لنجدّد الرسالة في خط العزّة والإصلاح...

لنجدّد الرسالة في خط العزّة والإصلاح...

في ذكرى أربعين الإمام الحسين(ع):
لنجدّد الرسالة في خط العزّة والإصلاح...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

الحسين(ع): الثّائر المصلح:

 قال رسول الله(ص): «حسين مني وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسيناً». وتأتي ذكرى الأربعين، لنستعيد من خلالها شخصيَّة الإمام الحسين(ع)؛ شخصية الإمام المصُلح والمنقذ والثائر والقائد الإسلامي الذي أكّد العزَّة في خطِّ الرسالة، فهو في الوقت الذي كان يواجه فيه الأمَّة بالرسالة في مضامينها العقيدية والثقافية والشرعية، كان يريد أن يرتفع بالإنسان، ولا سيما المؤمن، إلى أن لا يخضع في إرادته لأية قوة تريد أن تسقط إرادته، أو تريد أن تستغلَّ موقعه في بعض حالات التحدي، لتفرض عليه ما لا يريد أن يقبله، وبعبارة أخرى، إلى أن لا يخضع للاّشرعية، لأن الله أراد للإنسان أن يكون مع شرعية الإمامة والقيادة والإسلام، فلا شرعيَّة لمن لا يملك معنى الإمامة وعظمة القيادة ورساليَّة الإسلام.

في ذكرى الأربعين، نلتقي بذكرى الإمام الحسين(ع)، فلا نشعر بغيابه عنّا، على الرّغم من أنّه مرّ ما يقرب من أربعة عشر قرناً على استشهاده، ولكن حضور الحسين(ع) في كلِّ خطوات هذا التاريخ، وإشراقته في كلِّ ظلمات التاريخ، لا تزال تفرض نفسها على العقل الذي يفكر، وعلى القلب الذي يُحبّ، وعلى الحركة التي تنطلق وتتحدى وتواجه التحدي.

شهيد الأمّة:

إننا نشعر أنَّ الحسين(ع) حاضرٌ معنا، لأنه(ع) كان ثائر الإسلام وإمامه وشهيده. صحيح أنه استشهد في كربلاء ودُفن فيها مع الصَّفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه، ولكنّه كان شهيد الأمَّةِ كلّها، وشهيد الإسلام كلّه؛ لم تختصره كربلاء في الموقع الجغرافي، بل إنّه انطلق في العالم كلّه من خلال عالمية الإسلام الذي أطلق الحسين(ع) كلمة الإصلاح فيه وفي أمة جده (ص).

وكان الحسين(ع) قد التزم الهدنة مع معاوية، بعد هدنة أخيه الحسن معه، ولكن، بعد موت معاوية، رأى الحسين(ع) أنّه في حلّ من تلك الهدنة، فانطلق في وجه والي المدينة الّذي أراد له أن يبايع يزيد، ليذكّره بالحقيقة التي يتمثل فيها أهل البيت(ع)، هؤلاء الذين «أذهب الله عنهم الرِّجس وطهّرهم تطهيراً»، ليقول له بكلِّ قوَّةٍ: «إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي والتنـزيل، وبنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجلٌ فاسقٌ فاجرٌ، شارب الخمر، وقاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله، ولكنه نصبح وتصبحون أيّنا أحقّ بالبيعة والخلافة»، من الذي يمثل الإسلام كله والقرآن كلِّه، ويجسّد ما يصلح الأمة في قضاياها وأوضاعها، لننظر من هو الذي قال عنه رسول الإسلام (ص) إنه وأخاه «سيَّدا شباب أهل الجنة»، وإنه وأخاه «إمامان قاما أو قعدا».

تأكيد الإمامة:

وانطلق الإمام الحسين(ع) إلى مكَّة ليجمع النَّاس في البيت الحرام، ليعرّفهم كيف يمكن أن يكون مسلماً في كلِّ قضاياه؛ مسلماً في العبادة وفي كل طاعة؛ في السياسة والحكم والإدارة، وفي كلِّ التزاماته الحياتية ومسؤولياته في الواقع، لأن الإسلام لا يمثِّل موقعاً خاصاً، بل يمثل كل المواقع في كلِّ جوانب الحياة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(الأنفال/24). انطلق الحسين(ع) من مكّة في تأكيد إمامته الشرعية، وأراد أن يجمع النخبة الملخصة له من خلال إخلاصها للإسلام، أراد(ع) جيشاً وجمهوراً لا يتحرك معه على أساس الطمع في مال أو وظيفة وما إلى ذلك، وهكذا استطاع أن يصطفي الطليعة الإسلامية الواعية في أهل بيته وأصحابه الذين اجتمعوا معه في كربلاء، والذين أخلصوا له في عهدهم.

وانطلق الحسين(ع) إماماً يعظُ الناس ويرشدهم ويثير كلَّ عناصر الوعي فيهم، ويعرّفهم من هو الحاكم الشرعي من خلال كلمة رسول الله (ص): «من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله»، وليعرّفهم أيضاً كيف يمكن أن يلتزموا عهودهم ليقفوا إلى جانب الحق لينصروه، وكان الموقف الأوّل له مع أول جيش التقى به من جيش ابن زياد بقيادة الحر بن يزيد الرياحي، قبل أن يتوب على يدي الحسين(ع)، حيث حدّثهم كيف يمكن للإنسان المسلم أن يكون وفيّاً بعهده وبيعته، وكيف يلتزم الشرعية كي يكون ناصراً لها ومؤيِّداًَ، وأعطاهم من الأخلاقية الإسلامية العالية ما أشعرهم بأنهم يسيرون مع القيادة الخطأ.

طلب الإصلاح والعزّة:

وأطلق الحسين(ع) طبيعة تحرّكه، فهو لم يخرج محارباً، لأنه لو كان يريد الحرب كما هي الحرب، لحشد لذلك الآلاف من الناس، ولكنه كان يتحرك من أجل أن يحارب الجهل في عقول الناس، كما كان جدّه يتألم والحقد في قلوبهم، والانحراف في حياتهم، كان(ع) كجده (ص)، يحمل الرسالة ويقول: «اللهمّ اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون». وكان يتألم كما كان جده يتألّم لمن لم ينفتح على الإسلام؛ وقد تألّم لأولئك الذين ساروا مع يزيد وابن زياد، لأنهم سيدخلون النار بسببه، وقال: «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد (ص)، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق»، أطلق عنوان الإصلاح الذي أطلقه الأنبياء، وانطلق ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

وعندما أراد القوم من الحسين(ع) أن يخضع للاّشرعية وينزل على حكم هؤلاء الذين سيطروا على إمارة المسلمين، قال لهم: «لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد»، «ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون». وهكذا وقف الحسين(ع) في رساليَّة الإسلام وعزّته وحرّيته، وفي كلِّ ما يريد الإسلام أن يؤكِّده في هذا المقام، وأعطى من ثورته وحركته وتضحياته واستشهاده، كلَّ ما يعزِّز موقع الإسلام.

لقد كان الإمام الحسين(ع) يحبّ الله تعالى كما لم يحبّه أحد، وينفتح على الله كما لم ينفتح عليه أحد، كان كأبيه(ع)، يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، ونزل في كربلاء ليعطي البشرية درساً كيف يمكن للرساليّ أن يبقى مع رسالته حتى الاستشهاد.

ذكرى رفض الظّلم والاستكبار:

إنّ هذه الذكرى العظيمة التي نعيش فيها الحسين(ع) إماماً وحبيباً وقائداً، لا تزال تجدِّد فينا الإيمان بالإسلام، لندافع عنه، ولنرفض الظلم والاستكبار، وعلينا أن نجعل من ذكرى الإمام الحسين(ع) ثورة في حركة الإنسان من أجل العزّة والكرامة والدفاع عن الإسلام كله؛ أن لا نحوّل الذكرى الحسينية إلى مجرد تقاليد لا تعطي شيئاً، وأن لا نجعل منها مناسبة لضرب الرؤوس والظهور، بل أن نستوحي منها كيف نضرب رؤوس أعداء الله والإنسانية بكلِّ سيوفنا وأسلحتنا، وكيف نلهب ظهور كل هؤلاء بالسياط.

إن القضية هي أن نجدد رسالة الحسين في كلِّ رسالاتنا، ونجدد قضية الحسين في كلِّ قضايانا، لنقول له: إن لم نجبك بأجسادنا ودمائنا، فإننا نجيبك بأرواحنا وعقولنا وقلوبنا، لكي نبقى معك يا أبا عبد الله في رسالتك وثورتك وشرعيتك، سنبقى معك ومع جدك وأبيك وأمّك وأخيك والأئمة من ولدك وبنيك. والسلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وانطلقوا مع ذكرى الحسين(ع)، لتكونوا جنود الإسلام الذين لا يعطون بأيديهم إعطاء الذليل، ويتحركون في شعار الإمام الحسين: «هيهات منا الذلة»، ليواجهوا كل ظالم ومستكبر يريد أن يفرض نفسه على المسلمين، لتكونوا خير أمة أُخرِجت للناس من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما كان الحسين(ع) موحّداً يفرح بالتضحية وهول المأساة، ليقول لله تعالى: «هوّن ما نزل بي أنه بعين الله». أن نواجه كما واجه الحسين(ع) كل هؤلاء الذين يتسلّطون على الناس من خلال ما يملكون من قوة المال والسلاح والسياسة، وعلينا أن نواجههم بالموقف القويّ الصلب الصامد، فماذا هناك؟

مقايضات أمريكية مع العرب على حساب قضاياهم:

لا تزال الإدارة الأمريكية تسعى إلى إدخال الواقع العربي والإسلامي في مقايضة سياسية وأمنية مجحفة لحساب مصالحها ومصالح إسرائيل في المنطقة... فهي تسعى إلى مقايضة وقف إهراق الدم الفلسطيني بالمزيد من التنازلات الّتي تريد للفلّسطينيّين أن يقدّموها لحساب إسرائيل بما يتهدد القضية الفلسطينية بالكامل، كما إنها تريد إدخال اللبنانيين في مقايضة سياسية وأمنية لحساب بعض الملفات في المنطقة... وهي في الوقت عينه، تريد للعرب والمسلمين أن يقبلوا بالمقايضة الكبرى التي لا توقف فيها أمريكا الفتنة السنية الشيعية التي تعمل لتحريكها في المنطقة إلا على أساس التنازلات الكبرى من رصيدهم السياسي والأمني، ومن رصيد قضاياهم الاستراتيجية الكبرى.

ففي المشهد الفلسطينيّ، لا تزالُ حكومةُ الوحدة الوطنية تواجه التعقيدات والصّعوبات في تشكيلها، ولا تزالُ الإدارة الأميركية تمارس الضغوط بعدم الاعتراف بها ما لم تخضع لشروط اللجنة الرباعيّة الدولية في الاعتراف بإسرائيل ووقف المقاومة، وهو ما ترفضه حماس من ناحية مبدئية واستراتيجية.

وفي موازاة ذلك، يتحرَّك بعض المسؤولين العرب لتعديل المبادرة العربية في مؤتمر القمّة الذي انعقد في بيروت، وذلك فيما يتصل بمكانة اللاجئين الفلسطينيين في التسوية الدائمة، بأن يُمكَّن اللاجئون من العودة إلى مناطق السلطة فقط أو البقاء في أماكن سكناهم وتلقّي تعويضات مالية تدفع جزءاً كبيراً منها دولة عربية نفطية، وهناك حديث عن اتصالات سرّيّة تقوم بها هذه الدولة مع الإدارة الأمريكية بهدف الوصول إلى صيغة متَّفق عليها، وربما تعرض الخطة المعدَّلة في القمة العربية القادمة في الرياض في نهاية الشهر، وتتحرك الاتصالات مع الدول العربية الأخرى للموافقة عليها، وممارسة الضغط على الدولة الرافضة وهي سوريا للحصول على موافقتها.

تعزيز قدرات إسرائيل وإضعاف العرب:

وهناك موضوع آخر يتعلّق بالعلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، ويتمثل في الطلب الصهيوني زيادة المساعدات الأمنية الأمريكية إلى 3 مليار دولار، بحجة مواجهة التحديات الأمنية المحدقة بإسرائيل من جانب إيران وحزب الله وحماس، لتقوية الدولة العبرية أمنياً وعسكرياً، لتهديد هذه الجهات في خطَّتها المتحركة في حرب جديدة أو عدوان جديد. ونحن نعرف الموقف الأمريكي من إسرائيل، المتمثّل في جعلها تحتلُّ الموقع الذي يمكّنها من تهديد المنطقة كلها، ومساعدة المشاريع الأمريكية في السيطرة عليها من خلال التحالف الاستراتيجي القائم بينهما، والقيام في الوقت نفسه بالضَّغط على الدُّول العربيَّة لإضعافها عسكرياً واقتصادياً وأمنياً وسياسياً، لتبقى في دائرة الخضوع للسياسة الأمريكية، وفي سبيل ذلك أيضاً، تواصل إثارة الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية، وتوجيه ثرواتها إلى شراء الأسلحة التي تنتجها المصانع الأمريكية، لتقوية اقتصادها الاحتكاري، ليتحرك السلاح ضد المواقع الإقليمية في المنطقة العربية والإسلامية، مع الشَّرط الحاسم الذي تخضع له عقود شراء السلاح، وهو أن لا يوجَّه ضدَّ إسرائيل في أيِّ حرب عربية ـ إسرائيلية، لأنَّ الخطة الأمريكية تقضي بتوجيه السلاح إلى صدور العرب والمسلمين، وزجّه في خلافاتهم الداخلية التي تتحرَّك فيها الفتن التي يستحلُّ فيها المسلمون دماء بعضهم بعضاً في خدمة مجانية للاحتلال وحلفائه.

العراق: وحشيّة التّكفيريّين:

وفي المشهد العراقي، تمتد المأساة في تفجير شارع المتنبي، وهو شارع المكتبات، لتختلط دماء المدنيين الأبرياء بأوراق الكتب، شاهدة بذلك على همجية هؤلاء الذين لا يحترمون الإنسان، سواء كان مسلماً أو غير مسلم، شيعياً كان أو سنياً، طفلاً أو امرأة أو شيخاً، ولا يحترمون الثقافة التي تنير العقل وتحرّك الوعي وتقود الإنسان إلى الانفتاح على الإسلام الحضاريّ الأصيل، والابتعاد عن العنف الوحشي ضد الإنسانية كلّها، في عناوين تطرح الإسلام الذي هو براءٌ منها، وتدين المسلمين الذي يختلفون معهم في التفكير بالارتداد عن الإسلام وبالكفر به، الأمر الذي أعطى صورة مظلمةً مشوّهةً عن الإسلام لدى الآخرين الذين استغلوا أعمال هؤلاء في اتهامه بالإرهاب.

ومن جانب آخر، يواصل هؤلاء التكفيريون تفجيراتهم الوحشية التي لاحقت المؤمنين الصالحين الموالين لأهل البيت الزائرين للإمام الحسين(ع) في مناسبة الأربعين، ليقتلوهم بشكل وحشي من دون رحمة، وربما كانوا يستهدفون في ذلك الخطة الأمنية التي لا يملكون التعامل معها بطريقة مباشرة، ولكنهم يقتلون المدنيين العراقيين الأبرياء، فيشاركون المحتلّ في هجومه على المدنيين بين وقت وآخر. ومن المضحك المبكي، أنهم يطلقون على تصرفاتهم الوحشية عنوان المقاومة للاحتلال الذي يساهمون في امتداده وبقائه طويلاً في العراق لتحقيق أهدافه الاستكبارية ضد المنطقة كلها.

المؤتمر الدولي العربي: محاولة لانتشال الاحتلال من المأزق:

وإذا كان الحديث عن مشروع مؤتمر دولي عربي، فإننا نخشى أن تكون خلفيته أمريكيةً للضّغط على المؤتمرين في إنقاذ الاحتلال من المأزق السياسي والأمني الذي يتخبّط فيه، وفي الحسابات أنّ دعوة بعض الدول التي تتعقَّد علاقاتها بأمريكا إلى المؤتمر، قد تساهم في إزالة الحاجز السياسي بينها وبين أمريكا في عملية التفاوض داخل المؤتمر. إن الاحتلال يبحث عن مخرج لأزمته من الفشل الذريع الذي لحق به، وذلك من خلال بعض حالات الانفتاح على بعض دول الجوار التي كانت مغلقة عليه، على صعيد العلاقات السياسية الواقعية، ونحن لا نرى خيراً في ذلك كلّه، ولا نشاطر بعض الجهات العراقية والعربية التفاؤل الذي يثيرونه في هذا الاتجاه.

اتّهام غير واقعي لإيران:

ومن جانب آخر، فإنَّ الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى ألمانيا، تعود للبحث في تشديد العقوبات على إيران، لأنّها ـ كما تدّعي ـ لم تمتثل لقرار ما يسمى المجتمع الدولي في إيقاف تخصيب اليورانيوم في نطاق مشروعها النووي السلمي الذي أكدت وكالة الطاقة الذرية أنه ليس مشروعاً عسكرياً. وأنها قادرة على إثبات الجانب السلمي للمشروع، ولكن هذه الدول الخاضعة للضغط الأمريكي، والمتحركة في دائرة الهيمنة على دول المنطقة لمنعها من الأخذ بالخبرة العلمية، ومنها النووية لتطوير اقتصادها في قضايا الطاقة، لا تزال تلعب لعبة القطّ والفأر الخبيثة على إيران، وفي كل حساباتها تطويع الموقف الإيراني سلماً، حفاظاً على مصالحها الاقتصادية التي سوف تتأثر بالعقوبات مهما كانت غير فاعلة.

إن المشكلة في الغرب تكمن في أنه لا يريد الاستماع إلى الحجَّة القاطعة التي تقدمها إيران في رفض التخطيط لصنع القنبلة النووية، بل تبقى المسألة في دائرة الاتهام غير الواقعي، تماماً كما هي الولايات الأمريكية التي خاضت الحرب ضد العراق على أساس اتهامه بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، ثم تبيَّن كذبها بعد الاحتلال.

مجزرة بئر العبد: إرهابٌ أمريكيّ:

أمَّا في لبنان، فقد التقينا بالأمس بالذكرى السنوية لمجزرة بئر العبد التي مثَّلت مشهداً من مشاهد الإرهاب الأميركي الذي قتل وجرح المئات من المدنيين الأبرياء وسفك دماء الأطفال والأجنة والنساء والشيوخ والعمال والكسبة، في إطار سعيه لقتل من قال رئيس الاستخبارات الأميركية آنذاك بأنه "أصبح مزعجاً للسياسة الأميركية وأنَّ عليه أن يرحل".

إننا عندما نستذكر هذه المجزرة المروّعة التي كانت من صنع أميركي على مستوى التخطيط والمتابعة، نريد لشعوبنا أن تعرف ما هو الإرهاب الأميركي الذي يتوالى فصولاً في العراق وأفغانستان وفلسطين، والذي عرفه اللبنانيون في الحرب الإسرائيلية الأخيرة، ونريد لكل المعنيين على المستوى السياسي والقضائي والقانوني، أن يتحمَّلوا مسؤوليّتهم حيال ملاحقة الإدارات الأميركية حول هذه المجزرة وغيرها، خصوصاً أن أدلتها الدامغة والشهادات حولها مثبتة وموثَّقة في الصحف الأميركية، وفيما كتبه كتّاب أميركيون بارزون، منهم صاحب كتاب الحجاب "بوب ودوورد".

عقبات أمام الحلّ في لبنان:

وفي هذه الأيام، يعيش اللبنانيون في أجواء غير واقعية من التفاؤل بالحلّ، من خلال بعض اللّقاءات الإقليمية على صعيد القمة، حتى خيّل للبعض أنَّ الحلّ على الأبواب، ليفاجأوا ببعض التَّصريحات من مسؤولين بأنَّ الأزمة في لبنان لا تزال تراوح مكانها، ولتنطلق بعض الكلمات والمواقف من الذين كانوا ولا يزالون يعطِّلون أية مبادرة، ويرفضون أيّ حلّ، سواء كانوا من الفريق الرسمي أو من الجهة السياسية المعقّدة... وذلك لأن القضية لا تزال خاضعةً للتعقيد الدولي الأمريكي ـ الفرنسي الذي يوسوس لبعض القائمين على الواقع السياسي، من خلال إيحاءات وتعليمات جورج بوش وكوندليسا رايس وديك تشيني ووزارة الدفاع الأمريكية وأجهزة المخابرات المتعدّدة الاختصاصات، وقد جعلوا الأزمة اللبنانية موضوعهم الأثير، فيستقبلون بين وقت وآخر وزراء ونواباً ووجهاء، ويتحركون من خلالهم لاغتيال أيّ مشروع حلّ فور ظهور عنوانه، لأن المشكلة الآن أن قادة الدول، ولا سيما الرئيس بوش، تحولّوا إلى أطراف محليين، وصارت الأزمة اللبنانية موضوعاً دولياً، فهل يمكن ـ أمام هذا الواقع ـ لأيّ حل عربي أو إقليمي أن يشهد النور إذا لم يحمل أختام الرئاسة الأمريكية وبعض الرئاسات الأوربية؟!

إنَّ الحلَّ اللبناني للأزمة باختصار، هو جزء من صفقة دولية ـ إقليمية عربية كبرى، ولا دور للحل المحلّي... إننا لا نتشاءم، ولكننا ندرس الأمور من خلال الواقع، لا من خلال التمنيات، وكل أزمة وأنتم بخير.

 

في ذكرى أربعين الإمام الحسين(ع):
لنجدّد الرسالة في خط العزّة والإصلاح...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

الحسين(ع): الثّائر المصلح:

 قال رسول الله(ص): «حسين مني وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسيناً». وتأتي ذكرى الأربعين، لنستعيد من خلالها شخصيَّة الإمام الحسين(ع)؛ شخصية الإمام المصُلح والمنقذ والثائر والقائد الإسلامي الذي أكّد العزَّة في خطِّ الرسالة، فهو في الوقت الذي كان يواجه فيه الأمَّة بالرسالة في مضامينها العقيدية والثقافية والشرعية، كان يريد أن يرتفع بالإنسان، ولا سيما المؤمن، إلى أن لا يخضع في إرادته لأية قوة تريد أن تسقط إرادته، أو تريد أن تستغلَّ موقعه في بعض حالات التحدي، لتفرض عليه ما لا يريد أن يقبله، وبعبارة أخرى، إلى أن لا يخضع للاّشرعية، لأن الله أراد للإنسان أن يكون مع شرعية الإمامة والقيادة والإسلام، فلا شرعيَّة لمن لا يملك معنى الإمامة وعظمة القيادة ورساليَّة الإسلام.

في ذكرى الأربعين، نلتقي بذكرى الإمام الحسين(ع)، فلا نشعر بغيابه عنّا، على الرّغم من أنّه مرّ ما يقرب من أربعة عشر قرناً على استشهاده، ولكن حضور الحسين(ع) في كلِّ خطوات هذا التاريخ، وإشراقته في كلِّ ظلمات التاريخ، لا تزال تفرض نفسها على العقل الذي يفكر، وعلى القلب الذي يُحبّ، وعلى الحركة التي تنطلق وتتحدى وتواجه التحدي.

شهيد الأمّة:

إننا نشعر أنَّ الحسين(ع) حاضرٌ معنا، لأنه(ع) كان ثائر الإسلام وإمامه وشهيده. صحيح أنه استشهد في كربلاء ودُفن فيها مع الصَّفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه، ولكنّه كان شهيد الأمَّةِ كلّها، وشهيد الإسلام كلّه؛ لم تختصره كربلاء في الموقع الجغرافي، بل إنّه انطلق في العالم كلّه من خلال عالمية الإسلام الذي أطلق الحسين(ع) كلمة الإصلاح فيه وفي أمة جده (ص).

وكان الحسين(ع) قد التزم الهدنة مع معاوية، بعد هدنة أخيه الحسن معه، ولكن، بعد موت معاوية، رأى الحسين(ع) أنّه في حلّ من تلك الهدنة، فانطلق في وجه والي المدينة الّذي أراد له أن يبايع يزيد، ليذكّره بالحقيقة التي يتمثل فيها أهل البيت(ع)، هؤلاء الذين «أذهب الله عنهم الرِّجس وطهّرهم تطهيراً»، ليقول له بكلِّ قوَّةٍ: «إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي والتنـزيل، وبنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجلٌ فاسقٌ فاجرٌ، شارب الخمر، وقاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله، ولكنه نصبح وتصبحون أيّنا أحقّ بالبيعة والخلافة»، من الذي يمثل الإسلام كله والقرآن كلِّه، ويجسّد ما يصلح الأمة في قضاياها وأوضاعها، لننظر من هو الذي قال عنه رسول الإسلام (ص) إنه وأخاه «سيَّدا شباب أهل الجنة»، وإنه وأخاه «إمامان قاما أو قعدا».

تأكيد الإمامة:

وانطلق الإمام الحسين(ع) إلى مكَّة ليجمع النَّاس في البيت الحرام، ليعرّفهم كيف يمكن أن يكون مسلماً في كلِّ قضاياه؛ مسلماً في العبادة وفي كل طاعة؛ في السياسة والحكم والإدارة، وفي كلِّ التزاماته الحياتية ومسؤولياته في الواقع، لأن الإسلام لا يمثِّل موقعاً خاصاً، بل يمثل كل المواقع في كلِّ جوانب الحياة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(الأنفال/24). انطلق الحسين(ع) من مكّة في تأكيد إمامته الشرعية، وأراد أن يجمع النخبة الملخصة له من خلال إخلاصها للإسلام، أراد(ع) جيشاً وجمهوراً لا يتحرك معه على أساس الطمع في مال أو وظيفة وما إلى ذلك، وهكذا استطاع أن يصطفي الطليعة الإسلامية الواعية في أهل بيته وأصحابه الذين اجتمعوا معه في كربلاء، والذين أخلصوا له في عهدهم.

وانطلق الحسين(ع) إماماً يعظُ الناس ويرشدهم ويثير كلَّ عناصر الوعي فيهم، ويعرّفهم من هو الحاكم الشرعي من خلال كلمة رسول الله (ص): «من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله»، وليعرّفهم أيضاً كيف يمكن أن يلتزموا عهودهم ليقفوا إلى جانب الحق لينصروه، وكان الموقف الأوّل له مع أول جيش التقى به من جيش ابن زياد بقيادة الحر بن يزيد الرياحي، قبل أن يتوب على يدي الحسين(ع)، حيث حدّثهم كيف يمكن للإنسان المسلم أن يكون وفيّاً بعهده وبيعته، وكيف يلتزم الشرعية كي يكون ناصراً لها ومؤيِّداًَ، وأعطاهم من الأخلاقية الإسلامية العالية ما أشعرهم بأنهم يسيرون مع القيادة الخطأ.

طلب الإصلاح والعزّة:

وأطلق الحسين(ع) طبيعة تحرّكه، فهو لم يخرج محارباً، لأنه لو كان يريد الحرب كما هي الحرب، لحشد لذلك الآلاف من الناس، ولكنه كان يتحرك من أجل أن يحارب الجهل في عقول الناس، كما كان جدّه يتألم والحقد في قلوبهم، والانحراف في حياتهم، كان(ع) كجده (ص)، يحمل الرسالة ويقول: «اللهمّ اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون». وكان يتألم كما كان جده يتألّم لمن لم ينفتح على الإسلام؛ وقد تألّم لأولئك الذين ساروا مع يزيد وابن زياد، لأنهم سيدخلون النار بسببه، وقال: «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد (ص)، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق»، أطلق عنوان الإصلاح الذي أطلقه الأنبياء، وانطلق ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

وعندما أراد القوم من الحسين(ع) أن يخضع للاّشرعية وينزل على حكم هؤلاء الذين سيطروا على إمارة المسلمين، قال لهم: «لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد»، «ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون». وهكذا وقف الحسين(ع) في رساليَّة الإسلام وعزّته وحرّيته، وفي كلِّ ما يريد الإسلام أن يؤكِّده في هذا المقام، وأعطى من ثورته وحركته وتضحياته واستشهاده، كلَّ ما يعزِّز موقع الإسلام.

لقد كان الإمام الحسين(ع) يحبّ الله تعالى كما لم يحبّه أحد، وينفتح على الله كما لم ينفتح عليه أحد، كان كأبيه(ع)، يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، ونزل في كربلاء ليعطي البشرية درساً كيف يمكن للرساليّ أن يبقى مع رسالته حتى الاستشهاد.

ذكرى رفض الظّلم والاستكبار:

إنّ هذه الذكرى العظيمة التي نعيش فيها الحسين(ع) إماماً وحبيباً وقائداً، لا تزال تجدِّد فينا الإيمان بالإسلام، لندافع عنه، ولنرفض الظلم والاستكبار، وعلينا أن نجعل من ذكرى الإمام الحسين(ع) ثورة في حركة الإنسان من أجل العزّة والكرامة والدفاع عن الإسلام كله؛ أن لا نحوّل الذكرى الحسينية إلى مجرد تقاليد لا تعطي شيئاً، وأن لا نجعل منها مناسبة لضرب الرؤوس والظهور، بل أن نستوحي منها كيف نضرب رؤوس أعداء الله والإنسانية بكلِّ سيوفنا وأسلحتنا، وكيف نلهب ظهور كل هؤلاء بالسياط.

إن القضية هي أن نجدد رسالة الحسين في كلِّ رسالاتنا، ونجدد قضية الحسين في كلِّ قضايانا، لنقول له: إن لم نجبك بأجسادنا ودمائنا، فإننا نجيبك بأرواحنا وعقولنا وقلوبنا، لكي نبقى معك يا أبا عبد الله في رسالتك وثورتك وشرعيتك، سنبقى معك ومع جدك وأبيك وأمّك وأخيك والأئمة من ولدك وبنيك. والسلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وانطلقوا مع ذكرى الحسين(ع)، لتكونوا جنود الإسلام الذين لا يعطون بأيديهم إعطاء الذليل، ويتحركون في شعار الإمام الحسين: «هيهات منا الذلة»، ليواجهوا كل ظالم ومستكبر يريد أن يفرض نفسه على المسلمين، لتكونوا خير أمة أُخرِجت للناس من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما كان الحسين(ع) موحّداً يفرح بالتضحية وهول المأساة، ليقول لله تعالى: «هوّن ما نزل بي أنه بعين الله». أن نواجه كما واجه الحسين(ع) كل هؤلاء الذين يتسلّطون على الناس من خلال ما يملكون من قوة المال والسلاح والسياسة، وعلينا أن نواجههم بالموقف القويّ الصلب الصامد، فماذا هناك؟

مقايضات أمريكية مع العرب على حساب قضاياهم:

لا تزال الإدارة الأمريكية تسعى إلى إدخال الواقع العربي والإسلامي في مقايضة سياسية وأمنية مجحفة لحساب مصالحها ومصالح إسرائيل في المنطقة... فهي تسعى إلى مقايضة وقف إهراق الدم الفلسطيني بالمزيد من التنازلات الّتي تريد للفلّسطينيّين أن يقدّموها لحساب إسرائيل بما يتهدد القضية الفلسطينية بالكامل، كما إنها تريد إدخال اللبنانيين في مقايضة سياسية وأمنية لحساب بعض الملفات في المنطقة... وهي في الوقت عينه، تريد للعرب والمسلمين أن يقبلوا بالمقايضة الكبرى التي لا توقف فيها أمريكا الفتنة السنية الشيعية التي تعمل لتحريكها في المنطقة إلا على أساس التنازلات الكبرى من رصيدهم السياسي والأمني، ومن رصيد قضاياهم الاستراتيجية الكبرى.

ففي المشهد الفلسطينيّ، لا تزالُ حكومةُ الوحدة الوطنية تواجه التعقيدات والصّعوبات في تشكيلها، ولا تزالُ الإدارة الأميركية تمارس الضغوط بعدم الاعتراف بها ما لم تخضع لشروط اللجنة الرباعيّة الدولية في الاعتراف بإسرائيل ووقف المقاومة، وهو ما ترفضه حماس من ناحية مبدئية واستراتيجية.

وفي موازاة ذلك، يتحرَّك بعض المسؤولين العرب لتعديل المبادرة العربية في مؤتمر القمّة الذي انعقد في بيروت، وذلك فيما يتصل بمكانة اللاجئين الفلسطينيين في التسوية الدائمة، بأن يُمكَّن اللاجئون من العودة إلى مناطق السلطة فقط أو البقاء في أماكن سكناهم وتلقّي تعويضات مالية تدفع جزءاً كبيراً منها دولة عربية نفطية، وهناك حديث عن اتصالات سرّيّة تقوم بها هذه الدولة مع الإدارة الأمريكية بهدف الوصول إلى صيغة متَّفق عليها، وربما تعرض الخطة المعدَّلة في القمة العربية القادمة في الرياض في نهاية الشهر، وتتحرك الاتصالات مع الدول العربية الأخرى للموافقة عليها، وممارسة الضغط على الدولة الرافضة وهي سوريا للحصول على موافقتها.

تعزيز قدرات إسرائيل وإضعاف العرب:

وهناك موضوع آخر يتعلّق بالعلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، ويتمثل في الطلب الصهيوني زيادة المساعدات الأمنية الأمريكية إلى 3 مليار دولار، بحجة مواجهة التحديات الأمنية المحدقة بإسرائيل من جانب إيران وحزب الله وحماس، لتقوية الدولة العبرية أمنياً وعسكرياً، لتهديد هذه الجهات في خطَّتها المتحركة في حرب جديدة أو عدوان جديد. ونحن نعرف الموقف الأمريكي من إسرائيل، المتمثّل في جعلها تحتلُّ الموقع الذي يمكّنها من تهديد المنطقة كلها، ومساعدة المشاريع الأمريكية في السيطرة عليها من خلال التحالف الاستراتيجي القائم بينهما، والقيام في الوقت نفسه بالضَّغط على الدُّول العربيَّة لإضعافها عسكرياً واقتصادياً وأمنياً وسياسياً، لتبقى في دائرة الخضوع للسياسة الأمريكية، وفي سبيل ذلك أيضاً، تواصل إثارة الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية، وتوجيه ثرواتها إلى شراء الأسلحة التي تنتجها المصانع الأمريكية، لتقوية اقتصادها الاحتكاري، ليتحرك السلاح ضد المواقع الإقليمية في المنطقة العربية والإسلامية، مع الشَّرط الحاسم الذي تخضع له عقود شراء السلاح، وهو أن لا يوجَّه ضدَّ إسرائيل في أيِّ حرب عربية ـ إسرائيلية، لأنَّ الخطة الأمريكية تقضي بتوجيه السلاح إلى صدور العرب والمسلمين، وزجّه في خلافاتهم الداخلية التي تتحرَّك فيها الفتن التي يستحلُّ فيها المسلمون دماء بعضهم بعضاً في خدمة مجانية للاحتلال وحلفائه.

العراق: وحشيّة التّكفيريّين:

وفي المشهد العراقي، تمتد المأساة في تفجير شارع المتنبي، وهو شارع المكتبات، لتختلط دماء المدنيين الأبرياء بأوراق الكتب، شاهدة بذلك على همجية هؤلاء الذين لا يحترمون الإنسان، سواء كان مسلماً أو غير مسلم، شيعياً كان أو سنياً، طفلاً أو امرأة أو شيخاً، ولا يحترمون الثقافة التي تنير العقل وتحرّك الوعي وتقود الإنسان إلى الانفتاح على الإسلام الحضاريّ الأصيل، والابتعاد عن العنف الوحشي ضد الإنسانية كلّها، في عناوين تطرح الإسلام الذي هو براءٌ منها، وتدين المسلمين الذي يختلفون معهم في التفكير بالارتداد عن الإسلام وبالكفر به، الأمر الذي أعطى صورة مظلمةً مشوّهةً عن الإسلام لدى الآخرين الذين استغلوا أعمال هؤلاء في اتهامه بالإرهاب.

ومن جانب آخر، يواصل هؤلاء التكفيريون تفجيراتهم الوحشية التي لاحقت المؤمنين الصالحين الموالين لأهل البيت الزائرين للإمام الحسين(ع) في مناسبة الأربعين، ليقتلوهم بشكل وحشي من دون رحمة، وربما كانوا يستهدفون في ذلك الخطة الأمنية التي لا يملكون التعامل معها بطريقة مباشرة، ولكنهم يقتلون المدنيين العراقيين الأبرياء، فيشاركون المحتلّ في هجومه على المدنيين بين وقت وآخر. ومن المضحك المبكي، أنهم يطلقون على تصرفاتهم الوحشية عنوان المقاومة للاحتلال الذي يساهمون في امتداده وبقائه طويلاً في العراق لتحقيق أهدافه الاستكبارية ضد المنطقة كلها.

المؤتمر الدولي العربي: محاولة لانتشال الاحتلال من المأزق:

وإذا كان الحديث عن مشروع مؤتمر دولي عربي، فإننا نخشى أن تكون خلفيته أمريكيةً للضّغط على المؤتمرين في إنقاذ الاحتلال من المأزق السياسي والأمني الذي يتخبّط فيه، وفي الحسابات أنّ دعوة بعض الدول التي تتعقَّد علاقاتها بأمريكا إلى المؤتمر، قد تساهم في إزالة الحاجز السياسي بينها وبين أمريكا في عملية التفاوض داخل المؤتمر. إن الاحتلال يبحث عن مخرج لأزمته من الفشل الذريع الذي لحق به، وذلك من خلال بعض حالات الانفتاح على بعض دول الجوار التي كانت مغلقة عليه، على صعيد العلاقات السياسية الواقعية، ونحن لا نرى خيراً في ذلك كلّه، ولا نشاطر بعض الجهات العراقية والعربية التفاؤل الذي يثيرونه في هذا الاتجاه.

اتّهام غير واقعي لإيران:

ومن جانب آخر، فإنَّ الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى ألمانيا، تعود للبحث في تشديد العقوبات على إيران، لأنّها ـ كما تدّعي ـ لم تمتثل لقرار ما يسمى المجتمع الدولي في إيقاف تخصيب اليورانيوم في نطاق مشروعها النووي السلمي الذي أكدت وكالة الطاقة الذرية أنه ليس مشروعاً عسكرياً. وأنها قادرة على إثبات الجانب السلمي للمشروع، ولكن هذه الدول الخاضعة للضغط الأمريكي، والمتحركة في دائرة الهيمنة على دول المنطقة لمنعها من الأخذ بالخبرة العلمية، ومنها النووية لتطوير اقتصادها في قضايا الطاقة، لا تزال تلعب لعبة القطّ والفأر الخبيثة على إيران، وفي كل حساباتها تطويع الموقف الإيراني سلماً، حفاظاً على مصالحها الاقتصادية التي سوف تتأثر بالعقوبات مهما كانت غير فاعلة.

إن المشكلة في الغرب تكمن في أنه لا يريد الاستماع إلى الحجَّة القاطعة التي تقدمها إيران في رفض التخطيط لصنع القنبلة النووية، بل تبقى المسألة في دائرة الاتهام غير الواقعي، تماماً كما هي الولايات الأمريكية التي خاضت الحرب ضد العراق على أساس اتهامه بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، ثم تبيَّن كذبها بعد الاحتلال.

مجزرة بئر العبد: إرهابٌ أمريكيّ:

أمَّا في لبنان، فقد التقينا بالأمس بالذكرى السنوية لمجزرة بئر العبد التي مثَّلت مشهداً من مشاهد الإرهاب الأميركي الذي قتل وجرح المئات من المدنيين الأبرياء وسفك دماء الأطفال والأجنة والنساء والشيوخ والعمال والكسبة، في إطار سعيه لقتل من قال رئيس الاستخبارات الأميركية آنذاك بأنه "أصبح مزعجاً للسياسة الأميركية وأنَّ عليه أن يرحل".

إننا عندما نستذكر هذه المجزرة المروّعة التي كانت من صنع أميركي على مستوى التخطيط والمتابعة، نريد لشعوبنا أن تعرف ما هو الإرهاب الأميركي الذي يتوالى فصولاً في العراق وأفغانستان وفلسطين، والذي عرفه اللبنانيون في الحرب الإسرائيلية الأخيرة، ونريد لكل المعنيين على المستوى السياسي والقضائي والقانوني، أن يتحمَّلوا مسؤوليّتهم حيال ملاحقة الإدارات الأميركية حول هذه المجزرة وغيرها، خصوصاً أن أدلتها الدامغة والشهادات حولها مثبتة وموثَّقة في الصحف الأميركية، وفيما كتبه كتّاب أميركيون بارزون، منهم صاحب كتاب الحجاب "بوب ودوورد".

عقبات أمام الحلّ في لبنان:

وفي هذه الأيام، يعيش اللبنانيون في أجواء غير واقعية من التفاؤل بالحلّ، من خلال بعض اللّقاءات الإقليمية على صعيد القمة، حتى خيّل للبعض أنَّ الحلّ على الأبواب، ليفاجأوا ببعض التَّصريحات من مسؤولين بأنَّ الأزمة في لبنان لا تزال تراوح مكانها، ولتنطلق بعض الكلمات والمواقف من الذين كانوا ولا يزالون يعطِّلون أية مبادرة، ويرفضون أيّ حلّ، سواء كانوا من الفريق الرسمي أو من الجهة السياسية المعقّدة... وذلك لأن القضية لا تزال خاضعةً للتعقيد الدولي الأمريكي ـ الفرنسي الذي يوسوس لبعض القائمين على الواقع السياسي، من خلال إيحاءات وتعليمات جورج بوش وكوندليسا رايس وديك تشيني ووزارة الدفاع الأمريكية وأجهزة المخابرات المتعدّدة الاختصاصات، وقد جعلوا الأزمة اللبنانية موضوعهم الأثير، فيستقبلون بين وقت وآخر وزراء ونواباً ووجهاء، ويتحركون من خلالهم لاغتيال أيّ مشروع حلّ فور ظهور عنوانه، لأن المشكلة الآن أن قادة الدول، ولا سيما الرئيس بوش، تحولّوا إلى أطراف محليين، وصارت الأزمة اللبنانية موضوعاً دولياً، فهل يمكن ـ أمام هذا الواقع ـ لأيّ حل عربي أو إقليمي أن يشهد النور إذا لم يحمل أختام الرئاسة الأمريكية وبعض الرئاسات الأوربية؟!

إنَّ الحلَّ اللبناني للأزمة باختصار، هو جزء من صفقة دولية ـ إقليمية عربية كبرى، ولا دور للحل المحلّي... إننا لا نتشاءم، ولكننا ندرس الأمور من خلال الواقع، لا من خلال التمنيات، وكل أزمة وأنتم بخير.

 

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية