الابتعاد عن هوى النّفس وأطماع الدّنيا

الابتعاد عن هوى النّفس وأطماع الدّنيا

لنيل رضا الله واستعداداً للآخرة:
الابتعاد عن هوى النّفس وأطماع الدّنيا


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

النهي عن اتّباع هو النفس

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {أفرأيت مَن اتَّخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم وخَتَم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً فمن يهديه من بعدِ الله أفلا تذكّرون} (الجاثية:23). وقال سبحانه: {ومن أضلّ ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} (القصص:50).

هناك عنوان يتكرر التحذير منه في الكتاب والسنّة، وهو عنوان "هوى النفس"، ويراد به أن يتّبع الإنسان شهواته وأطماعه وغرائزه، بحيث لا ينطلق من قاعدة الإيمان بالله والانفتاح على مواقع رضوانه تعالى، بل يستغرق في داخل ذاته ليتحرك على أساس مشتهياته فيما يأكل أو فيما يشرب، حتى لو كان حراماً، وفيما يمارس من لذات وشهوات، حتى لو كان على خلاف ما يريده الله تعالى، أو فيما يأكل من مال أو يحصل عليه حتى لو كان ذلك بالباطل، بخلاف ما يريد الله له من الحصول على المال الحلال.

هذا الاستغراق في شهوات النفس، يجعل الإنسان لا يرتكز على أي قاعدة من التقوى، فكل الحساب عنده هو ما تشتهيه نفسه، أما ما يرضاه الله وما يحبّه وما يأمر به سبحانه أو ينهى عنه، فليس له أيّ حساب، إنه يفكِّر في الدنيا في كل شهواتها وأطماعها ومكاسبها، أما الآخرة، فليس لها حسابٌ عنده، وقد شاع بين الكثير من الناس، الذين إذا نبّهتهم إلى حرام يفعلونه أو يقولونه، أو إلى لذةٍ أو شهوة محرّمة يعيشونها، مما قد يواجهونه في حساب الله، قالوا: "ليوم الله بيهون الله"، فهم لا يفكرون في الله ولا في الدار الآخرة، لأن استغراقهم في هوى أنفسهم وشهواتها، يبعدهم عن التفكير في الآخرة ورضى الله، وعن التفكير في حساب الله عندما يقوم الناس لربّ العالمين.

إن المشكلة في قضية هوى النفس، أنه لا قاعدة لها، فقد يشتهي الإنسان اليوم شيئاً، وقد يشتهي غداً شيئاً آخر، بحيث لا يتحرك على أساس الخط المستقيم، بل ينطلق في كل يوم من خط منحرف مما تسوّل له نفسه، أو خط منحرف ممّا توحي به غريزته.

الربوبية الحقّة بالالتزام بطاعة الله

وقد حدّثنا الله تعالى عن أمثال هؤلاء الذين قد يقولون في شهادتهم الإسلامية: "أشهد أن لا إله إلا الله"، ولكنهم في سلوكهم العملي لا يشهدون بأن الله هو الإله، لأن معنى الشهادة لله بالألوهية، هو أن تحسب حسابه وتراقبه وتأتمر بأمره وتنتهي بنهيه، وأن تخاف عقابه وترغب في ثوابه؛ إن معنى الشهادة لله بالألوهية، أن الله وحده هو الإله الذي لا بد للإنسان من أن يتوجه بربوبيته إليه، بعقله وقلبه، فلا يكون في عقله وقلبه إلا الله، وأن لا يتحرك في كل جسده وعلاقاته ومعاملاته ومشتهياته، إلا بما يرضي الله، كما ورد في بعض الأحاديث، أن الإنسان الذي يكون في ظل الله يوم لا ظلّ إلا ظله هو "رجل لا يقدّم رجلاً ولا يؤخّر أخرى حتى يعلم أن لله في ذلك رضى". فالسؤال الأساس عند المؤمنين بربوبية الله: هل هذا حلال أو حرام؟ هل يرضى الله بذلك أو لا يرضى؟ أما الذين ينطلقون مما تشتهيه أنفسهم وما تأمره به غرائزهم، فإن إلههم هو الهوى، لأنهم هم يسقطون أمام ما توحي به غرائزهم.

فالله تعالى أراد أن يشير إلى هؤلاء: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه الله ـ بحيث تركه لضلاله، بعد أن أعطاه خط الهدى فتركه ـ على علم ـ مع كونه عالماً وعارفاً أنه يتحرك في خط الضلال ـ وختم على سمعه ـ فلا يتحرك مع أي موعظة تقوده إلى مواقع رضوان الله ـ وقلبه ـ والمراد بالقلب العقل، فلا يفكر عقله في الله ولا فيما يفرضه عليه إيمانه بربوبية الله ووحدانيته ـ وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكّرون}، بحيث تخرجون من هذه الغفلة التي تسيطر عليكم من خلال الاستغراق في شهواتكم.

اتّباع الهوى بيع الدنيا بالآخرة

وقد حدّثنا الله تعالى عن الذين يتّبعون أهواء الآخرين، بحيث قد يخضع الإنسان لهوى زوجته أو العكس، أو يخضع لهوى القيادات المنحرفة التي يلتزمها فيمن يلتزمون هذه الزعامة أو تلك القيادة، فيقتلون الناس بغير حق، ويتحركون في خط الضلال من دون أي أساس، فهناك من يتبع هوى نفسه، وهناك من يتبع هوى غيره، بحيث يبيع آخرته بدنيا غيره.

وهناك حديث عن رسول الله(ص) عمن يتبع هواه ويترك ما يريد الله، ومن يتبع هوى الله ويترك هواه، فقد ورد عن أبي جعفر الباقر(ع) أنه قال: "قال رسول الله(ص): يقول الله عزّ وجل: وعزّتي وجلالي، وعظمتي وكبريائي، ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني، لا يؤْثِر عبد هواه على هواي ـ والله ليس له هوى، ولكن المقصود هو ما ارتضاه الله لعباده ـ إلا شتّتُّ عليه أمره ـ أي حيّرته عن أمر دينه ودنياه، بحيث عاقبته في الدنيا ـ ولبستُ عليه دنياه ـ أي جعلته يتحرّك فيها بعيداً عن خط الوضوح ـ وشغلت قلبه بها ـ بحيث يعيش الإنسان هموم الدنيا أو اهتماماتها، فلا يفرغ عقله وقلبه لغيرها ـ ولم أؤته منها إلا ما قدّرت له، وعزتي وجلالي، وعظمتي ونوري وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواي ـ مما أمرته به ونهيته عنه ـ على هواه، إلا استحفظته ملائكتي ـ أيّ كلّفتهم بحفظه من كل مكروه ـ وكفّلت السموات والأرضين رزقه ـ فتحت له أبواب السموات والأرضين في رزقه ـ وكنت له من وراء تجارة كل تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة"، أي منقادة وطائعة.

وفي الحديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع): "إنما أخاف عليكم ـ مما يسقطكم في النار ويبعدكم عن مواقع رضى الله ـ اثنتين: اتباع الهوى، وطول الأمل ـ أن تعيشوا لتتبعوا هوى أنفسكم أو هوى الآخرين على حساب دينكم ومخافة ربكم ـ أما اتباع الهوى، فإنه يصدّ عن الحق ـ لأن الذي يستغرق في هوى نفسه، يتحرك بما يبتعد به عن الحق ـ وأما طول الأمل فينسي الآخرة"، لأنه يفكر في أنه لن يموت، فينسى الآخرة، أما الذي يوطّن نفسه بأنه قد يموت في أي لحظة، فإنه يبقى في حذر، لأنه يخاف وهو غير مستعد للقاء الله تعالى.

وعن الإمام الصادق(ع): "احذروا أهواءكم ـ عندما تنفتح شهواتك على بعض الأمور، ادرسها: هل هي شهوات محللة أو محرّمة؟ فالله خلقنا وخلق لنا حاجات وشهوات، ونظّم لنا هذه الحاجات، وحدّد لها حدوداً ـ كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال ـ وللنساء طبعاً ـ من اتّباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم".

مخالفة الهوى طريق إلى الجنّة

وقد حدّثنا الله تعالى عن الذين يخالفون أهواءهم، يقول الله تعالى: {فأما من طغى* وآثر الحياة الدنيا* فإن الجحيم هي المأوى* وأما من خاف مقام ربه ـ أي مَن خاف عقاب الله ونار الآخرة، وانفتح على رضى الله ـ ونهى النفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى} (النازعات:37-41). ولذلك على الإنسان المؤمن أن يبقى على حذر من هوى نفسه ومشتهياتها، فلا يكون كل طموح حياته أن يحقق هوى نفسه، بل أن يحقق رضى ربه وأن يستعد لآخرته: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحبّ المفسدين} (القصص:78)، {قل مَن حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} (الأعراف:32). خذوا من طيبات ما رزقكم الله ممّا أحلّه لكم، واتركوا ما تشتهيه أنفسكم مما حرّمه، حتى تفدوا إليه تعالى وهو راضٍ عنكم، {يوم يقوم الناس لربّ العالمين} (المطففين:6)، {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء:88-89).

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف من موقع واحد. كونوا كما أراد الله تعالى ورسوله(ص) كالجسد الواحد يشدّ بعضه بعضاً. كونوا الأمة التي تعمل من أجل أن تكون هي القوة التي تتحرك في خط القيادة الروحية والسياسية والأمنية والاقتصادية وما إلى ذلك. كونوا الأمة التي تواجه العدوان بكل قوة، لأن الله أراد لهذه الأمة أن تعدّ هي القوة، فماذا هناك؟

الغرب يعيش العقدة ضد المنطقة

في المشهد الفلسطيني ـ الإسرائيلي، يتابع الجيش الصهيوني عدوانه على الفلسطينيين في الغارات الإسرائيلية الأرضية والجوية، مبرِّراً ذلك بأنه ردّ على الصواريخ التي يطلقها مجاهدو الانتفاضة للدفاع عن شعبهم في مواجهة الاجتياحات والاغتيالات والاعتقالات ضد المدن والقرى والمخيّمات، ما يمثّل استهدافاً مباشراً للمدنيين من الرجال والنساء والأطفال.

