الدعوة إلى تماسك المجتمع والابتعاد عن السب والشتم

الدعوة إلى تماسك المجتمع والابتعاد عن السب والشتم

منهج الإسلام في التربية:
الدعوة إلى تماسك المجتمع والابتعاد عن السب والشتم


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

اللّسان أداة الكلمة الطيبة:

يقول الله تعالى مخاطباً رسوله(ص) في أسلوب دعوته، في المسألة الأخلاقية التهذيبية المنفتحة على ما يقرّب الناس منه، ويفتح عقولهم على عقله، وقلوبهم على قلبه، وحياتهم على حياته، يقول تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(الإسراء/53).

فالإنسان عندما ينطلق في حياته الاجتماعية، فإنَّ لسانه هو وسيلته للانفتاح على الآخرين، في مشاعره وعواطفه وأحاسيسه، وفي حاجاته وحواراته وجدالاته، وفي دعوة الآخرين إلى ما يؤمن به، كما أنَّ اللّسان هو الوسيلة التي يدعو بها ربه ويبتهل بها إليه ويذكره بها، ويعبّر له بها عن كل حاجاته، ويطلب منه ـ بلسانه ـ أن يرحمه ويغفر له. فاللّسان هو الوسيلة التي ترتفع بالإنسان إلى الله، وتنفتح به عليه وعلى الناس: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}(فاطر/10).

وعلى ضوء هذا، أراد الله تعالى للناس عندما يتحدّثون مع بعضهم بعضاً، أن يدرسوا كلماتهم، وأن يعرفوا أن للناس مشاعر وأحاسيس كما لهم مشاعر وأحاسيس ، وأن الناس يحترمون أنفسهم كما يحترم نفسه، وأنّهم لا يريدون لأحد أن يسيء إليهم، كما لا يحبّ أن يسيء أحد إليه، وقد جاء في قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}(البقرة/83)، أي قولوا لهم أفضل ما تحبون أن يُقال لكم، لأنّ الناس يحبُّون أنفسهم كما تحبّ نفسك، ويحترمون أنفسهم كما تحترم نفسك، لذلك كانت صفة النبي(ص) التي أكّدها تعالى في القرآن الكريم، هي أنّه كان ليّن اللسان، وليّن القلب: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ـ أي أنَّ لسانك لم ينطلق بأيّ فظاظة أو شدَّة أو إهانة للناس ـ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران/159)، فالكلام الليّن والطيّب هو الذي يجمع الناس حولك، ويجعلهم يستمعون إليك ويقبلون عليك.

فالله تعالى يقول: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(الإسراء/53)، فإذا أردت أن تتكلَّم بكلمة، حاول أن تدرس المعنى الذي تريد أن تعبّر عنه من خلالها، لأنّ بعض الكلمات تعطي إيحاءات سلبية، اختر أفضل الكلمات في حديثك مع الآخرين، كما تختار أفضل الأطعمة والمنازل والبضائع، لأنّ الكلمة قد تؤدي إلى نتائج سلبية على حياتك، وقد ورد: «ربّ كلمة سلبت نعمة».

النهي عن الفحش:

ولذلك، فقد اهتم الإسلام بتهذيب الكلمة وتحسينها، وقد ورد عن الإمام زين العابدين(ع) في حقِّ اللسان: «وأما حقّ اللسان، فإكرامه عن الخنا ـ وهي كلمات الفحش والغلظة والقول الشديد ـ وتعويده الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها، والبرّ بالنّاس وحسن القول فيهم».

ومن الأمور التي رفضها الإسلام وعاقب عليها، الفحش في القول والبذاء، وهو الكلام الذي يُستحى منه ويُخجل، كالكلمات التي تمثل فحشاً وابتعاداً عن التهذيب وإهانةً للإنسان الآخر. فلنستمع إلى ما ورد عن الأئمة من أهل البيت(ع) في ذلك، والنتائج السلبية التي تترتب على كلمات الفحش والبذاء في الدين والدنيا.

فعن أمير المؤمنين(ع) قال: «قال رسول الله(ص): إن الله حرّم الجنّة على كل فحّاش بذيء قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له»، بحيث يسبّ ويشتم الناس أو المحيطين به من زوجته أو أبنائه من الذكور والإناث، متلفّظاً بالكلام البذيء، بحيث يخجلون من كلماته. وقد سئل أحد الأئمة(ع): «هل في الناس من لا يبالي ما قيل له؟»، قال(ع): «من تعرّض للناس يشتمهم وهو يعلم أنهم لا يتركونه ـ السبّ بالسبّ، والشتيمة بالشتيمة، لأنّ الفعل يولد ردّ الفعل ـ فذلك الذي لا يبالي ما قال ولا ما قيل له».

وعن الإمام الباقر(ع): «إنّ الله يبغض الفاحش المتفحّش»، والفاحش هو ذو الفحش في كلامه، والمتفحّش هو الذي يتكلّف ذلك ويعتمّده. وورد أنّه: «كان للإمام الصَّادق(ع) صديق لا يكاد يفارقه إذا ذهب مكاناً، فبينما هو يمشي معه في سوق الحذّائين ومعه غلام له سندي (مجوسي) يمشي خلفهما، إذ التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرات، فلم يره، فلما نظر في الرابعة قال له: يا بن الفاعلة (الزانية)، أين كنت؟ فرفع الإمام الصادق(ع) يده فصكّ بها جبهة نفسه، ثم قال: سبحان الله، تقذف أمه، قد كنت أرى أن لك ورعاً، فإذا ليس لك ورع؟ فقال: جُعلت فداك، إنّ أمه سندية مشركة، فقال(ع): أما علمت أن لكل أمة نكاحاً تنحَّ عنّي. ـ الإسلام أمضى كل أساليب وعقود الزواج المتفق عليها بين الأمم كافة، ولم يعتبر أن زواج غير المسلم هو زواج باطل ـ فما رأيته يمشي معه حتى فرّق الموت بينهما».

الآثار السلبية للفحش:

وعن الإمام الباقر(ع) قال: "قال رسول الله(ص): إنّ الفحش لو كان مثالاً لكان مثال سَوء". وعن الإمام الصادق(ع) قال: "قال رسول الله(ص): "إنّ من شرّ عباد الله من تُكره مجالسته لفحشه"، وعنه(ع): "البذاء من الجفاء، والجفاء في النار"، وعنه(ع) أنه قال: «كان في بني إسرائيل رجل، فدعا الله أن يرزقه غلاماً ثلاث سنين، فلما رأى أنّ الله لا يجيبه قال: يا ربّ، أبعيد أنا منك فلا تسمعني، أم قريب أنت مني فلا تجيبني؟ فأتاه آتٍ في منامه فقال: إنّك تدعو الله عزّ وجلّ منذ ثلاث سنين بلسان بذيء، وقلب عاتٍ غير نقي، ونيّة غير صادقة، فاقلع عن بذائك، وليتقِ الله قلبك، ولتحسن نيّتك، ففعل الرجل ذلك، ثم دعا الله فوُلد له غلام». معنى ذلك أن بذاءة اللسان، وقساوة القلب، وعدم صفاء النيّة، قد تمنع من استجابة الدعاء. وفي الحديث: «من فحش على أخيه المسلم، نزع الله منه بركة رزقه، ووكله إلى نفسه، وأفسد عليه معيشته».

وفي حوار بين الإمام الصادق(ع) وبين أحد أصحابه، واسمه "سماعة"، قال: دخلت على أبي عبد الله الصَّادق(ع)، فقال لي مبتدئاً: «يا سماعة، ما هذا الذي كان بينك وبين جمّالك؟ إياك أن تكون فحّاشاً أو صخّاباً أو لعّاناً، فقلت: والله لقد كان ذلك، إنه ظلمني، فقال(ع): "إنّ كان ظلمك، لقد أربيت عليه ـ أي أنك بفعلك ظلمته أكثر مما كان ظلمك ـ إن هذا ليس من فعالي ولا آمر به شيعتي. استغفر ربك ولا تعد، قلت: استغفر الله ولا أعود».

وللأسف، هناك كثير من الذين اعتادوا لعن مقدّسات الآخرين، ونحن نقول: أنت حرّ في أن لا تقبلهم، أمّا أن تلعنهم، فهذا مرفوض، لأنّه يسيء إلى تماسك المجتمع الإسلامي ويثير الفتنة بين المسلمين. بعض الناس يوجّهون اللعن إلى بعض زوجات النبي(ص)، صحيح أن بعض زوجاته أخطأت، لكن أحد علمائنا القدامى، واسمه السيد محمد باقر حجة الإسلام، يقول:

فيا حميراء سبّك محرّم من أجل عين ألف عين تكرم

علينا أن نكون مهذَّبين مع أهلنا في البيت، ومع إخواننا في المجتمع، وحتى مع خصومنا، لأنّ الله تعالى يقول: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(الإسراء/53). هذا هو خلق الإسلام الذي يجعل الأمّة المسلمة ترتفع بين الأمم، في تهذيب كلامها، وفي قول الّتي هي أحسن، والجدال بالتي هي أحسن، فذلك هو الذي يقرّبنا من بعضنا بعضاً، ويقرّبنا إلى الله عزّ وجلّ.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف من موقع واحد، فإن الله تعالى يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، ولا سيّما عندما يقف الاستكبار كله والكفر كله ضد الاستضعاف كله والإيمان كله، فالله يريدنا أن نكون أمّةً إسلامية واحدة معتصمة بحبل الله من دون أن نفسح في المجال لكل من يريد أن يفرّقنا ويثير الفتنة فيما بيننا، لأن كل جهة تريد أن تثير الفتنة، هي ملعونة من الله، وقد ورد: «إن الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها». ونحن نريد أن نواجه الواقع الإسلامي من خلال ما يتحرك به المستكبرون في العالم، وما تنطلق به الأوضاع السلبية في منطقتنا، فماذا هناك:

سياسة بوش هي المسؤولة عن الإرهاب:

في المشهد الأمريكي: هناك تقرير لوزارة الخارجية عن الإرهاب يتحدث عن زيادة ملحوظة في الهجمات الإرهابية عام 2006، وأن العراق كان الساحة الأكثر دموية لأعمال الإرهاب، إذ استخدم المتطرفون والإرهابيون مختلف الأسلحة والأساليب في هجماتهم، بما فيها الأسلحة الكيميائية، وقال: "إن معظم الهجمات الإرهابية تحصل في منطقة الشرق الأوسط"، في إشارة إلى العراق وأفغانستان والسودان. كذلك أشار التقرير إلى أن إيران "لا تزال الدولة الراعية للإرهاب الأكثر نشاطاً في العالم"، واتهم قوات الحرس الثوري ووزارة الاستخبارات والأمن "بالتورط المباشر في التخطيط للأعمال الإرهابية ودعمها"، وقال: "إن إيران تواصل تشجيع تنظيمات فلسطينية وحزب الله في لبنان لاستخدام الإرهاب لتحقيق أهدافها".

إننا نتساءل أمام هذا التقرير عن السبب فيما تسميه وزارة الخارجية الأمريكية الإرهاب، فنلاحظ أنّ سياسة هذه الإدارة، برئاسة بوش، قد تكون هي المسؤولة عن العنف في المنطقة، من خلال الحرب التي تشنها على أفغانستان ثأراً لأحداث 11 أيلول في أمريكا، من دون دراسة دقيقة لأوضاع الناس في هذا البلد، وخلفيات الجهات الحاكمة فيها قبل الغزو الأمريكي ـ الأطلسي. فقد كانت الاستخبارات المركزية الأمريكية هي التي حرَّكت الكثير من سلبيات أوضاعه في تعبئة الناس ضد الاحتلال السوفياتي، بحيث أثارت فيه الكثير من الفوضى الداخلية والتطرف السياسي. وكان الغزو منطلقاً من عملية هجوم ثأري ضد الجهات المتهمة بوقوفها وراء أحداث أيلول في عملية وحشية حصدت الكثير من المدنيين من الشعب الأفغاني دون رحمة، ما جعل الإدارة الأمريكية غير قادرة على أن تحقق الاستقرار لهذا الشعب، بل زادته قلقاً واهتزازاً وقتلاً وإرهاباً، وبالتالي، فإن المأساة لن تنتهي إلا بخروج الاحتلال من أرضه، ليقرر الشعب مصيره بعيداً عن التدخل الخارجي.

الاحتلال هو المشكلة:

وإذا انتقلنا إلى الحرب على العراق، فإننا نلاحظ أن الإدارة الأمريكية لم تجد مبرراً قانونياً للاحتلال، ولم تحصل على شرعية الأمم المتحدة، وتذرّعت ـ ومعها بريطانيا ـ بكذبة كبرى، هي أسلحة الدمار الشامل غير الموجودة هناك، وحاولت بعد ذلك خديعة العراقيين بأنها أرادت تحريرهم من نظام الطاغية الذي كان أداة أمريكية تستخدمه في تنفيذ مخططاتها لخدمة مصالحها، وغرق العراق في ألوان متنوعة من العنف الاحتلالي والتكفيري وحركة المقاومة المنفتحة على أكثر من أفق وتدخلات خارجية وداخلية، وما زال الشعب العراقي يسقط يومياً في إرهاب الاحتلال والقوى الأخرى التي تستحلّ دماء العراقيين بوحشية طاغية. وقد سقط الاحتلال تحت تأثير الضربات الموجَّهة إليه، وفشلت خطته في إدارة الوضع العراقي، في جوانبه الأمنية والحياتية التي يتحمَّل مسؤوليتها، حتى أصبح الاحتلال مشكلة للرأي العام الأمريكي وللمواقع السياسية الداخلية هناك، ولم يقتنع الأمريكيون بأن دولتهم تمارس فعلياً الحرب على الإرهاب في العراق، بل إنهم يرون ذلك أن أفعالها تزيد الإرهاب قوّة وحركية، ليمتد تأثيره إلى دول المنطقة المجاورة للعراق المتّهمة من قبل الإدارة بأنها وراء الفوضى هناك، ولكن من دون دليل.

ولذلك اشتدَّت المطالبة الداخلية للرئيس الأمريكي بسحب قواته من العراق بسبب الخسائر الكبيرة التي حلّت به، إضافةً إلى التظاهرات الحاشدة في العراق وفي العالم، وحتى في أمريكا، ضد الاحتلال الذي أصبح مشكلة للأمريكيين كما هو مشكلة للعراقيين.

وإذا تابعنا سياسة هذه الإدارة، فإننا نلاحظ الطريقة الأمريكية في تدخلها في السودان للسيطرة على ثرواته المخزونة في الأرض، بحجّة مشكلة دارفور، وفي الصومال ثأراً للهزيمة الأمريكية فيه، وذلك فضلاً عن حركتها في إثارة الفوضى السياسية في لبنان، ودورها في المشاركة في العدوان الإسرائيلي عليه، وحصارها لسوريا من جهة وإيران من جهة أخرى، في العقوبات الاقتصادية في موضوع الملف النووي الإيراني. إلى ذلك كله، فإن أميركا تعتبر حركات التحرير من الاحتلال، في لبنان وفلسطين، حركات إرهابية، وتعتبر الدول الداعمة لها دولاً داعمةً للإرهاب، في الوقت الذي تشجع إسرائيل على محاصرة الشعب الفلسطيني والحرب عليه، قتلاً واعتقالاً ومصادرةً لأراضيه، وتهديماً لبنيته التحتية، وتهديداً لأمنه الداخلي من خلال مخابراتها وعملائها، والتلويح بكلمات السلام الذي لن يأتي إلا من خلال استكمال الاستراتيجية الإسرائيلية في تهويد القسم الأكبر من فلسطين، بما في ذلك القدس والضفة الغربية.

إن أميركا تترك الشعب الفلسطيني تحت رحمة الوحشية اليهودية التي يمارسها جيش العدو، وتضغط على العرب الخاضعين لسياستها للتحرك للدفاع عن إسرائيل ضد المجاهدين في ردهم على العدوان بدلاً من الدفاع عن الفلسطينيين، وتحرك الدول العربية في مواقعها السياسية والأمنية للهاث وراء إسرائيل للحصول على سلام خانع ذليل لن تمنحهم إياه إلا بالشروط التي لا تترك للعرب أيّ قاعدة للعنفوان في ميزان العزَّة والكرامة.

إنَّ أمريكا أعلنت الحرب على الإرهاب منذ أيلول 2001، لا لإسقاط الإرهاب، بل لإسقاط المعارضة الكبرى في العالم، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط، لسياستها الاستكبارية ولمصالحها الاحتكارية، وخصوصاً أنها لا تتحدث عن الإرهاب الداخلي الذي يستشري داخل البلاد الأمريكية، ممّا يتمثل في أكثر من حالة إرهابية قد لا يوجد مثيلٌ لها في العالم.

انتصار المقاومة وهزيمة العدوّ:

أما في المشهد الإسرائيلي، فإن الحكومة الصهيونية تطلق تهديداتها العسكرية ضد الفلسطينيين بالقيام بعملية عسكرية ضخمة في غزة، ردّاً على عمليات المقاومة التي تثأر للأعمال الإرهابية التي قام بها الجيش الإسرائيلي في نابلس وجنين وغزة وغيرها، في الوقت الذي تعيش هذه الدولة غير الشرعية الزلزال السياسي في التقرير القضائي، والّذي يحمّل الحكومة الصهيونية مسؤولية فشلها في الحرب على لبنان باعتبارها حرباً غير مبررة، لأن الظروف المحيطة بتلك المرحلة لم تكن تفرض مثل هذه الحرب، لأن أسر الجنديين لم يكن إعلاناً للحرب، بل وسيلة لإنقاذ الأسرى اللبنانيين. هذا إضافة إلى تأكيد التقرير على سقوط الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب العدوانية تحت تأثير صمود المجاهدين وضرباتهم القوية الموفَّقة، وضعف القيادة الحكومية والعسكرية الإسرائيلية في إدارتها للحرب على لبنان، الأمر الذي يؤكِّد انتصار المقاومة وهزيمة العدو، ما جعل بعض الدول العربية الّتي أيّدت هذا العدوان من خلال دعوتها إسرائيل إلى الاستمرار به لإسقاط المقاومة، تشعر بالهزيمة لخططها، كما أوجب صدمةً لبعض مواقع الداخل في السياسة اللبنانية الرسمية وغيرها، التي كانت تراهن على هذه الحرب في إسقاط المقاومة ونزع سلاحها.

إننا ندعو الجميع إلى دراسة هذا التقرير وتأثيره في اهتزاز الواقع السياسي والعسكري لدى العدوّ، وتالياً معرفة قيمة المقاومة في إثبات العزة الوطنية والقومية والإسلامية، واعتبارها قاعدةً للانتصار وليست مشكلة للواقع الوطني في الداخل، والواقع العربي في الدول العربية التي لا تزال تفكر بطريقة سلبية في نظرتها إلى المقاومة، خوفاً من امتداد هذه الروح إلى الشعوب التي تنفتح على الحرية في مستقبلها في مواقع التحدي الكبير للاستكبار بجميع أشكاله.

لبنان أصبح في موقع الخطورة:

أما في لبنان، الذي عاش مرحلةً صعبةً جرَّاء الحادث الأليم الذي اهتز فيه الوطن بأكمله، وكاد أن يدخل في فتنة مذهبية غاشمة، فإننا نلاحظ أن القيادات والأحزاب والطوائف قد ارتفعت إلى مستوى المسؤولية في رفض السير مع مثيري الفتنة، لأن الجميع يدركون أن الفتنة المذهبية أو الطائفية إذا انفتحت على الحرب الأهلية، فسوف تحرق الأخضر واليابس، ولن توفر قيادةً أو حزباً أو طائفة، وسوف يسقط الهيكل على رؤوس الجميع، ولذلك فقد عاش المواطنون في هذه المرحلة الدقيقة وحدةً وطنيةً عاطفيةً على مستوى السطح في المشاعر والأحاسيس.

ولكن السؤال هو: لماذا نحتاج إلى حادث مأساوي، أو مشكلة أمنية محدودة، ليشعر الجميع بالحاجة إلى حوار إيجابي فوقي وانفتاح في المشاعر والتمنيات المستقبلية والشعارات المتحدثة عن ضرورة تحويل الكلمات الإيجابية إلى خطط عملية وحدوية وفاقية؟

إن المشكلة في لبنان أصبحت في موقع الخطورة، بحيث لا تحتاج إلى حادث جديد في حركة المأساة وفي مناخ الفتنة... وهذا ما نلاحظه في انقسام البلد إلى فريقين لا يملك أحدهما الثقة بالآخر، فلا نجد هناك من يحمل الآخر على الأحسن في تصريحاته وتحليلاته ومواقفه، فهناك التراشق بالخضوع للوصاية على مستوى الواقع الإقليمي للبعض، وعلى مستوى الواقع الدولي للبعض الآخر، مما يتبرأ منه هذا أو ذاك بادعاء الوطنية التي تطلق مشاريعها وخطوطها بعيداً عن مصلحة الوطن.

العودة إلى الحوار لقيام وطن موحَّد:

لقد سقط الوضع الاقتصادي للمواطنين كلهم، ولن تنفع فيه أية عمليات تجميلية مما قد يطرحه البعض من مشروع إصلاح اقتصادي، وقد تعاظمت الهجرة الشبابية من أصحاب الخبرات والطاقات التي يحتاجها الوطن، وقد فَقَدَ العمّال الذين احتفلوا بيومهم العمالي فرص العمل، حتى إن البعض منهم لم يستطع الاستفادة من عطلة ذلك اليوم، لأنهم يجوعون مع عوائلهم إذا لم يستفيدوا من فرصة العمل الطارئة.

هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن المواطنين يشعرون بالخوف على المستقبل، وأما أصحاب الأعمال، فإنهم يخافون من تطوير أعمالهم وتنميتها بسبب ما يثيره البعض من حديث عن اهتزازات أمنيّة. ولذلك فإننا نرى أنّ على القائمين على شؤون البلد الرسمية والسياسية، أن يدرسوا المرحلة الصعبة التي يمر بها الوطن، وأن يستنفدوا الوسائل السياسية في اللقاء العملي على أساس إعادة الحوار من خلال خطة تؤدي إلى قيام حكومة وحدة وطنية لا تُزرع الألغام في داخلها، وإلى قيام محكمة ذات طابع دولي لا ترتكز على عناوين سياسية داخلية أو خارجية، في وحدة وطنية يرجع فيها لبنان وطناً موحَّداً لبنيه، لا للقوى الخارجية القريبة أو البعيدة التي تتحرك لخدمة مصالحها التي قد لا تكون في مصلحة لبنان.

منهج الإسلام في التربية:
الدعوة إلى تماسك المجتمع والابتعاد عن السب والشتم


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

اللّسان أداة الكلمة الطيبة:

يقول الله تعالى مخاطباً رسوله(ص) في أسلوب دعوته، في المسألة الأخلاقية التهذيبية المنفتحة على ما يقرّب الناس منه، ويفتح عقولهم على عقله، وقلوبهم على قلبه، وحياتهم على حياته، يقول تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(الإسراء/53).

فالإنسان عندما ينطلق في حياته الاجتماعية، فإنَّ لسانه هو وسيلته للانفتاح على الآخرين، في مشاعره وعواطفه وأحاسيسه، وفي حاجاته وحواراته وجدالاته، وفي دعوة الآخرين إلى ما يؤمن به، كما أنَّ اللّسان هو الوسيلة التي يدعو بها ربه ويبتهل بها إليه ويذكره بها، ويعبّر له بها عن كل حاجاته، ويطلب منه ـ بلسانه ـ أن يرحمه ويغفر له. فاللّسان هو الوسيلة التي ترتفع بالإنسان إلى الله، وتنفتح به عليه وعلى الناس: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}(فاطر/10).

وعلى ضوء هذا، أراد الله تعالى للناس عندما يتحدّثون مع بعضهم بعضاً، أن يدرسوا كلماتهم، وأن يعرفوا أن للناس مشاعر وأحاسيس كما لهم مشاعر وأحاسيس ، وأن الناس يحترمون أنفسهم كما يحترم نفسه، وأنّهم لا يريدون لأحد أن يسيء إليهم، كما لا يحبّ أن يسيء أحد إليه، وقد جاء في قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}(البقرة/83)، أي قولوا لهم أفضل ما تحبون أن يُقال لكم، لأنّ الناس يحبُّون أنفسهم كما تحبّ نفسك، ويحترمون أنفسهم كما تحترم نفسك، لذلك كانت صفة النبي(ص) التي أكّدها تعالى في القرآن الكريم، هي أنّه كان ليّن اللسان، وليّن القلب: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ـ أي أنَّ لسانك لم ينطلق بأيّ فظاظة أو شدَّة أو إهانة للناس ـ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران/159)، فالكلام الليّن والطيّب هو الذي يجمع الناس حولك، ويجعلهم يستمعون إليك ويقبلون عليك.

فالله تعالى يقول: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(الإسراء/53)، فإذا أردت أن تتكلَّم بكلمة، حاول أن تدرس المعنى الذي تريد أن تعبّر عنه من خلالها، لأنّ بعض الكلمات تعطي إيحاءات سلبية، اختر أفضل الكلمات في حديثك مع الآخرين، كما تختار أفضل الأطعمة والمنازل والبضائع، لأنّ الكلمة قد تؤدي إلى نتائج سلبية على حياتك، وقد ورد: «ربّ كلمة سلبت نعمة».

النهي عن الفحش:

ولذلك، فقد اهتم الإسلام بتهذيب الكلمة وتحسينها، وقد ورد عن الإمام زين العابدين(ع) في حقِّ اللسان: «وأما حقّ اللسان، فإكرامه عن الخنا ـ وهي كلمات الفحش والغلظة والقول الشديد ـ وتعويده الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها، والبرّ بالنّاس وحسن القول فيهم».

ومن الأمور التي رفضها الإسلام وعاقب عليها، الفحش في القول والبذاء، وهو الكلام الذي يُستحى منه ويُخجل، كالكلمات التي تمثل فحشاً وابتعاداً عن التهذيب وإهانةً للإنسان الآخر. فلنستمع إلى ما ورد عن الأئمة من أهل البيت(ع) في ذلك، والنتائج السلبية التي تترتب على كلمات الفحش والبذاء في الدين والدنيا.

فعن أمير المؤمنين(ع) قال: «قال رسول الله(ص): إن الله حرّم الجنّة على كل فحّاش بذيء قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له»، بحيث يسبّ ويشتم الناس أو المحيطين به من زوجته أو أبنائه من الذكور والإناث، متلفّظاً بالكلام البذيء، بحيث يخجلون من كلماته. وقد سئل أحد الأئمة(ع): «هل في الناس من لا يبالي ما قيل له؟»، قال(ع): «من تعرّض للناس يشتمهم وهو يعلم أنهم لا يتركونه ـ السبّ بالسبّ، والشتيمة بالشتيمة، لأنّ الفعل يولد ردّ الفعل ـ فذلك الذي لا يبالي ما قال ولا ما قيل له».

وعن الإمام الباقر(ع): «إنّ الله يبغض الفاحش المتفحّش»، والفاحش هو ذو الفحش في كلامه، والمتفحّش هو الذي يتكلّف ذلك ويعتمّده. وورد أنّه: «كان للإمام الصَّادق(ع) صديق لا يكاد يفارقه إذا ذهب مكاناً، فبينما هو يمشي معه في سوق الحذّائين ومعه غلام له سندي (مجوسي) يمشي خلفهما، إذ التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرات، فلم يره، فلما نظر في الرابعة قال له: يا بن الفاعلة (الزانية)، أين كنت؟ فرفع الإمام الصادق(ع) يده فصكّ بها جبهة نفسه، ثم قال: سبحان الله، تقذف أمه، قد كنت أرى أن لك ورعاً، فإذا ليس لك ورع؟ فقال: جُعلت فداك، إنّ أمه سندية مشركة، فقال(ع): أما علمت أن لكل أمة نكاحاً تنحَّ عنّي. ـ الإسلام أمضى كل أساليب وعقود الزواج المتفق عليها بين الأمم كافة، ولم يعتبر أن زواج غير المسلم هو زواج باطل ـ فما رأيته يمشي معه حتى فرّق الموت بينهما».

الآثار السلبية للفحش:

وعن الإمام الباقر(ع) قال: "قال رسول الله(ص): إنّ الفحش لو كان مثالاً لكان مثال سَوء". وعن الإمام الصادق(ع) قال: "قال رسول الله(ص): "إنّ من شرّ عباد الله من تُكره مجالسته لفحشه"، وعنه(ع): "البذاء من الجفاء، والجفاء في النار"، وعنه(ع) أنه قال: «كان في بني إسرائيل رجل، فدعا الله أن يرزقه غلاماً ثلاث سنين، فلما رأى أنّ الله لا يجيبه قال: يا ربّ، أبعيد أنا منك فلا تسمعني، أم قريب أنت مني فلا تجيبني؟ فأتاه آتٍ في منامه فقال: إنّك تدعو الله عزّ وجلّ منذ ثلاث سنين بلسان بذيء، وقلب عاتٍ غير نقي، ونيّة غير صادقة، فاقلع عن بذائك، وليتقِ الله قلبك، ولتحسن نيّتك، ففعل الرجل ذلك، ثم دعا الله فوُلد له غلام». معنى ذلك أن بذاءة اللسان، وقساوة القلب، وعدم صفاء النيّة، قد تمنع من استجابة الدعاء. وفي الحديث: «من فحش على أخيه المسلم، نزع الله منه بركة رزقه، ووكله إلى نفسه، وأفسد عليه معيشته».

وفي حوار بين الإمام الصادق(ع) وبين أحد أصحابه، واسمه "سماعة"، قال: دخلت على أبي عبد الله الصَّادق(ع)، فقال لي مبتدئاً: «يا سماعة، ما هذا الذي كان بينك وبين جمّالك؟ إياك أن تكون فحّاشاً أو صخّاباً أو لعّاناً، فقلت: والله لقد كان ذلك، إنه ظلمني، فقال(ع): "إنّ كان ظلمك، لقد أربيت عليه ـ أي أنك بفعلك ظلمته أكثر مما كان ظلمك ـ إن هذا ليس من فعالي ولا آمر به شيعتي. استغفر ربك ولا تعد، قلت: استغفر الله ولا أعود».

وللأسف، هناك كثير من الذين اعتادوا لعن مقدّسات الآخرين، ونحن نقول: أنت حرّ في أن لا تقبلهم، أمّا أن تلعنهم، فهذا مرفوض، لأنّه يسيء إلى تماسك المجتمع الإسلامي ويثير الفتنة بين المسلمين. بعض الناس يوجّهون اللعن إلى بعض زوجات النبي(ص)، صحيح أن بعض زوجاته أخطأت، لكن أحد علمائنا القدامى، واسمه السيد محمد باقر حجة الإسلام، يقول:

فيا حميراء سبّك محرّم من أجل عين ألف عين تكرم

علينا أن نكون مهذَّبين مع أهلنا في البيت، ومع إخواننا في المجتمع، وحتى مع خصومنا، لأنّ الله تعالى يقول: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(الإسراء/53). هذا هو خلق الإسلام الذي يجعل الأمّة المسلمة ترتفع بين الأمم، في تهذيب كلامها، وفي قول الّتي هي أحسن، والجدال بالتي هي أحسن، فذلك هو الذي يقرّبنا من بعضنا بعضاً، ويقرّبنا إلى الله عزّ وجلّ.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف من موقع واحد، فإن الله تعالى يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، ولا سيّما عندما يقف الاستكبار كله والكفر كله ضد الاستضعاف كله والإيمان كله، فالله يريدنا أن نكون أمّةً إسلامية واحدة معتصمة بحبل الله من دون أن نفسح في المجال لكل من يريد أن يفرّقنا ويثير الفتنة فيما بيننا، لأن كل جهة تريد أن تثير الفتنة، هي ملعونة من الله، وقد ورد: «إن الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها». ونحن نريد أن نواجه الواقع الإسلامي من خلال ما يتحرك به المستكبرون في العالم، وما تنطلق به الأوضاع السلبية في منطقتنا، فماذا هناك:

سياسة بوش هي المسؤولة عن الإرهاب:

في المشهد الأمريكي: هناك تقرير لوزارة الخارجية عن الإرهاب يتحدث عن زيادة ملحوظة في الهجمات الإرهابية عام 2006، وأن العراق كان الساحة الأكثر دموية لأعمال الإرهاب، إذ استخدم المتطرفون والإرهابيون مختلف الأسلحة والأساليب في هجماتهم، بما فيها الأسلحة الكيميائية، وقال: "إن معظم الهجمات الإرهابية تحصل في منطقة الشرق الأوسط"، في إشارة إلى العراق وأفغانستان والسودان. كذلك أشار التقرير إلى أن إيران "لا تزال الدولة الراعية للإرهاب الأكثر نشاطاً في العالم"، واتهم قوات الحرس الثوري ووزارة الاستخبارات والأمن "بالتورط المباشر في التخطيط للأعمال الإرهابية ودعمها"، وقال: "إن إيران تواصل تشجيع تنظيمات فلسطينية وحزب الله في لبنان لاستخدام الإرهاب لتحقيق أهدافها".

إننا نتساءل أمام هذا التقرير عن السبب فيما تسميه وزارة الخارجية الأمريكية الإرهاب، فنلاحظ أنّ سياسة هذه الإدارة، برئاسة بوش، قد تكون هي المسؤولة عن العنف في المنطقة، من خلال الحرب التي تشنها على أفغانستان ثأراً لأحداث 11 أيلول في أمريكا، من دون دراسة دقيقة لأوضاع الناس في هذا البلد، وخلفيات الجهات الحاكمة فيها قبل الغزو الأمريكي ـ الأطلسي. فقد كانت الاستخبارات المركزية الأمريكية هي التي حرَّكت الكثير من سلبيات أوضاعه في تعبئة الناس ضد الاحتلال السوفياتي، بحيث أثارت فيه الكثير من الفوضى الداخلية والتطرف السياسي. وكان الغزو منطلقاً من عملية هجوم ثأري ضد الجهات المتهمة بوقوفها وراء أحداث أيلول في عملية وحشية حصدت الكثير من المدنيين من الشعب الأفغاني دون رحمة، ما جعل الإدارة الأمريكية غير قادرة على أن تحقق الاستقرار لهذا الشعب، بل زادته قلقاً واهتزازاً وقتلاً وإرهاباً، وبالتالي، فإن المأساة لن تنتهي إلا بخروج الاحتلال من أرضه، ليقرر الشعب مصيره بعيداً عن التدخل الخارجي.

الاحتلال هو المشكلة:

وإذا انتقلنا إلى الحرب على العراق، فإننا نلاحظ أن الإدارة الأمريكية لم تجد مبرراً قانونياً للاحتلال، ولم تحصل على شرعية الأمم المتحدة، وتذرّعت ـ ومعها بريطانيا ـ بكذبة كبرى، هي أسلحة الدمار الشامل غير الموجودة هناك، وحاولت بعد ذلك خديعة العراقيين بأنها أرادت تحريرهم من نظام الطاغية الذي كان أداة أمريكية تستخدمه في تنفيذ مخططاتها لخدمة مصالحها، وغرق العراق في ألوان متنوعة من العنف الاحتلالي والتكفيري وحركة المقاومة المنفتحة على أكثر من أفق وتدخلات خارجية وداخلية، وما زال الشعب العراقي يسقط يومياً في إرهاب الاحتلال والقوى الأخرى التي تستحلّ دماء العراقيين بوحشية طاغية. وقد سقط الاحتلال تحت تأثير الضربات الموجَّهة إليه، وفشلت خطته في إدارة الوضع العراقي، في جوانبه الأمنية والحياتية التي يتحمَّل مسؤوليتها، حتى أصبح الاحتلال مشكلة للرأي العام الأمريكي وللمواقع السياسية الداخلية هناك، ولم يقتنع الأمريكيون بأن دولتهم تمارس فعلياً الحرب على الإرهاب في العراق، بل إنهم يرون ذلك أن أفعالها تزيد الإرهاب قوّة وحركية، ليمتد تأثيره إلى دول المنطقة المجاورة للعراق المتّهمة من قبل الإدارة بأنها وراء الفوضى هناك، ولكن من دون دليل.

ولذلك اشتدَّت المطالبة الداخلية للرئيس الأمريكي بسحب قواته من العراق بسبب الخسائر الكبيرة التي حلّت به، إضافةً إلى التظاهرات الحاشدة في العراق وفي العالم، وحتى في أمريكا، ضد الاحتلال الذي أصبح مشكلة للأمريكيين كما هو مشكلة للعراقيين.

وإذا تابعنا سياسة هذه الإدارة، فإننا نلاحظ الطريقة الأمريكية في تدخلها في السودان للسيطرة على ثرواته المخزونة في الأرض، بحجّة مشكلة دارفور، وفي الصومال ثأراً للهزيمة الأمريكية فيه، وذلك فضلاً عن حركتها في إثارة الفوضى السياسية في لبنان، ودورها في المشاركة في العدوان الإسرائيلي عليه، وحصارها لسوريا من جهة وإيران من جهة أخرى، في العقوبات الاقتصادية في موضوع الملف النووي الإيراني. إلى ذلك كله، فإن أميركا تعتبر حركات التحرير من الاحتلال، في لبنان وفلسطين، حركات إرهابية، وتعتبر الدول الداعمة لها دولاً داعمةً للإرهاب، في الوقت الذي تشجع إسرائيل على محاصرة الشعب الفلسطيني والحرب عليه، قتلاً واعتقالاً ومصادرةً لأراضيه، وتهديماً لبنيته التحتية، وتهديداً لأمنه الداخلي من خلال مخابراتها وعملائها، والتلويح بكلمات السلام الذي لن يأتي إلا من خلال استكمال الاستراتيجية الإسرائيلية في تهويد القسم الأكبر من فلسطين، بما في ذلك القدس والضفة الغربية.

إن أميركا تترك الشعب الفلسطيني تحت رحمة الوحشية اليهودية التي يمارسها جيش العدو، وتضغط على العرب الخاضعين لسياستها للتحرك للدفاع عن إسرائيل ضد المجاهدين في ردهم على العدوان بدلاً من الدفاع عن الفلسطينيين، وتحرك الدول العربية في مواقعها السياسية والأمنية للهاث وراء إسرائيل للحصول على سلام خانع ذليل لن تمنحهم إياه إلا بالشروط التي لا تترك للعرب أيّ قاعدة للعنفوان في ميزان العزَّة والكرامة.

إنَّ أمريكا أعلنت الحرب على الإرهاب منذ أيلول 2001، لا لإسقاط الإرهاب، بل لإسقاط المعارضة الكبرى في العالم، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط، لسياستها الاستكبارية ولمصالحها الاحتكارية، وخصوصاً أنها لا تتحدث عن الإرهاب الداخلي الذي يستشري داخل البلاد الأمريكية، ممّا يتمثل في أكثر من حالة إرهابية قد لا يوجد مثيلٌ لها في العالم.

انتصار المقاومة وهزيمة العدوّ:

أما في المشهد الإسرائيلي، فإن الحكومة الصهيونية تطلق تهديداتها العسكرية ضد الفلسطينيين بالقيام بعملية عسكرية ضخمة في غزة، ردّاً على عمليات المقاومة التي تثأر للأعمال الإرهابية التي قام بها الجيش الإسرائيلي في نابلس وجنين وغزة وغيرها، في الوقت الذي تعيش هذه الدولة غير الشرعية الزلزال السياسي في التقرير القضائي، والّذي يحمّل الحكومة الصهيونية مسؤولية فشلها في الحرب على لبنان باعتبارها حرباً غير مبررة، لأن الظروف المحيطة بتلك المرحلة لم تكن تفرض مثل هذه الحرب، لأن أسر الجنديين لم يكن إعلاناً للحرب، بل وسيلة لإنقاذ الأسرى اللبنانيين. هذا إضافة إلى تأكيد التقرير على سقوط الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب العدوانية تحت تأثير صمود المجاهدين وضرباتهم القوية الموفَّقة، وضعف القيادة الحكومية والعسكرية الإسرائيلية في إدارتها للحرب على لبنان، الأمر الذي يؤكِّد انتصار المقاومة وهزيمة العدو، ما جعل بعض الدول العربية الّتي أيّدت هذا العدوان من خلال دعوتها إسرائيل إلى الاستمرار به لإسقاط المقاومة، تشعر بالهزيمة لخططها، كما أوجب صدمةً لبعض مواقع الداخل في السياسة اللبنانية الرسمية وغيرها، التي كانت تراهن على هذه الحرب في إسقاط المقاومة ونزع سلاحها.

إننا ندعو الجميع إلى دراسة هذا التقرير وتأثيره في اهتزاز الواقع السياسي والعسكري لدى العدوّ، وتالياً معرفة قيمة المقاومة في إثبات العزة الوطنية والقومية والإسلامية، واعتبارها قاعدةً للانتصار وليست مشكلة للواقع الوطني في الداخل، والواقع العربي في الدول العربية التي لا تزال تفكر بطريقة سلبية في نظرتها إلى المقاومة، خوفاً من امتداد هذه الروح إلى الشعوب التي تنفتح على الحرية في مستقبلها في مواقع التحدي الكبير للاستكبار بجميع أشكاله.

لبنان أصبح في موقع الخطورة:

أما في لبنان، الذي عاش مرحلةً صعبةً جرَّاء الحادث الأليم الذي اهتز فيه الوطن بأكمله، وكاد أن يدخل في فتنة مذهبية غاشمة، فإننا نلاحظ أن القيادات والأحزاب والطوائف قد ارتفعت إلى مستوى المسؤولية في رفض السير مع مثيري الفتنة، لأن الجميع يدركون أن الفتنة المذهبية أو الطائفية إذا انفتحت على الحرب الأهلية، فسوف تحرق الأخضر واليابس، ولن توفر قيادةً أو حزباً أو طائفة، وسوف يسقط الهيكل على رؤوس الجميع، ولذلك فقد عاش المواطنون في هذه المرحلة الدقيقة وحدةً وطنيةً عاطفيةً على مستوى السطح في المشاعر والأحاسيس.

ولكن السؤال هو: لماذا نحتاج إلى حادث مأساوي، أو مشكلة أمنية محدودة، ليشعر الجميع بالحاجة إلى حوار إيجابي فوقي وانفتاح في المشاعر والتمنيات المستقبلية والشعارات المتحدثة عن ضرورة تحويل الكلمات الإيجابية إلى خطط عملية وحدوية وفاقية؟

إن المشكلة في لبنان أصبحت في موقع الخطورة، بحيث لا تحتاج إلى حادث جديد في حركة المأساة وفي مناخ الفتنة... وهذا ما نلاحظه في انقسام البلد إلى فريقين لا يملك أحدهما الثقة بالآخر، فلا نجد هناك من يحمل الآخر على الأحسن في تصريحاته وتحليلاته ومواقفه، فهناك التراشق بالخضوع للوصاية على مستوى الواقع الإقليمي للبعض، وعلى مستوى الواقع الدولي للبعض الآخر، مما يتبرأ منه هذا أو ذاك بادعاء الوطنية التي تطلق مشاريعها وخطوطها بعيداً عن مصلحة الوطن.

العودة إلى الحوار لقيام وطن موحَّد:

لقد سقط الوضع الاقتصادي للمواطنين كلهم، ولن تنفع فيه أية عمليات تجميلية مما قد يطرحه البعض من مشروع إصلاح اقتصادي، وقد تعاظمت الهجرة الشبابية من أصحاب الخبرات والطاقات التي يحتاجها الوطن، وقد فَقَدَ العمّال الذين احتفلوا بيومهم العمالي فرص العمل، حتى إن البعض منهم لم يستطع الاستفادة من عطلة ذلك اليوم، لأنهم يجوعون مع عوائلهم إذا لم يستفيدوا من فرصة العمل الطارئة.

هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن المواطنين يشعرون بالخوف على المستقبل، وأما أصحاب الأعمال، فإنهم يخافون من تطوير أعمالهم وتنميتها بسبب ما يثيره البعض من حديث عن اهتزازات أمنيّة. ولذلك فإننا نرى أنّ على القائمين على شؤون البلد الرسمية والسياسية، أن يدرسوا المرحلة الصعبة التي يمر بها الوطن، وأن يستنفدوا الوسائل السياسية في اللقاء العملي على أساس إعادة الحوار من خلال خطة تؤدي إلى قيام حكومة وحدة وطنية لا تُزرع الألغام في داخلها، وإلى قيام محكمة ذات طابع دولي لا ترتكز على عناوين سياسية داخلية أو خارجية، في وحدة وطنية يرجع فيها لبنان وطناً موحَّداً لبنيه، لا للقوى الخارجية القريبة أو البعيدة التي تتحرك لخدمة مصالحها التي قد لا تكون في مصلحة لبنان.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية