن تدينها قراراته بفعل سياستها العنصرية الحاقدة ضد العرب والفلسطينيين، وعدوانها المتنوّع في قتل الفلسطينيين واضطهادهم ومصادرة أراضيهم، والسيطرة على مياههم... وكيف انسحبت الدول الأوروبية الأخرى في أثناء مداخلة الرئيس نجاد، من دون أن يدفع ذلك الدول العربية إلى القيام بمبادرة ثناء أو تواصل مع هذه الخطوة الإسلامية الإيرانية المميّزة، والتي تؤكد أن الموقف الإسلامي الذي أراده الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) من مسألة فلسطين، لا يزال يمثل التزاماً ثابتاً في سياسة إيران تجاه العالم كله.
إن على العالم كلّه أن يدرك حجم الجريمة العنصرية التي تمارسها إسرائيل، وعلى العرب والمسلمين أن يفضحوا جرائمها ومجازرها في كل المنتديات الدولية، لا أن يديروا ظهرهم لقضايا أمتهم، أو أن يتركّز همهم على ملاحقة أولئك الذين نذروا أنفسهم لمساعدة الشعب الفلسطيني المظلوم والمحاصَر.
وعلى الدول العربية ـ إذا كانت صادقة مع نفسها وفي التزاماتها الإسلامية والقومية ـ أن تُظهر للعالم أنَّ أكبر عدوّ للسامية هو إسرائيل التي تضطهد العرب الذين هم ساميّون، والتي تحظى بحماية العالم كلّه، حتى عندما ترفض التحقيق في أحداث مجزرة غزة، لتنكر على ما يسمّى "المجتمع الدولي" حتى محاولاته الشكلية في الكشف عن المجرم، مستفيدةً من سبات الأمم المتحدة التي شاهد أمينها العام بأم عينه مجازر إسرائيل في قصفها مقرات "الأونروا" في غزة، ثم حاول أن ينكر على الرئيس الإيراني إشارته إلى عنصرية هذا النظام، ليكذّب بلسانه ما شاهدته عيناه...
لبنان: شبكات التجسس تصل إلى أرشيف الدّولة
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ هذا الكمَّ الكبير من الشبكات الإسرائيلية التي تمّ اكتشافها، والتي تتحرَّك بحرية على مختلف الأراضي اللبنانية، وتصل أذرعها الأمنية إلى كلِّ مكان، بما في ذلك أرشيف الدولة اللبنانية، ما يدل على أن الموساد الإسرائيلي يملك هامشاً واسعاً للتحكّم بالحركة الأمنية، والتأثير على الحركة السياسية في لبنان، الأمر الذي يجعل الساحة اللبنانية ساحةً مفتوحةً على تطورات المنطقة والعالم، ومصدرَ خطرٍ على حياة المواطنين والمقيمين فيها، وخصوصاً للذين يمثلون التحدي للعدوّ الإسرائيلي، والمستعدّين لمقاومته ومواجهة ما يخطط له من العدوان على لبنان، كما برز في تهديدات ضباط جيشه ومسؤوليه الذين صرّح بعضهم بأنَّ الجيش الصهيوني سوف يشنّ الحرب القادمة على لبنان لتدمير بنيته التحتية، لا على المقاومة وحدها، وذلك عندما تتوافر له الظروف للعدوان بما قد يصنعه من المبرّرات الأمنية والسياسية.
وهذا ما يفرض على اللبنانيين أن يكون كل واحدٍ منهم خفيراً ورقيباً على حركة الجواسيس الذين خدعهم العدو وأغراهم بالمال، ولا سيّما في المناطق التي بقيت فترةً طويلة تحت ضغط الاحتلال، هذا إضافة إلى دعم الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية والمقاومة الإسلامية الوطنية من خلال الاستراتيجية الدفاعية التي تملك الوسائل المتنوعة لردع العدوان في أيّ زمان.
ومن جانب آخر، فإنَّ الحفاظ على أمن الناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم في أية منطقةٍ يعيش فيها اللصوص والقتلة والمفسدون في الأرض، هو مسؤولية الأجهزة الأمنية والمواطنين جميعاً، لأنه لا استقرار سياسياً من دون استقرار أمني، مع ملاحظة مهمة، وهي أنَّ على الدولة أنَّ تؤمّن للمناطق المحرومة حاجاتها الخدماتيّة، ومشاريعها التنموية، وأوضاعها الأمنية، لأن الحرمان قد يغري البعض بالقيام بالإخلال بالأمن وإرهاب الناس بالوسائل غير المشروعة، ذلك أن الاسترخاء الأمني وفقدان العدالة قد يؤدِّي إلى النتائج السلبية في حياة المواطنين.
عبث سياسي للإخلال بالتّوازن الوطني
ويبقى لبنان في داخل الدوّامة السياسية التي يتقن القائمون عليها أساليب الاتهامات التخوينية باللّصوصية، وسرقة المؤسسات، والتخطيط لعودة الوصاية، والإخلال بالتوازن الوطني، والضّغط الضريبي على المواطنين من أصحاب الدخل المحدود، وتطيير النصاب في المجلس النيابي لمنع بعض القوانين المرتبطة بالتخفيف عن المواطنين في أوضاعهم المعيشية، والعمل النيابي على العفو عن المجرمين ونسيان الجرائم التي قام بها رموز الحرب الأهلية في التفجيرات التي دمّرت البنية التحتية للبلد، وخرَّبت الذهنية التعايشية، ما يدل على أنهم لا يصلحون لأن يمثّلوا الشعب الذي نغّصوا حياته، وذلك إضافةً إلى قانون الانتخابات الذي يحوّل اللبنانيين إلى قطع طائفية متناثرة، يبحث زعماؤها عن تضخيم مواقعهم الحزبية والمذهبية والشخصانية، بدلاً من الالتزام بقانون النسبية في لبنان الدائرة الواحدة، والذي يوازن بين الطوائف ويعطي لكل ذي حقّ حقه.
إنه العبث السياسي الذي يتعبّد فيه الواقع لصغار الفراعنة، ولصوص المشاريع، وسرّاق الأموال الخارجية لحساب السياسات الإقليمية والدولية، ليبقى لبنان ساحةً للاستعراضات الداخلية والتدخّلات الخارجية.