كظم الغيظ والدفع بالأحسن:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد في صفة المتقين الذين أعدّ لهم الجنة من خلال التزامهم بأسباب التقوى: {وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}(آل عمران/134).
إن هذه الصفة، صفة كظم الغيظ، هي من الصفات التي تتحرك في واقع العلاقات الإنسانية، عندما تشتد الأزمة بين شخص وآخر، أو بين فريق وفريق، بحيث يتحرك الإنسان ليفجّر غيظه ولينفّس عن عقدته ضد الإنسان الآخر، سواء كان ذلك بكلمة حادة يشتم فيها أحدهما الآخر، أو بحركة يضرب فيها أحدهما الآخر، وربما تمتد المسألة إلى أن يجرح أحدهما الآخر أو يقتل، وربما تطال هذه المسألة العلاقات العائلية الداخلية التي قد يغتاظ فيها الزوج من بعض تصرفات الزوجة، فيعمد إلى طلاقها وتشريدها وإبعادها عن أولادها، ما يؤدي إلى هدم البيت على أهله.
وهذه حالة تتحرك في الواقع الإنساني، فالإنسان عندما يغتاظ فإنه يفقد توازن عقله، وينحرف عن خط الاستقامة في تصرفاته، فيتحرك بوحيّ غريزته الحارّة التي قد تدفعه إلى الثأر من الآخر، وربما يتدخّل الشيطان الذي يوسوس له ليوحي إليه بأنه إذا لم يفجّر غيظه بأي أسلوب من الأساليب فإن ذلك قد يعطي انطباعاً عنه بأنه يقف في موقف الذل والصغار والسقوط.
ولكن الله تعالى يريد للإنسان المسلم أن لا يخضع لما يتجمّع في صدره من الغيظ من الإنسان الآخر، وأن لا يتحرك بوحي غريزته، بل يتحرك بوحي عقله ليحسب حساب الربح والخسارة، وحساب الخير والشر في كل تصرفاته، في ردود الفعل تجاه الإساءات التي يمكن أن تحصل له، ولذلك ورد في القرآن الكريم في صفة المؤمنين: {وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}(الرعد/22)، إذا أصابتهم السيئة من الآخرين فإنهم يدفعونها بالحسنة، وقد ورد في آية أخرى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}(المؤمنون/96)، قابل السيئة بالأسلوب الأحسن والأفضل الذي لا يعقّد المشكلة ولا يؤدي إلى نتائج سلبية كبيرة.
ولعل صعوبة هذا الالتزام بكظم الغيظ وحبسه في داخل الصدر، ليمنعه من التفجّر بعمل سيء أو تصرف سيء، تنطلق من شعور البعض بأنه أمر يمكن أن لا يتحمّله الإنسان، لأنه يعتبر أنه إذا لم يقم برد فعل أمام الآخر فإنه قد يرميه الناس بالجبن والذل.
من أخلاق أهل البيت(ع):
يُنقل عن إمامنا عليّ بن الحسين زين العابدين(ع) أنه كان جالساً مع أصحابه ومرّ عليه شخص من أقاربه ممّن يعيش العقدة ضده ويحمل الحقد عليه، ووقف على الإمام(ع) وبدأ يسبّه ويشتمه ويتكلم عنه بالسوء، والإمام(ع) بين أصحابه ساكت إلى أن فرّغ هذا الشخص كل ما عنده من حقد وذهب إلى بيته، فقال الإمام(ع): "امشوا بنا إلى فلان حتى نصفّي حسابنا معه"، وربما تصوّر هؤلاء أنّ الإمام زين العابدين(ع) يريد أن يستعين بهم عليه، فقال بعضهم: «كنا نمشي مع الإمام(ع) وسمعناه يردد: {وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}(آل عمران/134)، فعرفنا أنه يريد به خيراً، إلى أن وصلنا إلى منـزل الرجل فخرج متوثباً، فقال له الإمام(ع): "لقد قلت فيَّ كلاماً، فإن كان موجوداً فيّ فاسأل الله أن يغفر لي، وإن لم يكن فيّ فأسأل الله أن يغفر لك"، فهزّته هذه الأريحية فقال الرجل: "ما قلته ليس فيك واسأل الله أن يغفر لي، والله أعلم حيث يجعل رسالته".
ويُنقل عن الإمام زين العابدين(ع) أنه كان يمشي في طريق وسبّه بعض أعدائه، فلم يلتفت الإمام(ع) إليه، فقال له الرجل: "إياك أعني"، فقال الإمام(ع): "وعنك أُعرض". هذه هي أخلاق أهل البيت(ع) الذين هم القمة في الروحانية والأخلاق والتقوى.
وينقل عن الإمام الكاظم موسى بن جعفر(ع) أنه كان هناك شخص في المدينة يتكلم على الإمام كلاماً قاسياً، بحيث ضاق به أصحاب الإمام(ع) وأرادوا قتله ولكنه منعهم، وسأل عن هذا الرجل أين هو، فقالوا: "في بستان له في المدينة"، فذهب الإمام إليه وهو يركب دابته، فقال له الرجل: "إنك تتلف عليّ زرعي"، ولم يلتفت إليه الإمام(ع) حتى وصل إليه وجلس عنده فقال: "كم تؤمّل في زرعك"؟ قال: كذا وكذا، فأعطاه الإمام ما طلب والزرع على حاله، وبدأ يحدّثه بكل كلام طيب، فانقلب هذا الرجل رأساً على عقب وهو يقول: "الله أعلم حيث يجعل رسالته"، فالتفت الإمام(ع) إلى أصحابه وسألهم: "أي الأسلوب هو الأفضل"، لقد أراد الإمام الكاظم(ع) أن يقتحم جانب الخير في شخصيته، ولكن مشكلة البعض أنهم يقتحمون جانب الشر في الآخر فيثيرونه.
هذه هي أخلاق أهل البيت(ع) الذين يمثلون في سلوكهم القرآن في كل تعاليمه ومواعظه، فهم القرآن الناطق، ولذلك كانت الناس تسمع الآية منهم ومن النبي(ص) ويجدونها متجسّدة فيهم. فلنقرأ كيف عالج النبي(ص) وأهل البيت(ع) هذا الخلق العظيم وهو كظم الغيظ:
قال رسول الله(ص): «من أحبّ السبيل ـ الطريق ـ إلى الله عزّ وجلّ جرعتان: جرعة غيظ تردها بحلم ـ بهدوء وكظم ـ وجرعة مصيبة تردها بصبر»، فإن ذلك هو السبيل للوصول إلى رضوان الله تعالى. وكان الإمام زين العابدين(ع) يقول: «إنه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه»، عندما يغضب الزوج على زوجته أو أولاده أو أن يغضب صاحب العمل على موظفيه، أو الجار على جيرانه، فإنه يواجه الغضب بطبع هادئ. وعن الإمام الباقر(ع): «قال رسول الله(ص): إن الله عزّ وجلّ يحبّ الحيي ـ الخجول، وهو في مقام عدم الحياء ـ الحليم ـ هادئ الطبع ـ العفيف ـ الذي يعفّ نفسه عن الحرام ـ المتعفف عن أموال الناس». وعن أمير المؤمنين(ع): «إذا لم تكن حليماً فتحلّم، فإنه قلما تشبّه أحد بقوم إلا أوشك أن يكون مثلهم». ويقول الإمام الصادق(ع): «ما من عبد كظم غيظاً إلاّ زاده الله عزاً في الدنيا والآخرة، وأثابه الله مكان غيظه ذلك في الجنة»، فأيهما أفضل أن تفجّر غيظك أو أن تدخل الجنة جزاء على كظم غيظك؟! وورد عن الصادق(ع): «من كظم غيظاً ومن شاء أن يمضيه أمضاه أملأ الله قلبه يوم القيامة رضى»، وعن الرضا(ع) يقول: «لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً، وإن الرجل كان إذا تعبّد في بني إسرائيل لم يكن عابداً إلا أن يصمت عشر سنين»، فلا يتحرك بأي حالة عنف.
هذا هو المنهج التربوي الأخلاقي للنبي(ص) ولأهل بيته(ع) في القيم الإنسانية، وهذا ما يجعل الإنسان يرتفع إلى مواقع رضى الله ويحصل على الجنة، فإذا عرض لكم الشيطان بأن تفجّروا غيظكم فكّروا هل الأفضل أن تفجّروا غيظكم أو أن تكظموه لتحصلوا على الجنة التي تجعل الإنسان يعيش السعادة برضوان الله ونعيمه؟!
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله وواجهوا المرحلة الصعبة التي يمر بها المسلمون في مواجهتهم للمستكبرين بأقسى ما هناك من التحديات، وحاولوا أن تنطلقوا في مواجهة الاستكبار كافة كما يواجهكم كافة، فماذا هناك؟
العمل على تطويق الواقع العربي:
في المشهد الأمريكي: كانت زيارة نائب الرئيس الأمريكي، ديك تشيني، للمنطقة من أجل تطويق الواقع السياسي العربي، وذلك عبر دفع الدول التي تصنفها أمريكا في دائرة الاعتدال إلى تعقيد علاقاتها بإيران لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، وربما كانت أحاديثه تدور حول طلب مساعدتها للحرب على إيران إذا قررت أمريكا العدوان عليها عسكرياً، وخصوصاً أنّ هذا الرجل كان ولا يزال من دعاة الحرب في المنطقة من خلال الحقد على الواقع العربي والإسلامي الذي يدين به المحافظون الجدد والفريق الصهيوني الأمريكي لمصلحة إسرائيل من دون أن يعير تشيني أي اهتمام للأخطار التي قد تلحق بهذه الدول، ولا سيما دول الخليج، في مثل هذه الحرب، وربما كان يركّز على بعض نقاط الضعف لبعض هذه الدول في علاقاتها ببلده وفي تعقيدات أوضاعها الداخلية...
وقد كانت زيارته ـ بحسب بيانات البيت الأبيض ـ من أجل دراسة الوضع الذي تعيش الإدارة الأمريكية مأزقه في العراق ومحاولة تعبئة بعض دول المنطقة الخاضعة لأمريكا في إيجاد حل لذلك، في الوقت الذي يعرف الجميع أن المشكلة أكبر من قدرة هؤلاء، وربما كان بعضهم ـ حسب المعلومات ـ يدفعون بالإرهابيين التكفيريين إلى بلاد الرافدين تخلصاً منهم وحذراً من قيامهم بالعمليات العنيفة في بلادهم. علماً أن الجيش الأمريكي والقوات المتعددة الجنسية الخاضعة لأمرته لم يستطع حل مشكلته هناك، بالرغم من الاختلال في موازين القوة لمصلحته، فكيف يستطيع هؤلاء مساعدته في ذلك؟
المأزق العراقي يجبر أمريكا على محادثة إيران:
وإذا كان هذا الرجل، "نائب بوش"، يتحدث عن إيران كمشكلة للاحتلال الأمريكي في العراق ويحذر دول المنطقة من مخططاتها السياسية والأمنية، فإنه وجد نفسه مع حكومته، مضطراً للدخول معها في المفاوضات حول العراق من أجل الوصول إلى حلِّ لمأزقه الأمني والسياسي من دون أن يبحث القضايا الأخرى التي يضغط من خلالها على إيران اقتصادياً وسياسياً، ولا سيما فيما يتصل بالملف النووي الإيراني السلمي الذي يتحرك من خلال موقعه للدفع بمجلس الأمن لفرض عقوبات جديدة عليها من دون حق قانوني، ضاغطاً على الاتحاد الأوروبي وعلى دول أخرى.
ونلاحظ في زيارة نائب الرئيس الأمريكي إهماله للمسألة الفلسطينية واعتبار ما يسمى السلام الفلسطيني ـ الإسرائيلي لا يمكن التوفر عليه، لأن هناك قضايا مهمة في مصالح أمريكا لا يمكن تأخيرها أو عدم العمل عليها لمجرد أن القضايا الأخرى لم تحل، الأمر الذي يمنع من التطرق إلى هذه أو تلك.
الفشل في محاصرة إيران:
لقد كانت زيارة هذا الرجل الإرهابي الضاغط على الرئيس الأمريكي في كل قراراته السياسية والعسكرية العدوانية حركة من أجل إرباك الوضع السياسي في المنطقة، وخصوصاً بالنسبة إلى حلفاء أمريكا، وقد حاول في زيارته للإمارات المتحدة أن يضغط لدفعها إلى مصادرة المصالح الإيرانية في كل شركاتها العاملة هناك، ومحاصرة إيران اقتصادياً في شكل عام كي لا تستطيع المضي قدماً في مشاريعها المتنوعة، ولا سيما الملف النووي السلمي، ولكنه لم يوفق لذلك لأن علاقة إيران التاريخية بهذه الدولة لا يمكن للخطة الأمريكية أن تعمل على إسقاطها، لأن ذلك قد يؤدي إلى بعض التعقيدات السياسية والأمنية والاقتصادية مما لا تستطيع الإمارات أن تتحمله. وقد كانت زيارة الرئيس الإيراني لهذه الدولة حركة نوعية في تقوية العلاقات الثنائية المتنوعة من جهة وإفشال المخطط الأمريكي من جهة أخرى.
إن المشكلة في حركة الموفدين الأمريكيين للمنطقة أنهم لا يبالون بمصالح دول المنطقة لا سيما في علاقاتهم بإيران، بل يعملون على توظيف المسؤولين في الدول المسماة معتدلة لخدمة مصالح أمريكا، والسقوط في مخططاتها التي لو كشفت فإنها ستربك كل أوضاعهم وتفضحهم لدى شعوبهم، لأن هؤلاء يضحون بمصالح بلادهم الحيوية وممارسة الضغط على شعوبهم التي تطالب بالحرية في الداخل والخارج.
فلسطين: العودة إلى الدوامة الأمنية:
ومن جانب آخر، فقد عادت الدوامة في فلسطين إلى ساحة غزة حيث الأوضاع الأمنية المتوترة بين الفصائل الفلسطينية، ولا سيما فتح وحماس، ولم تستطع حكومة الوحدة الوطنية أن تسيطر على هذا الوضع الدامي الذي صادر أمن الشعب الفلسطيني كله في تلك المنطقة، ما يوحي بأن المسؤولين الفلسطينيين لم يركزوا الحكومة على قاعدة قوية ثابتة تحمي شعبهم من الفوضى، ولم يرصدوا المخابرات الصهيونية التي تنفذ إلى الساحة الفلسطينية من خلال بعض الشخصيات الأمنية المتهمة بتعاملها مع العدو لمنع أيّ فصيل من فصائل الانتفاضة من العمل على مواجهة العدوان الإسرائيلي بالمقاومة الفاعلة التي تضغط على العدو بصواريخها ضد مستوطناته.
إننا ننادي المجاهدين الفلسطينيين بكل محبة ومسؤولية أن يعرفوا الاتجاه الصحيح الذي تتحرك فيه البنادق الفلسطينية، فلا يجوز ـ تحت أيّ اعتبار ـ أن يوجّه الرصاص إلى صدر أي شخص فلسطيني، ولا سيما النساء والأطفال والشيوخ، بل إنّ عليهم أن يوجهوا البنادق إلى العدو، وأن تنطلق المقاومة لتكون هي الحل لمسألة الاحتلال، لأن العدو ـ ومعه أمريكا ـ لا يمكن أن يسمح بنجاح أية حكومة وحدة وطنية، ولا سيما إذا كانت فصائل الانتفاضة جزءاً منها... بل يعمل على دفع كل السائرين في خط مخابراته إلى التحرك لإثارة الفوضى التي يفقد معها الشعب ثقته بكل حكامه... إن المرحلة الآن هي من أخطر المراحل التي تمر بها القضية الفلسطينية التي أهملها الواقع العربي والدولي والإسلامي وأعلنوا أنهم يتبرأون من دم هذا الصديق، لأنهم يخافون من امتداد المقاومة الأصيلة، إلى مواقعهم الخاضعة لأعداء الأمة الدوليين والإقليميين والمحليين.
انشغال بالحرب على المقاومة وإسرائيل تستعد:
وفي جانب آخر، فإن إسرائيل بدأت بتدريب جيشها على حرب واسعة وإجراء مناورات بعيدة المدى لطياري النخبة استعداداً لأي حرب تخطط لها ـ مع أمريكا ـ في المنطقة ضد سوريا ولبنان وربما إيران، لتمسح عن تاريخها القريب عار الهزيمة في حربها على لبنان ضد حزب الله، لأن هذه الدولة اليهودية المتحالفة استراتيجياً مع أمريكا قد ولدت في الحرب، وسعت في كل تاريخها العسكري السياسي ضد العرب في المنطقة إلى إلحاق الهزيمة بهم لتبقى الدولة الأقوى في المنطقة ليخضع لها الجميع، ولتحقق لأمريكا بعض مشاريعها السياسية في ربط الواقع العربي بها. ومن المضحك المبكي أن البعض في لبنان ـ وفي بعض العالم العربي ـ مشغول بالحرب على المقاومة التي هزمت العدو وبطرح نزع سلاحها انطلاقاً من بعض التعقيدات المحلية، في الوقت الذي لا تملك هذه الدولة التي يتحرك القائمون عليها في هذا الاتجاه أية قوة لردّ العدوان الإسرائيلي في حال عزم على القيام بذلك... إن الجميع يعرفون أن سلاح المقاومة لن يستخدم في أيّ حرب أهلية داخلية، ولن ينطلق لتأسيس دولة على حساب الدولة الأم، بل إنّ هذا السلاح لم ولن يستخدم إلا لدفع العدوان كما كان في الماضي، الذي كانت كل مواقعه من أجل التحرير في سنة (2000) وفي رد العدوان في (2006).
إن على النادي السياسي اللبناني بمعارضيه ومواليه أن يعرف أن الشعب اللبناني يريد الدولة العادلة القوية القادرة التي لا تخضع لاعتبارات طائفية أو شخصية أو وصاية إقليمية أو دولية، ولكن كيف تصنع هذه الدولة، وما هو حجم قوتها في ردّ العدوان؟ وما هو تخطيطها في اعتبار القانون للجميع لا للزعامات المذهبية والطائفية التي لن يستطيع أحد أن يسألها عن مصادر ثرواتها من أين لك هذا؟
العالم يتفرج على مأساة العراقيين:
ويبقى العراق الجرح النازف في قلب الأمة، ويبقى العراقيون الشعب الجريح الذي يسقط منه الشهداء والضحايا والجرحى ويشرّد فيه المدنيون الأبرياء من منازلهم ويهاجرون إلى مختلف بقاع العالم هرباً من المعتدين من المحتلين والتكفيريين... أما العالم فإنه يتفرج على كل هذه المأساة من دون أن يجد لها حلاً بالرغم من المؤتمرات التي عقدت لهذه الغاية، والتي كان آخرها مؤتمر شرم الشيخ الذي انعقد لمعالجة المأزق الأمريكي لا لحل المشكلة العراقية... ونحن الذين يتألمون من كل قلوبهم وأعماقهم، نريد للشعب العراقي أن لا يشغل نفسه ـ في هذه المرحلة ـ بالخلافات السياسية والطائفية والمذهبية لأن المشكلة أكبر من كل تلك الخلافات، ولا سيما أن الاحتلال لا يريد لأية حكومة أو لأيّ برلمان أو لأيّ واقع سياسي أن ينجح، بل إنه يعمل لاستكمال السيطرة على مقدرات العراق وثرواته وموقعه الاستراتيجي خدمةً لمشاريعه في المنطقة بعيداً عن مصالح العراق... إن المطلوب هو توسعة المأزق الأمريكي من أجل محاصرة الإدارة الأمريكية في بلدها للتعجيل بانسحاب الجيش المحتل من العراق بفعل الضغط السياسي الداخلي ولا حل غيره.
لبنان: انفراط الوحدة الوطنية أمام الطائفية:
أما في الداخل اللبناني، فلا يزال الجدل يتحرك في الساحة السياسية التي فقدت الكثير من أساليب التهذيب في الكلام، وابتعدت عن دراسة الأخطار الكبرى التي تصيب البلد في اقتصاده وأمنه وسياسته، ولم تعد هناك أيّة وحدة وطنية جامعة أمام اللغة الطائفية، فلم تعد المسألة هل يتحرك الانتخاب وطنياً في التنوع الوطني سواء أكان برلمانياً أو سياسياً، بل بات المطلوب أن يتحرك طائفياً لينتخب المسيحيون نوابهم ورئيسهم وينتخب المسلمون نوابهم من دون أن يكون لهم دور كبير في الاستحقاق الرئاسي، تماماً كما كان البلد قد تحوّل إلى فدراليات طائفية أو مواقع مذهبية يعيش فيها هذا الفريق أو ذاك الفريق في هذه الدائرة الضيقة أو تلك... أما لبنان الواحد الموحّد، أما المواطن اللبناني المنفتح على أبناء وطنه فقد كفر به الجميع في حركة الواقع ولم يعد له أي دور إلاّ في النشيد الوطني الذي ينطلق من الشفاه لا من القلوب والعقول، لأن المنشدين يرجعون إلى قواعدهم الطائفية والمذهبية وربما الشخصية سالمين أو غير سالمين.
وهكذا بدأ اللبنانيون يهربون من مؤسساتهم التي عطلوها وجمدوها، وأصبحت الأمم المتحدة بديلاً من الدولة اللبنانية، وأصبح القضاء الدولي بديلاً من القضاء اللبناني، وأصبح المجتمع الدولي هو المجتمع الذي يتطلع إليه اللبنانيون في قراراته الرسمية من أجل مصلحة هذا المحور الدولي أو ذاك... أما الإعلام اللبناني فقد أصبح في عهدة السفراء والموفدين الأجانب والمعلقين الدوليين... ويبقى للبنانيين في إعلامهم الثروة الغنية من ألفاظ السباب والشتائم والاتهامات الاستهلاكية ووسائل التخوين... ما يجعل الواقع التربوي للأجيال الجديدة واقعاً لا يلتقي بالأخلاق من قريب أو من بعيد.