يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} (الأحزاب:45-46). في الثامن والعشرين من شهر صفر، انتقل النبي(ص) إلى جوار الله، وفارق هذه الدنيا، بعد أن بلّغ الرسالة وجاهد في الله حق جهاده، وأوذي في سبيله أذيةً كبيرة، وأكمل الله له الدين ورضي له الإسلام ديناً، وحمّل الأجيال كلها الرسالة، لينطلق الدعاة من بعده إلى الله، لينفتحوا بالإسلام على كل مرحلة من المراحل، "حتى يرث الله الأرض ومن عليها".
موت النبي وخلود الرسالة
وعندما أُصيب النبي(ص) في معركة "أُحد"، وصاح صائح: "لقد مات محمد"، وقال بعض الذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم: "امضوا بنا إلى أبي سفيان لنكون معه لنحصل على الأمان من قبله"، وقال قائل آخر: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله باقٍ"، نزلت هذه الآية: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ـ فقد مضى على الناس زمان لم يرسل الله فيه رسولاً بعد عيسى(ع) برسالة شاملة، ثم جاءت الرسالة الخاتمة التي أرسل الله بها محمداً(ص) ليكون خاتم الأنبياء ـ أفئن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ـ فدور النبي(ص) هو أن يحمل الرسالة ويبلّغها للناس ليأخذوا بها ويستمروا عليها، لأنّ الرسول يموت والرسالة تبقى، ولن يخلد الرسول في الحياة: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد}، {إنك ميّت وإنهم ميتون} (الزّمر:30)، أفئن مات ارتددتم عن الإسلام وتركتم الدين ـ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً ـ لأن الله تعالى لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه، فالله أرسل الرسالة لما يصلح أمور الناس ولما يؤكِّد لهم الحياة ـ وسيجزي الله الشاكرين} (آل عمران:144).
هذه الآية فيها إيحاء لكثير من الناس الذين يمنّون على الله بإسلامهم، دون أن يلتفتوا إلى أنه سبحانه هو الذي هداهم إلى الإيمان، وإلى ما فيه تقوية لإنسانيتهم، واستقامة لحياتهم، ومصلحة لهم في كل مجالات الحياة كلها. أمّا الشاكرون، فقد وعدهم الله بأنّه سيجزيهم على شكرهم، وشكر الله ليس كلمةً، بل هو موقف والتزام وثبات على ما يرضاه الله تعالى في كل الأمور.
الشهادة على الأمة والالتزام بمحبة الله
وانطلق الرسول(ص) في حياته ليبيّن الرسالة، ليكون شاهداً على الأمة في التزامها بما يحبّه الله ورسوله، وليكون مبشّراً للناس بأنهم إذا استقاموا على الطريقة، فإن الله يعطيهم من نعمه الكثير: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (فصِّلت:30)، وليكون نذيراً للناس كافة من عذاب الله ونقمته إذا انحرفوا عن الطريق القويم. وهكذا، انطلق النبي(ص) داعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، يضيء للناس عقولهم بأن يقودها إلى الحق، ويضيء لهم قلوبهم بأن ينفتح بها على المحبة، ويضيء لهم حياتهم بأن يحرِّكها في خط العدل والاستقامة، وهو الذي أرسله الله ـ كما أرسل الأنبياء من قبله ـ ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، فالنبي(ص) نور كله؛ نور في عقله وفي قلبه وفي أقواله وأفعاله.
لقد كان رسول الله(ص) يمثل في كل رسالته وشخصيته الخلق العظيم الذي لا يقترب منه أحد: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم:4)، كان يمثِّل الرحمة للناس الذين يعيش معهم ويدعوهم إلى الله: {فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران:159). وكان(ص) في كل مواقعه في الحياة، مع الفقراء الذين يطيعون الله. كان مستضعفاً وعاش مع المستضعفين، ليرفع مستواهم، وليهديهم سواء السبيل، وليقوّي روحيتهم، وليعلّمهم كيف يكونون الأحرار والأعزاء.
تجسيد الرسالة
كانت رسالته(ص) رسالةً للإنسان، كلّ الإنسان، وقد عاش ليجسّد الرسالة فيما يبلّغه للناس من آيات الله وبما يتجسّد من أخلاقه ومواقع سيرته، ليكون قرآناً متحركاً وإسلاماً متجسداً، ولهذا عندما اقتربت منه الوفاة، جمع الناس وقال: "معاشر الناس، قد حان مني خفوق من بين أظهركم، فمن كان له عندي عدة فليأتني أعطه إياها، ومن كان له عليَّ دينٌ فليخبرني به". ثم قال: "لا يدّعي مدعٍ، ولا يتمنّى متمنٍّ، والذي بعثني بالحقّ، لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت". وقال(ص): "ليس بين الله وبين أحد يعطيه به خيراً أو يصرف به عنه شراً إلا العمل". إن النبي(ص) يقول للمسلمين إنه مسلم كبقية المسلمين، إن أطاع الله أعطاه الله ثواب طاعته، وإن عصى الله ـ وهو لا يعصي الله من جهة عصمته ـ منحه الجزاء عليها.
وجاء في سيرته، أنه كان في مرضه الذي توفي فيه، وكان عنده عمه العباس بن عبد المطلب، وعمته صفية بنت عبد المطلب، وابنته فاطمة الزهراء(ع)، فالتفت إليهم وقال: "يا عباس بن عبد المطلب، يا عمّ رسول الله، إعمل لما عند الله فإني لا أغني عنك من الله شيئاً. يا صفية بنت عبد المطلب، يا عمّة رسول الله، إعملي لما عند الله فإني لا أغني عنك من الله شيئاً. يا فاطمة بنت محمد، يا بنت رسول الله، إعملي لما عند الله فإني لا أغني عنك من الله شيئاً"، لأن ما يقرّب الناس إلى الله هو الطاعة، أما النسب، فإنه لا يمثل شيئاً، ولذلك ذمّ الله سبحانه عمّ رسول الله أبا لهب عندما كفر بالرسالة.
حفظ الأمانة وتبليغ الإسلام
في ذكرى وفاة رسول الله، ما هي مسؤوليتنا؟ لقد ترك النبي(ص) الإسلام أمانة في أعناقنا، وأراد لنا أن نحفظه بكل ما عندنا من جهد، سواء في العقيدة والشريعة أو في قضايا الأمّة. ونحن نقرأ في دعاء الإمام زين العابدين(ع)، طلبه من الله أن يعينه على حياطة الإسلام، ونحن بحاجة إلى ذلك، ولاسيما في هذه الأيام الصعبة القاسية التي برز فيها الاستكبار والكفر كله، إلى الاستضعاف كله والإسلام كله. ولذلك علينا أن لا نكون حياديين أمام مواقع التحدي المختلفة، لأنّ الله سيسألنا عن الإسلام كيف بلّغتموه ودعوتم إليه، وكيف عملتم على أن يكون أولادكم مسلمين، وسيسألنا عن أهلنا كيف انطلقنا لندعوهم إلى الإسلام كما دعا رسول الله(ص) أهله. علينا أن نعمل على أن لا يكون كل فكرنا كيف ينجح أولادنا علمياً ومادياً، بل كيف ينجحون عند الله أيضاً في تجربة الإيمان والتقوى.
إننا في ذكرى رسول الله(ص) نشعر بالمسؤولية الكبرى في الوقوف مع الإسلام كله، وفي أن ينطلق المسلمون جميعاً كالبنيان المرصوص يشدّ بعضهم بعضاً، لأن الله سوف يسألنا عن ذلك كله. والسلام على رسول الله يوم ولد ويوم توفي ويوم يبعث حياً.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وكونوا مع الإسلام فكراً وعاطفةً وحركةً وجهاداً وانفتاحاً على كل قضاياه وعلى كل قضايا الأمة، في عملية الوحدة الإسلامية التي يلتقي فيها المسلمون بعضهم ببعض، ليمثلوا موقع القوة في حياتهم، فإن تنازعوا في شيء ردّوه إلى الله والرسول، لا يلعن بعضهم بعضاً، ولا يقتل بعضهم بعضاً، فـ"كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه". هذا هو الخط الذي يريد رسول الله(ص) للمسلمين أن يسيروا عليه، ليواجهوا كل التحديات التي تتحرك من خلال المستكبرين، في كل قضايا الأمة وواقع البلاد الإسلامية، فماذا هناك؟
الحروب الإسرائيلية في خدمة المشاريع الأمريكية
في المشهد الأمريكي، تتحرك جماعة الضغط الإسرائيلي الأبرز في الولايات المتحدة الأمريكية في مؤتمرها لكسب التأييد لإسرائيل، ولتستعرض قوتها في التأثير على القرار السياسي للإدارة الأمريكية في الحياة العامة، مرتكزةً على نفوذها الكبير الذي لا تملك أية جهة مخابراتية النيل منه، حتى عندما تقدم بعض المعلومات ضدها، وخصوصاً أن غالبية الأعضاء في الحزبين الديمقراطي والجمهوري يتفقون على دعم إسرائيل سياسياً واقتصادياً وأمنياً، ويضغطون على الإدارة لتقديم المليارات من الدولارات لها لتعزيز قوتها العسكرية بمختلف الأسلحة المتطورة، ولاسيما عندما تخوض حرباً ضد أية جهة عربية، وهذا ما عرفه العالم في عدوانها على لبنان، لأن الحروب الإسرائيلية تتحرك في استراتيجية الحروب الأمريكية، لتحقيق المشاريع الأمريكية ضد المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين، باعتبارها من مواقع الممانعة للسياسة الأمريكية.
تشيني: تقديم مصلحة إسرائيل على أمريكا
ومن اللافت أن نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني، حضر المؤتمر بصفة كونه مؤيداً قوياً لإسرائيل التي لم يكن لها أبداً صديق أقرب إليها منه في البيت الأبيض، وقد تحدّث عن الحرب العدوانية الإسرائيلية الأخيرة باعتبارها حرباً إرهابية ضد إسرائيل، حيث قتل فيها إسرائيليون، وأطلقت فيها صواريخ على مناطق مدنية، من دون أن يشير إلى التدمير الصهيوني الهائل للبُنية التحتية في لبنان، ولوقوع مئات الضحايا من الشهداء والجرحى اللبنانيين، وإطلاق الصواريخ والقنابل الأمريكية الذكية التي أرسلتها أمريكا عبر الجسر الجوي لدعم العدوان، فضلاً عن القنابل العنقودية التي لا تزال تقتل المدنيين وتجرحهم، ولاسيما المزارعين في لبنان. ورأى تشيني أن إسرائيل لا تزال في موقع المعرّض للخطر في المنطقة، لأن المقاومة تمنعها من الاستمرار في عدوانها، باعتبار أن الخطة الأمريكية هي منح الصهيونية الحرية في القتل والتدمير والحصار ضد أي بلد عربي، ولاسيما فلسطين، ليكون ردّ الفعل الدفاعي عدواناً على الكيان الصهيوني. كذلك رأى تشيني أن الانسحاب من العراق من دون تحقيق الحسم، يمكن أن يلحق أشد الضرر بإسرائيل، ولم يتحدث عن إلحاق الضرر بأمريكا، لأن مصلحة إسرائيل تتقدم على مصلحة أمريكا عند أمثاله من السياسيين وغيرهم من المحافظين الجدد.
إن مثل هذا الرجل الحاقد على العالم الإسلامي، هو الذي يدفع الرئيس الأمريكي ليتّخذ قراراته في الحروب التي يحركها في المنطقة، ويخطط ـ مع إدارته ـ لحروب جديدة. هذا إضافة إلى مطالبته الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل، والامتناع عن مقاومة الاحتلال، من دون أن تقدم إسرائيل اعترافاً بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، حتى على مستوى الأراضي المحتلة عام 67.
إسرائيل: المطالبة بتغيير صيغة السلام العربية
وفي المشهد الإسرائيلي ـ في المؤتمر نفسه ـ وقفت وزيرة خارجية العدو لتطالب الدول العربية بتغيير صيغة "السلام أولاً ثم التطبيع"، والتي تشكل جوهر رسالة المبادرة العربية، وخاطبتهم: لا تنتظروا حلول السلام قبل أن تطبِّعوا العلاقات، وعليكم الشروع بتطبيع العلاقات منذ الآن، لأن المطلوب من العرب، ولاسيما المعتدلين ـ حسب التصنيف الأمريكي ـ الاستسلام للعدو، ليُنظر بعد ذلك فيما يمكن أن يمنحوه من السلام الذليل الخاضع الذي لا يعطي الفلسطينيين إلا ما يحقق لإسرائيل كل استراتيجيتها الاستيطانية، انطلاقاً من تأكيدها الضعف العربي الذي يحكم الواقع العربي كله أمام أمريكا وإسرائيل... كما طالبت وزيرة خارجية العدوّ مؤتمر القمة القادم في الرياض، بأن يحذف من المبادرة العربية حق العودة للاجئين، لأن إسرائيل لن تقبل به أبداً، بالرغم من أنّ قرار الأمم المتحدة 194 يؤكِّد حقّ العودة لهؤلاء اللاجئين، لأن إسرائيل لا تحترم قرارات الأمم المتحدة التي تصطدم بمصالحها، بدعم من أمريكا التي تتاجر بقرارات مجلس الأمن ضد كل ما هو عربي وإسلامي، فقد تحوّلت الأمم المتحدة إلى موقع للضغط الأمريكي على كل دولة ممانعة أو معارضة للسياسة الأمريكية التي بدأت تضغط على الاتحاد الأوروبي وعلى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن بين وقت وآخر.
وإننا نأمل من مؤتمر القمة العربي، أن يوفر على القضية الفلسطينية هذا السقوط السياسي في التنازل عن القضايا الحيوية المصيرية للشعب الفلسطيني، ولاسيما حق العودة الذي يقابله في الاستراتيجية اليهودية دعوة اليهود في العالم للقدوم إلى فلسطين التي يصادر الصهاينة أراضيها من خلال المستوطنات والجدار العنصري الفاصل لحساب اليهود...
لقد تعوّد العرب تقديم التنازلات المجانية لإسرائيل، وتعوّدت إسرائيل الإصرار على مطالبها من دون مقابل، الأمر الذي يوحي بالهوان الذي يسقط فيه القائمون على العالم العربي إلى المستوى الذي لم يبق لديهم ما يحافظون به على ماء الوجه.
الانتفاضة الأسلوب الوحيد للتحرر
ومن جانب آخر، فإن اللقاء الذي انعقد بين رئيس الحكومة الصهيونية ورئيس السلطة الفلسطينية، كان لقاءً فاشلاً من الناحية السياسية، وخصوصاً بعد أن تشكّلت حكومة الوحدة الفلسطينية من دون تلبية الشرط الإسرائيلي المتمثل بإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي، إذ كانت إسرائيل تتصرف وكأن قرار تشكيل حكومة الوحدة تحت سيطرتها، وهي لا تزال تعارض قيام هذه الحكومة من خلال معارضتها لاتفاق مكة الذي اعتبرته وزيرة خارجيتها مشكلة قوَّضت الجهد الأمريكي الإسرائيلي لتحريك العملية السلمية، هذه العملية التي لا تنطلق وفق هذه الحسابات إلا بإبقاء الحرب بين حماس وفتح، من أجل إبعاد حركة حماس عن المسؤولية السياسية، لتبقى شروط اللعبة بيد العدو وحليفته أمريكا...
وفي ضوء ذلك كله، فإننا نناشد الشعب الفلسطيني بفصائله المجاهدة، وبسلطته وحكومته، ألاّ يخدعوا بما تتحرك به اللجنة الرباعية والموفدون الدوليون، لأن أمريكا هي التي تقود المسيرة كلها بما يحقق الاستراتيجية الإسرائيلية، وبما يضغط على الاستراتيجية الوطنية الفلسطينية، لأنّ انخداعهم بذلك سوف يؤدي إلى السقوط في فخّ لعبة الأمم التي منحت فلسطين لليهود، وهي التي تستكمل شروط اللعبة الاستئصالية الخبيثة... واستمرار الانتفاضة هو الأسلوب الوحيد الذي يحاصر كل ظروف اللعبة، لأن الشعوب هي التي تفرض إرادتها على الذين يضغطون عليها، بالخطة الواعية القوية المتحدية التي ترد التحدي بمثله.
مؤتمر بغداد لا يخطط لمصلحة العراق
وفي العراق، لا تزال المأساة تتمثل في ضحايا الشعب العراقي التي تتساقط يومياً بمختلف الوسائل الوحشية، تفجيراً وقصفاً واغتيالاً وتدميراً، من خلال حركة الاحتلال الذي يحاول تغطية فشله بالعنف العشوائي، ومن خلال حركة التكفيريين الذين يستحلون دماء المسلمين، من خلال الحقد الخبيث، والفهم الجاهل لحدود الإسلام، هذا فضلاً عن المؤتمر المنعقد في بغداد الذي لا يخطط لمصلحة العراق في حماية شعبه، ولكنه يتحرك من أجل ترتيب العلاقات الأمريكية وبعض دول الجوار في قضايا غير عراقية، في الوقت الذي لا تزال الخلافات السياسية على أشّدها بين الأطياف العراقية التي قد تلبس ـ بين وقت وآخر ـ لبوساً مذهبياً أو طائفياً من دون التخطيط لمصالحة وطنية تؤكد الوحدة العراقية وطرد المحتل من البلد كله، لأنه هو سرّ المشكلة في كل المآسي التي يتخبط فيها الشعب العراقي.
وتمتد المأساة الإسلامية من العراق إلى أفغانستان إلى السودان إلى الصومال إلى اليمن... ثم إلى لبنان وإيران، من خلال حركة الفوضى البنّاءة التي أرادتها أمريكا لإفقار المنطقة الإسلامية، وإرباك كل مشاريعها الوحدوية الإصلاحية، وللسيطرة على كل ثرواتها الطبيعية، انطلاقاً من الذهنية الإمبراطورية التي لا تحترم الإنسان، بل تركز على مصالحها الاستكبارية على حساب الشعوب.
لبنان: المشكلة في النظام الطائفي
وفي لبنان، لا يزال الجدل حول المحكمة ذات الطابع الدولي وشروطها المتباينة، في الإبقاء على نظامها الرسمي، أو في تعديلها لإخراجها من نطاق التسييس للقضية، وحول الحكومة التي إذا اتفق المتحاورون على إعدادها، فسوف يختلفون على توزيع حقائبها على أساس طائفي أو حزبي داخل الطائفة... ويعيش اللبنانيون في الجدال الدائر بين السياسيين المحترفين بين خط التفاؤل وخط التشاؤم، من خلال ضغط إقليمي أو عربي أو تدخل دولي، في لعبة سياسية تضع الشروط الملائمة والشروط المضادة التي تتوزع وفق حسابات مشاريع الدول الكبرى ـ ولاسيما أمريكا وفرنسا ـ الضاغطة على الخطوط العربية والإقليمية، وذلك في إطار الصراع الدائر على المصالح، وفي التجاذبات المتحركة لهذه الجهة أو تلك.
ويبقى الموسم الغني بالتصريحات والتحليلات والشعارات التي يضيع فيها اللبنانيون الذين لا يعرفون ماذا يأخذون وماذا يدعون... وتتطاير كل حالات الثقة بالواقع السياسي الذي لا يجد فيه الناس اهتماماً بالوطن المدمّر الجائع المحروم المدوّل في المصالح المتناقضة للدول، ولا يلمحون تخطيطاً دقيقاً لمشاريع الإصلاح في المستقبل، ويبقى الذين قتلوا وسرقوا وأهدروا، في مواقع القمة التي اجتاحت أكثر من قاعدة شعبية في أكثر من مرحلة، حيث الزعامات الطائفية التقليدية تشير إليها أن لا تفكر بالوطن، بل بالطائفة والأشخاص الطائفيين، على أساس هذا النظام الطائفي الذي أضاع لبنان واللبنانيين أمام كل المشاكل والتحديات والتطورات التراجعية في المنطقة.