ومن الطريف، أن وزيرة الخارجية الإسرائيلية تدعو إلى تحرّك دولي لممارسة الضغوط على من تسمّيهم الإرهابيين والحكومة الفلسطينية، معلنةً عدم المساومة مع الإرهاب، وإن واجبنا ـ كما تقول ـ أن "نضرب مطلقي الصواريخ وحركة حماس". وقد كان المسؤول الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي إلى جانبها عند سقوط الصواريخ على بعد أمتار من مكان اجتماعهما، ما جعله يندّد بالعنف، ويقصد العنف الفلسطيني، ولكنه ـ مع أكثر دول الاتحاد الأوروبي ـ لا يندد بالعنف الإسرائيلي الذي بدأ بالاحتلال وما زال مستمراً حتى الآن بالأسلحة المتطورة التي ترسلها أمريكا إلى الدولة العبرية.

إنّ الدول الغربية ـ وفي مقدّمها أمريكا ـ كانت ولا تزال تدعم اليهود ضد العرب والمسلمين، وتؤيد الاحتلال، بالرغم من ادّعائها بأنها ترفض ذلك من حيث المبدأ، لأنه منافٍ لحرية الشعوب، ولكن المسألة هي أن احتلال أرض عربية أو إسلامية لا يمثل أيّ إساءة لحقوق الإنسان عندهم، من خلال العقدة التاريخية ضد شعوب المنطقة التي كانت مستعمرة لأكثر من دولة أوروبية، ومنها بريطانيا، التي هيّأت كل الظروف لاحتلال اليهود فلسطين، والقيام بالمجازر الوحشية الصهيونية ضد شعبها.

المتصالحون مع العدوّ يدمنون العار

ومن جانب آخر، نجد الدول العربية والإسلامية المتصالحة مع العدو، كمصر والأردن، أو المنفتحة في علاقاتها الاقتصادية عليه، لا تمارس أية ضغوط على إسرائيل، في الوقت الذي يعلم الجميع أنهم يملكون الكثير من عناصر الضغط السياسي والاقتصادي، سواء كان ذلك في شكل مباشر أو في شكلٍ غير مباشر، ولكنّهم يكتفون بالتفرج على العدو وهو يقتل الفلسطينيين المدافعين عن حرية أرضهم وأبنائهم، وقد يصدرون بعض الكلمات الاحتجاجية الفارغة من المضمون، خوفاً من شعوبهم التي رفضت مواقفهم جملةً وتفصيلاً... وقد يتحدثون عن السلام مع إسرائيل التي ترفض مبادرتهم التي يلهثون من خلالها خلفها، وتتحدث بكلمات لا توحي بالجدية والاحترام للعرب، الذين أدمنوا العار منذ زمن طويل، ورفضوا أن يغسلوه بالمواجهة التحريرية، بل وأكثر من ذلك، تحالفوا مع العدو ضد المقاومة البطلة التي أسقطت العار العربي بإسقاط العنفوان الصهيوني في التحرير عام 2000، وفي تموز عام 2006، ما جعل الذين يخافون من محو العار من أكثر من دولة عربية، يتحالفون مع العدو ضد المقاومة المحرّرة، خوفاً من امتداد حركة الحرية إلى مواقعهم الخاضعة للسياسة الأمريكية ـ الإسرائيلية.

أمريكا تحوّلت إلى دولة إرهابية

أما أمريكا ـ في إدارتها البوشية ـ فإنها لا تزال تمارس دور الشرطي الذي يحرس مصالحها في منطقة الشرق الأوسط، ويوجّه بندقيته السياسية والأمنية والاقتصادية ضد مصالح شعوبها، في عملية خداع سياسي إعلامي بحجّة أنه يعمل من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، في الوقت الذي يخطط لإيجاد محور سياسي وأمني لأكثر من ديكتاتورية عربية يمنحها صفة الدول المعتدلة التي تدعم مصالحه، وتشارك في حروبه، وتحمي احتلاله، وتضغط على معارضيه، ليضمها إلى حليفته الدولة الصهيونية التي يرى فيها أكثر الدول حضاريةً واعتدالاً في المنطقة، وقد وصل الأمر بأن يصرّح بعض المسؤولين في دولة عربية، بأن إسرائيل هي الصديق والحليف والحامي للواقع العربي ضد إيران. ومن الطريف أن أحد مستشاري بوش قال: "أعتقد أن ما قرروا القيام به ـ وهم رجال الإدارة ـ هو تأدية دور الشرطي الجيد بدلاً من الشرطي السيّىء الذي ظلوا يؤدونه لمدة 6 سنوات"، ويضيف: "إن سيناريو الشرطي الجيد والشرطي السيّىء ينفع فقط في حال كان الشرطي السيّىء قابلاً لأن يصدَّق".

إننا نعتقد أن هذه الإدارة الأمريكية ـ من خلال رئيسها ونائبه ـ لن تستطيع أن تمارس دور الشرطي ـ سيئاً أو جيداً ـ لأنها تحوّلت إلى دولة إرهابية تستعرض عضلاتها العسكرية والاقتصادية والسياسية لتصادر كل حركة للحرية لأي شعب يكافح من أجل أن يكون حراً ويرفض أن يكون عبداً لأية قوة مستكبرة، وهذا ما نلاحظه من ابتعاد المسؤولين في المنطقة عنها في مواقعهم الخاصة، لأنهم يستمعون إلى الموفدين الأمريكيين الذين يطلبون منهم حماية مصالح أمريكا حتى على حساب مصالح دولهم وشعوبهم...

استجداء أمريكي للتخلّص من المأزق العراقي

هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن المأزق الذي تعيشه هذه الإدارة الاستكبارية الإرهابية في احتلالها للعراق، قد جعلها تستجدي أكثر من دولة عربية وإسلامية لإنقاذها من الورطة التي وقعت فيها، حتى إن الرئيس بوش بدأ يناشد العراقيين ويقول لهم: "نحن بحاجة إلى مساعدتكم من أجل القضاء على العنف الآن أكثر من أي وقت مضى"، في الوقت الذي كان يمنّن الشعب العراقي بأنه دخل بلدهم محتلاً من أجل إنقاذهم من العنف، وقد كانت كل خططه أن يحوّل العراق إلى بلد تسود فيه الفوضى، بحيث لا يملك فيها أي عراقي أمنه، ولا يحصل على أية حاجة من حاجاته، والخطة الأمريكية الآن هي كيف يحافظ الاحتلال على أمن جنوده لا أمن الشعب العراقي، حيث إنّ الرأي العام الأمريكي، سواء من الجمهوريين أو الديمقراطيين، يطالبه بالانسحاب من العراق الذي أصبح بفعل المقاومة الشريفة مقبرةً للجنود الأمريكيين.

لقد دخلت أمريكا المنطقة بفعل سياسة إدارتها التي يهيمن عليها المحافظون الجدد، ما أدّى إلى إحراق مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية، وحوّلت أكثر من دولة عربية وإسلامية إلى جحيم من العنف الوحشي الذي يسقط فيه المدنيون من الشيوخ والنساء والأطفال، بحيث أصبح المسلم يقتل المسلم، والمواطن يعتدي على المواطن، لأن ذلك هو النتيجة الطبيعية للفوضى الخلاقة، أو البنّاءة التي بشّرت بها... ولذلك، فإننا نطلق الصوت القوي لكل شعوبنا المستضعفة، الوقوف بكل قوة المقاومة والمعارضة والممانعة ضد سياسة الإدارة الأمريكية لتوسيع مأزقها في كل مواقعها الاحتلالية والسياسية، لأن ذلك وحده هو الذي يضعف قوتها، ويضغط على مصالحها، ويعيد للشعوب حيويتها، ويمكّنها من تقرير مصيرها بنفسها، لأننا إذا تركنا أمريكا تمارس حرية الاحتلال والضغط، فسوف تحرق العالم كله بخططها الاستكبارية، لا بقنابلها النووية.

لبنان: خضوعٌ سياسي لتعليمات الموفدين

أما لبنان، فإنه يهتزّ ـ في هذه المرحلة ـ بالعنف الدامي، بفعل الاهتزاز السياسي الذي منع المواطنين من الحوار العاقل الموضوعي الهادىء حول الخطط الواقعية التي تحول دون سقوط أوضاع البلد تحت تأثير الطموحات الشخصية، التي تختفي خلف ستار من النفاق السياسي والطائفي والمذهبي والشخصي الذي يتحدث بكلمات الحقّ التي يراد بها الباطل، ويدعم الخارجين عن القانون بماله ومواقعه، ليكونوا الفئة التي يستعين بها في مواجهة خصومه في تنوعاتهم الفئوية الخاصة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هناك مشكلة حسّاسة، وهي مشكلة بعض المواقع الدينية التي ابتعدت عن خطاب الوحدة الجامعة التي تجمع الناس على القيم الروحية والأخلاقية والمصالح الوطنية، لتكون منطلقةً من خط الإثارة تأييداً لفريق سياسي هنا وفريق سياسي هناك، ما قد يؤدي إلى الفتنة في المجتمع، في الوقت الذي يتحدثون بأنهم للجميع فيما هم يريدون الشعب خاضعاً لامتيازات رموزهم السياسية، وهذا ما نعانيه في كل استحقاق مركزي مستقبلي مصيري يخضع فيه الخطاب وراء الكواليس لتعليمات الموفدين الدوليين الذين يعطون التعليمات المحددة التي تلتقي مع مصالح دولهم، ويعلنون أنهم لا يتدخلون في شؤون لبنان.

لقد كان النواب ينتظرون كلمة السرّ في بعض استحقاقات الوطن، وما زالت المسألة تنتقل من وحي إقليمي إلى وحي دولي، لأن القضية الرئاسية ـ وبكل أسف ـ لا تخضع لحاجات اللبنانيين، بل لحاجات الآخرين...

وإننا أمام الاهتزاز الأمني والتفجيرات الخبيثة، نريد للبنانيين أن يعملوا على أساس أن يكون كل مواطن خفيراً وحارساً، لأن السلم الأهلي والأمن الوطني هو مسؤولية الجميع.

التحرير أسَّس لهزيمة العدوّ

وأخيراً، إننا أمام مناسبة التحرير التي نلتقي بها في هذا اليوم، علينا أن نعي أهمية هذا الحدث في معطياته المتجددة، وفي إلهامه المستمر للشعوب العربية والإسلامية التائقة للتخلّص من الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأمريكية.

لقد شكّل تحرير معظم الأراضي اللبناني، وطرد العدو، محطة كبرى أسست لهزيمة العدو في عدوانه الأخير، ولذلك فإن المسؤولية تقع على عاتق الجميع، ليس لجهة حماية المقاومة وصون إنجازاتها فحسب، بل لجهة استثمار هذه الإنجازات على مختلف المستويات الأمنية والسياسية والثقافية، كونها تمثّل الرصيد الكبير للوطن والأمة الذي لا يجوز التفريط به أو الإساءة إليه في أي ظرف وتحت أي اعتبار.

لنيل رضا الله واستعداداً للآخرة:
الابتعاد عن هوى النّفس وأطماع الدّنيا


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

النهي عن اتّباع هو النفس

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {أفرأيت مَن اتَّخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم وخَتَم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً فمن يهديه من بعدِ الله أفلا تذكّرون} (الجاثية:23). وقال سبحانه: {ومن أضلّ ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} (القصص:50).

هناك عنوان يتكرر التحذير منه في الكتاب والسنّة، وهو عنوان "هوى النفس"، ويراد به أن يتّبع الإنسان شهواته وأطماعه وغرائزه، بحيث لا ينطلق من قاعدة الإيمان بالله والانفتاح على مواقع رضوانه تعالى، بل يستغرق في داخل ذاته ليتحرك على أساس مشتهياته فيما يأكل أو فيما يشرب، حتى لو كان حراماً، وفيما يمارس من لذات وشهوات، حتى لو كان على خلاف ما يريده الله تعالى، أو فيما يأكل من مال أو يحصل عليه حتى لو كان ذلك بالباطل، بخلاف ما يريد الله له من الحصول على المال الحلال.

هذا الاستغراق في شهوات النفس، يجعل الإنسان لا يرتكز على أي قاعدة من التقوى، فكل الحساب عنده هو ما تشتهيه نفسه، أما ما يرضاه الله وما يحبّه وما يأمر به سبحانه أو ينهى عنه، فليس له أيّ حساب، إنه يفكِّر في الدنيا في كل شهواتها وأطماعها ومكاسبها، أما الآخرة، فليس لها حسابٌ عنده، وقد شاع بين الكثير من الناس، الذين إذا نبّهتهم إلى حرام يفعلونه أو يقولونه، أو إلى لذةٍ أو شهوة محرّمة يعيشونها، مما قد يواجهونه في حساب الله، قالوا: "ليوم الله بيهون الله"، فهم لا يفكرون في الله ولا في الدار الآخرة، لأن استغراقهم في هوى أنفسهم وشهواتها، يبعدهم عن التفكير في الآخرة ورضى الله، وعن التفكير في حساب الله عندما يقوم الناس لربّ العالمين.

إن المشكلة في قضية هوى النفس، أنه لا قاعدة لها، فقد يشتهي الإنسان اليوم شيئاً، وقد يشتهي غداً شيئاً آخر، بحيث لا يتحرك على أساس الخط المستقيم، بل ينطلق في كل يوم من خط منحرف مما تسوّل له نفسه، أو خط منحرف ممّا توحي به غريزته.

الربوبية الحقّة بالالتزام بطاعة الله

وقد حدّثنا الله تعالى عن أمثال هؤلاء الذين قد يقولون في شهادتهم الإسلامية: "أشهد أن لا إله إلا الله"، ولكنهم في سلوكهم العملي لا يشهدون بأن الله هو الإله، لأن معنى الشهادة لله بالألوهية، هو أن تحسب حسابه وتراقبه وتأتمر بأمره وتنتهي بنهيه، وأن تخاف عقابه وترغب في ثوابه؛ إن معنى الشهادة لله بالألوهية، أن الله وحده هو الإله الذي لا بد للإنسان من أن يتوجه بربوبيته إليه، بعقله وقلبه، فلا يكون في عقله وقلبه إلا الله، وأن لا يتحرك في كل جسده وعلاقاته ومعاملاته ومشتهياته، إلا بما يرضي الله، كما ورد في بعض الأحاديث، أن الإنسان الذي يكون في ظل الله يوم لا ظلّ إلا ظله هو "رجل لا يقدّم رجلاً ولا يؤخّر أخرى حتى يعلم أن لله في ذلك رضى". فالسؤال الأساس عند المؤمنين بربوبية الله: هل هذا حلال أو حرام؟ هل يرضى الله بذلك أو لا يرضى؟ أما الذين ينطلقون مما تشتهيه أنفسهم وما تأمره به غرائزهم، فإن إلههم هو الهوى، لأنهم هم يسقطون أمام ما توحي به غرائزهم.

فالله تعالى أراد أن يشير إلى هؤلاء: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه الله ـ بحيث تركه لضلاله، بعد أن أعطاه خط الهدى فتركه ـ على علم ـ مع كونه عالماً وعارفاً أنه يتحرك في خط الضلال ـ وختم على سمعه ـ فلا يتحرك مع أي موعظة تقوده إلى مواقع رضوان الله ـ وقلبه ـ والمراد بالقلب العقل، فلا يفكر عقله في الله ولا فيما يفرضه عليه إيمانه بربوبية الله ووحدانيته ـ وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكّرون}، بحيث تخرجون من هذه الغفلة التي تسيطر عليكم من خلال الاستغراق في شهواتكم.

اتّباع الهوى بيع الدنيا بالآخرة

وقد حدّثنا الله تعالى عن الذين يتّبعون أهواء الآخرين، بحيث قد يخضع الإنسان لهوى زوجته أو العكس، أو يخضع لهوى القيادات المنحرفة التي يلتزمها فيمن يلتزمون هذه الزعامة أو تلك القيادة، فيقتلون الناس بغير حق، ويتحركون في خط الضلال من دون أي أساس، فهناك من يتبع هوى نفسه، وهناك من يتبع هوى غيره، بحيث يبيع آخرته بدنيا غيره.

وهناك حديث عن رسول الله(ص) عمن يتبع هواه ويترك ما يريد الله، ومن يتبع هوى الله ويترك هواه، فقد ورد عن أبي جعفر الباقر(ع) أنه قال: "قال رسول الله(ص): يقول الله عزّ وجل: وعزّتي وجلالي، وعظمتي وكبريائي، ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني، لا يؤْثِر عبد هواه على هواي ـ والله ليس له هوى، ولكن المقصود هو ما ارتضاه الله لعباده ـ إلا شتّتُّ عليه أمره ـ أي حيّرته عن أمر دينه ودنياه، بحيث عاقبته في الدنيا ـ ولبستُ عليه دنياه ـ أي جعلته يتحرّك فيها بعيداً عن خط الوضوح ـ وشغلت قلبه بها ـ بحيث يعيش الإنسان هموم الدنيا أو اهتماماتها، فلا يفرغ عقله وقلبه لغيرها ـ ولم أؤته منها إلا ما قدّرت له، وعزتي وجلالي، وعظمتي ونوري وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواي ـ مما أمرته به ونهيته عنه ـ على هواه، إلا استحفظته ملائكتي ـ أيّ كلّفتهم بحفظه من كل مكروه ـ وكفّلت السموات والأرضين رزقه ـ فتحت له أبواب السموات والأرضين في رزقه ـ وكنت له من وراء تجارة كل تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة"، أي منقادة وطائعة.

وفي الحديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع): "إنما أخاف عليكم ـ مما يسقطكم في النار ويبعدكم عن مواقع رضى الله ـ اثنتين: اتباع الهوى، وطول الأمل ـ أن تعيشوا لتتبعوا هوى أنفسكم أو هوى الآخرين على حساب دينكم ومخافة ربكم ـ أما اتباع الهوى، فإنه يصدّ عن الحق ـ لأن الذي يستغرق في هوى نفسه، يتحرك بما يبتعد به عن الحق ـ وأما طول الأمل فينسي الآخرة"، لأنه يفكر في أنه لن يموت، فينسى الآخرة، أما الذي يوطّن نفسه بأنه قد يموت في أي لحظة، فإنه يبقى في حذر، لأنه يخاف وهو غير مستعد للقاء الله تعالى.

وعن الإمام الصادق(ع): "احذروا أهواءكم ـ عندما تنفتح شهواتك على بعض الأمور، ادرسها: هل هي شهوات محللة أو محرّمة؟ فالله خلقنا وخلق لنا حاجات وشهوات، ونظّم لنا هذه الحاجات، وحدّد لها حدوداً ـ كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال ـ وللنساء طبعاً ـ من اتّباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم".

مخالفة الهوى طريق إلى الجنّة

وقد حدّثنا الله تعالى عن الذين يخالفون أهواءهم، يقول الله تعالى: {فأما من طغى* وآثر الحياة الدنيا* فإن الجحيم هي المأوى* وأما من خاف مقام ربه ـ أي مَن خاف عقاب الله ونار الآخرة، وانفتح على رضى الله ـ ونهى النفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى} (النازعات:37-41). ولذلك على الإنسان المؤمن أن يبقى على حذر من هوى نفسه ومشتهياتها، فلا يكون كل طموح حياته أن يحقق هوى نفسه، بل أن يحقق رضى ربه وأن يستعد لآخرته: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحبّ المفسدين} (القصص:78)، {قل مَن حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} (الأعراف:32). خذوا من طيبات ما رزقكم الله ممّا أحلّه لكم، واتركوا ما تشتهيه أنفسكم مما حرّمه، حتى تفدوا إليه تعالى وهو راضٍ عنكم، {يوم يقوم الناس لربّ العالمين} (المطففين:6)، {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء:88-89).

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف من موقع واحد. كونوا كما أراد الله تعالى ورسوله(ص) كالجسد الواحد يشدّ بعضه بعضاً. كونوا الأمة التي تعمل من أجل أن تكون هي القوة التي تتحرك في خط القيادة الروحية والسياسية والأمنية والاقتصادية وما إلى ذلك. كونوا الأمة التي تواجه العدوان بكل قوة، لأن الله أراد لهذه الأمة أن تعدّ هي القوة، فماذا هناك؟

الغرب يعيش العقدة ضد المنطقة

في المشهد الفلسطيني ـ الإسرائيلي، يتابع الجيش الصهيوني عدوانه على الفلسطينيين في الغارات الإسرائيلية الأرضية والجوية، مبرِّراً ذلك بأنه ردّ على الصواريخ التي يطلقها مجاهدو الانتفاضة للدفاع عن شعبهم في مواجهة الاجتياحات والاغتيالات والاعتقالات ضد المدن والقرى والمخيّمات، ما يمثّل استهدافاً مباشراً للمدنيين من الرجال والنساء والأطفال.

ومن الطريف، أن وزيرة الخارجية الإسرائيلية تدعو إلى تحرّك دولي لممارسة الضغوط على من تسمّيهم الإرهابيين والحكومة الفلسطينية، معلنةً عدم المساومة مع الإرهاب، وإن واجبنا ـ كما تقول ـ أن "نضرب مطلقي الصواريخ وحركة حماس". وقد كان المسؤول الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي إلى جانبها عند سقوط الصواريخ على بعد أمتار من مكان اجتماعهما، ما جعله يندّد بالعنف، ويقصد العنف الفلسطيني، ولكنه ـ مع أكثر دول الاتحاد الأوروبي ـ لا يندد بالعنف الإسرائيلي الذي بدأ بالاحتلال وما زال مستمراً حتى الآن بالأسلحة المتطورة التي ترسلها أمريكا إلى الدولة العبرية.

إنّ الدول الغربية ـ وفي مقدّمها أمريكا ـ كانت ولا تزال تدعم اليهود ضد العرب والمسلمين، وتؤيد الاحتلال، بالرغم من ادّعائها بأنها ترفض ذلك من حيث المبدأ، لأنه منافٍ لحرية الشعوب، ولكن المسألة هي أن احتلال أرض عربية أو إسلامية لا يمثل أيّ إساءة لحقوق الإنسان عندهم، من خلال العقدة التاريخية ضد شعوب المنطقة التي كانت مستعمرة لأكثر من دولة أوروبية، ومنها بريطانيا، التي هيّأت كل الظروف لاحتلال اليهود فلسطين، والقيام بالمجازر الوحشية الصهيونية ضد شعبها.

المتصالحون مع العدوّ يدمنون العار

ومن جانب آخر، نجد الدول العربية والإسلامية المتصالحة مع العدو، كمصر والأردن، أو المنفتحة في علاقاتها الاقتصادية عليه، لا تمارس أية ضغوط على إسرائيل، في الوقت الذي يعلم الجميع أنهم يملكون الكثير من عناصر الضغط السياسي والاقتصادي، سواء كان ذلك في شكل مباشر أو في شكلٍ غير مباشر، ولكنّهم يكتفون بالتفرج على العدو وهو يقتل الفلسطينيين المدافعين عن حرية أرضهم وأبنائهم، وقد يصدرون بعض الكلمات الاحتجاجية الفارغة من المضمون، خوفاً من شعوبهم التي رفضت مواقفهم جملةً وتفصيلاً... وقد يتحدثون عن السلام مع إسرائيل التي ترفض مبادرتهم التي يلهثون من خلالها خلفها، وتتحدث بكلمات لا توحي بالجدية والاحترام للعرب، الذين أدمنوا العار منذ زمن طويل، ورفضوا أن يغسلوه بالمواجهة التحريرية، بل وأكثر من ذلك، تحالفوا مع العدو ضد المقاومة البطلة التي أسقطت العار العربي بإسقاط العنفوان الصهيوني في التحرير عام 2000، وفي تموز عام 2006، ما جعل الذين يخافون من محو العار من أكثر من دولة عربية، يتحالفون مع العدو ضد المقاومة المحرّرة، خوفاً من امتداد حركة الحرية إلى مواقعهم الخاضعة للسياسة الأمريكية ـ الإسرائيلية.

أمريكا تحوّلت إلى دولة إرهابية

أما أمريكا ـ في إدارتها البوشية ـ فإنها لا تزال تمارس دور الشرطي الذي يحرس مصالحها في منطقة الشرق الأوسط، ويوجّه بندقيته السياسية والأمنية والاقتصادية ضد مصالح شعوبها، في عملية خداع سياسي إعلامي بحجّة أنه يعمل من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، في الوقت الذي يخطط لإيجاد محور سياسي وأمني لأكثر من ديكتاتورية عربية يمنحها صفة الدول المعتدلة التي تدعم مصالحه، وتشارك في حروبه، وتحمي احتلاله، وتضغط على معارضيه، ليضمها إلى حليفته الدولة الصهيونية التي يرى فيها أكثر الدول حضاريةً واعتدالاً في المنطقة، وقد وصل الأمر بأن يصرّح بعض المسؤولين في دولة عربية، بأن إسرائيل هي الصديق والحليف والحامي للواقع العربي ضد إيران. ومن الطريف أن أحد مستشاري بوش قال: "أعتقد أن ما قرروا القيام به ـ وهم رجال الإدارة ـ هو تأدية دور الشرطي الجيد بدلاً من الشرطي السيّىء الذي ظلوا يؤدونه لمدة 6 سنوات"، ويضيف: "إن سيناريو الشرطي الجيد والشرطي السيّىء ينفع فقط في حال كان الشرطي السيّىء قابلاً لأن يصدَّق".

إننا نعتقد أن هذه الإدارة الأمريكية ـ من خلال رئيسها ونائبه ـ لن تستطيع أن تمارس دور الشرطي ـ سيئاً أو جيداً ـ لأنها تحوّلت إلى دولة إرهابية تستعرض عضلاتها العسكرية والاقتصادية والسياسية لتصادر كل حركة للحرية لأي شعب يكافح من أجل أن يكون حراً ويرفض أن يكون عبداً لأية قوة مستكبرة، وهذا ما نلاحظه من ابتعاد المسؤولين في المنطقة عنها في مواقعهم الخاصة، لأنهم يستمعون إلى الموفدين الأمريكيين الذين يطلبون منهم حماية مصالح أمريكا حتى على حساب مصالح دولهم وشعوبهم...

استجداء أمريكي للتخلّص من المأزق العراقي

هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن المأزق الذي تعيشه هذه الإدارة الاستكبارية الإرهابية في احتلالها للعراق، قد جعلها تستجدي أكثر من دولة عربية وإسلامية لإنقاذها من الورطة التي وقعت فيها، حتى إن الرئيس بوش بدأ يناشد العراقيين ويقول لهم: "نحن بحاجة إلى مساعدتكم من أجل القضاء على العنف الآن أكثر من أي وقت مضى"، في الوقت الذي كان يمنّن الشعب العراقي بأنه دخل بلدهم محتلاً من أجل إنقاذهم من العنف، وقد كانت كل خططه أن يحوّل العراق إلى بلد تسود فيه الفوضى، بحيث لا يملك فيها أي عراقي أمنه، ولا يحصل على أية حاجة من حاجاته، والخطة الأمريكية الآن هي كيف يحافظ الاحتلال على أمن جنوده لا أمن الشعب العراقي، حيث إنّ الرأي العام الأمريكي، سواء من الجمهوريين أو الديمقراطيين، يطالبه بالانسحاب من العراق الذي أصبح بفعل المقاومة الشريفة مقبرةً للجنود الأمريكيين.

لقد دخلت أمريكا المنطقة بفعل سياسة إدارتها التي يهيمن عليها المحافظون الجدد، ما أدّى إلى إحراق مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية، وحوّلت أكثر من دولة عربية وإسلامية إلى جحيم من العنف الوحشي الذي يسقط فيه المدنيون من الشيوخ والنساء والأطفال، بحيث أصبح المسلم يقتل المسلم، والمواطن يعتدي على المواطن، لأن ذلك هو النتيجة الطبيعية للفوضى الخلاقة، أو البنّاءة التي بشّرت بها... ولذلك، فإننا نطلق الصوت القوي لكل شعوبنا المستضعفة، الوقوف بكل قوة المقاومة والمعارضة والممانعة ضد سياسة الإدارة الأمريكية لتوسيع مأزقها في كل مواقعها الاحتلالية والسياسية، لأن ذلك وحده هو الذي يضعف قوتها، ويضغط على مصالحها، ويعيد للشعوب حيويتها، ويمكّنها من تقرير مصيرها بنفسها، لأننا إذا تركنا أمريكا تمارس حرية الاحتلال والضغط، فسوف تحرق العالم كله بخططها الاستكبارية، لا بقنابلها النووية.

لبنان: خضوعٌ سياسي لتعليمات الموفدين

أما لبنان، فإنه يهتزّ ـ في هذه المرحلة ـ بالعنف الدامي، بفعل الاهتزاز السياسي الذي منع المواطنين من الحوار العاقل الموضوعي الهادىء حول الخطط الواقعية التي تحول دون سقوط أوضاع البلد تحت تأثير الطموحات الشخصية، التي تختفي خلف ستار من النفاق السياسي والطائفي والمذهبي والشخصي الذي يتحدث بكلمات الحقّ التي يراد بها الباطل، ويدعم الخارجين عن القانون بماله ومواقعه، ليكونوا الفئة التي يستعين بها في مواجهة خصومه في تنوعاتهم الفئوية الخاصة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هناك مشكلة حسّاسة، وهي مشكلة بعض المواقع الدينية التي ابتعدت عن خطاب الوحدة الجامعة التي تجمع الناس على القيم الروحية والأخلاقية والمصالح الوطنية، لتكون منطلقةً من خط الإثارة تأييداً لفريق سياسي هنا وفريق سياسي هناك، ما قد يؤدي إلى الفتنة في المجتمع، في الوقت الذي يتحدثون بأنهم للجميع فيما هم يريدون الشعب خاضعاً لامتيازات رموزهم السياسية، وهذا ما نعانيه في كل استحقاق مركزي مستقبلي مصيري يخضع فيه الخطاب وراء الكواليس لتعليمات الموفدين الدوليين الذين يعطون التعليمات المحددة التي تلتقي مع مصالح دولهم، ويعلنون أنهم لا يتدخلون في شؤون لبنان.

لقد كان النواب ينتظرون كلمة السرّ في بعض استحقاقات الوطن، وما زالت المسألة تنتقل من وحي إقليمي إلى وحي دولي، لأن القضية الرئاسية ـ وبكل أسف ـ لا تخضع لحاجات اللبنانيين، بل لحاجات الآخرين...

وإننا أمام الاهتزاز الأمني والتفجيرات الخبيثة، نريد للبنانيين أن يعملوا على أساس أن يكون كل مواطن خفيراً وحارساً، لأن السلم الأهلي والأمن الوطني هو مسؤولية الجميع.

التحرير أسَّس لهزيمة العدوّ

وأخيراً، إننا أمام مناسبة التحرير التي نلتقي بها في هذا اليوم، علينا أن نعي أهمية هذا الحدث في معطياته المتجددة، وفي إلهامه المستمر للشعوب العربية والإسلامية التائقة للتخلّص من الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأمريكية.

لقد شكّل تحرير معظم الأراضي اللبناني، وطرد العدو، محطة كبرى أسست لهزيمة العدو في عدوانه الأخير، ولذلك فإن المسؤولية تقع على عاتق الجميع، ليس لجهة حماية المقاومة وصون إنجازاتها فحسب، بل لجهة استثمار هذه الإنجازات على مختلف المستويات الأمنية والسياسية والثقافية، كونها تمثّل الرصيد الكبير للوطن والأمة الذي لا يجوز التفريط به أو الإساءة إليه في أي ظرف وتحت أي اعتبار.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية