ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
الأمانة صفة المؤمنين
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد في صفة المؤمنين: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}. إن المؤمنين هم الذين يحافظون على أماناتهم التي ائتمنوا عليها، وعلى عهودهم التي عاهدوا عليها.
وعندما ندرس صفة النبي محمد(ص)، فإننا نلاحظ أن الصفتين اللتين كانتا تمثلان عناصر شخصيته لدى مجتمعه، هما صفة الصدق والأمانة، فالنبي(ص) كان صادقاً مع الناس كلهم في كل كلامه ومواقفه، وكان أميناً مع الناس على ودائعهم وعلى كل ما يتحمّل مسؤوليته. وقد جاء بعض أصحاب الإمام جعفر الصادق(ع) إليه وقال له: إني أريد أن أكون قريباً إليك ـ بحيث تمنحني صحبتك وصداقتك ـ فقال له الإمام(ع): "انظر إلى ما بلغ به عليّ عند رسول الله من الشأن والمكانة، فافعله"، قال: وما ذلك؟ قال (ع): "إن عليّاً بلغ ما بلغه عند رسول الله بالصدق والأمانة".
وقد ورد عن رسول الله(ص) قوله، وهو يتحدث عن المقياس الذي نقيس به الأشخاص عندما نقرّبهم إلينا، وعندما نعطيهم الثقة منّا: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"، لأنهم ربما يكثرون من الصلاة والصوم باعتبار أنهما عادة اعتادوا عليها، وهكذا في ذهابهم كل سنة إلى الحج، فقد يذهبون للسياحة، ولكن الأساس في عنصر الشخصية الأصيل، هو أن يكون الإنسان صادقاً في حديثه حتى لو أضرّه الصدق، وأن يكون أميناً على أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم.
أفضل الإيمان الأمانة
وفي الحديث عن الإمام عليّ(ع): "أفضل الإيمان الأمانة، وأقبح الأخلاق الخيانة"، وعن الإمام الباقر(ع): "ثلاث لم يجعل الله عزّ وجلّ لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر، وبرّ الوالدين بَرّين كانا أو فاجرين". هذه أمور ثلاثة لا بد أن يلتزمها الإنسان في التزامه الديني، لأن الله تعالى لم يرخّص له أن يبتعد عن ذلك في أيّ واحد منها. وعن الإمام الصادق(ع): "إن ضارب عليّ بالسيف وقاتله لو ائتمنني واستنصحني واستشارني، ثم قبلت ذلك منه، لأدّيت إليه الأمانة". وعنه(ع): "اتقوا الله، وعليكم بأداء الأمانة إلى من ائتمنكم، فلو أن قاتل أمير المؤمنين ائتمنني على أمانة لأدّيتها إليه". ويقول الإمام عليّ(ع): "أدّوا الأمانة ولو إلى قتلة أولاد الأنبياء". ويقول الإمام الصادق(ع): "أدّوا الأمانة ولو إلى قاتل الحسين بن علي ". ويقول عليّ(ع): "لا تخن من ائتمنك وإن خانك". وعنه(ع): "أقسم، لسمعت رسول الله(ص) يقول لي قبل وفاته بساعة ثلاثاً: يا أبا الحسن، أدِ الأمانة إلى البرّ والفاجر في ما قلّ وجلّ، حتى في الخيط والمخيط". ويقول الإمام الصادق(ع): "إن الله عزّ وجلّ لم يبعث نبيّاً إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر".
الأمانـة مسؤولية
وعندما نواجه هذه الأحاديث الشريفة، لا بد أن نسأل: أين هي الأمانة؟ الأمانة قد تكون أمانة المال، فقد يأتمنك إنسان على ماله وعليك أن تحفظ ماله، فلا يجوز لك أن تفرّط بالأمانة وتجعلها تحت تأثير اللصوص أو السرّاق أو العابثين الذين يعبثون بالمال، ويمتد هذا بالنسبة إلى الإنسان العامل في محله، فلا بد له أن يكون أميناً على ما هو مكلَّف به.
وهناك أمانة أخرى، وهي أمانة العمل والوظيفة، فإذا كنت عاملاً لدى شخص ما، فعليك أن تكون أميناً في عملك، مثل الناس الذين يلتزمون أعمال البناء والتعهدات على أساس الاتفاقية بينهم وبين صاحب العمل، في هذا المجال، ربما يحاول بعض العمّال أو المقاولين أو بعض الزرّاع، أن يوفّروا على أنفسهم، فيلجأون إلى الغش في المواد التي يستعملونها، هذا كله يدخل في باب الأمانة، فالإنسان الذي لا يلتزم بالشروط التي وقّع عليها هو خائن للأمانة، وهناك حديث يقول: "المؤمنون عند شروطهم"، فالمؤمن يقف عند شرطه ولا يتعداه إلا إذا كان شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً، فأنت ملزم بالالتزام بشرطك، كما أنت ملزم بالالتزام بعهدك.
وهكذا إذا كنت موظفاً في أي وظيفة، سواء كانت تربوية في تعليم الطلاب أو تجارية، أو رسمية في ما يتعلّق بأمور الناس وحاجاتهم، فعليك أن تكون أميناً في وظيفتك، مثلاً بعض المعلّمين يحاولون أن يأخذوا إجازة طبية من دون أن يكون مريضاً، فإذا أعطى الطبيب إفادة من دون وجه حق، فإن الطبيب يكون قد خان الأمانة، لأنه أعطى إفادة غير صحيحة، وهكذا بالنسبة للمعلّم، أو أن يترك الموظف دوامه من دون وجه حق أو مسوّغ شرعي، لأنك عندما وُظّفت، أعطيت التزامك بأن تلتزم بالدوام المقرر في المؤسسة، وهكذا في الوظائف التي تتعلّق بمراجعات الناس وحاجاتهم، فإنّه لا يجوز لك أن تضيّع من وقت العمل.
هناك ذهنية لدى بعض الناس بأن هذا المال هو للحكومة الظالمة غير الشرعية؟! هذا ليس مال الحكومة، بل هو مال الناس، الحكومة ـ من رئيس الجمهورية إلى أصغر موظف ـ لا تدفع من كيسها، بل هي ميزانية الدولة التي تحصّل بالضرائب، ولا يجوز لأحد أن يأكل أموال الناس ومال الحكومة، وقد يعطي بعض المشايخ فتاوى بأن هذا المال مجهول المالك، هذا ليس مجهول المالك، بل هو معلوم المالك، وحتى لو كان مجهول المالك، فإن الحاكم الشرعي الأمين لا يرخّص لك ذلك، حتى لو كنت في البلاد غير الإسلامية، وقد قال الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحبّ المقسطين}، لذلك من يلجأ في بلاد الغرب إلى الاحتيال على شركات التأمين أو البنوك فإنه يخون الأمانة.
وهكذا بالنسبة إلى الأمانة الزوجية، فالزواج هو ميثاق بين الزوج والزوجة، بأن تحفظه في نفسها فلا تخونه مع أحد، وأن يحفظها في حقوقها فلا يسقط حقوقها، وأن يعاشرها بالمعروف ولا يأكل مهرها ولا يعتدي على حقوقها، وهناك البعض مثلاً ممن يجبر زوجته على أن تعطيه راتبها ـ سواء كانت في الغرب أو في الشرق من خلال عملها الخاص ـ مع أنه ليس هناك سلطة للزوج على أموال زوجته، فالأمانة الزوجية تفرض أن يكون كل واحد منهما أميناً على الآخر، سواء في الجانب المالي أو الجنسي أو الجوانب الاجتماعية.
وهناك أيضاً الكثير من الحالات تتطلّب منك أن تكون أميناً، فصوتك في أيّ موقع ـ سواء كان صوتاً في انتخابات جمعية أو بلدية أو نيابية ـ هو أمانة الله عندك وأمانة الناس عندك، لأن صوتك قد يترك تأثيراً إيجابياً أو سلبياً، فقد تكون السبب في إنجاح مرشح مجرم، أو قد تكون السبب في إنجاح مرشح نافع للناس، ففي مسألة التصويت، ليس هناك مزح أو مجاملة أو محاباة، لأن الله سوف يسألك على أي أساس ساهمت في إنجاح فلان أو تفشيله.
وقد أكد الله تعالى نوعاً من الأمانة وهي المسؤولية: {إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}، هذه أمانة المسؤولية عند الإنسان، ولا بد له أن يحفظ هذه الأمانة في كل ما فرضه الله عليه، وفي كل ما كلّفه تعالى به، لأن المسألة تتصل بموقفه من الله سبحانه، وذلك بأن يؤدي أمانة الله إليه تعالى، وقد ورد: "لا إيمان لمن لا أمانة له"، وورد عن النبي(ص): "من خان أمانةً في الدّنيا ولم يردّها إلى أهلها ثم أدركه الموت، مات على غير ملّتي، ويلقى الله وهو عليه غضبان".
لا بد أن نكون الأمة الأمينة على قضايا الناس وقضايا الأمة كلها، سواء كانت على مستوى القضايا المالية أو الاجتماعية أو السياسية، حتى يلقى الإنسان ربه وهو راضٍ عنه، لأن الله تعالى يقول: {إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله في نظم أمركم وصلاح ذات بينكم. كونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً. واجهوا المواقف بمسؤولية أمام التحديات التي يفرضها الكافرون والمستكبرون، حتى نستطيع أن نُعذر إلى الله أننا أدّينا أمانة الإسلام وحفظناه والمسلمين في كل مواقفنا ومواقعنا التي يرضى الله بها، فماذا هناك؟
محاولات إضاعة القضية الفلسطينية
إسرائيل تقرر تنفيذ أكبر عملية هدم لمنازل المقدسيين شرقيّ القدس، ما سيؤدي إلى تهجير ما يقارب ألف فلسطيني بحجة إقامة "مدينة داود" في المنطقة التي تزعم أنه كان يستحم فيها من نحو ثلاثة آلاف سنة، في الوقت الذي يملك أصحاب المنازل شهادات ملكيتهم لها قبل قيام الدولة العبرية التي ترتكز في شرعيتها الدينية على الأساطير التي حوّلتها إلى حقيقة لدى الغربيين الخاضعين للمنطق اليهودي الأسطوري.
ولا تزال تواصل بناء الجدار العنصري العازل الذي يهدد قرى فلسطينية، تصادر أراضيها، وتقطع أشجارها، وتهدّم منازلها، من دون أن نسمع أيّ اعتراض أو استنكار أمريكي أو أوروبي ضاغط على اليهود في وحشيتهم التدميرية، هذا إلى جانب القلق الذي تعيشه الساحة الفلسطينية بين حركتي "حماس" و"فتح" لاعتبارات انتخابية بلدية، ما قد يربك الواقع الفلسطيني على المستوى الأمني والسياسي الذي قد تستفيد منه إسرائيل بطريقة وبأخرى... ولا ندري ما الذي حمله رئيس السلطة الفلسطينية من أمريكا؛ هل هي الوعود "العرقوبية" التي لا وفاء لها؟ أو هي مشاريع جديدة لحساب المصالح الإسرائيلية على حساب المصالح الفلسطينية؟
إن المرحلة الحاضرة هي مرحلة إضاعة القضية الفلسطينية في ثوابتها الوطنية في التجاذب الأمريكي ـ الإسرائيلي، ما يفرض على الشعب الفلسطيني أن يكون واعياً لحاضره ومستقبله في حماية المشروع التحريري وامتداداته الجهادية، وذلك بالوحدة الوطنية التي تجمع الشعب كله، وتحضن القضية كلها، ولا سيما أن الإعلام يحدّثنا عن منظمات يهودية متطرفة تدعو إلى اقتحام جماعي للمسجد الأقصى في ذكرى الاحتلال الإسرائيلي للقدس، فكيف يقف المسلمون أمام هذا الخطر الجديد لمقدّساتهم، وما هم فاعلون؟
العراق: لمحاصرة الفتنة
أما العراق، فلا يزال يعيش تحت وطأة المعاناة التي تصنعها قوات الاحتلال من جهة، والجماعات التكفيرية من جهة ثانية، ولا تزال الفوضى تعمّ العراق، وتسيل فيها الدماء أنهاراً في العمليات الإجرامية التي تستهدف المواقع المدنية في غالبها، والتي تنطلق من حقدٍ أعمى تغذّيه عصبيات يرفضها الإسلام، كما يغذّيه الاحتلال في خطته التي تعمل على الاستمرار في الاحتلال، وكذلك من خلال البعض الذي يفجّر نفسه في تجمّع مدني هنا وهناك، كما حدث في مدينة الحلة.
إن هذه الفوضى قد بلغت مستوى لا يطاق من السكوت عنه وعدم إدانته، لذلك فإننا ندعو علماء المسلمين ـ من السنّة والشيعة ـ إلى إيجاد آلية مشتركة تعمل على استنكار هذه الأعمال وإدانتها بالفم الملآن، وتؤكد أنه لا شرعية دينية لها، وأن من يرتكبها يستحق الإدانة في الدنيا، وينال الخيبة والخسران في الآخرة.
ومن خلال هذا المناخ الإجرامي، نلاحظ هذه البدعة الجديدة التي تمثّلت في العراق وفي باكستان، في تفجير المساجد وقتل المصلّين، حيث يقوم بعض الأشخاص الذين خضعوا لعملية غسل لأدمغتهم، بتفجير أنفسهم في المساجد، من خلال الإيحاء لهم بأن قتل هؤلاء المصلّين في مساجدهم يعجل بهم إلى دخول الجنة!!
إن الخطورة تكمن في أن هذه الثقافة تحاول أن تقدّم إلى العالم الإسلامي نموذجاً من الشباب الذي لا يحمل في نفسه رحمة متوازنة، بل حقداً أعمى يسهم في تعقيد العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية، ويعمل على تقويض حركة الوحدة الإسلامية لمصلحة الاحتلال الاستكباري، الأمر الذي يستدعي حركة مضادة وسريعة من علماء المسلمين من السنّة والشيعة، ومن منظمة المؤتمر الإسلامي، ومن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ومن كل المرجعيات الدينية في مصر والعراق وإيران، لتعمل على حصار هذه النار الإرهابية الإجرامية التكفيرية التي تأكل الأخضر واليابس، بما لا يقل عن خطر الاحتلال نفسه.
كيف نصنع لبنان المستقبل؟!
أما في لبنان، فإننا نواجه التفجير الأمني الذي انطلق مجدداً في اغتيال الصحافة، عبر الجريمة التي طالت واحداً من رموزها، بعد أن واجهنا سابقاً باغتيال السياسيين، وتفجيرات المواقع الاقتصادية والاجتماعية، ما يثير الكثير من القلق والإرباك من خلال خفافيش الليل وذئاب النهار.
إننا ندعو المواطنين إلى أن يتحوّل كل مواطن إلى حارس للأمن، بحيث تكون له حساسية المراقبة للمجرمين أيّاً كانوا من الداخل والخارج، لأن لبنان يتنفّس في استقراره وانفتاحه برئتي الأمن والحرية، فعلينا أن نحافظ عليهما.
أما في المشهد الانتخابي، فإننا نريد من اللبنانيين أن لا يعيدوا إنتاج لبنان الطائفي، بل أن يبقى في وجدانهم لبنان المواطن، الذي يتطلّب فيه الإنسان حقوقه، ويعمل لتأدية واجباته من موقع مواطنيته لا طائفيته، كما نريد لهم أن لا ينتخبوا الشخص بذاتياته بل أن ينتخبوا القضية والبرنامج، وأن يتطلّعوا إلى لبنان المستقبل كيف يصنعونه، وليفحص كل واحد منكم ضميره ومسؤوليته أمام الله، وليدرس كل واحد منكم خلفيات الأشخاص ومدى خضوعهم للوصاية الأجنبية، أو سقوطهم تحت تأثير المال السياسي الذي تشترى فيه الضمائر وتباع فيه المواقف.
إن البلد يعيش في أكثر أبنائه تحت خط الفقر، وإن الناس يعيشون الجوع والحرمان والضياع، ويواجهون في هذه المرحلة التخدير السياسي الذي يشغلهم عن آلامهم وآمالهم، ويوجههم إلى عبادة الشخصية لا إلى عبادة الله وحده في إحساس الإنسان بمسؤوليته أمامه سبحانه، {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم}. |