اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا

اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا

للسير على هدْيِ الرسالة في الوحدة والعدل والخير:
اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

الانفتاح على الحقّ والخير والعدل:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}، ويقول سبحانه: {وأنا ربكم فاعبدون} (الأنبياء:92)، في نداء إلى الرسل كلهم، بحيث يؤكد أن كل الرسل في كل دعواتهم هم أمة واحدة، حتى لو اختلفت مواقعهم الرسالية ودرجاتهم النبوية، لأن دعوتهم واحدة: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (الأعراف:59)، ولأنّ مضمون دعواتهم الرسالية للإنسان هو مضمون واحد: الخير، العدل، الحق: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (آل عمران:104). فالأمة التي تنطلق من خلال خط الرسالة، هي أمة تدعو إلى الخير كله؛ الخير في النفس في الجانب الفردي، بحيث يكون الإنسان إنسان الخير، والخير في المجتمع الصغير، بحيث يكون الإنسان في العائلة إنسان الخير لعائلته، وفي المجتمع الكبير، بحيث يكون إنسان الخير للمجتمع كله، فلا يصدر منه أيّ شر، سواء كان الشر شراً في النيّة فيما يضمره للآخرين، أو شراً في الفكرة فيما يفكر فيه للآخرين، أو في الحركة فيما يتحرك به مع الآخرين، أو في القول والفعل فيما يصدر عنه قول للناس أو فعل ينعكس على حياتهم.

وهكذا، يريد الله تعالى لهذه الأمة أن ترصد كل مواقعها في كل الاتجاهات، فتدرس قياداتها وطلائعها الثقافية الرسالية حركة الأمة، بحيث تعمل على أن تنكر الفتنة وتنهى عنها، وتنفتح على الوحدة وتأمر بها، وتخطط للعدل وتدعو الناس إلى الأخذ به، وترتكز على الحق وتطلب من الناس أن يلتزموا به في مواجهة الباطل، وتدعو إلى السلام في مقابل الحرب، وتدعو إلى الإنسانية في مقابل الوحشية، وتربط الناس في داخل الأمة برباط الأخوّة الإيمانية الروحية، فما دام الناس يؤمنون بالله، فعليهم أن يلتقوا على الله وأن يتآخوا في الله، وما داموا يؤمنون برسول الله(ص)، فعليهم أن يلتزموا رسالته ويقتدوا بسيرته.

ولذلك، نجد أن الله تعالى في مخاطبة الأمة الإسلامية، يريد من كل مسلم ومسلمة أن ينطلقا في خط الوحدة الجامعة: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} (آل عمران:103). وحبل الله هو الإسلام، وهو القرآن. فما دمتم ـ أيها المسلمون ـ ملتزمين بالإسلام، فتمسكوا به ليجمعكم وليوحّدكم، ليكون المسلم أخا المسلم، وما دمتم تؤمنون بالقرآن الذي جعله الله نوراً يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام، فاعتصموا به، لأن القرآن هو الكتاب المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يمكن لأحد ـ حتى لرسول الله ـ أن يزيد فيه أو أن ينقص، وهذا ما خاطب الله به نبيّه(ص)، حيث أكد أنّه لا يستطيع أن يأتي بقرآن غير هذا، أو أن يبدّله أو يزيد فيه حرفاً أو ينقص، فهو الكتاب الذي يُخرج الناس من الظلمات إلى النور. {ولا تفرقوا}، قد تختلفون في عشائركم، فكل فريق ينتمي إلى عشيرة معينة، وقد تختلفون في قومياتكم أو في جغرافية مواقعكم السكنية، فهذا ينتمي إلى قومية معينة وذاك إلى موقع جغرافي هنا أو هناك، ولكنكم تلتقون على الله تعالى وعلى رسول الله (ص)، وتتمسكون بحبل الله، ولذلك ليس لكم حرية أن تجعلوا خلافاتكم المادية أساساً للتفرقة على ما وحّدكم الله فيه، فقد أراد الله للمسلمين أن يكونوا إخوة؛ قد لا تكونون من أب واحد وأم واحدة على مستوى النسب، ولكنكم إخوة من خلال أنكم أبناء الله وخلقه وعباده، فنحن جميعاً عباده وخلقه، ولذلك فنحن نلتقي بالله، وما يجمعه الله لا يمكن أن يفرّقه أي شيء، لأن الله أعظم وأعلى من أي شيء.

تحسّس الأخوَّة الإيمانية:

ولذلك أراد الله تعالى للمؤمنين أن يتحسسوا هذه الأخوة الإيمانية بشكل حركي: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} (الحجرات:10)، حتى إن الله تعالى تحدث عن الخلافات الكبيرة بين جماعتين وطائفتين من المسلمين، ووجّه الدعوة للإصلاح بينهما، لأنه أراد للمسلمين أن يعيشوا هذه الوحدة في الجانب الحركي والشعوري في كل ما يعيشه الإنسان من مشاعر الألم لحالات الإنسان الآخر المأساوية، فلا يقف المؤمن في شرق الأرض وغربها موقف اللامبالاة تجاه ما يحدث للمؤمنين من مشاكل وتحديات وآلام، وهذا ما جاء به الحديث الذي ورد عن رسول الله(ص): "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، قد يكون ممن يصلّي أو يصوم أو يحجّ، ولكنه عندما يواجه هموم المسلمين في كل مشاكلهم، فإنه لا يعيش الاهتمام بها، على طريقة البعض حينما يقول: "فخّار يكسّر بعضه". فكثير من الناس ليس مستعداً لأن يشغل باله بما يحصل للمسلمين الآخرين، وهو ما يسمح لأعداء المسلمين أن ينفذوا إلى داخل مجتمعاتنا من خلال فئات الحياديين واللامبالين.

وعلى الإنسان أن يكون مع فريق الحق، ولذلك قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} (الحجرات:9). وفي حديث آخر عن النبي(ص) يقول: "من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين ـ وهذه كلمة الاستغاثة ـ فلم يجبه فليس بمسلم"، لأن الإسلام هو أن تشعر بنفسك أنك جزء من الجسد الإسلامي الذي يمثل الأمة الإسلامية.

لنعش روحية الإسلام:

وقد وردت بعض الأحاديث عن النبي(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع) في هذا المجال، فعن النبي(ص): "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر"، ونقرأ عن رسول الله(ص) وهو يقول: "أنسك الناس نسكاً ـ والناسك هو العابد القائم بالطاعات والقربات ـ أنصحهم جيباً ـ والجيب هو الصدر ـ وأسلمهم قلباً لجميع المسلمين". وعن الإمام جعفر الصادق(ع) يقول: "عليك بالنصح لله في خلقه ـ بحيث تدفع المسلمين إلى ما يحقق الخير لهم ـ فلن تلقاه بعمل أفضل منه"، لأنّ ذلك يدلِّل على أنك مسلم تعيش روحية الإسلام بالنسبة إلى الأمة الإسلامية، ويعبّر عن مدى إخلاصك لله تعالى. وهذا مما يتمثل به في القمة، إمامنا أمير المؤمنين(ع) الذي عاش بعد رسول الله(ص) أزمةً من أقسى الأزمات، فقد كان الأعلم والأفضل والأكثر جهاداً، وكان المتعيّن لقيادة المسملين، وكان هو مَن أوصى به رسول الله(ص) وجعل له الحق في الخلافة، ومع ذلك أُبعد عنها وهو مشغول بتغسيل النبي(ص) وتجهيزه، وحدث ما حدث، فماذا قال(ع): "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصة"، المهم عندي أن يسلم الإسلام والمسلمون، ولا يهم أن أُظلم أنا. كم واحد عندنا مثل علي بن أبي طالب؟! كيف لا نستطيع أن نحبه ونعظّمه ونتّبعه وهو يحمل هذه الروح التي تتسع للمسلمين جميعاً؟ ولذلك فإننا لا نستطيع إلا أن ننحني أمامه ونتمثل به.

لقد أراد الإسلام لنا أن نتحرك في الواقع الإسلامي وفي الواقع الإنساني، أن يكون الإنسان خيراً كله، ونفعاً كله، بحيث يُدخل كل واحد منا السرور على أخيه الإنسان، فقد ورد عن النبي(ص): "الخلق عيال الله، فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سروراً". وسئل(ص): "من أحبّ الناس إلى الله؟"، فقال: "أنفع الناس للناس". وعنه(ص): "من ردّ على قوم من المسلمين عادية ماء أو ناراً وجبت له الجنة"، وهذه جائزة وبشرى لكل الإطفائيين الذين يتقرّبون إلى الله بعملهم. وعن الإمام الصادق(ع) في تفسير قول السيد المسيح(ع): {وجعلني مباركاً أينما كنت}، قال(ع): "نفّاعاً للناس". وفي الحديث في قول الله: {قولوا للناس حسناً}: "قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال فيكم".

هذه هي روحية الإسلام في كل وحدته وانفتاحه، وفي كل العدل والخير الذي يدعو الناس إليه، حتى يكون كل واحد منا إنسان الحق والخير والعدل.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وكونوا إخواناً في خط الوحدة والإصلاح والصلاح، وفي خط الخير والحق والعدل. كونوا الأمة التي أراد الله أن تكون خير أمة أُخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كونوا الأمة القائدة التي تأخذ بكل عناصر القيادة في علومها وخبراتها وأخلاقها وحياتها، حتى تستطيعوا أن تنتصروا على كل من يريد إسقاط الإسلام وأهله، وواجهوا الموقف من خلال الاهتمام بأمور المسلمين، فماذا هناك:

هدف الخطة الأمنية إنهاء الانتفاضة

في المسألة الفلسطينية، قامت الإدارة الأمريكية أخيراً بتسليم خطة أمنية إلى السلطة الفلسطينية وإسرائيل، تتضمن الإجراءات التي يجب أن يقوم الطرفان بتنفيذها في خلال فترة زمنية محددة، وتشمل الخطة رفع جيش الاحتلال الحواجز العسكرية من الضفة الغربية، وتسهيل التنقلات للأفراد والبضائع من الضفة الغربية إلى قطاع غزة، بمعدل خمس رحلات أسبوعياً، وذلك اعتباراً من أول تموز/ يوليو المقبل، على أن يقوم الفلسطينيون بإعداد خطة لوقف إطلاق الصواريخ.

وهناك ملاحظات عامة وملاحظات خاصة على هذه الخطة، حيث لا تزال الإدارة الأمريكية تعتبر المشكلة في هذا الصراع هي مشكلة أمنية تنطلق من العنف الذي تقوم به الانتفاضة ضد الاحتلال، وهو ما تعدّه أمريكا إرهاباً صادراً من منظمات إرهابية، وترى في التصرف الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني بكل أشكاله دفاعاً عن النفس ضد العدوان، بينما يعرف الجميع أن المشكلة في أبعادها العامة هي مشكلة سياسية ناشئة من الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، الذي يتجدّد بين وقت وآخر في مصادرة الأراضي لمصلحة المستوطنات والجدار العنصري الفاصل. وهذا هو الذي جمّد كل الحلول ـ حتى غير المقبولة كخارطة الطريق ـ للقضية الفلسطينية، لأن الشرط الأساس هو إيقاف المقاومة.

ثانياً : إن الخطة لم تطلب من إسرائيل إيقاف قصفها للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية والاعتقالات العشوائية والاجتياحات العدوانية، بل أطلقت لها الحرية في الاعتداء والقتل تحت شعار الدفاع عن النفس... وهذا هو الذي منع من نجاح كل اتفاق على التهدئة من قبل الفلسطينيين، سلطةً وحكومةً وانتفاضةً، لأن ما يقوم به رجال المقاومة يمثّل ردّ فعل على القتل والاجتياح الذي يقوم به الجيش الصهيوني، ما يدفعهم إلى قصف المستوطنات الصهيونية لردع العدوّ من التمادي في عدوانه.

ثالثاً : إنّ رفع الحواجز العسكرية قد يمنح الفلسطينيين بعض الأمن في تنقّلاتهم، ولكن ليس ذلك هو الأساس للمشكلة، بل الأساس هو انسحاب المحتل من الضفة الغربية، من مدنها وقراها ومعابرها، لتكون للشعب الفلسطيني حرية الحركة في أرضه الحرة من دون أيّ حاجز عدواني إذلالي لجيش الاحتلال، ولكن أمريكا لا توافق على ذلك، لأنها لا تريد ـ في المرحلة الحاضرة وما بعدها في المستقبل المنظور ـ أي حلّ جذري للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، إلا بعد تحقيق إسرائيل استراتيجيتها الاحتلالية الاستيطانية الجدارية اليهودية في فلسطين.

الخطط الأمنية ومأزق بوش

رابعاً : إن ما يثير الانتباه في هذه الخطة، أن الجانب العربي في هذه المرحلة يسعى إلى البحث في حلّ شامل للصراع مع إسرائيل من خلال المبادرة العربية، فتقوم واشنطن بطرح خطط جزئية للتعامل مع هذا الصراع المعقّد، وهذا يعني عدم جاهزية إدارة بوش للانخراط في تسوية حقيقية للقضية الفلسطينية. ويعود ذلك، بطبيعة الحال، إلى المأزق الذي تواجهه هذه الإدارة داخلياً وخارجياً. فعلى الصعيد الداخلي، هناك صراع حادّ تخوضه إدارة بوش ضد الكونغرس الذي تسيطر عليه أغلبية ديمقراطية تريد ربط تمويل قوات الاحتلال الأمريكية الموجودة في العراق بوضع جدول زمني محدد لانسحاب هذه القوات. أما على الصعيد الخارجي، فإن إدارة بوش تتورّط أكثر فأكثر فيما بات يطلق عليه المستنقع العراقي، في ضوء فشل الخطط الرامية إلى وقف تصاعد العنف والتدهور الأمني في العراق، فضلاً عن تصاعد التحدي الإيراني لواشنطن في قضية الملف النووي.

ومن هنا، فإن التساؤل حول الأهداف الحقيقية لطرح إدارة بوش لمثل هذه الخطة، ربما نجد إجابته الشافية في القول بأن بوش يريد إحداث نوع من الفرقعة الإعلامية للترويج بأن إدارته تحاول المضي في عملية التسوية السياسية لكسب تأييد العرب في العراق، وهو يسعى في الوقت نفسه إلى ترحيل عملية التسوية إلى وقت لاحق، ربما يكون فيه قد أضحى خارج البيت الأبيض، وذلك من أجل البدء بعملية تفاوض جديد لا يُعرَف مداها وإمكانات نجاحها في المستقبل تحت تأثير التأييد المطلق لإسرائيل.

وهذا هو الذي يفرض على الفلسطينيين رفض الخطة جملةً وتفصيلاً، حتى لا تكون بمثابة المخدّر الذي يجمّد عملية الحركة المقاومة ضد الاحتلال، ولذلك فإننا نرحّب برفض الفصائل الفلسطينية والحكومة الفلسطينية هذه الخطة التخديرية، مع الاستغراب من موقف السلطة المتردّد حولها.

الاستراتيجية الأمريكية والعدو الإيراني الموهوم

لقد قدّم العرب، وفي مقدّمهم الفلسطينيون، التنازلات عن حقّهم في فلسطين، حتى انتهوا إلى القبول بأراضي الـ67 بفعل هزيمة 5 حزيران، ولكن إسرائيل، ومعها أمريكا، لم تكتفِ بذلك، بل إنها تتحرك للامتداد في أكثر أراضي الضفة الغربية والقدس، في انتظار المفاوضات النهائية التي لن تنتهي في أي مدى منظور، لأن إسرائيل تمثّل الدولة التي لم تحدد لنفسها حدوداً، بل تمتد إلى حيث يصل عدوانها العسكري أو مؤامراتها السياسية، مستندةً إلى الدعم الأمريكي لمخططاتها.

وفي هذا الجو، لا بد للدول العربية التي يزورها نائب الرئيس الأمريكي، ديك تشيني، في هذه المرحلة، أن تحترم نفسها في موقفها من قضية الصراع، حذراً من السقوط في ألاعيب الإدارة الأمريكية وضغوطها وإبعادها عن القضية الأم (فلسطين)، ودفعها إلى توجيه خططها لصدّ العدوان الإيراني الموهوم الذي تريد أمريكا إشغالها به لإرباك علاقاتها مع إيران التي مدّت يد التعاون الأمني والسياسي والاقتصادي لهذه الدول بكل إخلاص ومودّة، وأكدت لها في أكثر من لقاء أنّ ملفها النووي ليس ملفاً عسكرياً يهدد المنطقة، بل هو ملف سلمي لمشاريع توليد الطاقة الكهربائية، وهو ما بدأت المنطقة تأخذ به، بما في ذلك مصر ودول الخليج.

إن بعض العرب يحاولون ـ بطريقتهم الخاصة ـ تقوية موقف رئيس الحكومة الصهيونية بعد اقترابه من السقوط، واستقبال وزيرة خارجية العدو في حوار لن يؤدي إلى أية نتيجة. إن الخط السياسي الصهيوني لا يزال في لعبته العربية يسخر من الحكام العرب بتصريحاته المائعة، لأن الاستراتيجية الإسرائيلية لن توافق على أي مبادرة عربية أو خارطة طريق دولية إلا بعد تحقيق كل عناصرها في عملية الإسقاط لأي عنفوان عربي والاستهانة بأية قمة عربية... مما يخدع فيه المسؤولون العرب شعوبهم التي لا تزال بينهم وبينها هوة ساحقة...

تدخل أمريكي غير مسبوق في شؤون لبنان

ومن جانب آخر، فإن وزيرة خارجية أمريكا توغّلت في التفاصيل اللبنانية المحلية بطريقة لا يقدر عليها أعتق السياسيين المحترفين في لبنان، فقد استنكرت مخيّم الاعتصام حول السرايا الحكومية، وهاجمت الذين يريدون إسقاط الحكومة، حتى بالطريقة الديمقراطية، واعتبرتهم مشكلة للاقتصاد الوطني، وعددت المحلات المغلقة والعمال الذين دفعوا للبطالة، ما أدى في تقديرها إلى هجرة الشباب، تماماً كما لو كانت عضواً لبنانياً في فريق الأكثرية.

كما طالبت بإقرار المحكمة في مجلس النواب، متجاوزةً الموانع الميثاقية والدستورية اللبنانية، وغمزت من قناة القضاة اللبنانيين الذين لم يسمح لهم بإدارة التحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لأنهم لا يملكون القدرة ـ كما لا يملكها لبنان ـ على ذلك، الأمر الذي فرض الرجوع إلى مجلس الأمن الذي أصبح مجلساً لإصدار القرارات الدولية المتعلقة بالأوضاع المحلية في لبنان، كما لو أن ما حصل في لبنان كان مسألة دولية تنذر بالخطورة الكبرى على السلام العالمي... ومن الطريف أن هذه الوزيرة اعتبرت أن ديمقراطية لبنان وسيادته هما مسألتان جوهريتان بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كما لو كانت الديمقراطية مهددة في لبنان في الصراع اللبناني الداخلي، ولم تلتفت إلى أن الديمقراطية اللبنانية ليست على طريقة الدول الديمقراطية في العالم من خلال غلبة الأكثرية على الأقلية، لأن بعض الطوائف لم توافق على الديمقراطية العددية، بل هي ديمقراطية توافقية، لم يأخذ بها فريق أمريكا في مواقفه السياسية، كما لم تأخذ بها الحكومة التي تتصرف في مجلسها الوزاري بعيداً عن مشاركة طائفة كبرى في لبنان، ما يبتعد بالموقف عن الأساس الدستوري الميثاقي للقانون اللبناني.

ومن الطريف أيضاً ـ في عنوان آخر ـ أنّ وزيرة الخارجية الأمريكية أكدت أن الديمقراطية اللبنانية والسيادة هما من أبرز المصالح بالنسبة إلى أمريكا، ما يعني أن أمريكا تريد أن تجعل من لبنان قاعدةً للمصالح الأمريكية وللمشاريع السياسية، لتتحرك، من خلال الأوضاع المعقّدة، ومن خلال بعض الأفرقاء المرتبطين بها عضوياً على مستوى الخضوع لوصايتها، بحرية في تنفيذ مخططاتها السياسية في المنطقة.

الأمم المتحدة تتبنّى المزاعم الإسرائيلية

ومن جانب آخر، فإن من المؤسف أن الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره اعتمد على شهادة إسرائيل في مسألة تهريب الأسلحة من سوريا إلى المقاومة، بالرغم من نفي سوريا والحكومة اللبنانية والجيش اللبناني لذلك، ولم يقبل التقارير التي تتحدث عن تهريب السلاح من إسرائيل إلى بعض الأفرقاء اللبنانيين، متجاهلاً أن من بين أسبابها وضع اليد الدولية على لبنان عبر مجموعة من القرارات التي لم يسبق لمجلس الأمن أن اتّخذ مثلها في موضوع واحد، حتى في الصراع العربي الإسرائيلي المفتوح منذ ستين سنة، وفي مقدّم تلك القرارات القرار 1559 الذي صدر بتوجيه إسرائيل حسب اعتراف وزير خارجيتها السابق، وقد أثار الكثير من الجدل والخلاف الذي أدى إلى الكثير من الأوضاع السياسية المعقّدة، ولا يزال يثير المشاكل بفعل التدخل الدولي.

لبنان: جدل سياسي متفاقم

أما في لبنان، فقد تجدّد الجدل حول القضايا السياسية الدائرة في النادي السياسي بعد فترة من الهدوء الذي خلق بعض المناخ الوفاقي على مستوى السطح... فنحن نلاحظ أن إحصاءات قضايا الإعمار أصبحت تثير التعقيدات الجدلية والاتهامية بين السلطة والمعارضة في عملية اتهام متبادل، كما أن قضايا النقاط السبع عادت إلى الواجهة في ضوء تبرّؤ المعارضة منها وإقرار الحكومة لها، هذا إضافةً إلى حكومة الوحدة الوطنية المرفوضة شكلاً ومضموناً من قِبَل الفريق الخاضع للضغط الأمريكي، الذي يديره السفير الأمريكي في أكثر من همسة جديدة هنا وهناك، وأما المحكمة الدولية، فإنها لا تزال تتحرك في الدائرة الدولية على أساس قرار الفصل السابع، تماماً كما لو كان مجلس الأمن الدولي بديلاً من المجلس النيابي اللبناني، الذي يرفض فريق السلطة توفير العناصر الدستورية لعقد جلسة له لإقرار المحكمة بعد الدراسة العلمية القانونية لنظامها.

ولا يزال الشعب اللبناني يعيش الأزمة تلو الأزمة، في حيرة قاتلة مما يخبّىء له المستقبل من مشاكل جديدة وأخطار متنوعة وتعقيدات اقتصادية وخدماتية، وأصبحت الهوة ساحقة بين المواطنين في لبنان وبين النادي السياسي وحكومة البلد، وقد وصل الجميع إلى الحائط المسدود الذي لا يملك أحد فتح ثغرة فيه من أجل أن ينفذ النور إليه من مطالع الشمس. ولعلّ من اللافت أن الأوضاع السياسية لا تزال تنقل اللبنانيين من استحقاق إلى استحقاق، ومن موعد لانعقاد البرلمان إلى موعد آخر، سعياً وراء سرابٍ كبير يراد للشعب أن يركض نحوه.

للسير على هدْيِ الرسالة في الوحدة والعدل والخير:
اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

الانفتاح على الحقّ والخير والعدل:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}، ويقول سبحانه: {وأنا ربكم فاعبدون} (الأنبياء:92)، في نداء إلى الرسل كلهم، بحيث يؤكد أن كل الرسل في كل دعواتهم هم أمة واحدة، حتى لو اختلفت مواقعهم الرسالية ودرجاتهم النبوية، لأن دعوتهم واحدة: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (الأعراف:59)، ولأنّ مضمون دعواتهم الرسالية للإنسان هو مضمون واحد: الخير، العدل، الحق: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (آل عمران:104). فالأمة التي تنطلق من خلال خط الرسالة، هي أمة تدعو إلى الخير كله؛ الخير في النفس في الجانب الفردي، بحيث يكون الإنسان إنسان الخير، والخير في المجتمع الصغير، بحيث يكون الإنسان في العائلة إنسان الخير لعائلته، وفي المجتمع الكبير، بحيث يكون إنسان الخير للمجتمع كله، فلا يصدر منه أيّ شر، سواء كان الشر شراً في النيّة فيما يضمره للآخرين، أو شراً في الفكرة فيما يفكر فيه للآخرين، أو في الحركة فيما يتحرك به مع الآخرين، أو في القول والفعل فيما يصدر عنه قول للناس أو فعل ينعكس على حياتهم.

وهكذا، يريد الله تعالى لهذه الأمة أن ترصد كل مواقعها في كل الاتجاهات، فتدرس قياداتها وطلائعها الثقافية الرسالية حركة الأمة، بحيث تعمل على أن تنكر الفتنة وتنهى عنها، وتنفتح على الوحدة وتأمر بها، وتخطط للعدل وتدعو الناس إلى الأخذ به، وترتكز على الحق وتطلب من الناس أن يلتزموا به في مواجهة الباطل، وتدعو إلى السلام في مقابل الحرب، وتدعو إلى الإنسانية في مقابل الوحشية، وتربط الناس في داخل الأمة برباط الأخوّة الإيمانية الروحية، فما دام الناس يؤمنون بالله، فعليهم أن يلتقوا على الله وأن يتآخوا في الله، وما داموا يؤمنون برسول الله(ص)، فعليهم أن يلتزموا رسالته ويقتدوا بسيرته.

ولذلك، نجد أن الله تعالى في مخاطبة الأمة الإسلامية، يريد من كل مسلم ومسلمة أن ينطلقا في خط الوحدة الجامعة: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} (آل عمران:103). وحبل الله هو الإسلام، وهو القرآن. فما دمتم ـ أيها المسلمون ـ ملتزمين بالإسلام، فتمسكوا به ليجمعكم وليوحّدكم، ليكون المسلم أخا المسلم، وما دمتم تؤمنون بالقرآن الذي جعله الله نوراً يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام، فاعتصموا به، لأن القرآن هو الكتاب المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يمكن لأحد ـ حتى لرسول الله ـ أن يزيد فيه أو أن ينقص، وهذا ما خاطب الله به نبيّه(ص)، حيث أكد أنّه لا يستطيع أن يأتي بقرآن غير هذا، أو أن يبدّله أو يزيد فيه حرفاً أو ينقص، فهو الكتاب الذي يُخرج الناس من الظلمات إلى النور. {ولا تفرقوا}، قد تختلفون في عشائركم، فكل فريق ينتمي إلى عشيرة معينة، وقد تختلفون في قومياتكم أو في جغرافية مواقعكم السكنية، فهذا ينتمي إلى قومية معينة وذاك إلى موقع جغرافي هنا أو هناك، ولكنكم تلتقون على الله تعالى وعلى رسول الله (ص)، وتتمسكون بحبل الله، ولذلك ليس لكم حرية أن تجعلوا خلافاتكم المادية أساساً للتفرقة على ما وحّدكم الله فيه، فقد أراد الله للمسلمين أن يكونوا إخوة؛ قد لا تكونون من أب واحد وأم واحدة على مستوى النسب، ولكنكم إخوة من خلال أنكم أبناء الله وخلقه وعباده، فنحن جميعاً عباده وخلقه، ولذلك فنحن نلتقي بالله، وما يجمعه الله لا يمكن أن يفرّقه أي شيء، لأن الله أعظم وأعلى من أي شيء.

تحسّس الأخوَّة الإيمانية:

ولذلك أراد الله تعالى للمؤمنين أن يتحسسوا هذه الأخوة الإيمانية بشكل حركي: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} (الحجرات:10)، حتى إن الله تعالى تحدث عن الخلافات الكبيرة بين جماعتين وطائفتين من المسلمين، ووجّه الدعوة للإصلاح بينهما، لأنه أراد للمسلمين أن يعيشوا هذه الوحدة في الجانب الحركي والشعوري في كل ما يعيشه الإنسان من مشاعر الألم لحالات الإنسان الآخر المأساوية، فلا يقف المؤمن في شرق الأرض وغربها موقف اللامبالاة تجاه ما يحدث للمؤمنين من مشاكل وتحديات وآلام، وهذا ما جاء به الحديث الذي ورد عن رسول الله(ص): "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، قد يكون ممن يصلّي أو يصوم أو يحجّ، ولكنه عندما يواجه هموم المسلمين في كل مشاكلهم، فإنه لا يعيش الاهتمام بها، على طريقة البعض حينما يقول: "فخّار يكسّر بعضه". فكثير من الناس ليس مستعداً لأن يشغل باله بما يحصل للمسلمين الآخرين، وهو ما يسمح لأعداء المسلمين أن ينفذوا إلى داخل مجتمعاتنا من خلال فئات الحياديين واللامبالين.

وعلى الإنسان أن يكون مع فريق الحق، ولذلك قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} (الحجرات:9). وفي حديث آخر عن النبي(ص) يقول: "من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين ـ وهذه كلمة الاستغاثة ـ فلم يجبه فليس بمسلم"، لأن الإسلام هو أن تشعر بنفسك أنك جزء من الجسد الإسلامي الذي يمثل الأمة الإسلامية.

لنعش روحية الإسلام:

وقد وردت بعض الأحاديث عن النبي(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع) في هذا المجال، فعن النبي(ص): "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر"، ونقرأ عن رسول الله(ص) وهو يقول: "أنسك الناس نسكاً ـ والناسك هو العابد القائم بالطاعات والقربات ـ أنصحهم جيباً ـ والجيب هو الصدر ـ وأسلمهم قلباً لجميع المسلمين". وعن الإمام جعفر الصادق(ع) يقول: "عليك بالنصح لله في خلقه ـ بحيث تدفع المسلمين إلى ما يحقق الخير لهم ـ فلن تلقاه بعمل أفضل منه"، لأنّ ذلك يدلِّل على أنك مسلم تعيش روحية الإسلام بالنسبة إلى الأمة الإسلامية، ويعبّر عن مدى إخلاصك لله تعالى. وهذا مما يتمثل به في القمة، إمامنا أمير المؤمنين(ع) الذي عاش بعد رسول الله(ص) أزمةً من أقسى الأزمات، فقد كان الأعلم والأفضل والأكثر جهاداً، وكان المتعيّن لقيادة المسملين، وكان هو مَن أوصى به رسول الله(ص) وجعل له الحق في الخلافة، ومع ذلك أُبعد عنها وهو مشغول بتغسيل النبي(ص) وتجهيزه، وحدث ما حدث، فماذا قال(ع): "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصة"، المهم عندي أن يسلم الإسلام والمسلمون، ولا يهم أن أُظلم أنا. كم واحد عندنا مثل علي بن أبي طالب؟! كيف لا نستطيع أن نحبه ونعظّمه ونتّبعه وهو يحمل هذه الروح التي تتسع للمسلمين جميعاً؟ ولذلك فإننا لا نستطيع إلا أن ننحني أمامه ونتمثل به.

لقد أراد الإسلام لنا أن نتحرك في الواقع الإسلامي وفي الواقع الإنساني، أن يكون الإنسان خيراً كله، ونفعاً كله، بحيث يُدخل كل واحد منا السرور على أخيه الإنسان، فقد ورد عن النبي(ص): "الخلق عيال الله، فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سروراً". وسئل(ص): "من أحبّ الناس إلى الله؟"، فقال: "أنفع الناس للناس". وعنه(ص): "من ردّ على قوم من المسلمين عادية ماء أو ناراً وجبت له الجنة"، وهذه جائزة وبشرى لكل الإطفائيين الذين يتقرّبون إلى الله بعملهم. وعن الإمام الصادق(ع) في تفسير قول السيد المسيح(ع): {وجعلني مباركاً أينما كنت}، قال(ع): "نفّاعاً للناس". وفي الحديث في قول الله: {قولوا للناس حسناً}: "قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال فيكم".

هذه هي روحية الإسلام في كل وحدته وانفتاحه، وفي كل العدل والخير الذي يدعو الناس إليه، حتى يكون كل واحد منا إنسان الحق والخير والعدل.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وكونوا إخواناً في خط الوحدة والإصلاح والصلاح، وفي خط الخير والحق والعدل. كونوا الأمة التي أراد الله أن تكون خير أمة أُخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كونوا الأمة القائدة التي تأخذ بكل عناصر القيادة في علومها وخبراتها وأخلاقها وحياتها، حتى تستطيعوا أن تنتصروا على كل من يريد إسقاط الإسلام وأهله، وواجهوا الموقف من خلال الاهتمام بأمور المسلمين، فماذا هناك:

هدف الخطة الأمنية إنهاء الانتفاضة

في المسألة الفلسطينية، قامت الإدارة الأمريكية أخيراً بتسليم خطة أمنية إلى السلطة الفلسطينية وإسرائيل، تتضمن الإجراءات التي يجب أن يقوم الطرفان بتنفيذها في خلال فترة زمنية محددة، وتشمل الخطة رفع جيش الاحتلال الحواجز العسكرية من الضفة الغربية، وتسهيل التنقلات للأفراد والبضائع من الضفة الغربية إلى قطاع غزة، بمعدل خمس رحلات أسبوعياً، وذلك اعتباراً من أول تموز/ يوليو المقبل، على أن يقوم الفلسطينيون بإعداد خطة لوقف إطلاق الصواريخ.

وهناك ملاحظات عامة وملاحظات خاصة على هذه الخطة، حيث لا تزال الإدارة الأمريكية تعتبر المشكلة في هذا الصراع هي مشكلة أمنية تنطلق من العنف الذي تقوم به الانتفاضة ضد الاحتلال، وهو ما تعدّه أمريكا إرهاباً صادراً من منظمات إرهابية، وترى في التصرف الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني بكل أشكاله دفاعاً عن النفس ضد العدوان، بينما يعرف الجميع أن المشكلة في أبعادها العامة هي مشكلة سياسية ناشئة من الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، الذي يتجدّد بين وقت وآخر في مصادرة الأراضي لمصلحة المستوطنات والجدار العنصري الفاصل. وهذا هو الذي جمّد كل الحلول ـ حتى غير المقبولة كخارطة الطريق ـ للقضية الفلسطينية، لأن الشرط الأساس هو إيقاف المقاومة.

ثانياً : إن الخطة لم تطلب من إسرائيل إيقاف قصفها للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية والاعتقالات العشوائية والاجتياحات العدوانية، بل أطلقت لها الحرية في الاعتداء والقتل تحت شعار الدفاع عن النفس... وهذا هو الذي منع من نجاح كل اتفاق على التهدئة من قبل الفلسطينيين، سلطةً وحكومةً وانتفاضةً، لأن ما يقوم به رجال المقاومة يمثّل ردّ فعل على القتل والاجتياح الذي يقوم به الجيش الصهيوني، ما يدفعهم إلى قصف المستوطنات الصهيونية لردع العدوّ من التمادي في عدوانه.

ثالثاً : إنّ رفع الحواجز العسكرية قد يمنح الفلسطينيين بعض الأمن في تنقّلاتهم، ولكن ليس ذلك هو الأساس للمشكلة، بل الأساس هو انسحاب المحتل من الضفة الغربية، من مدنها وقراها ومعابرها، لتكون للشعب الفلسطيني حرية الحركة في أرضه الحرة من دون أيّ حاجز عدواني إذلالي لجيش الاحتلال، ولكن أمريكا لا توافق على ذلك، لأنها لا تريد ـ في المرحلة الحاضرة وما بعدها في المستقبل المنظور ـ أي حلّ جذري للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، إلا بعد تحقيق إسرائيل استراتيجيتها الاحتلالية الاستيطانية الجدارية اليهودية في فلسطين.

الخطط الأمنية ومأزق بوش

رابعاً : إن ما يثير الانتباه في هذه الخطة، أن الجانب العربي في هذه المرحلة يسعى إلى البحث في حلّ شامل للصراع مع إسرائيل من خلال المبادرة العربية، فتقوم واشنطن بطرح خطط جزئية للتعامل مع هذا الصراع المعقّد، وهذا يعني عدم جاهزية إدارة بوش للانخراط في تسوية حقيقية للقضية الفلسطينية. ويعود ذلك، بطبيعة الحال، إلى المأزق الذي تواجهه هذه الإدارة داخلياً وخارجياً. فعلى الصعيد الداخلي، هناك صراع حادّ تخوضه إدارة بوش ضد الكونغرس الذي تسيطر عليه أغلبية ديمقراطية تريد ربط تمويل قوات الاحتلال الأمريكية الموجودة في العراق بوضع جدول زمني محدد لانسحاب هذه القوات. أما على الصعيد الخارجي، فإن إدارة بوش تتورّط أكثر فأكثر فيما بات يطلق عليه المستنقع العراقي، في ضوء فشل الخطط الرامية إلى وقف تصاعد العنف والتدهور الأمني في العراق، فضلاً عن تصاعد التحدي الإيراني لواشنطن في قضية الملف النووي.

ومن هنا، فإن التساؤل حول الأهداف الحقيقية لطرح إدارة بوش لمثل هذه الخطة، ربما نجد إجابته الشافية في القول بأن بوش يريد إحداث نوع من الفرقعة الإعلامية للترويج بأن إدارته تحاول المضي في عملية التسوية السياسية لكسب تأييد العرب في العراق، وهو يسعى في الوقت نفسه إلى ترحيل عملية التسوية إلى وقت لاحق، ربما يكون فيه قد أضحى خارج البيت الأبيض، وذلك من أجل البدء بعملية تفاوض جديد لا يُعرَف مداها وإمكانات نجاحها في المستقبل تحت تأثير التأييد المطلق لإسرائيل.

وهذا هو الذي يفرض على الفلسطينيين رفض الخطة جملةً وتفصيلاً، حتى لا تكون بمثابة المخدّر الذي يجمّد عملية الحركة المقاومة ضد الاحتلال، ولذلك فإننا نرحّب برفض الفصائل الفلسطينية والحكومة الفلسطينية هذه الخطة التخديرية، مع الاستغراب من موقف السلطة المتردّد حولها.

الاستراتيجية الأمريكية والعدو الإيراني الموهوم

لقد قدّم العرب، وفي مقدّمهم الفلسطينيون، التنازلات عن حقّهم في فلسطين، حتى انتهوا إلى القبول بأراضي الـ67 بفعل هزيمة 5 حزيران، ولكن إسرائيل، ومعها أمريكا، لم تكتفِ بذلك، بل إنها تتحرك للامتداد في أكثر أراضي الضفة الغربية والقدس، في انتظار المفاوضات النهائية التي لن تنتهي في أي مدى منظور، لأن إسرائيل تمثّل الدولة التي لم تحدد لنفسها حدوداً، بل تمتد إلى حيث يصل عدوانها العسكري أو مؤامراتها السياسية، مستندةً إلى الدعم الأمريكي لمخططاتها.

وفي هذا الجو، لا بد للدول العربية التي يزورها نائب الرئيس الأمريكي، ديك تشيني، في هذه المرحلة، أن تحترم نفسها في موقفها من قضية الصراع، حذراً من السقوط في ألاعيب الإدارة الأمريكية وضغوطها وإبعادها عن القضية الأم (فلسطين)، ودفعها إلى توجيه خططها لصدّ العدوان الإيراني الموهوم الذي تريد أمريكا إشغالها به لإرباك علاقاتها مع إيران التي مدّت يد التعاون الأمني والسياسي والاقتصادي لهذه الدول بكل إخلاص ومودّة، وأكدت لها في أكثر من لقاء أنّ ملفها النووي ليس ملفاً عسكرياً يهدد المنطقة، بل هو ملف سلمي لمشاريع توليد الطاقة الكهربائية، وهو ما بدأت المنطقة تأخذ به، بما في ذلك مصر ودول الخليج.

إن بعض العرب يحاولون ـ بطريقتهم الخاصة ـ تقوية موقف رئيس الحكومة الصهيونية بعد اقترابه من السقوط، واستقبال وزيرة خارجية العدو في حوار لن يؤدي إلى أية نتيجة. إن الخط السياسي الصهيوني لا يزال في لعبته العربية يسخر من الحكام العرب بتصريحاته المائعة، لأن الاستراتيجية الإسرائيلية لن توافق على أي مبادرة عربية أو خارطة طريق دولية إلا بعد تحقيق كل عناصرها في عملية الإسقاط لأي عنفوان عربي والاستهانة بأية قمة عربية... مما يخدع فيه المسؤولون العرب شعوبهم التي لا تزال بينهم وبينها هوة ساحقة...

تدخل أمريكي غير مسبوق في شؤون لبنان

ومن جانب آخر، فإن وزيرة خارجية أمريكا توغّلت في التفاصيل اللبنانية المحلية بطريقة لا يقدر عليها أعتق السياسيين المحترفين في لبنان، فقد استنكرت مخيّم الاعتصام حول السرايا الحكومية، وهاجمت الذين يريدون إسقاط الحكومة، حتى بالطريقة الديمقراطية، واعتبرتهم مشكلة للاقتصاد الوطني، وعددت المحلات المغلقة والعمال الذين دفعوا للبطالة، ما أدى في تقديرها إلى هجرة الشباب، تماماً كما لو كانت عضواً لبنانياً في فريق الأكثرية.

كما طالبت بإقرار المحكمة في مجلس النواب، متجاوزةً الموانع الميثاقية والدستورية اللبنانية، وغمزت من قناة القضاة اللبنانيين الذين لم يسمح لهم بإدارة التحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لأنهم لا يملكون القدرة ـ كما لا يملكها لبنان ـ على ذلك، الأمر الذي فرض الرجوع إلى مجلس الأمن الذي أصبح مجلساً لإصدار القرارات الدولية المتعلقة بالأوضاع المحلية في لبنان، كما لو أن ما حصل في لبنان كان مسألة دولية تنذر بالخطورة الكبرى على السلام العالمي... ومن الطريف أن هذه الوزيرة اعتبرت أن ديمقراطية لبنان وسيادته هما مسألتان جوهريتان بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كما لو كانت الديمقراطية مهددة في لبنان في الصراع اللبناني الداخلي، ولم تلتفت إلى أن الديمقراطية اللبنانية ليست على طريقة الدول الديمقراطية في العالم من خلال غلبة الأكثرية على الأقلية، لأن بعض الطوائف لم توافق على الديمقراطية العددية، بل هي ديمقراطية توافقية، لم يأخذ بها فريق أمريكا في مواقفه السياسية، كما لم تأخذ بها الحكومة التي تتصرف في مجلسها الوزاري بعيداً عن مشاركة طائفة كبرى في لبنان، ما يبتعد بالموقف عن الأساس الدستوري الميثاقي للقانون اللبناني.

ومن الطريف أيضاً ـ في عنوان آخر ـ أنّ وزيرة الخارجية الأمريكية أكدت أن الديمقراطية اللبنانية والسيادة هما من أبرز المصالح بالنسبة إلى أمريكا، ما يعني أن أمريكا تريد أن تجعل من لبنان قاعدةً للمصالح الأمريكية وللمشاريع السياسية، لتتحرك، من خلال الأوضاع المعقّدة، ومن خلال بعض الأفرقاء المرتبطين بها عضوياً على مستوى الخضوع لوصايتها، بحرية في تنفيذ مخططاتها السياسية في المنطقة.

الأمم المتحدة تتبنّى المزاعم الإسرائيلية

ومن جانب آخر، فإن من المؤسف أن الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره اعتمد على شهادة إسرائيل في مسألة تهريب الأسلحة من سوريا إلى المقاومة، بالرغم من نفي سوريا والحكومة اللبنانية والجيش اللبناني لذلك، ولم يقبل التقارير التي تتحدث عن تهريب السلاح من إسرائيل إلى بعض الأفرقاء اللبنانيين، متجاهلاً أن من بين أسبابها وضع اليد الدولية على لبنان عبر مجموعة من القرارات التي لم يسبق لمجلس الأمن أن اتّخذ مثلها في موضوع واحد، حتى في الصراع العربي الإسرائيلي المفتوح منذ ستين سنة، وفي مقدّم تلك القرارات القرار 1559 الذي صدر بتوجيه إسرائيل حسب اعتراف وزير خارجيتها السابق، وقد أثار الكثير من الجدل والخلاف الذي أدى إلى الكثير من الأوضاع السياسية المعقّدة، ولا يزال يثير المشاكل بفعل التدخل الدولي.

لبنان: جدل سياسي متفاقم

أما في لبنان، فقد تجدّد الجدل حول القضايا السياسية الدائرة في النادي السياسي بعد فترة من الهدوء الذي خلق بعض المناخ الوفاقي على مستوى السطح... فنحن نلاحظ أن إحصاءات قضايا الإعمار أصبحت تثير التعقيدات الجدلية والاتهامية بين السلطة والمعارضة في عملية اتهام متبادل، كما أن قضايا النقاط السبع عادت إلى الواجهة في ضوء تبرّؤ المعارضة منها وإقرار الحكومة لها، هذا إضافةً إلى حكومة الوحدة الوطنية المرفوضة شكلاً ومضموناً من قِبَل الفريق الخاضع للضغط الأمريكي، الذي يديره السفير الأمريكي في أكثر من همسة جديدة هنا وهناك، وأما المحكمة الدولية، فإنها لا تزال تتحرك في الدائرة الدولية على أساس قرار الفصل السابع، تماماً كما لو كان مجلس الأمن الدولي بديلاً من المجلس النيابي اللبناني، الذي يرفض فريق السلطة توفير العناصر الدستورية لعقد جلسة له لإقرار المحكمة بعد الدراسة العلمية القانونية لنظامها.

ولا يزال الشعب اللبناني يعيش الأزمة تلو الأزمة، في حيرة قاتلة مما يخبّىء له المستقبل من مشاكل جديدة وأخطار متنوعة وتعقيدات اقتصادية وخدماتية، وأصبحت الهوة ساحقة بين المواطنين في لبنان وبين النادي السياسي وحكومة البلد، وقد وصل الجميع إلى الحائط المسدود الذي لا يملك أحد فتح ثغرة فيه من أجل أن ينفذ النور إليه من مطالع الشمس. ولعلّ من اللافت أن الأوضاع السياسية لا تزال تنقل اللبنانيين من استحقاق إلى استحقاق، ومن موعد لانعقاد البرلمان إلى موعد آخر، سعياً وراء سرابٍ كبير يراد للشعب أن يركض نحوه.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية